الأربعاء، 24 يوليو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 43



- 43 -

فذلك ما جاء في معنى الجسم الإسرائيليّ للمهدي عليه السلام، ثمّ إنّ هناك معنى آخراً يحمله هذا الوصف، إذ يطلقُ المحقّقونَ من أهل الله أكابر القوم، على المهدي وصف العربي الأعجميّ، ويصفُهُ الشيخ الأكبر في كتاب عنقاء مغرب أنّه عجميّ ليس بالعربيّ في معرض وصف ختم الأولياء مدارياً وكاتماً مقام المهدي حتى لا تظهرَ ختميته علناً ولغيرِ أهلها وفي غير وقتها، فماذا يُقصدُ بوصف العربيّ والعجميّ في بعديهما الحقيقيّان.

فهما في الحقيقة وصفانِ يعودانِ إلى الحقيقة، فوق ظاهرهما، فالعربيّ يُقصدُ به القمريّ من كونِ المحمديّين قمريون، أي بطنتْ فيهم الخصوصية الكبرى، فصاروا الى مقام الجمع الذاتيّ وراثة للحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم فهو القمريّ الذي عكس ضوء الشمس كاملةً، وبطنتْ فيه الرّوح، فكان مظهر الذات ومجلى الأسماء والصفات عليه صلوات الله وسلامه. إذ القمر يُقابلُ مقام القلب، والشمس تقابل الرّوح. فصارَ القلبُ عند عروج صاحبه العروجَ الذاتيّ ينزلُ فيه الروح فيعكسُ أنوار الروح. ويُصبحُ العبدُ ذاتياً قمرياً وارثاً للعبد القمريّ الأوّل العربيّ سيّدنا محمّد النبيّ الأميّ الأمين صلى الله عليه وسلم. فافهم. فهذا هو معنى العربيّ. فهو القمريّ لأنّ حساب العرب حساب قمريّ، وحساب العجم حساب شمسيّ.
فكانت الشمسُ هي الرّوح، وترمزُ للحقّ تعالى، فالرّوح هو الحقّ سبحانه هو الملَك الذي ظهر الله فيه بذاته كما قال المحقّقون، وهو عينُ الخليفة كما ذكرنا ذلك مراراً، فصارَ الخليفة شمسياً أعجمياً، بخلاف جميع القمريين العرب المحمديّين، فجميع المحمديّين الكمّل والأفراد هم عربٌ اصطلاحاً ولو لم يكن أصلهم عربٌ ، فافهم. ولا يوجد سوى أعجميٌ واحد هو الخليفة، فهو الشمس بذاتها. الشمس التي نزلت في قلوب المحمديين العرب، وفي قلب خير خلق الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فافهم. فكان المهدي هو العربيّ الأعجميّ. فإن وقفتَ على جزم الشيخ الأكبر لدواعي الكتم فهو الأعجميّ، وليس بعربيّ، لأنّه شمس وليس قمر. فهو الشمس بذاتها لذلك يخرجُ في آخر الزمان، وتطلعُ شمس المغرب في آخر الزمان ويغلقُ بابُ التوبة إشارةً لذهاب الخاتم والروح والخليفة، فافهم. وإشارةً لخروجه وظهوره، لمّا قال الشيخ الأكبر في عنقاء مغرب : "لم تزل الشمسُ جاريةً من المشرق الى المغرب بغيرها ومن المغرب الى المشرق بنفسها". فالمهدي هو شمس المغرب الذاتية الجارية بنفسها، لذلك طلع آيةً في السماء طلوع الشمس من مغربها آيةً على أوان الساعة. فهو علم الساعة أي المهدي. فهو الأعجميّ بهذا الاعتبار.

وإن وقفتَ على قول الشيخ الجيلي في كتاب الكهف والرقيم في وصفه للمهدي أنّه العربيّ الأعجميّ، فهو كذلك، إذ المهدي شمسه هي قمره، أو قمره هي شمسه، فمقامُ القلب هو إمامه، فهو عينُ القلب الذي نزلَ فيه الروح على القمريين العرب. فافهم، فكان هو القمر وهو الشمس جمعاً وبرزخاً أصلياً. فهو صاحبُ القلب وهو الإمام القدسيّ وهو صاحبُ الكعبة وهو قطب الأرواح كما كانت الكعبة قبلة الاشباح وكما كان القلبُ بيت الربّ ومحلّ نزول الروح القدسيّ فافهم. فهو القمريّ الشمسيّ. هو الخليفة وهو صاحبُ الذات. إذ هو عينُ الذات في سرّه. فافهم.


ثمّ إنّ الله تعالى يقولُ (وَإِنّ يَوْماً عِندَ رَبّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مّمّا تَعُدّونَ) [سورة: الحج - الأية: 47]. فتأمّل فيوم الربّ كسنةٍ والسنة شمسية، خلاف القمر فهو شهريّ، دورة الشمس سنوية ودورة القمر شهرية، وقال الله تعالى {ليلةُ القدرِ خيرٌ من ألفِ شهر} سورة القدر. فقرنَ ليلة القدرِ التي أنزلَ فيها القرآن، وهي الليلة المحمدية فقرنَها بالشهور وفضّلها على جنس الشهور ليُشيرَ لنا إلى أنّ المحمديّة هي القمرية والعربية ونسبتُها للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم ففضّلها على جنسِ الشهور، أمّا يوم الربّ فما ذكِرَ بنسبة التفضيل لأنّه الواحد الأحدُ الذي إليه ينتسبُ ويرجِعُ كلّ شيءٍ، فكلّ شيءٍ عدمٌ بالنسبّة لذاتيته سبحانه، ولا يقومُ إلاّ به، فافهم. فهي ليلة القدرِ التي تُقابلُ يوم الربّ، هي الليلة المحمدية التي تقابل يوم ونهار الربّ. ولهذا نالت ذلك الشرّف والفضل العظيم، فالفضلُ يعودُ لليوم، أي يعودُ لصاحب الفضل سبحانه جلّ جلاله. فالليلة تابعة وليست أصل، تابعة لليوم الذي هو الأصلُ. فكان يوم الربّ شمسياً مقروناً بالسّنة، كألف سنة ممّا تعدّون، وكانت ليلة القدرِ المحمدية قمرية شهرية. فهي ليلة من جنس القمر الذي يطلعُ بالليل، فافهم.

فكان اليوم والشمس رمز للحقّ سبحانه، لذلك كان الخليفة أعجمياً، وحسابُ العجم شمسي. فافهم هذه الاصطلاحات وهذا الكتم وهذه الحقائق التي تدورُ حول الختم والخليفة الذي هو السيّد الصّمد، وسيّد الجلال والجمال الذي لا نظير لهُ فهو حقيقة كلّ وليّ ونبيٍّ فهو النبيّ الوليّ الرّسول كما قال الشيخ الأكبر، وهو حقيقةُ كلّ شيءٍ، فهو حقيقة الحقائق. 

وكان الشهر والقمر رمز للنبيّ الخاتم صلوات الله وسلامه عليه، وبالتبعية والوراثة جميع ورثته الأولياء المحمديين، فهم القمريون وهم العرب بهذا الاعتبار وإن لم يكونوا في النّسب عرباً، فافهم.

فكان بهذا الاعتبار والتوصيف "المهدي" هو العربيّ الأعجميّ، أي القمريّ الشمسيّ. فهو حقيقة المراتب وهو العجميّ المتفرّد الذي إذا ظهرَ، كان كظهورِ الشمس في سماء النّهار، إذا طلعت وظهرت لا تُبقي وجوداً لقمرٍ أو كوكبٍ أو نجمٍ في السماء. فهو الخليفة السيّد الخاتم الحاكمُ الإمام الأعلى. وإذا غابَ كما غابَ قبل ظهوره الخاتم في آخر الزمان ظهرتِ الأقمارُ والكواكبُ والنّجومُُ. فبعثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي التي أهّلت الأرض وأمّته للأحمدية، فكانت الأحمدية باطنةٌ في القمريين العرب، ببعثة الهادي أحمد صلوات الله وسلامه عليه، ولهذا بشّر المسيح عليه السلام ببعثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باسم أحمد، أي بخصوصية النبيّ الكبرى وأمّته من بعده وهي الأحمدية التي بطنت فيه وفي ورثته صلى الله عليه وسلم. وظهرتْ بكمالها وذاتيتها في الخاتم أحمد المهدي عليه السلام. فافهم.

فقلنا كان قمرُ المهدي هو شمسُه، وشمسُهُ هي قمرُه، إذ نوره ذاتيّ، فهو العلمُ على الساعة وهي ساعة تجلّي الإسم الأعظم وتجلّي الوحدة الذاتية، فحينما كان القمرُ عاكساً لضياء الشمس، كانت الوحدة ظلالية لا ذاتية، والنوّر معكوسٌ، فلمّا ظهر صاحب الضياء والنّور بذاته وطلعت شمس المغرب فقد صارت الوحدةُ عينية ذاتية، وتجلّى البطونُ الى ظهوره، فاستوى البطونُ والظهورُ في عهد الخليفة، فافهم. إذ عينُ الباطن والظاهر. ولذلك يظهرُ العلمُ في أجلى مراتبه ونصاعته، علم الحقيقة وعلم الظاهر. فقد ظهرَ صاحب العلم وصاحب الذات وصاحب الأعيان، وظهر النّور الذاتيّ بذاته شمسياً لا معكوساً كما كانت الأقمارُ تعكسُه قبل ظهوره في السماء. فافهم. قال الله تعالى {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ (1)} سورة القمر. فانشقّ القمر بظهور الخليفة الذاتيّ.

قال الله سبحانه {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} سورة الرعد-47. يظهرُ صاحبُ علم الكتاب الذي يشهد للنبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم بخاتميّته ورسالته للعالمين. وكما قال المسيح عليه السلام "نحن علينا التنزيل والمهدي عليه التأويل". فينشرُ الحقّ ويقيمُ العدل ويختمُ بنصرة الحقّ على الباطل وزوال دولة الشرّ والشيطان ودولة الدجّال. وتتقدّسُ الأرضُ من رجسها وشرورها، وتشرقُ بنورِ ربّها وتلك هي علامة نزول روح الله فيها. ينزلُ هذه المرّة في قطبية الخليفة لتعود المرتبة لصاحبها، فالمهدي هو الروح، وصاحب روح القدس الأصليّ، والمسيح هو المسمّى روح الله نبوَّةً. فافهم.

يتبع ..

الأربعاء، 10 يوليو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 42


- 42 -

فلنعُد لمواصفات المهدي عليه السلام التي وصفته بها النبوّة الشريفة صلوات الله وسلامه على النبي الكريم وعلى آله وصحبه:

روى أبو داود والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، يملك سبع سنين".

وجاء في مستدرك الحاكم : عن أبي سعيد ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : "المهدي منا أهل البيت أشمّ الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما".

وجاء في الحديث الشريف "المهدي رجل من ولدي ، وجهه كالكوكب الدري ، اللون لون عربي ، والجسم جسم إسرائيلي"

وفي حديث نبويّ شريف "وجهه كأنّه كوكب درّيّ، في خدّه  الأيمن خال"


_______________

فكان المهدي رجلاً من آل البيت من ولد فاطمة عليها السلام، أقنى الأنف أشمّه، أجلى الجبهة، وجهه كالكوكب الدريّ، عربيّ اللون، إسرائيليّ الجسم، في خدّه الأيمن خال.


فأمّا " إسرائيليّ الجسم" فشرحناها باستيفاء، وقلنا أنّ لفظة إسرائيليّ مركبّة من لفظتين : إسراء & إيل، فالإسراء هو الهجرة والسفر والسير والسريان ليلاً، وإيل هو إسم الله سبحانه. والمعنى أنّه الساري إلى الله والمسافر والمهاجر والرّاحل والسّائر إلى الله دون علم المخلوقات وعلم ما دخل في الأكوان، وأنّ كلّ شيءٍ يشهدُ له بالصّلة بالله والولاية. وهذا الوصف وحده كفيل بتعريف من هو المهدي، ولماذا سمّي المهدي، فهو المهدي إلى الله بسرّه المكتوم فيه، بكونِه الموصول بالله الصلة الذاتية، وأنّ الأشياء جميعها والأكوان .. لها وجهة لخالقها وبارئها الحقّ سبحانه، فكانت هذه الوجهة قائمةً في هذا العبد ذاتية أصالةً عنايةً من الله سبحانه بكونِهِ الخليفة، خليفة الله في أرضهِ، فصارَ البرزخ الحقيقيّ الذاتيّ القائم بين الكونِ والمكوِّنِ، فهو ذاتُ المكوّن في هويّته وفي مقامِ تلك الوجهة التي تعودُ إليها الموجودات والكائنات، فنابَ عن الله نيابةً ذاتيةً إذ هو عينُه ليس غير، لذلك سميّ الخليفة وفاز بالرّتبة الشريفة، وهو تحقيق قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". فما كان المقصود بهذا الحديث في سرّه وجوهره وحقيقته سوى الخليفة المهدي، فهو الوليّ أصالةً من الله سبحانه الذي تسمّى بالوليّ، قال سبحانه وتعالى {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(9)} الشورى. وهو العبد المخصوص بنزول الكتاب المكنون عليه، الكتاب الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ، لذلك كان هو الخليفة لأنّ الأعيان العلمية قبل ظهورها في الأكوان بكلمة كن، كانت أعياناً في الكتاب المكنون، أو تقولُ أمّ الكتاب فصارَتِ الأعيان راجعةً إليه في هويّتها، إلى هويّته، فكان السيّد الصّمد والحاكم العادل والقائم الفاصل والإمام الأعلى النّاهي الآمر، وهو المعنيّ بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف: 84]. فهو صاحب سرّ الأحدية والهويّة والذات في السّماء، وهو المسمّى الخليفة في الأرض من كونِ الإنسان اصطفاهُ الله وخلقه على الصورة. ولو رجعنا إلى الكتاب والسنّة في إطلاق الصفّات في حقّ الباري سبحانه لوجدنا تلك الصّفات التي أوهمت التشبيه، من الضحك والتعجّب والإتيان والصورة وغير ذلك ممّا وقع عليه خلاف كبير بين طوائف المسلمين، فلولا أنّ الحقّ تجلّى بهذه الصّفات في دائرة الأكوان والتشبيه لما جاءت تلك الأوصاف بألفاظها المذكورة، مهما كابر المكابرون، فالله سبحانه جامعٌ بين التنزيه والتشبيه، وإلاّ لما عرفَ النّاس ربّهم ولا حادثوه ولا خاطبهم ولا نظروا إليه في دائرة الخلق والأكوان يوم القيامة والقيامة من عالم التقييد والأكوان؟؟؟ فالأحدية مسرح التنزيه حيث لا نعت ولا إسم ولا غير، فأين وقع الخطاب بين الخلق والخالق سبحانه؟ وأين يقع النّظر إلى وجهه الكريم المثبت صريحاً عند جمهور أهل السنة والجماعة ؟ والوارد في القرآن والسنّة ؟ فلا عليك بدوائر التعصّب ومن لم يبلغ من العلم دوائر التحقيق، فالأشاعرة والماتريدية والمنزّهون والمؤوّلون عصموا النّاس أن يغفلوا عن جانب التنزيه الذي هو أدعى عند العوام والطلبة وعلماء الظاهر بتعظيم الله تعالى، فالله تعالى جامعٌ بين التنزيه والتشبيه. ولكنّ الغفلة عن الجانب الآخر وتأويل ما جاء في الكتاب والسنّة صريحاً في دوائر التشبيه، يُعتبرُ تعطيلاً في عين الحقيقة، وإن كانَ العلمُ كما سبقَ أن فصّلنا قامَ على دوائر عامّة وخاصة وخاصة الخاصة إلى غير ذلك، وهنا وقع التفاوت ووقع الاختصاص، إذ ما حجبَ الخلقَ عن حضرة اللهِ إلاّ حجاب الجهل والقابليات، فالخلقُ دون الإنسان محجوبون بعدم القابلية والوسع الذي هو الصورة، وكانَ الإنسانُ على الصورة المعنوية قابلاً للشهود والمعرفة، ولكنّهُ تفاوتَ كذلك في ركونِهِ لمقتضياتِ الطّبع والعناصر التي شكّلتْ بشريّته فاحتجبَ عن خصوصيته أن يشهدَ ربّهُ ويعرفهُ فيزول عنه حجابُ الجهلِ والظلمِ لنفسه، وقد قال أهل التحقيق: وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به، فليس بين العبد وربّه سوى العلم به. ولكنّ الضرورات اقتضتْ أن يقومَ  علم الكلام للدّفاع كما قلنا عن جناب التنزيه عن الحوادث مقابلة للمجسّمين تجسيماً محضاً وتسطيحاً لا يرقى إلى جلال الحقائق والتقديس والتنزيه، وجلال الوقوف على القدم والحادث، فتبنّى الخلَفُ علم الكلام منافحاً عن العقائد، ولكنّه ليس الأصلُ وليس اللبُّ والفصلُ، وإن كانَ أفضلَ من غيره ممّن جنحَ إلى التجسيم المحض والتسطيح الفارغ للعقائد والحقائق، على أنّ جزءاً من الحقيقة لم يخطِئها هؤلاء بوقوفهم على الألفاظ كما جاءت من الشارع الحكيم، وإنّما يُعابُ تقعيدُهم أنّه مبتورٌ عن صورته الكاملة ومنظومته الشاملة الجامعة مع ذلك حقائق التنزيه. ألا ترى أنّ مذهب السّلف كان التفويض والوقوف على تلك الاصطلاحات التي جاءت في الكتاب والسنّة، وإمرارها كما جاءت على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم، فالسّلف كانوا أهل شهود وعلمٍ، لذلك فوّضوا وسكتوا عن تلك الألفاظ بإمرارها كما جاءت، فالذي لا يُدْرَكُ إلاّ بروح القدس فبسطهُ للنّاس يفتنهم لا محالة، فما وقفَ السّلفُ على ظاهر الألفاظ ولا أبطلوا مداليلها، لعلمهم وشهودهم ففوّضُوا. ومن هنا تفهمُ أنّ علمَ الكلام يُعتبَرُ تيمّماً مقارنةً بعلم الشهود والذوق والمعاينة الذاتية، علم الولاية والفردانية الذي حازه الأفراد الخارجون عن دائرة الأكوان الذي هو العلمُ الصّحيحُ والطّهارة الحقيقية والوضوء بالماء الطّاهر المطهّر لإقامة الصلاة التّامة التي هي صلة العبدُ بالله سبحانه. لذلك كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مفوّضاً واقفاً على ألفاظ الكتاب والسنّة، وإن ظهرَ بعد ذلك من يدّعون الانتساب إليه فجسّموا تجسيماً محضاً من غير اعتبار أبعاد التنزيه والذوق والشهود وحاربوا الأمّة وتجرّؤوا عليها سلفها وخلفها فلا فوّضوا على طريقة السّلف ولا أوّلوا ونزّهوا على طريقة الخلف، ولا قبلوا بوسعِ الاختلاف، بل وحاربوا أهل الولاية والشهود فحادوا أبداً عن الإمام أحمد. فالإمام أحمد رضي الله عنه وقف على مذهب السّلف بالتفويض لعلمه بالحقائق كما هي عليه. ألا ترى قول الإمام علي زين العابدين  بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام :


يا رُبَّ جوهرِ عِلمٍ لو أبوحُ بـهِ
لَقِيلَ لي: أنت مِمّن يَعبُد الوَثَنـا
ولاَستَحلّ رجالٌ مسلمون دمي
يَرَون أقبحَ مـا يأتونـه حَسَنـا
إنّي لأكتمُ مِن علمـي جواهـرَهُ
كي لا يرى الحقَّ ذو جهلٍ فيفتَتِنا
وقد تقدّم في هـذا أبـو حَسَـنٍ
إلى الحسين، ووصّى قَبلَه حَسَنا

هذا هو مذهبُ أهل الحقّ كما هو عليه الحقّ ولا يهمّنا المخالفون والمتعصّبون سواء من هذه الفئة أو تلك الفئة، مستلهمين هذا العلم من أهله فهماً عنهم وفهماً عن الله تعالى الذي فتح لنا باباً في هذا العلم وهذا الفهم بمنّه وكرمه.

ولمّا كانت الحقائقُ كما ذكرنا فقد سمّى السّلفُ والأئمة الأفذاذ المهدي : القائم بأمر الله، فانظُرْ في هذا الإسم واللّقب، هو القائم بما يصدرُ من أمرِ الله تعالى، فأمرُهُ هو أمرُ الله تعالى بذاته. وسمّوهُ صاحب الأمر، وكيفما شئتَ أن تنظرَ في لقب : صاحب الأمر، فهو الذي إليه الأمرُ والفصل والحكمُ يرجعُ، أو شئتَ أنّ هذا الأمرَ الذي هو عليه الدّين والولاية فهو صاحب هذا الأمر ومالكه وإمامه. فافهم. ولم نزلْ ننقلُ إليك وصف الأكابر في توصيف المهدي أنّه الحقّ تعالى في مظهر الإنسان، ولكنّ الإنكار صفةُ الذين لم يبلغوا هذا المبلغ، فافهم. فإنّ الأفراد أهلُ القربة لا ينكرون على الغير، أبداً في هذا العلم. ولكن قد ينكرُ الصدّيقون ومن دونهم. قال الإمام الجنيد رضوان الله عليه "لا يبلغُ المرءُ درجة الحقيقة حتى يشهدَ فيه ألف صدّيق أنّه زنديق". فانظرْ إلى علوّ درجة الحقيقة، فهي آخر مدارج السّالكين ومنازل الواصلين، فأنكرَ على الذاهب إلى عوالم الحقيقة والراحل إلى بحار الذات حتّى الصدّيقون، ورموا هذا الغريب بالزندقة والشطح والانحراف ممّا لم يخبُرُوهُ، ولم تبلغهُم عقولهم ولا قابلياتهم. والأفراد هم الغرباء، لكونِهم يحملون علم الحقيقة ولا يجدونَ نظراءهم إلاّ ما يُعدُّ على الأصابع في زمانهم، كما وردَ عن الإمام الغالب علي بن أبي طالب عليه السلام وهو من الأفراد بل هو بابُ مدينة العلم والفردانية كما جاء في الحديث النبويّ الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أنا مدينة العلم وعليّ بابها". فوردَ عن علي عليه السلام قوله "هاه إنّ ها هنا لعلماً جماً (وأَشار إلى صدره الشريف) لو أَصبتُ له حملةً". فهذه نفثةُ مصدورٍ ولمّةُ غريبٍ في قومه، ومثلُهُ الأبيات التي أوردناها عن حفيده علي زين العابدين عليهما السلام التي يقسم فيها لو باحَ بما يعرفُ لصلبه المسلمون واستحلّوا دمه.


يتبع..

الجمعة، 5 يوليو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 41



وقولنا عن قول الإمام علي عليه السلام "وأنا تلك النقطة" ، أنّه نقطة الفيوض والتجليات على الأكوان بالصورة الرحمانية، فإنّ إسم الرّحمن له ظهور وبطون، ظهوره هو الوجهة للخلق والأكوان، لحضرة الصفات إذ هو مجلى ظهور الصّفات، وله بطون وبطونه لحضرة الإسم الأعظم الله، بطونه للذات، فهو متضمّن للتحقّق بحقائق الإسم الأعظم وأسراره والنيابة فيه، ولولا هذا التحقّق بالإسم الأعظم لما صحّ للمتحقّقين بهذا الإسم أن يفيضوا على الأكوان، بل حقيقة إسم الرّحمن هو هذا الدور وهذا الوصف وهذا البرزخ بين الحقيّة والخلقية، فهو الحجاب وهو النقطة البيضاء، هو الرّحم الذي ولدت منه وفيه الأكوان، وهو النقطة السوداء نقطة الإفاضة من وجه المثلية والصورة التي خلق الله عليها الإنسان، لا من وجه الهوية الغير مدركة لما سوى الذات، وهنا يقودُنا الكلامُ إلى الحديث عن النقطة البيضاء والنقطة السوداء، فالنقطة البيضاء يقصدُ بها النقطة المرسومة بألف ملتفّ حولها (ه) أي هي دائرة صغيرة، فتلك الدائرة هي النقطة البيضاء، وهي نقطة التعيّن، فكأنّ النقطة السوداء هي نقطة الإفاضة والإمداد والإطلاق، ونقطة الذاتية والأحدية، والنقطة البيضاء هي نقطة التعيّن والكون، فالكونُ تكوّنَ بكلمة كن، فصارَ نقطة بيضاء، فالنقطة البيضاء هي صفة النقطة السوداء، لأنّها مجلى ظهور تجليّاتها وصفاتها وأسمائها، فكانت النقطة البيضاء هي الوجود المفاض من كنزية الذات، فكان الوجود معبّرٌ عنه بهاتين النقطتين، السوادء والبيضاء، فالسوداء نقطة الذات ومقام الجمع والبيضاء نقطة قاب قوسين واجتماع الشطرين الحقية والخلقية، فكانت النقطة البيضاء مثالاً للنبيّ الخاتم صلوات الله وسلامه عليه، والنقطة السوداء مثالاً لله سبحانه عزّ وجلّ، وبالخلافة المطلقة عن الله والسرّ الذاتيّ للخاتم الوليّ الخليفة حامل سرّ الذات، إذ هو المطهّر عن الأكوان وهو الذي لا تعلّق له إلاّ بالذات، فلا يمثّلُ إلاّ النقطة السوداء بكلّ اعتباراتها غيباً وظهوراً، تجليّاتٍ وإطلاق، إذ النقطة كما ذكرنا كانت معبّرةً عن العماء والكنزية والإطلاق الذي تجلّى منه الوجود وفاضت منه الأكوان بكلمة كن، فكما النّقطة لا حكم لها محدّد، فهي الجامعة لماهية الأحكام والحقائق، فإذا تجلّت حرفا وكلمةً لها وجهٌ سفليّ أعطت ذلك التوجّه والمعنى والحكم السّفلي، وإذا تجلّت حرفاً وكلمةً لها توجّه علويّ أعطت ذلك التوجّه والمعنى والحكم العلويّ، فافهم، فالذات لها حُكْمُ العماء والكنزية التي فاضَ منها الوجود كما ذكرنا حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم "أين كان ربنا"، وأنّ الذات هي الجامعة للأضداد قال سبحانه {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن:78]، فالجلال والإكرام صفة الذات، ولهذا كان الخليفة قبل ظهوره وبيعته وكماله كمال التقديس، في عمائه وفنائه وجذبه جامعاً بين الأضداد، كما لم يجمع الأضداد أحدٌ قبله ولا بعده، ومجذوباً بجسمه الإسرائيليّ المتفرّد الذي شرحناه، أنّه صاحب الإسراء إلى الله دون علم المخلوقات، سالك لله تعالى سارٍ إليه ومهاجر دون تكلّف ومتقلّبٌ في الأحوال والقوالب الخلقية والمعارف الحقيّة ومتوشّحٌ بالأضداد الجمال والجلال والعلم والجهل والعلوّ والسّفل، كما هو الأصلُ الذي هو الذات فافهم، وبسرّه ذاك عجز أبداً أن يُميّزه غير أهل الوصول الأكبر أصحاب النقطة، وأصحاب النقطة المقصود بهم أصحاب الإسم الأعظم أصحاب البقاء بالله تعالى، أهل الله أهل القرآن.

فكان لغته غير لغة الخلق، فهو المتفرّد ومحلّه غير محلّهم فهو الإمام الأعلى، وهو الحقّ تعالى بذاته، في مظهر الإنسان، فافهم، وإلاّ فمن كان مخاطباً العباد والخلق في مقام الخلافة عن الله يوم القيامة والجزاء ؟ ومن كان مخاطبهم قبل خلق الإنسان ؟ فما تجلّى الله من كنزيّته وعمائه إلاّ ليعودَ إليه كلّ شيءٍ، فهو الرّوح الأعظم والإمام المقدّم، فكان كلّ شيءٍ كما هو عليه في العماء، فما ثمّ إلاّ هو، ولكنّها تجليّاتٌ اعتبارية فقط، قامتْ فظهر الحادث والقديم، بتلك الاعتبارت المتعلّقة بالخلق والمراتب والأسماء والنعوت، فلمّا أرادَ سبحانه أن يظهرَ لخلقه من كنزيّته، أظهر نقطة التعيّن وهي النقطة البيضاء فكانت محلاًّ لهذا التعيّن، محلاًّ اعتبارياً، فكانت هذه النقطة هي العبد المجتبى سيّد الخلق سيّدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فلولاهُ ما خلق الله الوجود ولا ظهرت الحوادث والأكوان من عمائها، فهو سيّدُها وهو عينُها، فهو سيّدُ الموجودات وأفضلها وأعلمها وأقربها لربّه، صلوات الله وسلامه عليه، فافهم. وكان صورة هذه المثلية وهذا المقام هو إسم الرحمن الجامع الذي له الرتبة الثانية بعد إسم الذات الله، لذلك قال سبحانه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107). إذ بالرحمة خلق الله الخلق، فقال سبقت رحمتي غضبي، ووسعت رحمتي كل شيء، فما من شيءٍ إلاّ ظهر بالرّحمة ومآله في النهايات إلى الرّحمة مهما كان هذا الشيء، فالسّابقُ حاكم.

والنقطة البيضاء، هي صورة النقطة السوداء، فالألف الملتفّ حول الفراغ (النقطة البيضاء) هو صورة النّقطة السوداء والذات، والفراغ هو صورة الممكنات (الموجودات)، والخلق الذين لهم حكم الإمكان، فهم بين الوجود والعدم، فهم عدمٌ عند التحقيق وارتفاع الألف فلا يبقى إلا الفراغ، وهم وجودٌ بحكم وجودهم الاعتباريّ القائم بأحدية الواحد سبحانه عزّ وجلّ. وقد ذكر الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه النقطة أنّ الحروف الأبجدية وردَ فيها عدد النقط السوداء ضعف عدد النقط البيضاء، فعدد السوداء 22 وعدد البيضاء 11. ويقصد بالنقط البيضاء ما ذكرناه من الحروف المجوّفة، كالميم (م) فيه نقطة بيضاء، والسوداء هي النقطة العادية، وانظر في تلك النّسبة فإنّها دالّة على الحقائق كما هي عليه، دالّة على أنّ الخلق هويتهم الحق سبحانه، فصارت النقطة البيضاء التي هي تعيّن وخلقية وكون، نصف وشطر النقطة السوداء التي هي دالّة على الذات الجامعة لشطر الحقّ وشطر الخلق، في مقام قاب قوسين أو أدنى، قوس الخلقية وقوس الحقيّة في مقام الواحدية، أو أدنى في مقام الأحدية، فالنقطة البيضاء الخلقية تقابلها النقطة السوداء الحقية، والنقطة البيضاء الخلقية ليست في التحقيق سوى نقطة سوداء تعيّنت صفةً، كما سبقَ أن ذكرنا أنّ الصفة هي الذات في تعيّن أو إسمٍ مخصوص، فصارت النقط السوداء ضعف النقط البيضاء، والعدد 11، عدد مخصوص جداًّ فهو مجموع حرفي الهاء والواو في حساب الجمل أبجد، هـ = 5، و=6، هـ+و=11، أي أنّ 11 هو إسم= هو، فالنقطة البيضاء بالمحدثات والموجودات دالّة عليه هو، فما ثمّ إلاّ هو وهنا باعتبار التجلّي والأكوان، والنقطة السوداء هي نقطة الحقّ والخليفة كانت ضعفاً بالاعتبارين الشطر الخلقيّ فهو حقيقة النقطة البيضاء، والشطر الحقّي فما ثمّ إلاّ هو، الله لا إله إلاّ هو، فالهو هنا باعتبار الهوية، فافهم. لذلك قال الشيخ الأكبر وصفاً للختم والخليفة في كتاب عنقاء مغرب  : "هو شق في خلقه، وشطر من جهة خلقه وحقّه، فانظر هناك تجده واياك.." انتهى. فوصفه أنّه شطرٌ من جهة خلقه وحقّه، ووصفه في نفس الكتاب "عنقاء مغرب" في فصل "لؤلؤة التحام اليواقيت وانتظام المواقيت" بقوله : ((فكان ياقوتة حمراء ، تجوّفت لها ياقوتة صفراء ، فأودعها سبحانه فيها وختم عليها بخاتم : "إن الساعة آتية أكادُ أخفيها")) انتهى. فكان الختم الخليفة الياقوتتين الصفراء والحمراء، الصفراء هي النقطة البيضاء (ياقوتة الخلقية)، والحمراء هي النقطة السوداء (ياقوتة الحقيّة).


يتبع ..

الثلاثاء، 2 يوليو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 40


- 40 -

فقلنا قال الإمامُ علي عليه السلام "العلمُ نقطة كثّرها الجاهلون". فقد صارتِ النّقطة رمزاً ودالاًّ على الذات، بين ظهورها وبطونها، بين تجليّاتها وإطلاقها، وأنّ الحروف والكلمات وما لاحَ على الصّفحات أصلُه نقطة عند تجريده، فجمعتْ هذه النّقطة في بطونِها وعمائها سائر ما فاضَ على الوجود، من حروف وكلماتٍ، ومن دقّقَ تدقيقاً عند كونِ النّقطة هي نقطة العلم ونقطة الأصل والوجود والأمداد والتجليّات والصّفات، عرَفَ بعين العلم ما معنى أنّ الصّفة هي عين الذات، فكلّ تجلٍّ للنّقطة أخذ هيئةً معيّنة وحرفاً معيّنا، هو في تجريدِهِ السّاذج قبل تركيبه نقطة، فالنّقطة هي أسذجُ وأبسط ما عرف، ومنه بدأ التركيب والتجلّي والصفات، فالفكرة كونها فكرةً مجرّدة ومعنًى مجرّداً عن الخيال والصورة هي نقطة، أو هي مجموعة نقاط، فالحروف هنا مهما أطلقتها توسّعَ لك المثالُ فافهم، فليست حروفا كتابية فقط، والصورة هي نقطة أو مجموعة نقاط بحسب تشكيلها وتركيبها، والصّوتُ نقطة أو مجموعة نقاط، إذ هو حروف في الأصل والحروف من نقاط، فصارَ السّمعُ بهذا الاعتبارِ نقطة ومجموعة نقاط تلعبُ دورَ تلقّي هذا الصوت الذي هو الكلام، هذا ما أرادهُ من قالَ أنّ الصّفة هي الذات، فهي تجلٍّ للذات في هذه الصّفة، فسمّيت صفةً، ولكن التحقيق العلميّ عند التعريف العلميّ الدّقيق فالصفة ليست هي الذات وليست هي غير الذات، وهذا هو تعريف الأشاعرة للصفّة، وهو تعريفٌ دقيق للصّفة، غاية الدقّة، الصفة ليست الذات لأنّ الذات أوسعُ من تقييدها في صفة بل صفتُها الإطلاق لا تتوقّفُ على تلك الصّفة التي تريدُ أن تقول أنّ الذات هي الصّفة، ولكنّها أي هذه الصفة هي ليست غير الذات، أي ليست سوى الذات في تقييدٍ محدّد ومعيّن، فالصّفاتُ لا تنفصلُ عن الذات، ولو انفصلت لما قامَ توحيدٌ. فافهم ما ذكرناهُ، فهو يُحرّرُ الكثير من العلم، وهو في الحقيقة يشرحُ سبيل تحقّق المتحقّقين بشهودهم أنّ ما لاحَ لهم من شهودٍ في الأكوان ليس سوى من امتداداتِ ذواتِهم، من كونِ ذواتهم تحقّقتِ بالأحدية والصورة فترجعُ إليهم الأكوانُ عند الجمع. لذلك كانَ التحقّق هو الإستواء على عرش الرّحمانية، قال سبحانه وتعالى {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [ سورة طه/5]، فالرّحمانية هي التحقّق بجملة الذات، لأنّ جميع الصّفات تجلّتْ من إسم الرّحمن، فصارَ إسمُ الرّحمن أمّاً للصّفاتِ وأصلاً لها منهُ تتولّدُ فافهم ومنه تتفرّعُ، منهُ تتفرّعُ باقي الأسماء الإلهية الحسنى فهو حضرة جمعهم، وهو أمّهم، وهو واسطةُ الأسماء والصّفات إلى حضرة الذات، أو إن شئتَ قلتَ إلى حضرة الأسماء فالجامع للأسماء الإلهية هو إسمُ الله، وكذلك إسمُ الرّحمنُ هو إسم جامعٌ لجميع الأسماء الإلهية سوى الإسم الله، الذي هو الإسمُ العلمُ على الذات، فالتحقّق بالرّحمانية والتحقّق باسم الرّحمن يجعلُ العبد في مقامِ التحقّق بجميع الصّفات والأسماء الإلهية، ولمّا كان إسمُ الله دالاًّ على الذات وإطلاقها ولا نهاية كمالاتها وتجليّاتها وكنزيّتها في عمائها، فقد صارَ إسمُ الرّحمنِ هو البابُ والواسطة لمعرفة هذه الكنزية وهذه التجليّات المفاضة على الخلق. فكان خليفة إسم الرّحمن هو النبيّ الخاتم صلوات الله وسلامه عليه، فصارَ ما من كاملٍ إلاّ وكمالُهُ بواسطته صلى الله عليه وسلم، وهو سيّدُ الكملاء من الخلق، وبحر الفيوض والتجليّات.
وإسمُ الرّحمن إن شئتَ أن تعرِفَ صورة التحقّق به في القرآن فهو سورة الفاتحة، في قوله تعالى {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر:87]. من قوله تعالى {الرَّحْمَنُ . عَلَّمَ القُرْآن} [الرحمن:1-2]. فالسّبع المثاني هي سورة الفاتحة، وهي السبع أمّهات الصّفات، التي بها يصبحُ العبد على صورة الله سبحانه من قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". فحينَ يُصبحُ العبدُ متحقّقاً بهذه الصفات الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر، كما هي نسبتها لله سبحانه، فهذه هي رتبة الرّحمانية التي تجعلُ العبد قادراً على التحقّق بما شاء في وجوده، فهو خليفة وهو محقّق يقولُ للشيء كن فيكونُ بإذن الله تعالى، فافهم. وهذا نقرؤه في السيرة النبويّة الشريفة لمّا قال صلى الله عليه وسلّم : (كُنْ أَبَا ذَرٍّ). فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ القَوْمُ، قَالُوا: هُوَ -وَاللهِ- أَبُو ذَرٍّ!.فانظُرْ هذه السّبع المثاني هي صورة الرّحمانية، فعلّمَ الرّحمن القرآن، كلّ متحقّقٍ بالسّبع المثانيّ، ليُصبحَ متحقّقاً بجملة الذات التي هي القرآن فالقرآن ذات محضٌ، ويصبحُ عبداً ذاتياً مطهّراً عن الأكوان، ينطبِقُ عليه قول الله تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( 78 ) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( 79 ) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 80 )} الواقعة. فتأمّل قوله تعالى إنّه لقرآن كريمٌ أي الذي تنزّلَ على هؤلاء الذين تحقّقوا بالرّحمانية، هذا القرآن الكريم في كتاب مكنونٍ، فالقرآنُ هو الكتابُ المتجلّي من أمّ الكتاب، أي القرآن المتجلّي من الكتاب المكنون الذي أنزلَ على العبد الذاتيّ المهدي عليه السلام، فالكتاب المكنون هو الكتاب المنزل على الخليفة العبد الذاتيّ وهو أمّ الكتاب، تجلّى منهُ وفاضَ الوجود بواسطة مدد الرّحمن فكان الوجود المفاض هو القرآن، ولا يمسُّ هذا الكتاب المكنون إلاّ العباد المطهّرون الذاتيون، القرآنيون أهل الله وخاصّته، ومسّهُ هو التصرّف فيه والتجلّي به من أمّ الكتاب بواسطة السّبع المثانيّ، والصّفات السّبع التي جعلت العبد على صورة خالقه، فافهم. 

فالفاتحة هي أمّ الكتاب، بهذا الاعتبار فافهم، لأنّها الصورة التي جعلت الخلفاء يمسّون الكتاب المكنون الذي هو أمّ الكتاب المنزل على المهدي، قال سبحانه عزّ وجلّ {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ.} [الرعد:39]، فكونكَ تحقّقتَ بصورة الذات، فقد صرتَ حيّاً بالله تعالى عالماً به باسم العليم مريداً تقول للشيء فيكون قادراً بقدرة الله تعالى متكلّماً بالله سبحانه في وجودكَ خليفةً إذ أقامكَ اللهُ خليفة وقطباً أو فرداً محقّقاً دالاًّ على الله تعالى، سميعاً بالله تعالى تسمعُ بسمعه كلامَهُ وبصيراً بالله تبصر ببصره سبحانه. فقد صارَ ما لله لك كما ورد في الحديث القدسيّ "كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ"، فهذا هو المسمّى : البقاء بالله تعالى، وهذه هي الرّحمانية التي اصطفى الله بها خير خلقه وصفوتهم صلى الله عليه وسلّم وعلى قدمِهِ سارَ الخلفاء والأولياء وراثةً له، لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله أدم على صورة الرّحمن"، فافهم فهذا الحديث النبويّ الشريف بلفظه هذا دقّقَ أكثر وحقّقَ النّسبة الرّحمانية التي شرحناها آنفاً، فخلافة جميع الخلفاء من أفراد بني آدم، طبعاً سوى الخليفة الأوّل (المهدي)، هذه الخلافة هي على صورة الرّحمن من كونِ الإنسان الكامل والقدوة والأنموذج الإنسانيّ هو سيّدنا محمّد صلوات الله وسلامه عليه الذي هو خليفة الرّحمن بالأصالة، كما قال صلّى الله عليه سلّم "كنتُ نبيّاً وآدم بين الماء والطين".
وعلى هذا التحقيق قامت الدّنيا على كلمة "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله".


قال الإمام علي عليه السلام : "اعلم أنّ جميع ما في السموات والأرض في القرآن الكريم، وأنّ جميع ما في القرآن في سورة الفاتحة، وأنّ جميع ما في الفاتحة في البسملة، وأنّ جميع ما في البسملة في الباء، وأنّ جميع ما في الباء في النقطة التي تحت الباء، وأنا تلك النقطة". فهذا الذي كنّا نقولُه آنفاً، أنّ القرآن هو الوجود المفاض المتعيّن من أمّ الكتاب وهي الفاتحة، وأنّ الفاتحة هي الصورة والسّبع الصفات التي بها تجلّى الوجود إفاضةً وتعيّن، والبسملة هي صورة الصّفات وصورة الوجود كلّه بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله الذي عنده أمّ الكتاب الرّحمن المفيض على الكائنات الرّحيم المقدّس للذوات العائدِ بها من رحمة الأضداد إلى رحمة الرّحيم الخالصة بالجمال والنّعيم في دار القرار والجزاء، أو في مقام التقديس والتطهير عن الأكوان. فالبسملة شملتْ كلّ تجليّات الوجود ومراتبه، وشملتْ الدارين الدّنيا والآخرة، وأنّ باء البسمة هي باء الرّحمة والواسطة إلى الذات، باء الرّحمانية من كونِ حرف الباء كان على صورة الألف فكان واسطةً إليه، إلى ألف الذات، والنقطة تحت الباء هي نقطة الاستمداد ونقطة الإطلاق ونقطة الذات التي تكلّمنا عنها، فهي سرّ الإفاضة، وقوله عليه السلام أنا تلك النّقطة فهو عليّ وقته وقطب زمانه الذي جعله نائباً خليفةً يفيضُ على الأنام والأكوان بفيوض تلك النّقطة بالصورة الرّحمانية، فافهم.


يتبع ...