الأربعاء، 22 مايو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 23


- 23 –

ولتوضيح ما أردناه من صلة الدجال بالرّبوبية من جهة النّضج الإنسانيّ وانفصاله من جهة أخرى عن سرّ الرّبوبية، فالدجّال ظهرَ كما قلنا ببعثة سيّدنا موسى عليه السّلام، وكانت بعثات الأنبياء والرّسل عليهم السّلام في زيادة الترقّي، وزيادة النّضج المعرفي الإنسانيّ، وفقَ تجلّي الأسماء الإلهية وشؤونها الباطنية في القوالب الإنسانية، وكان حامل هذه الحقائق الأسمائية للإنسان هم الرّسل والأنبياء عليهم السلام.

وقد بدأ النّضج في عالم الإنسانية ببعثة سيّدنا موسى عليه السّلام، ودليل ذلك دعوى فرعون الرّبوبية دعوى طغيانية كفرية في عالم البشر، فأرسل الله سيّدنا موسى عليه السّلام حامِلاً حقائق العبودية المقابلة للرّبوبية، غير ممتدةً علماً بصلتها الذاتية، ولا نريد انفصالها روحياً عن روح القدس، لأنّ الشرائع السماوية كلّها جاءت لوصل الإنسان بروح القدس وتصله بربّه، فافهم. ولكن علماً وتبليغاً حقائقياً لم يؤمر نبيّ الله موسى بتبليغ لوحي روح القدس من ألواحه المسمّاة التوراة. لأنّ لوحي روح القدس كانت رسالة المسيح عليه السلام. أمّا نبيّ الله موسى فكان يحملُ هذا الرّوح القدسيّ في نفسه، ولكنّه لم يؤمر بتبليغه، وإلاّ لنقض دعوته نقض دعوى ربوبية فرعون، ولما آمن له قومه بنو إسرائيل. حكمة الله سبحانه ونضج البشرية وتدرجّ القابليات اقتضى هكذا. والله سبحانه العليم الحكيم.

لذلك خرج بنو إسرائيل قساة القلوب عموماً لانفصالهم عن روح القدس فلم يكمل منهم أحد، كما وصفهم الله تعالى أنّ قلوبهم كالحجارة قسوة أو أشدّ قسوة، وحتّى الأمّة المحمديّة في آخر الزّمان والقرون القليلة الأخيرة حين قلّ أهل الكمال وحملة الرّوح القدسيّ فسدت الأمّة وقست قلوبها وبلغ بها ما بلغ ممّا نراهُ من موت القلوب وانحراف المناهج وفساد المفاهيم وانقلاب الحقائق والابتعاد عن الفطرة.


ولهذا الاعتبار، اعتبار أنّ بعثة سيّدنا موسى خرجت بحقائق الرّبوبية في سرّها، ومكتومةً في ظاهرها عن امتداد سرّ الرّبوبية الذي هو روح القدس، ظهرَ الدجّال من قومِ سيّدنا موسى عليه السلام، لأنّ الدجّال هو هذا الانفصال عن سرّ الرّبوبية وروح القدس. فكان السّامريّ المفتون كما ذكرنا. وقد أورد المفسّرون وبعض أئمة السّلف آثاراً حول طبيعة نشأة السّامري المخصوصة وأنّه وُلِدَ في العام الذي يقتل فيه أبناء بني إسرائيل كما هو عام سيّدنا موسى عليه السلام، فوضعته أمّه في غار، وقيلَ رعاه جبريل عليه السلام وهو صغير، فجاء السّامريّ مخصوصاً بهذه الفتنة، ألا تراه رأى جبريل وقبض قبضة من أثره وفتن بها قومه بالعجل. وينطبِقُ عليه قول الله تعالى {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176)}سورة الأعراف.

فقلنا جاء سيّدنا موسى بالتوارة من التورية لسرّ الرّبوبية وفي نفس الوقتِ فيها ما يقابلها من عبادات ومواعظ حياتية إنسانية شاملة إلاّ ما اختصّ به من بعده من الرّسل من أولي العزم وما اختصّ به سيّدنا إبراهيم الخليل عليه السلام قبله لخصوصيته، قال سبحانه {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ} [الأعراف: 145]، ورسالة سيّدنا موسى عليه السلام هي من أكبر الرّسالات في عالم الإنسان، لذلك قرنَ الله تعالى هذه الرّسالة باصطفاء بني إسرائيل على العالمين، لأنّهم أوّل من حملَ حقائق الدّين في دوائر العروج السّماوية. وبعث فيهم أنبياءً منهم وأكبر عدد من الأنبياء بعثوا في بني إسرائيل. وهذه التورية لسرّ الرّبوبية جات من جهة العلم بها ، وإلاّ فإنّ حقائق الرّبوبية تتنزّلُ على العبد بالعبودية وهذا ما بلّغه سيّدنا موسى عليه السلام، فافهم. لأنّ حقيقة الإنسان برزخية فهو من حيث فرقه عبدٌ ومن حيث جمعه موصول بالحضرة القدسيّة، والأخلاق التي يتخلّقُ بها المؤمنون هي أخلاق الله سبحانه، ومحاولة التشبّه بهذه الأخلاق، قال صلّى الله عليه وسلّم "تخلّقوا بأخلاق الله". فافهم، وكما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخلاقه القرآن، فأخلاق القرآن هي أخلاق الله تعالى، وهي غاية التحقّق بمدارج العبودية، فالعبودية هي باب التحقّق بالكمالات الإلهية والأخلاق الربّانية، فافهم. فصاحب الكمالات الإلهية والأخلاق المثلى صلّى الله عليه وسلّم نعته الله أوّل العابدين في كتابه.

ثمّ بعد ذلك كانت بعثة المسيح ابن مريم عليه السلام الذي بعث بروح القدس، وهو سرّ الرّبوبية الذي لم يظهره موسى لقومه بأمر من الله سبحانه لحكمة الزمان والنّضج الإنسانيّ.

فأشرك قوم المسيح عليه السلام بهذا السرّ، وإشراكهم هو تخصيصهم هذا السرّ بالمسيح وأمّه من دون فهم حقيقة هذا السرّ الذي هو حقيقة بني آدم جميعهم، وهو سرّ كمال أهل الكمال. التأييد بروح القدس.

لذلك سوف يحملُ حقائق الدين كاملة أمّة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم الذي ظهرَ بالرّحمانية واكتملت به الشرائع السّماوية، فجمع جميع ما كان من حقائق بعثات الأنبياء والرّسل السابقين عليهم السلام، فكان خاتم الرّسل وناسخ الديانات السابقة وحامل مشعل الرّحمة والكمال الإنساني وباب العرفان بالله سبحانه.

وكانت رسالة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حاملة لثلاثة أقسام : قسم الشريعة وقسم الطريقة وقسم الحقيقة.

القسم الأوّل الشريعة هو الذي بلّغه وأمره الله بتبليغه.

والقسم الثاني الطريقة هو الذي خيّر في تبليغه لمن يستطيع على حمله وأهل القابليات والاستعداد وأهل الإرادة النقيّة والصّحيحة، فهو تخيير رحمة واقعٌ على تخيير فرض الحجّ الذي جاء على من استطاع إليه سبيلاً فافهم، وليس تخيير عشوائيّ.

والقسم الثالث هو الذي أمره الله بكتمه وهو قسم الحقيقة، والطريقة تقودُ لعلم الحقيقة والأسرار الإلهية.

ولو عدنا للسّلف وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم لوجدنا ما قاله بعضهم من كتم بعض ما تعلّمه من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاطبوا النّاس بما يعقلون أتريدون أن يكذبّ الله ورسوله ؟ وغير ذلك من الآثار والأخبار التي جاءت في هذا الشّأن.

يتبع ..