الأحد، 30 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 39


- 39 -

واعلم كما أنّ الإسلام لا يُقاسُ بحال المسلمين اليوم، فالإسلام دين الله الخاتم المهيمن محكمٌ من لدن حكيم خبير، أمّا المسلمون اليوم حالهم أبعدُ عن حقيقة الإسلام وتعاليمه وهديه، فالفارق كبير، وكذلك التصوّف والمدارس الصوفية اليوم، فاعلم أنّ الكثير منها حادَ عن جوهر التصوّف، وداخلَ الكثير من المنتسبين لهذا التصوّف الدّعاوى والخرافات والزندقات والبعد عن حقيقة التصوّف، وحقيقة التسليك والسلوك، فإذا علمتَ أنّ الشيخ هو ركنُ التصوّف، وركن الطريقة والمدرسة، فانظر كم في اللاّبسين لبوس المشيخات من أدعياء ومزيّفين ودخلاء، فهذا واقع والكثير الكثير من المنتسبين للتصوّف ليس لهم من التصوّف إلاّ اسمه ولبسه والتشبّه بما كان ظاهراً عليه من أهله، أمّا حقائقهم فخاوية وبواطنهم فمدخولة، وأخلاقهم مكذوبة مدسوسة، كثيرٌ منهم طلاّب دنيا وجاه يطلبون الدّنيا باسم التصوّف والمشيخات ونسبة التصوّف التي كان يعظّمُها النّاس ويحترمون مشايخها ويعظمّونهم، فاستغلّ الانتهازيون مرضى النّفوس والأدعياء هذا التعظيم والمحبّة الجماهيرية من أجل حظوظهم ونفوسهم وجاههم وطلب المال والمصالح والتعظيم من الناس، يخادعون الناس والله خادعهم. فشوّهوا صورة هذا التصوّف الأصيل الذي ما ظهرَ إلاّ طريقاً لله تعالى، طريقاً خالصاً من الحظوظ والنفوس فجعلوه مرتع الأهواء والحظوظ والنفوس، وانخدع بهم الكثير من القاصدين يحسبونهم شيوخاً وهم ليسوا بشيوخ، فكيف يكون حالُ مريديهم وطلاّبهم يا ترى ؟ ففاقدُ الشيء لا يُعطيه، وهؤلاء طباعهم حبّ الدّنيا والجاه والمكانة والشهوات فلا يكون حال ملازميهم إلاّ من حالهم وشبيها بهم. وهذا كلّه من صورة أواخر الزمان ونصف اليوم الذي فسدت فيه الأمّة، أي الخمسة القرون المتأخّرة الأخيرة فقد توسّعتِ الانحرافات وتغلغلت في كلّ قطاعٍ وكلّ مجالِ فلم يسلم منها مجالٌ مقدّسٌ ولا مجالُ مسيّس، فالصوفية المتحقّقون قليلون بحقّ، ولو كانوا على كثرتهم الظاهرة التي تزخرُ بها الأمّة اليوم لما كان حالُ الأمّة هذا الهوانُ وهذا الذلّ وهذه الفرقة والتخاذل والانهزام والفساد وتمكّن الشياطين في الأرض، فاعلم أنّ حملة الحقّّ و أكثر ورثة المدارس الصوفية وأهل التجديد منهم قد انقرضوا أو كادوا ، انقرض عدد كبيرٌ منهم ولم يبقَ في الغالب إلاّ المحبّون والمتبرّكون والمنتسبون انتساباتٍ إسمية. فضلاً عن أهل الدّعاوى والمزيّفون المدسوسون أهل الشهوات والحظوظ وطلاّب الدنيا والجاه باسم هذا الطريق فهؤلاء لا علاقة لهم بالمحبّة والتبرّك التي ذكرناها، بل عليهم إثمُهم ووزرُهم المضاعف بطلبهم للدّنيا والجاه والمصالح باسم الدين.

والمحبّة والتبرّك شيءٌ عظيم لا نذمّه ولا يُذمّ أبداً، بل هو ممدوحٌ في نفسه، وقد قال أهل الله تعالى "الإيمان بهذا الطريق ولاية". فالإيمانُ ومحبّة هذا الطريق وأهله ولاية عند الله وسببٌ من أسباب الفوز والنجاة. فافهم هذا الشرف العظيم، فمحبّة الصالحين وتعظيمهم دينٌ وولاية وشرف أيّما شرف، ولكنّنا رصدنا لك صورتين ، صورة الزّيف والدّعاوى والزندقات والخرافات التي لا علاقة لها بالتصوّف الصحيح الصادق الذي يصلُ العبد بربّه، صورة التصوّف المدخول الذي أحيانا يتداخلُ في بعض دوائره بالخرافات والدجل وما ليس من التصوّف الصحيح في شيء، ورسمنا لك صورة أخرى عن كونِ المحبّة والتبرّك ليست كافيةً في التسليك والتوصيل والتربية، فالمحبّ والمتبرّك مهما بلغَ من الأقدمية والسنّ والهيبة في شخصه فلن يكونَ له أن يسلّك المريدين أو يكونَ شيخاً من المشايخ الوارثين، فالمشيخة إجازةٌ وتمكينٌ ودخولٌ حضرة الله تعالى بحقّ، ومن لم يكن من أهل حضرة الله ومن أهل القرآن كيف له أن يكون شيخاً ومربيّاً لغيره ؟ أبداً لن يكون ذلك. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أهل القرآن أهل الله وخاصّته". وأهلُ القرآن المقصودون هنا هم الذين نزل القرآن على قلوبهم روحاً، فصاروا إلى منزلة الرّحمانية ومقام البقاء بالله تعالى، كما قال سبحانه "الرّحمن علّم القرآن". فهؤلاء هم أهلُ القرآن العالمين به الورثة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما بعث بالرحمة فكان خليفة الرحمن ورسول الله إلى العالمين.

فلمّا انقطع جيلُ المجدّدين والورثة القائمين عن الكثير من هذه المدارس الطرقية والصوفية بقيَ أصحاب الإذن العام والورد العام، وظنَّ هؤلاء أنّهم أهل وصول وتسليك وحولهم المريدون والمحبّون يظنّونهم مشايخاً، وأغلبُهم لم يتبرّؤوا من تلك المسؤولية وتلك المكانة العظيمة التي لا تقومُ إلاّ بحقّها وبأمر الله تعالى، فظهر جيلٌ إسميّ ليس له من التصوّف إلاّ الإسم والرّسم، أمّا الحقائق والوصول فمقطوعٌ عنها. وهيهات أن يصلَ السالكون بغير صحبة واصل، ففاقد الشيء لا يعطيه، والذي لا يملك الماء المطهّر كيف يُطهّر غيره ؟ وقال أهل التحقيق من القوم : "والله ما أفلحَ من أفلح إلاّ بصحبة من أفلح".
وقال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}[التوبة: 119]، فاعلم ما نقوله، ومهما كان الحبّ والتبرّك بضاعة هؤلاء فلن يجعل ذلك منهم أهل وصول وتربية أبداً. وإنْ كانَ الحبّ سببا للفوز والنجاة لأصحابه، ولكنّ تسليك الفقراء والمريدين يطلبُ شيخاً من أهل حضرة الحقّ سبحانه، أهل القرآن.

لذلك ضعفَ هذا الطريق، واندرس هذا العلم، وتشوّهت صورته وظهر في كثيرٍ من المحافل والمظاهر بصور غير مشرّفة وغير صحيحة وغير مقدّسة كما هو عليه أصلُ هذا الطريق الأقدس الأنفس. أضفْ لما ذكرناهُ من إنكار المنكرين وحملات المسفوعين والمضللّين والمغرضين المتتالية والمقصودة، فصارت صورة التصوّف الصحيح جملةً مشوّهة، وعسُرَ على الباحث أن يجدَ التصوّف الصّحيح وأهله بسهولة ويُسرٍ.

كان لا بدّ من ذكر هذا التوصيف، لأنّه حقيقة وواقع للأسف. وكي لا يُسْقِط البعضُ ما قلناه عن ركن التصوّف وعلم الولاية بما هو موجود على الأرض اليوم ومشاعٌ، بل ما أقلّ أهل التحقيق.


ولكن يبقى في العموم والواقع أنّ المنتسبين لهذا الطريق ولو انتساباً إسمياً أو المحبّين للطّريق وأولياء الله محبّة وتبرّكاً وسواداً أقربُ إلى هذه الطائفة الظاهرة بالحقّ، والنخبة التي انتخبها الله تعالى لحمل أمانة الحقّ والجهاد الحقيقيّ ضدّ إبليس وكيده والدجال وتدجيله، فالحبّ لا تستهِنْ به أبداً، وكما جعل الله القابليات والاستعدادت مختلفة متفاوتة، فقد جعل سبحانه الحبّ هبته للأقلّ استعداداً أن يكونَ في معيّة المحبوب المنتخب المجتبى الذي اجتباه الله إليه، في معيّته كيفما شئتَ هذه المعيّة إلى حدودٍ لا تكادُ تنقطعُ على قدرٍ الحبّ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للبخاري، "عن أنس رضي الله عنه: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال:" وماذا أعددت لها "؟ قال: لا شيء إلاَّ أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أنت مع من أحببت")). قال أنس: فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت))، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.". فانظر إلى قول أنس بن مالك رضي الله عنه : "فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت))". فهذه هي الهبة العظمى فقد تعجزُ الهمّة والمقاصد أو تأبى أسوار الأقدار أن يبلُغَ القاصدُ والمحبّ والمؤمنُ مَبَالغ أولئك الصدّيقين الصّادقين ومدارج السّابقين المقرّبين فلا يجدُ غير الحبّ والشوق والتولّه لهم حبّاً خالصاً لهم، فيحملُهُ حبّهم إليهم ومعهم في الجنّة، وفي الدّنيا يكونُ موصولاً بهم وبأمدادهم وعنايتهم وفي معيّتهم وحزبهم فإنّ أولئك العباد الأخيار الأطهار قلوبُهم محطّ نظر الله تعالى، ألا ترى قول الله في الحديث القدسيّ صرت بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به، فمن نظروا إليه نظرَ الرّضا والمحبّة فقد أفلحَ وفاز بنظر عناية الله إليه ومحبّته وحفظه وتعهّده. والله ذو الفضل العظيم.

يتبع ..


الجمعة، 28 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 38


- 38 -



فقلنا ما بخل الله تعالى على خلقه بالتجلّي والجود وما يدورُ في دائرة سعادتهم الكبرى، بل إنّ حقيقة الوجود هي التوحيد وكان الله ولا شيء غيره وهو الآن على ما عليه كان، فما خلق الله الخلق إلاّ ليرحمهم به سبحانه بالبقاء به، وبوجوده الذي لا يزول ولا يتعلّقُ بالأوقات والأزمان والأمكنة، وُجُوده المرفوع عن الأين والكيف والبين، فهذا هو الفضل  العظيم، وهذا هو منتهى السعادة والكرم.

ولمّا كان العلمُ بحراً، وكانت الحقائقُ أسراراً وقابلياتٍ فقد بقيَ العلمُ عند أهله الأمناء ينفقون منه قدر الحاجة والنّفع للخلق، فما ظهر من الشرائع والحقائق هو للصالح العام، فقد أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أن يُخاطَبَ النّاسُ بما يعقلون وبما يستوعبون وبما لا يفتنهم، عن المقدام بن معد يكرب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا حدثتم الناس عن ربهم فلا تحدثوهم بما يغرب عنهم ويشق عليهم».
وروى مسلم في صحيحه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : "ما أنت بمحدث قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة".
وأخرج البخاري  عن أبي الطفيل ، قال : سمعت عليا ـ رضي الله عنه ـ يقول: "أيها الناس أتريدون أن يُكذّبَ الله ورسوله، حدِّثوا الناس بما يعرفون ، ودعوا ما ينكرون".  وقال ابن عباس رضي الله عنهما : «حدثوا الناس بما يعرفون ، أتريدون أن يكذب الله ورسوله».

وصحّ عن أبي هريرة قوله "حفظت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعائين فأما أحدهما فبثثته، وأما الآخر فلو بثثته لقطع مني هذا البلعوم.".
وورد أنّ عيسى ـ عليه السلام ـ قال : "لا تضعوا الحكمة في غير أهلها فتظلموها، ولا تمنعوها أهلها فتظلموهم، وكن كالطبيب الحاذق يضع دواءه حيث يعلم أنه ينفع". وجاء في إحياء علوم الدين قول أبي حامد الغزالي "كِلْ لكلِّ عبد بمعيار عقله ، وزِن له بميزان فهمه حتى تسلم منه ، وينتفع بك ، وإلاّ وقع الإنكار لتفاوت المعيار".

فتأمّل هذه اللاّفتات التي وضعها أهلُ الحكمة والعلم، فخاطبوا الناس قدر ما يفهمون وما ينتفعون، وأمروا غيرهم بذلك، وأنّ الإنسان عالمَ ٌكبيرٌ، عالم اختبره الله تعالى، بالخلافة والنّفس والأرض فدارت دوائر الصراع فيه وحوله وفي عالمه، واجتذبته العوالم من حوله، الأرض والنّفس تجذبه، والسماء والقدس تدعوه لمنزلته الأصلية وموطنه الأوّل. فهامت الحقائق في تلك الدوائر المتداخلة، فالإنسانُ برازخٌ متداخلة، فليس سهلاً أن يستوعبَ الحقائق على ما هي عليه، وهو ضائعٌ في تداخل تلك البرزاخ ولم يتوازن فيها ولم يملك زمامها ولم يعرف حقيقته وهويّته، ولم يحسن قصده، ولم تصفو نفسه ولم يميّز عدوّه الشيطان من هداية الرّحمن، فالإنسانُ يتدفّقُ بداخله وساوس الشيطان وخواطر النّفس وإلقاءات الرحمن ومداخل الفكر والخيال والوهم والعقل، كلّها تتقاطعُ وتتدافعُ كالموج الهائل، لذلك جاء خطابُ أهل العلم والحكمة أن لا تلقى الحقائق الكبيرة بثقلها في عموم الطرقات، وفي متناول الجميع، فإنّه لا تتساوى النّاس في هضمِ الأفكار، ولا تتساوى في القابليات والمعيار. كما لا يُترَكُ الدواءُ وعقاقيرُهُ في متناول الأطفال، فهم لا يقدّرونَ قدره، ولا يعرفونَ خطره ونفعه، وقد يشتبهُ عليهم أي الأطفال فيجدونه يشبه الأطعمة والأشربة التي يتناولونها في العادة، فيهلكون بتناوله على سبيل الجهل وعدم معرفة حالاته وضروراته، وهكذا فكلّ شيءٍ جعل الله له مراتب ومعايير وقابلياتٍ. ولو كان النّاس على قابلية واحدة لما اختلفوا وتمذهبوا وتنازعوا طوائف ومذاهب، ولما تفرّقوا طبقاتٍ منهم العوام ومنهم المثقّفون ومنهم المفكّرون والعلماء ومنهم المشغول بمعيشته وكدّه عن غرائب الأفكار وعن عزائمِ التحقّق، وجاء خطابُ الكتمِ كي لا يكيدَ  إبليس وشياطينه لتلك الحقائق العاليات فيزوّرها ويستخدمها بواسطة أشياعه وأتباعه من الإنس والجنّ ليحولَ بين النّاس وبين أهل الحقّ، فاعلم أنّ أشدّ النّاس على إبليس هم الذين ذكرهم الله في القرآن على لسان إبليس ((فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)) ص:82، 83. هم العباد المخلصين، وهم الذين أخلصهم الله له، أصحاب الإسم الأعظم، الأولياء فإنّه لا سبيل للشيطان إليهم، ولا سلطان له عليهم، لأنّهم خارج الأكوان، فنوا في ذات الله ثمّ بقوا به، فهم باقون بالله تعالى فأنّى يكونُ للشيطان سبيلٌ لمن بقاؤه بالله إذا نطق نطقَ بالله، وإذا رمى رمى بالله، وإذا سعى سعى بالله وهم المعنيون في الحديث القدسي الذي رواه البخاري في صحيحه : قالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: "إِنَّ اللَّه قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّب إليَّ بِالنَوَافِلِ حَتَى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ.".

فقلنا كان أشدُّ الناسِ على إبليس وخططه ومكائده ومداخله وشروره هم العالمون بها، العارفون به المستمسكون بحبل الله المعتصمون بهديه وشرع نبيّه صلى الله عليه وسلّم، فكانَ من كيد إبليس أن استعمل ما ينسبُ لهذه الطائفة العارفة بالله من بعض الاصطلاحات والوسائل التي لا تُخبرُ إلاّ ذوقاً وسلوكاً ولا تُعرَفُ إلاّ على وجه الإحاطة بها وممارستها والإحاطة بخلفياتها، فاستعملَ ذلك سلاحاً تلبيسياً ضدّ هذه الفئة ليحولَ بينها وبين النّاس أن يجدَ النّاسُ حياة روحهم وما ينفعهم وما يدفع عنهم شرّ إبليس وشياطينه وتلبيساته وتدجيل الدجال معه وأشياعه، ولو تأمّلتَ بعين الاطّلاع والإنصاف لعرفتَ لماذا في الأزمان المتأخرة وفي العقود الأخيرة خصوصا وفي زماننا على الأخصّ كثرَ الإنكار على الصوفية وطائفة العارفين بالله، ورميهم بأشدّ الأوصاف وأقذعها وتنفير العوام والناس منهم، فقد نجح إبليس والدجال وأشياعهما في تلبيس الحقّ بالباطل وقلب الموزاين والمعايير، وسحر النّاس ولفتهم عمّا ينفعهم وأخرجوا للنّاس في المقابل مراجع مزيّفة وفكر منحرف وتديّن دخيل، فاعتلى المنابر الرويبضات، وارتدى جلابيب العلم والفقه القاصرون والجهلة فضلّوا وأضلّوا، روى البخاري في صحيحه أنّه صلى الله عليه وسلم قال : (( إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رءوسا جهالا فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)).
فصار مثل هذا العلم العتيق الأصيل علم الولاية والقرب من الله تعالى علماً منبوذاً ومنكراً محذوراً يُنهى عنه في المنابر ويحذّرُُ منه في المحافل والمجامع، فيالها من كارثةٍ حلّت بالإسلام وروح الإسلام، فهذا العلم هو القائم بروح الدّين، وهو ركن الإحسان، وركن مراقبة الديّان، وركن عبادة الله تعالى على الشهود والعيان "فإن لم تك تراه فإنّه يراك" كما قال صلوات الله وسلامه عليه، علم طيّ الأكوان والحضرات إلى الله ومعرفته التي خلقنا من أجلها، فقد قال أغلب أهل العلم بل أجمع المحقّقون منهم أنّ المقصود في قول الله تعالى ليعبدون أي ليعرفون. قال سبحانه عزّ من قائلٍ : {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. [سورة الذاريات: 56]. فلبّس إبليس ودجّل الدجّالُ الحقّ بالباطل وأفرغ الحقّ من مقاصده ومراميه، وصيّر القوالب والعناوين لمحتوياتٍ مدلّسة ومعاني فارغة مسطّحة ومفاهيم ملبّسة ومدجّلة. وهذا لو وقفتَ عليه من حديث النبيّ صلى الله عليه وسلّم لوجدتَ الدليل عليه، وما يحدثُ في آخر الأزمان من تلبيس وتدجيل، فالتلبيس حرفة إبليس، والتدجيل وظيفة الدجال، لذلك سمّي الدجّال، لأنّه يدجّلُ الحقّ بالباطل، لعبته الخفاء، أي يتلبّسُ بالحقّ ليدسّ للنّاس الباطل والشرّ. أخرج أبو يعلى في مسنده، والحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد، والديلمي في الفردوس، بألفاظ متقاربة "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف أنتم إذا طغى نساؤكم وفسق شبابكم وتركتم جهادكم قالوا وإن ذلك لكائن يا رسول الله قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه يا رسول الله ؟ قال : كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر قالوا وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون قالوا وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا والمنكر معروفا قالوا وكائن ذلك يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون , قالوا وما أشد منه ؟ قال : كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر ونهيتم عن المعروف قالوا وكائن ذلك يا رسول الله ؟! قال : نعم والذي نفسي بيده وأشد منه سيكون , يقول الله تعالى : بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران ".
فيصبحُ المنكر معروفاً يؤمرُ به، ويصبحُ المعروف منكراً ينهى عنه، في أعظم تلبيس وتدجيلٍ عرفته الأرضُ، وهذا التدجيل والتلبيس له أشكالُ متعدّدة، ودرجات مختلفة كالألوان التي تتدرّجُ في أطيافها في اللّون الواحد، فافهم. وإنّ من أعظم التدجيل هو الفرقة والخلاف والتناحر والتحزّب الذي ابتليت به الأمّة، ولغة الإقصاء والتطرّف، وتبديع أهل الحقّ والتجرّأ على أخيار الأمّة وسلفها وخلفها وعلمائها وفصل الأمّة عن مراجعها فصلاً يشملُ ذلك الاحترام والمحبّة والتعظيم والتوقير ومعرفة الفضل لذوي الفضل.

روى الحاكم في مستدركه ( 4 / 596 برقم 8659 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولى ، 1411 - 1990، بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا ) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفان العامري ثنا عمرو بن محمد العنقزي ثنا يونس بن أبي إسحاق أخبرني عمار الدهني عن أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال : كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال علي رضي الله عنه : هيهات ثم عقد بيده سبعا فقال : ذاك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قتل فيجمع الله تعالى له قوما قزع كقزع السحاب يؤلف الله بين قلوبهم لا يستوحشون إلى أحد و لا يفرحون بأحد يدخل فيهم على عدة أصحاب بدر لم يسبقهم الأولون و لا يدركهم الآخرون وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزا معه النهر ) . قال أبو الطفيل : قال ابن الحنفية : ( أتريده ؟ قلت : نعم ، قال : إنه يخرج من بين هذين الخشبتين ، قلت : لا جرم و الله لا أريهما حتى أموت ، فمات بها يعني مكة حرسها الله تعالى ) قال الحاكم : ( هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ) ووافقه الذهبي في التلخيص ، فقال : ( على شرط البخاري ومسلم ).

فانظر لهذا الأثر الصحيح عن الإمام علي عليه السلام كيف يؤولُ الأمرُ في آخر الزمان، فإنّه يصبحُ القائلُ : الله الله، مستباح الدمّ مستهدفاً، وذلك هو غرضُ إبليس والدجّال، فلا تمكين لإبليس ودجاله بوجود أهل الإسم الأعظم الطائفة العارفة بالله، لذلك ينشئ للمسلمين فرقاً مزيّفةً مدخولة ملبّسة الفهم مسفوعة النّفس، تعادي هؤلاء الأخيار العارفين المصلحين أهل الحقيقة والشريعة، أهل الرحمة والجهاد الحقّ ضدّ الباطل. فاحذر آخر الزمان، واحذر المدخولين واعتصم بالله تعالى وابتعد عن نهج البغضاء والفرقة بين المسلمين. كما أنّ هذا الأثر الصحيح ينبؤك أنّ المهدي عليه السلام المنتظر المبشّر به من النبيّ صلى الله عليه وسلم أشياعه وأصحابه أهل الصفّ الأوّل الذين يبايعونه البيعة الأولى بين الركن والمقام هم العارفون بالله تعالى أصحاب الإسم الأعظم. ثمّ يلتحقُ بهم كلّ محبٍّ للحقّ مخلص مسلمٍ نبذ الظلم والفرقة والبغضاء بين المسلمين جميعا، قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} (الأنعام-159).


ثمّ إنّ هذا العلم علم الحقيقة هو درّة العلوم وصفوتها وخلاصتها، فاختصّ بأهلِ الإرادة النقيّة والهمّة العالية وإخلاص القصد لله سبحانه، لذلك ظهرتِ الطرائقُ والمدارس الصوفية، لكي لا يُحرَمُ أهلُ الحكمة والقصدِ من هذا العلمِ النافع وهذا الطريق الخالص، وهي بوجودها أي هذه المدارس عبر تاريخ الأمّة المسلمة كانت خاملةً ودارسةً، ولها أساليبها التي غالباً ما جعلتِ النّاس تزهَدًُ فيها، ليس لعلّتها، بل لعلوّ قصدها وطريقها وخلاصته، فلا يقدرُ عليه كما قلنا إلاّ من صفت إرادتُه وعلت همّته وخلصت نيّته لله تعالى، فالتصوّف اصطلاحاً وتخصّصاً، والإحسانُ ركناً من أركان الديّن الثلاثة الذي هو يعني كمال الإيمان والإسلام، فهو مكمّل الركنين الأوّليين وهو دائرة التحقّق الباطنيّ والظاهري على السواء، ودائرة الثمار الذي يظهرُ به الصادقُ مع ربّه، لذلك خصّت الكرامات أكثر ما خصّت بهذه الطائفة، لأنّ الكرامات تدخلُ في دائرة الثمار والعطايا بعد التحقّق، والكرامات في عُرفِ القومِ أي المتحقّقين هي بدايات العطايا وصغارها ولا معوّل عليها في الحقيقة، بل التعويلُ عند القومِ في الاستقامة والتشرّع، فتلك هي رتبة الورثة الوارثين للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم. وأعلى الطبقات عند القوم هم طبقة يسمّونهم الملامية، وهو اصطلاح خصّ به صفوة الصوفية، الذين تطهّروا عن الأكوان وعن الرّعونات والتطاول على الخلق واحتجبوا عن الظهور بالكرامات أمام النّاس وغير ذلك، فالملامية ظاهرهم كالعوام في الحفاظ على الخمس والبساطة وعدم التميّز وباطنهم الفقر لله تعالى والتحقّق الصادق والإخلاص. عجزَ أن يتعرّف إليهم الخلق أبداً، فلا يعرفهم أحدٌ إلاّ من كان منهم، لأنّهم يتعارفون في السّماء، أرواحهم متعارفة، وأخلاقهم أحسن الأخلاق. لتعلَمَ هذا الطريق الأقدس الأنفس، فإنّه خلاصة الطرق، واختاره الله لصفوته من خلقه، يقولُ الإمام الجنيد رضي الله عنه "لو علمت أَن لِلَّهِ علما تَحْتَ أديم السماء أشرف من هَذَا العلم الَّذِي نتكلم فِيهِ مَعَ أَصْحَابنا وإخواننا لسعيت إِلَيْهِ ولقصدته". فلا أعظمَ من علم التصوّف علم الولاية، وهو ليس علماً مجرّداً، بل هو علم ذوقيّ سلوكيّ شهوديّ، وطريقٌ له سبله، ركنُه الأعظم هو الشيخ العارف الواصل، النّاهل من حضرة الحقّ سبحانه، فإذا وجد القاصد الشيخ لزمَ بابه وتمسّك به كما يتمسّكُ المريض بطبيبه الذي عرف حذقه مهارته وإتقانه، وكما يتمسّكُ الطّفلُ بأمّه التي ولدته لا اعتراض له عليها، وهي التي لا تزالُ كفلُه وترعاهُ وتربّيه حتى يغدو راشداً. فالشيخ شرطه أن يكون عارفاً من أهل حضرة الله حقّاً سلك الطريق ووصل وتحقّق وصارَ نائباً مرشداً، فهذا أعظمُ التطهّر والاغتسال، فإنّ الاغتسال يكون بالماء، فإذا عدم الماء يكونُ بالتيمّم، فاعلم أنّ حقيقة الطهارة عند القوم هو الاغتسال بماء الغيب، وماء الجبروت، وليس يقدرُ المرءُ أن يغتسل هذا الاغتسال ويتطهّر هذا التطهّر إلاّ بوجود من يملكُ هذا الماء والقادرُ على إفاضته على روحك ليطهّرك من جنابات الدّنيا ونجاساتِ النّفس وعيوبها ونفثات الشياطين، فكان أهل حضرة الله الذين تطهّروا من الأكوان هم مددُ هذا الماء الطّاهر المطهّر، وغيرُهم متيمّمون بالصّعيد الصالح وهو الطاعات الظاهرية. أمّا المغتسل بماء الغيب فقد تطهّر طهارة باطنةً من عيوبه ورجع بنفسه إلى حضرة قدسه، إلى موطنها الأوّل والأصليّ فعرفت ربّها ولزمتْ حضرته وصار ماءُ اغتسالِها الماء الطّاهرُ المطهّرُ للغيرِ، وأمّا من لم يدخلْ حضرة الحقّ سبحانه فهو متيمّمٌ بالصّعيد الطّيب. وأمّا المعتصم بأهل الحضرة الإلهية فهم مستمدٌّ من أمدادِهم وفيوضهم أن يفيضوا عليه بماء الغيب الطّاهر المطهّر ليغتسل من جناباته وعيوبه.
قال العارف بالله رضي الله عنه :
تَوَضَّأ بِماءِ الغَيْبِ إنْ كُنْتَ ذا سِرٍّ .... وإلا تَيَمَّم بالصَعيدِ أو الصَخْرِ
مصداقاً لقوله تعالى {أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فأحتمل السّيل زبداً رابياً}[ الرعد /17]. فضربَ الله لنا الأمثال، وشبّه العلم النّافع وماء الغيب بماء المطر النّازل من السماء على الأرض أرض الشهادة وأرض القلوب فسالت أوديةً  هذه الأمطارُ بقدرها تسقي القلوب والنّفوس كلّ بقدره ووسعه وقابليته واستعداده وهمّته وطلبه ليتطهّر من الأدناس والأغيار والشوائب فاحتملَ السّيلُ الزبدَ رابياً طافياً ودفع عن تلك القلوب والنّفوس أدناسها وأغيارها وشوائبها وأكدارها.

يتبع ..

الأربعاء، 26 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 37




- 37 -
 
قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "العلم نقطة كثرها الجاهلون". فالعلم مصدرهُ نقطة الإمداد أو نقطة الاستمدد، وهي نقطة تجليّات الذات العليّة، ذات الله تعالى سبحانه، ولكن في تجريد القول والعلم فقد ضرب الله لنا الأمثال، فجعل النقطة والحروف والكلمات المسطورات أنموذجاً دالاًّ على التوحيد ومُبسِّطاً لترتيباته، لمن كان ذا فهمٍ واستشفافٍ ووقوفٍ صادقٍ يرجو به الفهمَ والعلم ووجهَ الله سبحانه لا يرومُ البقاء في احتكاراته وعصبيّاته، فالحقّ مطلَقٌ ويبحثُ عن أهلِ الإطلاقِ والصّفوِ من أكدارِ النّفس وأصنامِ الهوى واجتناب العجب بالرّأي ليَشِيَ لهم بأسراره ومفاتيحه وأنواره، وهنا كلامٌ يطولُ، وما جاء الدين إلاّ لإتمام مكارم الأخلاق وتحقيق الرّحمة وتصفية الإنسان من أحقاده وأصنامه وكذا إطلاقه بالعلم والنّفع والخلافة في الأرض والإعمار والحياة، ولفظة الحياة واسعةٌ رائعة تشملُ حياة الرّوح وحياة العقل وحياة القلب وحياة المفاهيم وحياة المعاملات فيما بين الإنسان وأخيه الإنسان، فهي حياةٌ وروحٌ ورحمةٌ وأخلاقٌ قامَ عليها الدين. ومهما رأيتَ ديناً يقومُ على العصبيّات والاحتكارات ونفي الغيرِ مطلقاً والقسوة والإقصاء والأحادية، وإطلاق الأحكام بحقّ الغير أحكاماً تشبه صكوك الغفران وصكوك الإقصاء في عهد العصور الوسطى الظلامية التي غرقت فيها الكنيسة ورهبانها، فكانت النتيجة أن تحرّر الإنسان الغربيّ من الكنيسة بسبب فسادها وإظلامها ووصايتها على الناس وأحكامها الغير متماشية مع حقيقة الدين ودوره في الحياة، وكذلك اليوم ابتلينا بهذا التديّن الوصيّ على النّاس، والمحتكر للحقّ، والبعيد عن الرّحمة والحاكم على الغير بالنفي والإعدام والإقصاء باسم الله سبحانه زوراً، والله براءٌ من ذلك ودينُه. قلتُُ فمهما رأيت ديناً كالذي وصفناهُ فاعلم أنّه ليس ديناً، بل هو أعراف وأمزجة بشريّة مريضة التبست بالدين وقداسته وارتدتْ جلباب القداسة ظاهراً والباطنُ ملوّثٌ والجوهرُ معلولٌ واللبّ خاوٍ من روحه، الرّوح التي جاءت من مهدِ الرّحمة من رحِمِ النبوّة الهادية وحقيقة الإسلام، فدين السّماء دين الله جاء متوافقاً مع الإنسانية والحياة وسعتها، لأنّ الذي أرسل الرّسل والأنبياء عليهم السلام هو خالق الكون والإنسان، فاطر الخلق والأكوان، فما أنزل للناس دينا وأحكاماً تحكمُهم إلاّ من أجلِ إسعادهم وتنويرهم وإحيائهم الحياة الحقيقية ومن أجل رحمتهم، بل ما سمّى سبحانه صفوة خلقه وخير رسله صلى الله عليه وسلّم إلاّ رحمةً للعالمين قال سبحانه عزّ وجلّ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107). ثمّ انظُرْ رحمك الله إلى عمق الحياة التي نطرُقُها هنا كمثال من الأمثلة، ونحنُ نتكلمُ عن عالم الكمال والصوفية الأحرار الذين تطهّروا عن الأكوان وحازوا الخلافة التي أرادها الله لهم بكمالها، فالإنسان خلقه الله للخلافة بصفة عامّة سواء كانت الكاملة أو الخلافة الإنسانية العامّة والـتعميرية في الأرض، وهذه الخلافة أساسها العبودية والإيمان والإحسان في الأرض، وذلك بما أودعَ الله من سرّ هذه الخلافة في الإنسان ليسعدَ ويتحرّر غاية الحريّة، وتلك الحريّة تُنالُ بالعبودية الصادقة لله، فالعبودية هي عينُ الحريّة والكمال، كما ذكرنا في محافل سابقة أنّ الإنسان برزخٌ بين الخلق والحقّ، وأنّ الصورة التي خلق الله عليها الإنسان هي ذاتُ هذه الثنائية والبرزخية بين الخلقية والحقيّة، فلا تُنالُ الكمالات الحقيّة والأخلاق الإلهية إلاّ بتحقيق العبودية المحضة لله تعالى، والصّدق غاية الصّدق في العبدية، فحينها يتحقّقُ العبدُ بكونه عبداً أخلاقه القرآن، وحرّاً متحرّراً من قيد الأكوان بروحه السّابح في ملكوت الرّحمن سبحانه. والمثالُ ضربناهُ من أجل التأمّل في عمق الدّين وجماله وحريّته وسعته وحقيقته والخروج عن الأنا مطلقاً، ليرى العبدُ نفسه عبدا لله تعالى، ويرى الخلق عيال الله تعالى فيحسن إليهم باسم الله ويرحمهم ويتعالى عن الحقد والتعالي والإقصاء والخطاب الاستفزازي والمستعلي، كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "الْخَلْقُ عِيَالُ اللَّهِ ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللَّهِ أَحْسَنُهُمْ لِعِيَالِهِ" رواه ابن حبان والبيهقي. بل مذهبُ الصوفية وهم من صفوة الصالحين في التحقيق ألاّ يروا أنفسهم أفضل من عباد الله تعالى، برغمِ ما ألبسهم الله من لباس الفتوح والحريّة والكمالات، لأنّ الحقيقة التي تحقّقوا بها تفرضُ عليهم ذلك، وليس تكلّفاً أو زوراً أو دعوى يطلقونها، فهم يرون الخلق بمنظار الواحدية، الكثرة الدالّة على الواحد سبحانه، وبالتّالي فلا يجدونَ إلاّ لغة الفقرِ إلى الله في معاملاتهم مع الغيرِ، فهم مفتقرونَ إلى كلّ شيءٍ تخلّقاً بالفقرِ إلى الله سبحانه، لذلك سمّوهم الفقراء. وهكذا من كانت مشكاته الرّحمة والأخلاق والتواضع والإحسان لخلق الله تعالى فهو في زمرة الصالحين والمقتدين بهدي الأنبياء عليهم السلام. أمّا الصّنف الذي تكاثرَ اليوم من المتنطّعين المتطرّفين الصّخابين الإقصائيين فأين امتدادهم إلى ربّهم ؟ وأين هداية النبوّة الرّحيمة فيهم ؟ وأين سماحة الإسلام والأديان السماوية فيهم ؟ وأين حقيقة إيمانهم ؟ إن هم إلاّ مدّعون، واقفون على الرّسوم والتسطيح والمظاهر الفارغة، شعروا أو لم يشعروا بذلك، ومن ورائهم الشياطين تأزّهم أزّاً، وتعبثُ بهم عبثاً، وهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا. قال الله تعالى ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًاالكهف:103-104

فعوداً لموضوعنا العلم نقطة، قلنا : حينما تكلّم أهلُ الله عن النقطة والحروف والكلمات، كانوا يريدون المثال بوسعه وقابلياته وتجريده، فهو فوق حصر نقطة الكتابة، وإن كانت نقطة الحبر مثالاً موضّحاً ومقرّباً لما أرادوهُ.
فقول الإمام علي رضي الله عنه "العلم نقطة"، يريدُ نقطة الإمداد والإطلاق كما ذكرنا، ونريدُ توضيح ذلك بقولنا أنّ النقطة من كونها نقطة ( . )، جمعت فيها الإبهام والغموض والإطلاق والأوّلية والأصل، فهي من كونها نقطة فهي أصلُ الحروف والكلمات، فانظر للحرف فلا تجدُه سوى نقطة قرب نقطة قرب نقطة فرسمت تلك النّقاطُ حرفاً، والحروف شكّلت الكلمات، وهكذا.

فهي نقطة ولكنّها عند الوقوفُ عليها جمعتْ الإطلاق كلّه، فجميع ما فاض من حروفٍ وكلماتٍ فهو من جَيْبِ تلك النّقطة، وهي لا تزالُ تفيضُ بلا انتهاءٍ بالحروف والكلمات، فتعجبُ منها، كيف طوَتْ فيها ما لا ينتهي، فكانت بحر الفيوض، وبحارُ العلم جميعها فاضت منها، من النّقطة، وهي مع ذلك ما زالت جامعةً للإطلاق الغير مُقدّر والغير مُدرك أبداً، فلا تزالُ غيباً غيهباً جميعُ ما فاضَ منها من إفاضاتٍ عاجزاتٌ أن يُدركنَ كنهَ تلك النقطة وإطلاقها ووسعها وبحارها، وهيهات أن يُدركنَ ذلك، وكيف يُدركُ الفرعُ الأصلُ والجزءُ الكلُّ، والقيدُ الإطلاقُ. فتأمّل هذا المثال العظيم الذي ضربه الله لنا، على ألسنةِ أهل العلم بالله، كما قال الإمام علي عليه السلام "العلم نقطة كثّرها الجاهلون"، كثّرها الجاهلون إذ وقفوا على فيوضها وفروعها وظلالها يحصونهم إحصاءً، وهم عاجزون عن إحصاء نقطة من بحر تلك الفيوض والفروع والظلال التي فاضتْ، وغفلوا عن مصدرِ تلك الفيوض، وعن سرّ تلك الأمداد، ومنبعِ ذلك الجريان، فوصفَهم الإمامُ بالجهل، لأنّهم حادُوا عن الأصلِ وعن الحقيقة وعن نقطة النّبع والفيض، فلو وقفوا على هذه النّقطة وأحكامِها وشؤونها وأسرارها، أسرارها التي تدورُ حولها، لا أسرارها المكتنزة في عمائها المتعلّقة بكنهها، فتلك أسرارٌ هيهات أن يُدركها المدركون، قلتُ لو وقفوا على هذه النّقطة لعرفوا الحقيقة ولعلموا كلّ العلم، ولتحقّقوا كلّ التحقّق، كما تحقّق المتحقّقون.


وعلى هذا المثال قام أنموذج التوحيد، وتجلّت المراتب والمنازل وسائر الإضافات والاعتبارات، فصار لدينا ذات وصفات، وهويّة وتجليّات، ولاحتْ حقيقة قوله تعالى {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة/115. فأينما تولّي فثمّ تجليّات الله سبحانه وثمّ آثار أسماء الله سبحانه وصفاته، حروف وكلمات النقطة، ما ثمّ إلاّ النّقطة في الحقيقة عند تجريد تلك المظاهر والصور والتعيّنات، والنّقطة هنا مثال ورمز فقط، لنربطَ لك صورة الأنموذج المضروب، فتفهمَ الحقيقة. فمتى دقّقت لاحَ لك وجه النّقطة، وجهها الظاهر أمّا حقيقتها وكنهها وإطلاقها فهو غير مدرك، وهذا هو غاية العرفان فافهم، غاية عرفان العارفين معرفة ما تجلّى به الله سبحانه من إطلاقه وغيبه، فلا يزالُ سبحانه غيباً. ليس بخلاً أو تقييداً أن يعرفَ الخلقُ إطلاقه وكنه ذاته، بل الله أكرمُ الكرماء وأجود أهل الجود وهو نقطة الجود والكرم والرحمة والعلم والسّخاء، وإنّما كما قال أهل العلم بالله لأنّ الأمر كان على ما هو عليه، فما كان صورةً ونسخةً وفيضاً ليس له أن يدرك ما كان أصلاً وذاتاً وحقيقةً. فهي النّقطةُ ثمّ ظهرتِ الحروف ثمّ ظهرت الكلمات، وهكذا. وتنوّعتِ الحروفُ وتفاضلتْ، ووقع تفاضلُها بالصورة، فما كان قريباً صورتهُ من النقطة حازَ من كمالاتها أكثر، ألا ترى أنّ الألف كان أقرب الحروف إلى النقطة، فهو نقطة قرب نقطة، فبَعُدَ عنها بُعداً واحداً، ثمّ كانت الباء بعدت عن النقطة بُعدين. وهكذا.


يتبع ..

الخميس، 20 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 36


قال الشيخ الجيلي قدس الله سره :

قطب الأعاجبِ أنت في خلواته ... فلكُ الكمالِ عليك ذو دورانِ
نُزّهْتَ بل شُبِّهتَ بل لكَ كلّما ... يدري ويجهلُ باقياً أو فاني
ولك الوجود والإنعدام حقيقة ... ولكَ الحضيضُ مع العُلا ثوبانِ
أنتَ الضياءُ وضدّهُ بل إنّما ... أنتَ الظلامُ لعارفٍ حيرانِ
مشكاتُه والزيتُ معْ مصباحه ... أنت المرادُ به ومن أنشاني
زيتُ لكونك أوّلا ولكونِكِ المـ ... ـخلوق مشكاة منيرٍ ثاني
ولأجل ربّ عين وصفك عينُه ... هاأنتَ مصباح ونورُ بياني
كن هادياً لي في دجى ظلماتكم ... بضيائكم ومكمّلاً نقصاني
يا سيّد الرّسل الكرامِ ومن لهُ ... فوق المكانِ رتبةُ الإمكانِ

قال : قطب الأعاجب أنتَ في خلواته ، فمن هذا المقصود ؟ القطب في خلواته ؟

إنّه هو ، القطب المكتوم المجذوب، المهدي في جذبه، الذي يكونُ في خلواته منعزلاً عن الخلق، مجذوباً في خلقيّته وبشريّته لا يعرفه العارفون، مخفيّ مكتوم عن الخلق، السّاري إلى الله والمهاجر إلى الله دون علم المخلوقات، المتقلّب في الأحوال، الظاهر بالقوالب الخلقية، الغريب، غريب الغرباء، المهموم المحزون المقهور من قهر الواقع والحياة وقهر الخلق تحت قهر القهّار، هو قطبُ الأعاجب الذي عليه فلك الكمال ذو دوران، إنّما جعلهُ الله كذلك لأنّها إرادةُ الله وسنّته في إظهار الحجّة على الخلق جميعاً، أن يُشهدهم عبده الذاتيّ، كيف صحّت له الإمامة عليهم، وفازَ بالرّتبة الشريفة، رتبة الخليفة، فلأنّه الخليفة كانَ حاملاً لهموم الخلق، ومقهوراً بقهرهم، لأنّه الذي ظهرَ بهم، فهو حقيقتُهم، وهو ذاتُ ذواتهم، فتقلّبهُ في الأضداد والذوات والقوالب والحقائق، شهادةً لهُ أنّه الخليفة، حامل سرّ الذات، عين الذات. وشهادةً له أنّه المطهّر عن الأكوان.

لذلك يصفُه بتلك الأضداد والحقائق المتقابلة أنّه حازَ الإمكانين : الوجود والإنعدام، الحيرة والعلم، الضياء والظلام، الحضيض والأوج، العلو والسفل، الجمال والجلال، وهذا ليس تقوّلاً أو زعماً أو سفسطةً كما يتخيّلُ الذين فاتهم علم التحقيق. بل عينُ ما عيّنه لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعريفاً بالله سبحانه. فخذ :

روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: (كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء, وخلق عرشه على الماء). فقوله كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء أي كان في كنزيّته التي لم يتميّز سفلها عن علوّها، فهي قابلةٌ للأضداد جميعها، فالذات منها ظهر الوجود جميعه باعتباراته وإضافاته التي تشكّلت إمكانيات وأحكاماً، فالوجود والعدم أصله الذات، والكمال والنّقص، والجمال والجلال، والعلم والجهل، بل الكمال في حقيقته هو التحقّق بجميع الاعتبارات المتضادّة، ولذلك نجدُ في أسماء الله الحسنى الأسماء الجمالية والأسماء الجلالية، فهو المعطي وهو المانع، وهو الضار والنافع، وهو الغفور الرحيم وهو القهارالمنتقم.

وعليه فالكمالات الإلهية هي للحقّ سبحانه وحده لا شريك له، لا يُشاركها فيها أحدٌ في التحقيق، إذ لا موجود ثمّة غيره كي يشاركه في شيءٍ، فكلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ سواء كان شيئاً من الأشياء أو كان الإنسان الكامل فأحديّته مجازية واعتبارية، قائمةً بأحدية الواحد الأحد سبحانه. تعالى الله عمّا يشركون، قال الله تعالى في سورة التوحيد والإخلاص
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الإخلاص. فانظر تجد لفظة أحد وردتْ مرّتين: مرّةً نسبة لله تعالى : قل هو الله أحد. ومرّة أخرى في نهاية السورة نسبةً لغيرِ الله تعالى، في معرِض تنزيه الندّ والشريك والكفؤ لله تعالى. وهذه اللّفتة اشارَ لها جهبذ العارفين الشيخ الأكبر رضي الله عنه، فحتّى لو صحّ لهؤلاء الخلفاء والكمّل أحديّتهم وشهود الأحدية بما أكرمهم الله به بالصورة، فهيهات أن تكون تلك الأحدية المجازية كفؤاً ونظيراً لأحدية الأحد الأصليّ الذي إليه ترجعُ كلّ أحديةٍ وكلّ شيءٍ.

وكم في هذه اللّفتة، من علمٍ وتحقيقٍ، فهي مثبتةٌ لأحدية الكمّل من عباد الله تعالى والخلفاء من الأنبياء والأولياء عليه السلام، وفي ذاتِ الوقتِ هي منزّهةٌ لله تعالى عن الكفؤ والنّظير والشريك،
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. قال صلّى الله عليه وسلّم : {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله} . ورواية: {ولم يكن شيء معه} . ورواية: {ولم يكن شيء غيره}.
فكان الله ولم يكن شيء غيره وهو الآن على ما عليه كان، فتعالى الله عن الحدثان، إنّما هي اعتبارات وإضافات فقط، تجلّى الله بها على عالم الحدثان، فتشكّل اعتبار القديم والمحدث، فما ثمّ إلاّ القديم في التحقيق، كما جاء أنّه قال رجل بين يدي الجنيد: { الحمد لله } ولم يقل: { رب العالمين } ، فقال له الجنيد: كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل: وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه؟! فقال الجنيد: قُلها يا أخي؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادثُ وبقي القديم.
فهذا هو علم المحقّقين الذين علموا ما ثمّ، فأعطوا لكلّ شيءٍ قدره، وما التبسَ عليهم الحادث بالقديم، لذلك قال الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، قل يا محمّد هو الله أحد، هو، كلّ حادثٍ محدَثٍ يا محمّد عائدٌ إلى الله الأحد، فهذه الكثرة دالّةٌ على موجدِها وخالقها الواحد الأحد من العدم :

((قال بعضهم: خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر. وقال الفخرُ الرازي: رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها: مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه - إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً. وما من موضع شِبْرٍ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}. [المدَّثِّر: 31]. هـ.

وقال وَهْبُ بن مُنّبِّه: (قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين).)) انتهى.

ما يعلمُ جنود ربّك إلاّ هو، قل هو الله أحد، فكان إسم "هو"، مستغرِقاً للإحاطة والعلم، ليعودَ إلى الذات، إلى الله سبحانه والله واسعٌ عليم.

فإسم "هو" له اعتبارين : اعتبارٌ من حيث التجلّي، واعتبارٌ من حيث الهويّة والغيب، وهو دالٌّ على الواحدية، على الكثرة في عين الوحدة، والوحدة في عين الكثرة، لذلك كان إسم "هو" ذكر خواص الخواص كما ورد على لسان المحقّقين، لأنّه إسم استغر
اق وعلم وإحاطة بما هو لله تعالى، فقد كانت الولاية بالأصالة للوليّ الحميد سبحانه، فكانَ سائرُ المتحقّقين متفاوتين في الوسع والقابلية والمزيد، فالولاية لهم بتحقيق شرائطها، ولا يزالُ التفاوتُ قائماً، فكان إسم "هو" لمزيد هذا الوسع والقابلية والعلم. وجميع ما تجلّى به الله تعالى في الوجود كانَ القابلَ الأوّل والمتحقّق الأوّل هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلا أعلم بالله من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، طبعاً بعد الله سبحانه عزّ وجلّ.

لذلك كانت العصمة في كلام الله تعالى وحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم "ما ثبتَ عنه ثبوتاً"، عن طريق السّند الصّحيح، أو عن طريق إثبات أهل الكشف الصّحيح، فإنّهم يأخذون الإثبات عن الله تعالى، ويشهدون نور النبوّة في حديثه الشريف صلى الله عليه وسلّم. هنا قامَ الشرعُ، وما عدا المعصوم فكلامهم يؤخذ منه ويردّ، كي تعلمَ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحقّق بصلاة الله عليه والسلام، فهو ناطقٌ بالحقّ ولسانِ الحقّ، ونائبٌ عن الله تعالى، فهو رسولُ الله. وما قامتِ الدّنيا إلاّ بشهادة : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله.
فالتوحيد حقيقة الدّنيا، ورسالة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وشرعه طريق هذا التوحيد. فاعلم.

فإنّه لا موجود إلاّ الله تحقيقاً، والجميعُ قائمٌ به سبحانه، وسيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم هو منصّة شهود هذا التوحيد وهذا العرفان بالله سبحانه.

يتبع ..




الأربعاء، 19 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 35





قال الشيخ الفرد الكامل عبد الكريم الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه الباهر "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل"


ذاتٌ لـهـا في نفسها وجْهَـانِ ... للسّفل وجهٌ والعُلا للثانـي
ولكلّ وجْهٍ في العـبـارة والأدا ... ذاتٌ وأوصافٌ وفِعْلُ بَيَانِ
إن قلت واحدة صدقْتَ وإنْ تقُلْ ... اثـنانِ حـقّاً إنّـه اثنـانِ
أو قلتَ لا بل إنّهُ لمثلّثٌ ... فصدقْتَ ذاك حقيقةُ الإنسانِ
أنظر إلى أحدية هي ذاتُهُ ... قل واحدٌ أحدٌ فريدُ الشانِ
ولئن ترى الذاتين قلت لكِوْنِهِ ... عبدًا وربًّا إنّه اثنانِ
وإذا تصّفحتَ الحقيقة والتي ... جمَعَتْهُ ممّا حكمُه ضدّانِ
تحتارُ فيهِ فلا تقولُ لسُفلِه ... علو ولا لعلوّه داني
بل ثمّ ذلك ثالثاً لحقيقة ... لحقت حقائق ذاتها وصْفانِ
فهي المسمّى أحمد من كون ذا ... ومحمّد لحقيقة الأكوانِ
وهو المعرّف بالعزيز وبالهدى ... من كونه ربّاً فداهُ جناني
يا مركز البيكارِ يا سرّ الهدى ... يا محور الإيجاب والإمكانِ
يا عينَ دائرة الوجودِ جميعَهُ ... يا نقطة القرآن والفرقانِ
يا كاملاً ومُكَمِّلاً لأكَامِلٍ ... قد جمّلوا بجلالة الرّحمنِ
قطب الأعاجبِ أنت في خلواته ... فلكُ الكمالِ عليك ذو دورانِ
نُزّهْتَ بل شُبِّهتَ بل لكَ كلّما ... يدري ويجهلُ باقياً أو فاني
ولك الوجود والإنعدام حقيقة ... ولكَ الحضيضُ مع العُلا ثوبانِ
أنتَ الضياءُ وضدّهُ بل إنّما ... أنتَ الظلامُ لعارفٍ حيرانِ
مشكاتُه والزيتُ معْ مصباحه ... أنت المرادُ به ومن أنشاني
زيتُ لكونك أوّلا ولكونِكِ المـ ... ـخلوق مشكاة منيرٍ ثاني
ولأجل ربّ عين وصفك عينُه ... هاأنتَ مصباح ونورُ بياني
كن هادياً لي في دجى ظلماتكم ... بضيائكم ومكمّلاً نقصاني
يا سيّد الرّسل الكرامِ ومن لهُ ... فوق المكانِ رتبةُ الإمكانِ
أنت الكريمُ فخذ فلي بك نسبةٌ ... عبد الكريم المحبُّ الفاني
خذ بالزمامِ زمامِ عبدك فيك كي ... يرخى ويطلق في الكمال عناني
يا ذا الرّجاء تقيّدت بك مهجتي ... بل للمحبّة قد دعاك لساني
صلّى عليك اللهُ ما غنّت على ... معنى تصاوير لهنّ معاني
وعلى جميع الآلِ والصّحبِ الذي ... كانوا لدار الدين كالأركانِ
والوارثين ومن لهُ في سوحكم ... نبأٌ ولو بالعلم والإيمانِ
وعليك صلّى الله يا حاء الحيا ... يا سين سرّ الله في الإنسانِ

فافتح قلبك وعقلك لهذه الحقائق العاليات هنا، وهو يتحدّثُ عن الذات الأحدية التي هي أصلُ الخلق، فهي الحقّ والخلقُ، فما ظهرَ الخلقُ إلاّ بالخالق، وما ظهر العباد إلاّ بالمعبود، وما ظهرَ المربوب إلاّ بالربّ، وما ظهرَ المرزوقُ إلاّ بالرّازق، فهما من نبعٍ واحدةٍ، وعينٍ جامعةٍ، فغايةُ التوحيد أن تعرفَ أنّ الوجودَ عدمٌ أمامَ موجدِهِ، والوجود مفقود لا حياة فيه إلاّ بحياة الحيّ القيوم، فهو الذي قامَ به كلّ موجود، فقد صارتِ المخلوقات والكائنات قائمةً بربّها، فهي ظلالٌ لوجودِهِ، وهي أطيافٌ من تجليّاتِ نورِه، وهي آثارٌ من تجليّاتِ اسمائه الحسنى وأوصافهِ العُلا جلّ جلاله سبحانه. فهو واجب الوجود.



وسرّ هذه الذات تجلّى في الإنسان إذ قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". فالصورة هي التحقّق بالصفات السبع أمّهات الصفات وهي الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر، ليسعَ قلبُ العبدِ الحقَّ سبحانه كما قال في الحديث القدسيّ {ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن}. من وقوله تعالى {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) } النجم.


فتأمّل لتجِدَ ما ذكرهُ الشيخ الجيلي في كلام الله تعالى، فالرّوح التي تجلّت فيها الذات دنَت فتدلّتْ فكانت قاب قوسين أو أدنى، فتأمّل قول الشيخ الجيلي :
إن قلت واحدة صدقْتَ وإنْ تقُلْ ... اثـنانِ حـقّاً إنّـه اثنـانِ
أو قلتَ لا بل إنّهُ لمثلّثٌ ... فصدقْتَ ذاك حقيقةُ الإنسانِ
أنظر إلى أحدية هي ذاتُهُ ... قل واحدٌ أحدٌ فريدُ الشانِ
ولئن ترى الذاتين قلت لكِوْنِهِ ... عبدًا وربًّا إنّه اثنانِ


فهما إثنان قوسان (قاب قوسين) : قوس الحقيّة وقوس الخلقية، وبنفس الوقتِ هما واحد (أو أدنى) في كونهما الدائرة الوجودية المتشكّلة من القوسين المتحاذيين المنفصلين بالخط الوهمي (وتر القوسين المتحاذيين)، وبارتفاع الخط الوهميّ فهما دائرة واحدة، رآى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم الروحَ الأعظم عند سدرة المنتهى عند الأفق الأعلى، فرآه كما ذكرنا في مقام الواحدية بتجلّي الإسم الأعظم بشهود الكثرة في الوحدة والقوسين في الدائرة، ثمّ بشهود الأحدية بارتفاع الاثنينة. فقال الله تعالى {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)} النجم.


فتحقّقَ الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه بسرّ الإسم الأعظم بشهود ربّه، فرأى الحقّ أي رأى الرّوح، وأنّ الخلق تجليّات الحقّ، ولا قيام للخلق إلاّ بالحقّ، ورأى معاينةً بعين اليقينِ أنّ الخلق بطونه هو الحقّ سبحانه، فلا موجود إلاّ الله، وما سواهُ قائمٌ بوجوده. ناشئٌ من تجليّاته.
فأشارَ الشيخ الجيلي تعريفاً بهذه الحقيقة : أنظر لحقيقة الإنسان حامل سرّ الحقّ سبحانه، أنظر للإنسان الخليفة الذي جعله الله على صورته، والخليفة الأوّل كان هو عين هذه الذات المتجليّة، والإنسان من بني آدم هم خلفاء لهذا الخليفة.


وذلك كما ذكرنا سابقاً أنّ الله تجلّى في الرّوح، فكانت الرّوح مرآة ذاته، ظهر فيها بذاته، والخليفة هو عين هذا الرّوح الأعظم الذي خلق الله منه كلّ شيءٍ، فافهم. فلولا أنّ الله ظهر بين التشبيه والتنزيه لما صحّ للإنسان معرفته على هذا النّحو. بل ما قامَ التوحيد وما صحّ للمتوسّم إلاّ بسرّ الله في خلقه، فأصلُ الخلق رجوعهم لله سبحانه في نهايات البطون.



قال الشيخ الأكبر في الفتوحات المكيّة :

{"إني جاعل في الأرض خليفة" يُؤمن به من كل خيفة، أعطاه التقليد، ومكّنه من الإقليد، فتحكّم به في القريب والبعيد، وجعله عينَ الوجود، وأكرمه بالسجود، فهو الرّوح المطهّر والإمام المدبِّر، شفّعَ الواحدَ عينه، وحكم بالكثرة كونَه، وإن كان كل جزء من العالم مثله في الدلالة ولكنّه ليس بظلّ فلهذا انفرد بالخلافة وتميز بالرسالة فشرّع ما شرع، وأتبَع واتّبع فهو واسطة العقد وحامل الأمانة والعهد} -انتهى-


فليس الخليفة سوى الرّوح المطهّر والإمام المدبّر المسمّى بالحقّ المخلوق به، هو الذي تشفّعَ عن وتره وأحديّته، فكانَ حقّاً وخلقاً، قوسين كما ذكرنا، وهو الذي ظهرَ بالكثرةَ من وحدته وواحديّته، وإن كانت هذه الأحدية والواحدية صحّت لكلّ من العالم باعتبار عودة كلّ شيءٍ إلى الذات والأصل، فكلّ شيء له محتدٌ يعودُ به الى الله سبحانه، فكان كلّ شيءٍ في العالم دالاًّ على وجه الله سبحانه كما قال سبحانه : ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة.ولكن ما كان هذا الخليفة وهذا الرّوح ظلاًّ ونسخةً إذ هو عين الوجود وهو صورة تجليّات المعبود وسرّه هو سرّ الحقّ سبحانه لذلك خصّ بالسّجود. والعلم بهذه الحقيقة هو العلم بكلّ علمٍ نافعٍ وإدراك لحقيقة الحقائق.




قال الشيخ الجيلي :

ولئن ترى الذاتين قلت لكِوْنِهِ ... عبدًا وربًّا إنّه اثنانِ
وإذا تصّفحتَ الحقيقة والتي ... جمَعَتْهُ ممّا حكمُه ضدّانِ
تحتارُ فيهِ فلا تقولُ لسُفلِه ... علو ولا لعلوّه داني
بل ثمّ ذلك ثالثاً لحقيقة ... لحقت حقائق ذاتها وصْفانِ


فإن تأمّلت الذاتين قلت لهذه الذات الأولى التي منها ظهرت الذوات وتجلّت الكثرة، هو العبدُ وهو الربّ، فكان الخليفة هو العبد في مقام العبدية وهو الربّ في مقام الربّوبية، وظهرَ بالأضداد، جميع الأضداد المتجليّة الممكنة، الوجود والعدم، العبد والربّ، النور والظلمة، العلوّ والسّفل، العزّة والذلّة، الغنى والفقر، الكمال والنّقص، العلم والجهل ..الخ من الأضداد. فهي ذاتٌ لحقت حقائقها وصفانِ.


بل ثمّ ذلك ثالثاً لحقيقة ... لحقت حقائق ذاتها وصْفانِ
فهي المسمّى أحمد من كون ذا ... ومحمّد لحقيقة الأكوانِ
وهو المعرّف بالعزيز وبالهدى ... من كونه ربّاً فداهُ جناني
يا مركز البيكارِ يا سرّ الهدى ... يا محور الإيجاب والإمكانِ
يا عينَ دائرة الوجودِ جميعَهُ ... يا نقطة القرآن والفرقانِ
يا كاملاً ومُكَمِّلاً لأكَامِلٍ ... قد جمّلوا بجلالة الرّحمنِ



وهو هنا يعرّفُ هذه الذات، وهذا الخليفة ليقول لنا هو المُسمّى أحمد في مقام الأحدية والذات الجامعة، وهو محمّد لحقيقة الأكوان، هو المعرّف بالعزيز وبالهدى، الخليفة العزيز المهدي من كونه ربّاً. فهو الذات الأحدية. الذي حمل سرّ الإسم الأعظم.


هو الإمام الأعلى هو الحقّ الظاهر بذاته في مظهر هذا الخليفة المهدي.


ويذكره بتلك الأوصاف الجامعة وأنّه اصل الوجود ومركز البيكار ومحور الإيجاب والإمكان، القابل للإمكانين كما ذكرنا.
الكامل بالأصالة المكمّل لسائر الأكامل الذين جمّلوا بجلالة الرحمانية، فافهم.
ما حاز الإسم الأعظم بالحقيقة والأصالة إلاّ المهدي الخليفة، فهو اللّطيفة الذاتية، وغيرهُ كمّلوا بالرّحمانية وقامَ فيهم الحقّ سبحانه لطيفةً صفاتية ، فما كان الخليفة ظلاًّ كما ذكر الشيخ الأكبر وكانَ غيرهُ من أهل الكمال من الخلفاء ظلالاً لهذا الخليفة، وكانوا كلابسي ثوبي زور. فهو حقيقتهم جميعاً، هو ذات ذواتهم.



فمحمّد هو أحمد في عالم الأكوان.
وأحمد هو المطهّر عن الأكوان وهو جميع من ظهر من أفراد بني آدم. فهو حقيقتهم، إليه مرجعهم.
فعبد الله هو المهدي بالأصالة، ولاحظ عبد الله، لترى الثنائية مجتمعة في هذا الإسم، العبودية والألوهية.

{الْحَمْد لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْده الْكِتَاب وَلَمْ يَجْعَل لَهُ عِوَجًا} الكهف.



من كونِ الألوهية تقبل الثنائية، لأنّها حقيقة جميع الموجودات والأشياء والأكوان.


وسيّدنا محمّد- عليه الصلاة والسلام- اسمه محمّد بن عبد الله، فلاحظ وتأمّل لفظة "ابن". فكأنّها تشيرُ إلى الفرعية والصورة.


فأحمد هو أصلُ الوجود، ومحمّد هو دائرة التعيّن والخلق. وما فاز الكونُ إلاّ بحبّ محمّد سيّد الأكوان والدّال على الرّحمن. صلى الله عليه وسلم. فهو الذي جعله الله الأنموذج والقدوة وهو سيّد الأوّلين والآخرين، وصفوة الخلق وصاحب مقام الجمع الذاتي والمبعوث رحمة للعالمين الذي أنزل عليه القرآن، لقراءة كتاب الحقّ سبحانه، الكتاب الذي أنزل على المهدي الذي هو خارج دائرة الأكوان، وخارج الخلق، فافهم. وإلى هذه الحقيقة يشير الحق سبحانه بقوله : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأَحْزَاب:33].
فالله تعالى يقرّر تقريراً عن تطهير أهل البيت تطهيراً من الأكوان، ببعثة المهدي الخارج عن الأكوان المطهّر عنها تحقيقاً، الحامل سرّ الحق تعالى بذاته، الخليفة الأوّل الحامل للصورة الإلهية بالذات والصفات، خلاف غيره وإن كانوا من أهل البيت وأهل الله اهل الكمال والفردانية وإن دخلوا في هذا التطهير فهم مطهّرون بانتمائهم إلى الرّحمانية بقوله تعالى {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ}، أمّا المهدي فهو المطهّر الذاتي الأصليّ وحامل سرّ الإسم الأعظم وخليفة إسم الله بالحقيقة والذات.


واقرأ صريحاً ما قال الشيخ الجيلي قدس الله سره في كتاب (الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم)

(واعلم : أنّ قولنا الحق والخلق، والرب والعبد انمّا هو ترتيب حكمي نسبي لذات واحدة كل ذلك لا يستوفي معناها ، ووقوفك مع شيء من تعدد ذلك زور وتضييع وقت في عين الحقيقة إلّا اذا كنت ممن يشمّ المسك و هو في فأرته ، فإنّ كل ذلك حينئذ ترتيب لذاتك تستحقه بالأصالة ، فحينئذ أكلت الزفر بيد غيرك ووزنت نفسك بعيار مرتبتك وما يستحقه قانونك ، فما وجدته من تلك فهو عين الحقيقة ، وما وجدته من الله على سبيل الاتصال والاتحاد فهو عين الضلال والالحاد ، ولا يذوق هذا الكلام إلا عربي أعجمي لغته غير لغة الخلق ومحله غير محلهم ، فهو يستوفي ماله كما لم يزل و يرمي بسهم مراتبه في قوس مقتضياته على هدف ذاته بيد قائم أحديته ، فلا يخطئ له مرمى ولا ينكس له سهما ، فلا سهامه تزول ، ولا عين الرامي تحول ، تعالى الله ان تنصرم ألوهيته أو تنقسم أحديته) انتهى.



فهو هنا يقرّر لنا ما ذكره وما ذكرناه، أنّ العبد والربّ والحقّ والخلق ترتيب حكميّ يعودُ إلى ذاتٍ واحدة، قد يُعجزكَ أبداً الوقوفُ على هذه الحقيقة وهذا السرّ وهذا العلم، لأنّه علمٌ ذوقيّ شهوديّ لأهله الذين دخلوا حضرة الحقّ سبحانه، فقال وقوفك على ذلك تضييع وقت في عين الحقيقة، ثمّ استثنى أنّ هناك عبداً واحدًا هو الذي صحّ له أن يشمّ المسك وهو في فأرته وقبل أن يدخل حضرة الكمال والتقديس، هو الفتى العربيّ الأعجميّ، أي المهدي فهو العربيّ الأعجميّ من آل بيت النبيّ صلى الله عليه وسلّم إسرائيليّ الجسم، وهو يؤيّدُ ما كنّا نقوله عن المجذوب، المهدي في جذبه وقبل كماله أنّه يجمعُ بين الأضداد ويصحّ له العلم بالمراتب والمنازل والحقائق على وجهها، لأنّها حقائق وترتيب تستحقّها ذاتُه بالأصالة، وانظر كيف يصفُه أنّ لغته غير لغة الخلق، إذ يصحّ له العلم بما لا يصحُّ لغيره قبل تقديس نفسه وهو في جذبه، ومحلّه غير محلّ الخلق، فليس هو سوى الحقّ تعالى في مظهر الإنسان، فافهم. لذلك زالَ هذا الختمُ المطهّرُ عن الأكوان عن مرتبته وظهوره وشهرته في عالم الأكوان، زالَ بختمه وحقيقته العليا التي تُمثّلُ الإطلاق وحقيقة الحقائق. فهو القطبُ المكتومُ، ولا يقُومُ الكتمُ إلاّ لسرّ خارقٍ فوق العقول وفوق ما يمكنُ أن يكون.فافهم.


يتبع ...