الاثنين، 20 مايو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 9



- 9 -


فقلنا الخليفة هو حقيقة جميع الاطوار الإنسانية المتقلّبة في الأصلاب، وأهمّ من ذلك هو حقيقة الإنسان الكامل الذي به قامَ الوجود، فهو الرّوح والرّوح هو عين الوجود، والذات تجلّت من هويّتها في الرّوح كما ذكرنا. فما ظهر الله بذاته إلاّ في هذا الرّوح الأعظم المسمّى أمرُ الله والمسمّى الحقّ المخلوق به، وهو روحُ النبيّ الأعظم صلّى الله عليه وسلّم.
قال الله تعالى {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} الشورى 52

فالله تعالى يقولُ لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم قد أوحينا عليك روحاً ووجهاً كاملاً من أمرِنا،وجهاً كاملاً من الرّوح الأعظم المسمّى أمرُ الله ، والروح الأعظم أمرُ الله هو عينُه الخليفة المهدي ألا ترى أنّ أهل الله وأهل العلم والسّلف سمّوا المهدي القائم بأمر الله، لتفهمَ حقيقة هذه التسمية.


فما روح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وروح جميع أهل الكمال سوى هذا الرّوح الأعظم.
وقد سبقَ أن ذكرنا لك لتفهمَ أنّ الإنسان سرّهُ أعلى من الرّوح، لأنّ سرّ الإنسان الكامل هو الأحدية، فصحّ للإنسان الكامل شهود الرّوح الأعظم، وذلك بالقلب ونزوله فيه.

ألا ترى قول الله تعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم في معنى نزول القرآن :
﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) الشعراء.

فبالقلب نال الإنسان الكامل هذه المرتبة العليا فوق الرّوح، وهذه الآخرية، وهذا السرّ، قال صلّى الله عليه وسلّم
(ما وسعني أرضي ولا سمائي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن) فتأمّل هذه الحقائق.

فالحقّ تعالى وسعه قلب عبده المؤمن، وتأويل هذا الحديث أنّ الرّوح الذي هو روح الله تعالى وتجليّاته الأسمائية المسمّى الحق المخلوق به والذي ظهر الله فيه بذاته لم يسعه الأرض والسمّاء ولم يسعه شيء، ولكن وسعه قلب العبد المؤمن الكامل، حين يتحقّق بالكمال ويفنى في الذات وفي مرحلة البقاء بالله يتنزّلُ الرّوح الأعظم في قلب العبد، وهذه هي حقيقة العروج الذاتيّ. فافهم.

ولو تأمّلتَ هذا الشرح والمعاني ، لفهمت بدايات سورة النّجم، وكيف رأى النبيّ الأعظم صلوات الله وسلامه عليه الحقّ تعالى، الذي هو الرّوح الأعظم رآهُ عند سدرة المنتهى في الأفق الأعلى، وقد دنا الرّوح فتدلّى فكان قاب قوسين : وهي الدائرة الوجودية المتشكّلة من القوسين الاعتباريين المتحاذيين المنفصلين بوتر القوسين، انفصال اعتباري، لتمييز قوس الحقيّة قوس الرّوح واللّطافة، وقوس الخلق والكثافة. فكان الرّوح الأعظم هو عين الحقّ والخلق، والخلق تجليّات الحقّ سبحانه ، ثمّ قوله تعالى "أو أدنى" عند ارتفاع الخط الفاصل بين القوسين رؤية الرّوح الأعظم ، ورؤية سرّه، وسرّ ذاته وهي الحضرة الأحدية.
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)} النجم.

فـبالقلب صحّت للإنسان الصورة والمثلية والشهود لحضرات الوجود، والفناء في الذات وسرّ الذات.
وهذه حقائق عاليات ولكن في ذات الوقتِ علينا أن نفهمَ أنّ كنه الذات وسرّ الذات يبقى غيب غير مدرك، لا يُدركه مخلوق، فهذا النزول في القلب هو نزول عالم الأسماء والصّفات، نزول الرّوح الأعظم الذي ظهر الله فيه بذاته، أمّا كنه الذات فهي السرّ المتكنز والغيب الذي لا يدرك أبداً.

فما صحّ للمخلوق إلاّ صورة علمه بالله تعالى، ولذلك كان سيّد الأوّلين والآخرين هو النبيّ صلّى الله عليه وسلم وكان خاتم الحضرة الأسمائية الصفاتية، فتسمّى الرّوح الأعظم به للدّلالة أنّ هذا الرّوح سرّه وكنهه هو الغيب المطلق هو كنه الله تعالى الخالق المتجلّي سبحانه، فتسمّى الروح الأعظم في اصطلاح الصوفية بالحقيقة المحمديّة. لأنّه بقول الله تعالى قد خصّه الله تعالى بوجه كامل من هذا الرّوح، بل نزل على قلبه ووسعه قلبُ حبيبه ومصطفاه صلّى الله عليه وسلّم سعةً غايةً في الكمال والوسع لا يُدركها كامل وليّ أو نبيّ غير الختم والخليفة الذي هو عينُ الرّوح الأعظم أمر الله وهو ذاتُ هذا الرّوح وكنهه. فافهم.

وكذا بتصريح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال صلّى الله عليه وسلّم
(أول ما خلق الله روح نبيك يا جابر)

فالرّوح الأعظم هو روح أهل الكمال، وعلى رأسهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي جعله الله تعالى أوّل العابدين، وأوّل المتحقّقين، ما من كمالٍ يفيضُ على الوجود إلاّ وهو يفيضُ منه صلّى الله عليه وسلّم.

فقد ذكرنا أنّ اسم الرّحمن هو الإسم الثاني بعد اسم الذات، وبه خلق الله الأكوان، وإنّما خلق المخلوقات ليرحمها بالوجود من العدم، فما تجلّى الله تعالى إلاّ بالرّحمة، لذلك سبقت رحمته كلّ شيء سبحانه، فكان رسوله للعالمين الذي لولاه ما خلق الوجود وفطرهم من العدم، هو الرحمة المهداة خليفة اسم الرّحمن الذي كان اسماً واسطةً بين الذات والصّفات، لأنّ الأسماء تفرّعت من حضرة الذات بواسطة اسم الرحمن. فافهم لتفهم مرتبة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم العظمى وسرّ قول الله تعالى خلقتُ الخلق من أجلك. أي خلق الله الخلق ليرحمهم سبحانه.

فما ثمّ في الوجود سواه وحده لا شريك له.

وهذه الرّحمة تتجلّى بالوجود بالله تعالى، وهي مقام النبوّة مقام البقاء الذاتيّ بالله تعالى، فكانَت الرّحمة المقتضاة للوجود وللنّاس عامّة هي هذا التجلّي الذاتيّ والرجوع من العدم والعدم النّسبيّ بعد الخلق إلى الوجود بالله تعالى في تجلّي اسم الله تعالى، فيرتفع الشّقاء مطلقاً، ما من مخلوقٍ يتجلّى الله عليه فيبقى بوجود الله سبحانه، فهناك لا مقام للشّقاء والنّصب والعذاب.

ولهذا قال سبحانه في الحديث القدسي : "لولاك يا محمّد ما خلقتُ الأفلاك."

إنّما خلقتهم لأرحمهم من عدمهم إلى وجودي، فإنّ حقيقة العذاب والشّقاء والمعاناة ناشئةٌ من العدم، فالممكن المخلوق له وجهتين، لهذا سمّي ممكناً ممكن العدم وممكن الوجود، له وجه للعدم الذي هي حقيقته وله وجه للوجود الذي قامَ به وذاقَ الحياة والتجليّات، فإذا التفتَ إلى وجه عدمِهِ اكتنفَهُ الشعورُ بالشّقاء والحرمان والنّصب والعذاب، وإذا التفتَ إلى وجوده الذي هو الوجود الحقيقيّ، وهو وجود الأحد الواحد سبحانه تتنسّمُ عليه نسائمُ الرّضا والبرد والسّلام والراحة. فهناك وقع الشّقاءُ والنّعيمُ، والسّخطُ والرّضا.

ذكر هذه اللّفتة العالية الشيخ الأكبر في الفتوحات، وهي خلاصة العلم بالرّحمة وحقيقة الرّحمة، وحقيقة النبيّ الرسول صلى الله عليه وسلّم المبعوث رحمة للعالمين، وانظر في كلام الله تعالى "وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين"

  العالمين : جميع العوالم الخلقية والكونية كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مبعوثاً رحمةً لها، في مقام الواحدية. ليرفع الممكن إلى مقام الوجود بالموجود واجب الوجود سبحانه في مقام الرّحمانية والواحدية.

فغاية الكمال وغاية الوجود به سبحانه هو مقام الرّحمانية. ولا تكونُ موجوداً به سبحانه إلاّ نزل الرّوح الأعظم قلبك، لتشهد الحق.

وهنا علم وتحقيق يُفتحُ لك إذا فهمت هذا الذي ذكرناهُ عن الرّحمة وسرّها.

يتبع ...