الاثنين، 20 مايو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 6


- 6 - 

ومن هنا تفهمُ أنّ هذا الخليفة وهذا السيّد الصّمد لم يكن لعالم الأكوان ، لم يكن يًُمثّلُ فرداً بنفسه وشخصه وإلاّ لأقامَ الحقائق والشّرائع بالتصريح عنه وعن ختمه ومرتبته. بل هو يُمثّلُ الإطلاق هو يُمثّلُ الغيب هو يُمثّلُ نقطة الكمالات الغير المدركة والغير متناهية، يُمثّلُ كنه الذات والغيب المطلق. ما من كمال إلاّ فاضَ من ذاته والكمال الذي فاضَ عاجز عن إدراك ذاته. فقد ارتفع عن الفردية مطلقاً. فهو أكرمُ الكرماء وأرحم الرحماء وأعلم العلماء سرّ الكرم والرحمة والعلم وكلّ ما شئتَ من كمالات.

ولأنّ الحكمة اقتضت أن يحتجبَ عن التصريح والإفصاح، ألا ترى إلى الملوك كيف عظّموا مقاماتهم ومكاناتهم بالحجّاب والأبواب والوسائط.

وما أخذوا ذلك إلاّ من ملك الملوك وسيّد الحكماء فهو الذي ألهمهم وعلّمهم. وكذلك جعل الله الأسرار عزيزة كي لا تُبتذلَ بالإفشاءِ والإرخاص حينما تقعُ عند غير أهلها.

هكذا سبحانه اقتضى عالم الحكمة الذي دبّره فأحسن تدبيره. ومن هنا قال العارفون بالله : إفشاء سرّ الرّبوبية كفر.

وإذا وقفتَ على الاعتراض علينا فاقرأ عنوان هذه المدوّنة فهي اسمُها : المهدي الختم حضرة الإفشاء والكتم.

أمّا الختم فقد تخلّق بأخلاقه الأمناءُ المقرّبون فصانوا الأسرار صوناً، ما باحوا بها إلاّ بمقدارٍ يوجبُ حكمةً و بإذنٍ ولأمرٍ قضاهُ الله سبحانه. فهو سيّدُ الأمناء وهو صاحب الأخلاق أخلاق الله تعالى، فهو الخليفة وهو عبد الله أصالةً.

أمّا المجذوبُ فهذا لهُ سرّ واحدٌ وجهةٌ واحدة تقودُه، وهو الوحيد الذي أهّلته مرتبته وختميّته أن يعلمَ هذه العلوم المكتومة. أقصدُ الوحيد من غير الذين حازوا على الكمال والخلافة. ولنا عودة لهذا المجذوب لأنّ الحديث عنه هو جوهرُ إثبات الصورة للخليفة.

قلنا ما وقع الالتفات إلى عالم الأكوان عند الخليفة. لأنّهُ هو عين من صاغ الأكوان بهذه الحكمة وهذا الترتيب والتقريب.

وسنعودُ لكتاب الله تعالى لمعرفة هذا الذي نقولُهُ عن الخليفة الختم :

قال الله تعالى : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} الكهف

لنقِف على هذه الآية كما وقف عليها بعض أهل العرفان، فقد نكّرَ الله "عبده" وعرّفه به بالضمير الراجع لله تعالى، وعرّفَ الكتاب.

- وهنا دلالة واضحة أنّ هذا العبد لا يُعرفُ إلاّ بالله. هذا أوّلاً.

- أنّ هذا العبد يُعرفُ بالكتاب فقد جاء الكتاب حجاباً عليه ، والكتاب هو الوجود. فتأمّل يرحمك الله من يمكنُ له أن يتعرّفَ على مقام هذا العبد المحض ، فإنّه لا يتعرف عليه إلاّ أهل الفناء الأكبر في الله تعالى، الذين صحّت لهم الطّهارة ومسّ الكتاب والتصرّف فيه. وهم الخلفاء والمقرّبون، وهم أهل الفردانية.

وهي آخر التحقّقات في منازل السّائرين إلى الله تعالى. لذلك تفهمُ الكتم المضروب حول هذا العبد، وكون الكلام عنه من العلم المكتوم إلاّ عند أهله، وأوانه وبقدره كذلك.

- والكتاب معرّف بـ : أل : ألف الذات ولام الأسماء، وهذا ما ذكرناهُ أنّ الكتاب حجاب دون معرفة هذا العبد المحض، ولا يتعرّفُ عليه على سبيل العلم واليقين إلاّ أهل الفناء في الذات والحائزين على الخلافة الأسمائية.

- تقدّمت قبل ذكر العبد في الآية الحمدلة، "الحمد لله" وهذا الذي ذكرناهُ فما قامَ بحقّ حمد الله تعالى إلاّ هذا العبد، عبد الله أحمد المهدي.
فهنا شهادة من الله أنّ هذا العبد سيّد الأحمدية وهو الحامد لله تعالى باستحقاقٍ، فهو خليفة الإسم الأعظم، وحامل لواء الذات وما حمد الله تعالى كما قلنا سواهُ.

- سبق ذكر العبد الكتاب، وهنا إشارةٌ جليّةٌ أنّ عبودبية هذا العبد وعبديّته قامت قبل أن ينزل عليه الكتاب، فصارَ هذا العبدُ لا تعلّق له إلاّ بالذات، أي أنّ سرّه ذاتيّ، سرّهُ هو كنه الذات الذي فاض منه الكتاب وتجلّى، ولهذا فهو العبد المحض الذي قامَ بحقّ حمدِ الله تعالى مطلقاً وقد قال صلّى الله عليه وسلّم "سبحانك لا أحصي ثناءً عليك أنتَ كما أثنيت على نفسك" ، لتفهم مطلقاً ويقيناً من هو هذا العبد. العبد في لفظة "عبد" والحقّ في لفظة "الله"، وتلك هي حقيقة الإنسان البرزخية : برزخٌ بين الخلقيّة والحقيّة، فكان عبد الله بالأصالة اللاّبس الحقيقيّ لثوب عبد الله هو هذا العبد، الخليفة المظهر الذي يظهر فيه الحقّ بذاته، إمام الخلافة الإلهية.


فإذا عرفتَ هذا، عرفتَ أنّ كلامنا عن المهدي شيءٌ من العلم المكتوم، وأنّ هذا الذي ننثرُهُ هنا تحقيقاً من الدرّ المنثور، والعلم المطمور.

وأضيفُ هنا فقرةً للشيخ الأكبر حول قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته"، كلاماً من أنفس الكلام، وأعظم التحقيقات، فافهم دواعي حرص الشيخ الأكبر للتفريق في هذا المقام بين الدرّة اليتيمة الأصلية وغيره من المتحقّقين، لتفهم النقطة التي نبّهنا عليها سابقاً والشبهة التي قد يقعُ فيها من لم يتحقّق بعدُ بتمام العلم فيظنّ أنّ المرتبة التي تحقّق بها سائبة، ويشطحَ شطحاً غير محقّقاً.

يقول رضي الله عنه في الفتوحات المكيّة :
(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. ) اه.

فهذه الفقرة تبيّن أنّ الحقّ تعالى أفنى أهل الكمال عن أنفسهم فقام فيهم لطيفةً، فكانت اللّطيفة إمّا لطيفة صفاتية وهم جميع أفراد بني آدم، وخاتم الصّفات هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم. أو لطيفة ذاتية وهو المسمّى المهدي الخليفة الخاتم.

وأنّه صاحب حضرة الذات والأحدية وأنّه السيّد الصّمد، استغنى عن كلّ شيءٍ وافتقرَ إليه كلّ شيءٍ.

يتبع ...