الجمعة، 23 أغسطس 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 48



- 48 -

فقلنا أنّ هذا الختمَ العليّ الخليفة مقامُهُ في الظهور هو الإطلاق وأخلاق الله تعالى بالأصالة، إذ هو عينُهُ ليس غير. ولكنّ الختمَ المجذوبَ القطب المكتوم قبل الظهور والمبايعة بين الرّكن والمقام، أحوالُهُ هي الحقائق الفرقية والقوالب الخلقية فيتلوّنُ بها كما تلوّنَ الذات الساذج بها، فيظهرُ بأحوالِ جميع الخلقِ متلوّناً بها بحسبِ مقامِه ومنازلِهم وحقائقهم، فيظهرُ بالأضداد، ويظهرُ بالأنا والنّفس الجزئيّة ظاهراً، لأنّه يُمثّلُ العماء والكنزية، والذات الساذج وماهية الحقائق، فهو حقيقتُها وذاتُها، فيظهرُ بها في جذبِه وكتمه قبل ظهورِه، ولذلك تظهرُ الحضرات الثلاثة التي ذكرناها : حضرة شمس المغرب وهي حضرة الإسلام الظاهر فيجمعُ المؤمن الصّادق والمستدرج المغبون ، ثمّ حضرة الدجّال وبها يتميّزُ الصّادقُ من المستدرج المغبون، ثمّ حضرة التقديس بنزول روح الله المسيح عليه السلام على الأرض. ومن هنا تفهمُ حضرة إبليس والدجال ولماذا ظهرتْ، ولماذا كان إبليس يُمثّلُ حضرة التلبيس والنّفس الجزئية القاطعة عن الله تعالى. ولماذا كان إبليس عارفاً خبيراً أستاذاً معلّماً في التلبيس النّفسي والإغواء والمكر والخديعة. وذلك إنّما صحَّ لهُ بحضرة الخليفة، فافهم.

صحَّ لَهُ من حضرة هذا الخليفة المجذوب الذي ظهرَ بالحقائق النفسيّة والفرقية لكلّ القوالب الخلقية. فكان الشيطانُ لا يُفارقُ سالكاً وصالحاً حتّى تموتُ نفسُهُ كاملةً، ويحيا بالله تعالى ويصيرُ إلى مقام البقاء بالله تعالى. وهذا قد ذكرهُ إبليس في قوله تعالى {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}. فاستثنى العباد المخلَصين وهم الذين أخلصهم الله إليهم أهل البقاء به الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ابداً. فهم يسعون بالله ويبصرون بالله ويسمعون بالله تعالى فحركاتهم وأنفاسهم بالله تعالى. لأنّهُ لا وجودَ لهُ إلاّ في مقامِ النّفسِ الجزئية، ولا وجودَ لهُ في مقام الجمع والبقاء بالله تعالى. وهذا الذي ذكرناهُ أنّ الإنسان ما دامَ باقياً مع نفسه وملتفتاً لرغباتها وشهواتها ونزغاتِها فهو يعيشُ في ولاية الطاغوت، وهذا الطاغوت هو الشيطان وجنوده. ومهما زعمَ المرءُ أنّهُ بارعٌ إذا لم يكنْ التفاتُهُ لله تعالى وإلى الوجود الحقيقيّ التفاتاً قلبياً فهو في حزبِ الشيطانِ، لأنّهُ في دائرة النّفس والوجود الظلمانيّ. فما ثمّة إلاّ وجودين، وجودٌ حقيقيّ ووجودٌ وهميّ، الوجودُ الحقيقيّ هو مصدرُ الخير والنّعم والرّضا والجمال والإطلاق، الوجودُ الوهميّ هو مصدرُ الحرمان والعناء والشقاء والعذاب.
وإن كانَ الجميع من أقضيةِ الله وأقدارهِ في عالمِ الحقائق، ولكنّها الحقيقة المطلقة الكبرى الحاكمة، فإمّا تختارَ الوجود الحقيقيّ الذي هو مصدرُ النّعمة الذي أنتَ فيها، وهي نعمٌ لا تُحصى ولا تحدُّ إطلاقاً، أو تختارَ الوجودَ النّفسيّ الذي هو عناءٌ لروحكَ وبالتاليّ ينعكسُ العناء والشقاء والضّنك على النّفس شعرَتْ بذلك أو لم تشعر أنّه انعكاسٌ لتوجّهها القلبيّ. قال سبحانه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. (سورة طه). حكمة الحياة وحقيقتها المطلقة اقتضتْ هذا، فما كانتِ الدّنيا عبثاً. ولهذا قال المشايخ المربّون وأهلُ التحقيق "من لم يكن لهُ شيخٌ فشيخُه الشيطان" لأنّ العلمَ والتحقيق يفيدُ ذلك. إنّهُ ليس احتكارُ للحقّ، فالتصوّف أو السّلوك الى الله تعالى ما كان تحزّباً وطائفةً، بل هو الرّكن الثالث من أركان الدين، ركنُ المراقبة ركنُ المحاسبة، فلو كنت تاجراً ولم تعتمد المحاسبة والمخالصة والمراقبة لبضاعتك وتجارتك وأموالك وحركتها، فأنت تاجرٌ مفلسٌ فاشلٌ، وستضيعُ تجارتُك. وهكذا فركنُ مراقبة النّفس وتصحيح خواطرها النّفسية، وتفتيشها ومراقبة نيّتك لله تعالى هو السّلوك والتصوّف، نريدُ روح التصوّف وحقيقتُه، وليس التصوّف بما شاعَ اليوم والمنتمين إليه، فأغلبهم شوّهوا هذا التصوّف، وداخله الأدعياء والمزيّفون، لا علاقة لهم بالتصوّف من كونِه طريقاً إلى الله تعالى، وبوصلةً يستهدي بها المستهدون، بل صارَ تصوّف الكثيرين اليوم (إلاّ قلّة ما زالت تحافظ على العهد وتحملُ الأمانة) قلتُ صار تصوّف الكثيرين اليوم علامةً على الحظوظ والدّنيا والمصالح والمناكح والأرزاق فضلاً عن مخالطتهم أهل الظلم وولاّة الظلم ومشاركتهم ظلمهم. فهذا تمصوف وليس تصوّف. نحنُ نتكلّمُ عن التصوّف الذي كان معروفاً عند السّلف الصالح والخلف الصالح، طريق الله تعالى. هذا هو الذي أردناهُ أنّ المرء بحاجةٍ إلى سالكٍ واصلٍ شيخٍ قطع الطريقَ وسارَ إلى الله فعرف المفاوز، فرجع دالاًّ إلى الله مأذوناً من الله تعالى. فهذا الذي خرجَ من نفسه وصار الى مقام البقاء بالله تعالى، لم يَعُد للشيطان عليه سبيل، فصار عارفاً بمسالكِ الشيطانِ جميعها، مستشرفاً لمداخل النّفس ومفاوزها ومهالكها وعيوبها. هذا هو الشيخُ.

لأنّنا قلنا أنّ الدّين أصلُهُ هو الوجهة إلى الله، والتخلّص من النّفس الجزئية، وهذا هو معنى الولاية، الولاية هي الصّلة بالله التي تجعلُك سالكاً لتخرجَ من الظلمات الى النّور، إلى الحقّ تعالى. فمنطقياً وبديهياً من عرفَ هذا المعنى واقتنعَ به، يعرفُ أنّ الدّربَ يلزمُهُ دليلٌ.

وعليه فمهما زعمَ المرءُ براعتهُ أنّه سفَّانُ نفسِهِ إلى برّ الأمان والوصول، فهو واهمٌ، لأنّ النّفس بحرٌ خضمٌّ، جميع التكليف والدّنيا قامتْ على النّفس فقط، وهذا ما كنّا نشرحُهُ، أنّ الدّنيا بها تجلّت الحضرات النّفسية الجزئية والأنا البشريّة، وإبليس قرصانٌ ماهرٌ قطع طريقَ رُبَّاْنٍ مهرةٍ وأهل حذق، وعليه فمن لم يكن توجّهه القلبيّ صحيح إلى وجودِهِ الحقيقيّ فهو متوجِّهٌ إلى الوجود الوهميّ، وبالتالي غارقٌ في بحر النّفس وتلبيس الشيطان. لهذا كان الشيخ، وإن لم يوجد الشيخ وهو الأساس، فالرّفقة الصالحة المؤمنة التي تقتبسُ من الحقّ مُعيناً على الطّريق. الأهمّ أن يعرف الإنسان أنّ الطريق، يلزمُهُ وجهةُ سير. ومن عرفَ وجهةَ السّير وحقيقتها، ونوى السّفر، لا محالة يقصدُ شيخاً عارفاً بالطّريق. يقصدُ دليلاً ماهراً.

أرأيتَ لو نويتَ السّفر إلى بلادِ وذهبتَ تسألُ عن القوافل التي تسافر إليها، فأيّ القوافل تختار ؟ فلو اخترتَ قافلةً بلا دليل فهذا خطرٌ واضحٌ أنّكم قد تتيهون. ولكنّك ستسألُ عن القافلة التي تعرفُ الطريق وسافرت من قبل، ولها دليلُها. فإذا عرفتها صاحبتها لا محالة. فكيفَ إذا عرفتَ مبدئياً أنّ قوافلاً لا تُحصى ولا تُعدُّ ذهبتْ ولم تصلْ إلى مقصودِها. فذلك يزيدُكَ احترازاً واحتياطاً فكيفَ إذا قطعَ الشكّ عندك باليقينِ أهل السّير والوصول فقالوا مجمعين : "من كان بلا شيخٍ فشيخُه الشيطان" وقالوا "والله ما أفلح من أفلح إلاّ بصحبةِ من أفلح" هكذا قسماً بالله وجزماً لا ريبَ فيه. يريدونَ الوصول إلى برّ الأمان والفلاح. وقال الله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة-119). كونوا مع الصّادقين الذين توجّههم دائماً صحيح صادق، وعليه فهؤلاء الصّادقين ليسوا هم سوى أهل الوصول وأصحاب الجمع الذين خرجوا من دائرة التلبيس النّفسي، هم العباد المخلَصين، فافهم. الذين ليس للشيطان عليهم سبيل. فنظامُ الحقيقة والسّير إلى الله تعالى نظام قاعديّ ثنائي : صفر، واحد. فالتّقوى يُعينك عليها المتّقين. ولو سُقنا لك أقوال أهل التحقيق والطريق في هذا المجال، لعرفتَ كيفَ هو جزمُهم وأدهشكَ، بل فاق الجزم.

فقلنا لمّا كان المجذوبُ عاكساً للنّفس الجزئية ظاهراً، فقد ظهرَ بالأضدادِ والتلوّناتِ، ولكنّهُ باطناً صادقٌ تمامَ الصّدق، لأنّه حقيقةُ جميع النّاس والخلق في هويّته وذاته، فهو الأصلُ. وعليهُ فقد كانَ توجّههُ القلبيّ لله دائماً لا يحيد، وليٌّ لله تعالى في كلّ موقِفٍ وفي كلّ تجلٍّ وفي كلّ نفَسٍ ولحظةٍ، إنّهُ الوليّ بالأصالة، كان وليّاً وآدمُ منجدلٌ بين الماء والطّين. فحالتُهُ القلبية هي : واحد. لا تتزحزح، لأنّه عينُ الواحد الأحد في ذاته وسرّه، فافهم.

ولذلك سيتواجهُ مع إبليس في حربٍ نفسيةٍ كاملة شاملةٍ في جميع مداخلِ النّفسِ الممكنةِ، ويغلبُ إبليس فيها، لأنّهُ هو الأصلُ، حيثما لبّسَ إبليس ليقطعَ الصّلة بين المجذوب وربّه، فالمجذوبُ صلتُهُ قائمةً أبداً، قلبُهُ متوجّهٌ لله تعالى لا ينصرِفُ ولو لحظةٍ عن الله تعالى، لأنّهُ العبدُ الذاتيّ. وهذا من مكرِ الله بإبليس، وعدم فهمه الفهم الحقيقيّ لهذا الخليفة، فهو يظنّهُ من جنسِه، وجنسِ من ظهرَ قبلهُ يسهلُ خداعه. لذلك سيمكرُ الله بإبليس والدجّال أعظمَ مكرٍ، ويُغلبانِ ويوليانِ الدّبر ويهلكان بهذا الخليفة. فكانَ المجذوبُ هو الذي يقضي في ليلة إصلاحه على روح الدجّال والتدجيل في العالم، وهو إبليس فيقضي عليه المهدي ليلة إصلاحه. وينعكسُ ذلك ظاهراً في الخلافة الظاهرة بموتِ الدجّال على يدِ روح الله المسيح بن مريم عليهما السلام بعد نزوله. فالمهدي يقضي على إبليس روح الدجّال، والمسيح يقضي على الدجال بشخصه البشريّ المفتون السّامري عليه لعنة الله وخزيه.


يتبع ..


حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 47




- 47 -


من قرأ مقالاتنا في هذا الباب عن حامل لواء الذات صاحب الإسم الأعظم من بدايتها وصبر عليها ، وفهم بعض ما أشرنا إليه ، إذا فاته الكثير يفهمُ على الأقلّ الكثير من مشاهد العلم ، العلم الذي دوّخَ السّالكين والعارفين والمسلمين وغيرهم ، علم الحقيقة، يفهمُ عنوان الحقيقة، وصاحبها. أمّا الحقيقة وعلمها فهذا بحرٌ لا نفاد له ولا ساحل، صفتهُ الإطلاق كما كان الله تعالى صفتُه الإطلاق، فمهما رأيتَ عارفاً أو عالماً بالله حتى من هؤلاء المقرّبين الذين حازوا مقام الخلافة الجامعة فعلمُهم إنّما هو بالله تعالى، بمعنى مهما فاضَ به من علمٍ وتأويلٍ فالله لديه المزيد في حيثية أو مسألة أو موقفٍ، فعلمُ الله لا ينتهي، وليس ذلك إلاّ لله سبحانه وليس ذلك إلاّ للخليفة إذ هو خليفة الله في أرضه، فهو ذاتُ الله تعالى في أرضه، ولهذا قال الله تعالى {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف-76). فوق كلّ ذي علمٍ و كلّ ذي تحقيقٍ عليمٌ، فهذا فضلُ الله تعالى وأمدادُهُ لا تنتهي ومزيدُهُ لا يحدّ سبحانه وتعالى. ولهذا تميّزَ المهدي الخاتم بالعلم المطلق، فكان صاحب علم الكتاب الذي صفتُه الإطلاق، ولهذا قال سيّدنا المسيح عليه السلام (نحنُ علينا التنزيل والمهدي عليه التأويل) ذكرها الشيخ العارف بالله عبد الرزاق الكاشاني قدّس الله سرّه في تفسيره الإشاريّ التأويلات. أمّا النّص الأصليّ فقد ورد في الإنجيل ((ابن الإنسان ذاهب والبارقليط من بعده يجئ لكم بالأسرار ويفسر لكم كل شيء وهو يشهد لي كما شهدت له فإنّي أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل)) انتهى. والبارقليط أو الباركليس هو المهدي عليه السلام، ونظير هذا النّص في القرآن الكريم قوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ﴿الرعد-43﴾.

ويقول الشيخ الاكبر قدس الله سره حول هذا الذي ذكرناه في العلم -في كتاب الفصوص- :
(...وليس هذا العلم إلّا لخاتم الرّسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأنبياء والرّسل إلّا من مشكاة الرسول الخاتم ، ولا يراه أحد من الأولياء إلّا من مشكاة الولي الخاتم ، حتى إنّ الرسل لا يرونه -متى رأوه - إلّا من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء ؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع ، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا اليه ، فإنّه من وجه يكون أنزل ومن وجه يكون أعلى. وقد ظهر ظاهر شرعنا ما يؤيّد فضل ما ذهب إليه فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم ، وفي تأبير النّخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدّم في كلّ شيء وفي كلّ مرتبة، وإنّما نظر الرجال الى التقدّم في رتبة العلم بالله : هنالك مطلبهم . وأمّا حوادث الأكوان فلا تعلّق لخواطرهم بها ، فتحقق ما ذكرناه .) انتهى. فقِفْ على هذه الفقرة بالتدقيق، فقد قال الشيخ الأكبر أنّ حكم المهدي الخاتم بشريعة خير الخلق والرّسل صلى الله عليه وسلّم لا يجعلُه أدنى في الرّتبة والعلم، لأنّ الحقائق قامت على هذا النّحو، وقد ذكرنا ذلك في ثنايا المقالات، أنّ مقام البقاء وبرزخ الرّحمة هو مقامُ الخلق من حيث بقائهم بالله تعالى، فكان التشريعُ والحجابُ صادرٌ من هذا المقامِ وهو مقام خير خلق الله تعالى المبعوث رحمة للعالمين ورسول الله إليهم، وهو شفيعُ الخلق أجمعين في مقام الرّحمة والبقاء، إذ الدّنيا قامت على هذين الأساسين : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ، وجميعُ الخلق دخل في المقطع الثانيّ لهذه الشهادة أي دخلوا في شفاعة الرّسول وواسطته ومشكاته ليشهدوا حقيقة التوحيد : لا إله إلاّ الله. فلهذا جاء الشرعُ والنبوّة من هذا المقام مقام الشفاعة والقدوة والواسطة إلى الله تعالى، قال سبحانه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبكُمْ وَاَللَّه غَفُور رَحِيم} [آل عمران:31]. فكون الخاتم والخليفة جاء حاكماً بشرع خاتم الرّسل فهذا لا يعني أنّ الخاتم والخليفة دونه، فافهم، بل جاء الخاتم والخليفة للحكمِ بهذا الشرع وتفصيله وإقامة العدل المطلق به، فكان الدّاعي والمشرّع هو الرّسول وكان الحاكم والقائم بحكم هذا الشرع هو الخاتم الوليّ. فلمّا كان الخليفة هو صاحب الكتاب فقد كان الحاكم به صاحب التصريف والعدل والعقاب والجزاء والثواب. وكان علمُه مطلقاً. وكان الرّسول صلى الله عليه وسلّم القارئُ لهذا الكتاب باسم الله (الكتاب الذي أنزل على المهدي) ولذلك أنزِلَ عليه القرآنُ ليُعلّم النّاس القرآن والقراءة باسم ربّهم. ولهذا قال الشيخ الأكبر في الفقرة السابقة من الفصوص : ((فما يلزم الكامل أن يكون له التقدّم في كلّ شيء وفي كلّ مرتبة، وإنّما نظر الرجال الى التقدّم في رتبة العلم بالله : هنالك مطلبهم . وأمّا حوادث الأكوان فلا تعلّق لخواطرهم بها ، فتحقق ما ذكرناه)) انتهى.

فقال تحقّق ما ذكرناه، يُخاطب أهل العلم والعرفان بالله تعالى لقربهم من هذا العلم ومعانيه وأذواقه، فقال تحقّق أيها الوليّ بما ذكرناه، فعدم الظهور والشهرة في الأكوان لا يلزمُ منهُ التأخّر، إذ عدمُ الشهرة (وأقصد هنا شهرة المهدي عليه السلام) ما وقعَ إلاّ في باب التخصيص والتقييد بالمظهر الإنسانيّ، أمّا في عالم التشريع والعقائد فالكلّ مقرٌّ بتقدّم الخاتم الوليّ الخليفة، إذ ليس هو إلاّ الله سبحانه وتعالى، فافهم. ولمّا كان الأمرُ من باب الأسرار والكتم، فنبّهك من طريق أخرى ، وقال أنّ الرجال وأهل التحقيق نظروا الى العلم بالله ولم تتعلّق خواطرهم بالأكوان وما وقع فيها من تشهيرٍ وظهورٍ لحكمة قدّرها الله تعالى وأرادها، وهو كذلك، فالعلمُ المطلق لله وحده سبحانه. تعالى الله عمّا يشركون. وبالتاليّ فالعلمُ المطلق للخليفة. فافهم.

وجاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم ((..فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَفْتِحَ بَابَ الْجَنَّةِ ، فَيُفْتَحَ لِي فَأَدْخُلُ وَرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ ، فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، وَحَسِبْتُهُ قَالَ : وَلا أَحَدٌ بَعْدِي ، قَالَ : فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، قُلْ نَسْمَعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ..)). فانظر في قوله صلى الله عليه وسلّم : فأحمدُه بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي ولا أحد بعدي. وهذا لأنّ العلم غيبٌ عند الله تعالى يلهمُ الله منه المزيد لعباده، فاختصّ حبيبه صلى الله عليه وسلم يومَ الشفاعة بالمقام المحمود، فيحمدُ الله بمحامدٍ لا يحمدُ بها أحد سابقٍ أو لاحقٍ، بل يُلهمُها الله نبيّه وحبيبه صلى الله عليه وسلّم في ذلك المقام في ذلك الوقت، وقد ذكر الشيخ الاكبر في الفتوحات كيف أنّ الله أعطاه مفاتيح العلم، وكان ممّا وقف عنده ولم يعلمه ، محامد النبيّ صلى الله عليه وسلّم الخاصة به في مقام الشفاعة. وهكذا، ففوق كلّ ذي علمٍ عليمٍ. والعليمُ المطلق سبحانه هو المولى عزّ وجل.

ثمّ هذا الختمُ، مقامُهُ في الظهور هو الإطلاق وأخلاق الله تعالى بالأصالة، فأخلاقُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي القرآن، وهي أخلاقُ الله تعالى، وهذا هو مقامُ الجمعُ ومقام القراءة باسم الله تعالى، فهذا المقام هو مقام صاحبها الأوّل، هي أخلاقُ الله تعالى لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "تخلّقوا بأخلاق الله". وكلّ السّلوك وكلّ التشرّع وكلّ الرّسالات جاءت من أجل هذا التحقّق والتخلّق، أي التخلّق بأخلاق الله تعالى، فهذا هو السّير إلى الله، وهذه هي حقيقة السّير، فالسّيرُ وقعَ من دائرة النّفس إلى حضرة القدس، لأنّ الوجود هو وجودُ الله تعالى، وبالتّالي فكلّ وجودٍ جزئيٍّ هو مناقضٌ للحقيقة والأصلِ، أي كلّ إثبات وجود مع الله هو سببُ الشّقاء الذي يعيشُه النّاس، فسببُ الشّقاء في حقيقته، أنّ المخلوق الممكن الوجود الذي هو بين حضرتي الإمكان، لهُ وجهتين وإمكانين، فإذا التفتَ إلى عدمِه شعرَ بالألم والحرمان والشقاء، فكان مشهد الألم والشقاء نابع من هذا المشهد، وإذا التفتَ إلى وجودِه أي إلى حقيقته وهي وجودُه بالله تعالى هبّت عليه نسائمُ الفرح والنّعمة والرّضا، ذكرَ هذه الحقيقة الشيخ الأكبر في الفتوحات المكيّة، وهي نفيسة وتشرحُ لنا حقيقة العذاب والعناء والحرمان وما سببه ومصدرُه، فسببُ ذلك هو النّفس، النّفس الجزئية الخاصّة بكلّ مخلوق، لأنّ الله سبحانه ما خلق الدّنيا عبثاً ولا اعتباطاً، قال الله تعالى (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]. وقال سبحانه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. فانظُرْ إلى حقيقة الخلق في قوله تعالى، فهي الرّجوع إلى الله تعالى، وليس رجوع الحساب فقط كما يُفهمُ ظاهراً، بل هو رجوعُ الحقائق، فهذا هو سببُ الخلق، خلق الله الخلق ليرحمهم بهأ أي ليرجعوا إليه في مقام البقاء والرّحمة، فيشهدوهُ به، ومن أجلِ ذلك كلّه تجلّتِ الأقدار والمعلومات، أي اصلها كما ذكرنا الرّحمة، فهي في دوائر الرّحمة سواء كانت ظاهرةً أو كانت باطنةً وظاهرها العذاب والشقاء والبلاء. فافهم.

فقلنا إنّ حقيقة السّير إلى الله، أي حقيقة التديّن والدّين هو السّير من النّفس إلى حضرة القدس، وما من تديّنٍ غفلَ عن هذه النقطة الجوهرية الأصلية الاساس التي قامَ عليها وجودنا، وجاءت الرّسالات من أجلها فهو تديّن ناقصٌ مغشوشٌ مبتورٌ عن وجهته الحقيقة، ضائعٌ ليس لهُ أساس، لأنّهُ سيتوجّهُ إلى مراسي أخرى، وبالتالي فهي مراسي غير التي أرادها الله تعالى، وعليه فنسبة النّفس والشيطان فيه كبيرة، ونسبة الانحراف فيه كبير.

فأساسُ الدين هو التخلّق بأخلاق الله تعالى، التخلّق بالقدر الممكن والمستطاع، قال الله تعالى
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. على قدرِ الاستطاعة والوسع، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (سورة البقرة). لذلك أمرَ الله تعالى بإقامة الصلاة وجعلها عمود الدين، فالصلاة كما كانت عمود الدين في الظاهر أي ظاهر العبادات، فهي عمود الدين والولاية فالصلاة باطناً هي الصّلة بالله تعالى، أي أقِمْ الصلة بينك وبين الله تعالى، ولا تجعلْ تديّنك فارغاً ومغشوشاً ولا يصلُك بربّك، فالسرّ كلّ السرّ في تلك الصّلة بالله تعالى. وما دام العبدُ موصولاً بالله فهو مجذوبٌ إلى حضرته سائرٌ إليه وسالكٌ في طريق التخلّق بأخلاق الله تعالى، قال الله تعالى {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]. فما دُمتَ موصولاً بالله فأنتَ في ولايته ومن كان الله وليّه ما زالَ يخرجُ من الظلمات إلى النّور، من ظلمات النّفس إلى نور الله تعالى، من ظلمات وجوده العدمي إلى نور وجود الله تعالى الحقيقيّ.
ومن لم يكن في ولاية الله تعالى ولم يُقِمْ تلك الصّلة به فهو في ولاية الطّاغوت يخرجونه من النّور إلى الظلمات، شعر بذلك أو لم يشعر. وهو شاعرٌ بذلك لا محالة.

أمّا الحجُّ فهو في الباطن الكمال، لأنّه تضمّن شعار حقائق البقاء بالله تعالى، ألا ترى إلى أركانه كيف عبّرت عن حقائق الكمال ومحطّات طريقه، من الوقوف بعرفة وهو الدخول الحضرة الأحدية والجذب إليها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "الحجُّ عرفة". فأصلُ الحجّ والكمال هو الوقوف بعرفة، والدخول لحضرة الأحدية. والسّعي بين الصفا والمروة  : وهو شهودُ الله تعالى في الجمال والجلال، في الأضداد وأنّ كلّ ما جاء من أقضية وأقدار فهو من الله تعالى سواء كانت منحاً أو محناً، وبالتالي أنّ أصلها خير ورحمة، لذلك قال الله تعالى واصفاً أهل التقوى وهمُ المتحقّقون بحقيقة التقوى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا}. فرأوا جميع ما نزل بهم خيراً، إذ جميع ما ينزلُ بالعبدِ من الله تعالى. والطواف سبع أشواط : وهو التحقّق بالصفات السبع الأمّهات. فالحجّ هذا باطنُه، فهو حجّ الكمال والبقاء بالله تعالى. لذلك كان لمن استطاعَ إليه سبيلاً، ولم يكن فرضاً على الجميع. وفي هذا المعنى قال الله تعالى
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ..﴾. (آل عمران-102).
ولِعِلْمِ الله تعالى أنّ القابليات والوسع والطاقة ليست متكافئةً خفّفََ وقال
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، لكنّ التقوى الكاملة هي حقّ التقوى وهي تقابلُ الحجّ الذي هو ركن المستطيعين أي الكمال والبقاء بالله تعالى. فهذه حقائق.

يتبع ..

الجمعة، 16 أغسطس 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 46




- 46 -


أمّا وصفُه صلّى الله عليه وسلّم للمهدي أنّهَُ "في خدّه الأيمن خال".
فهذه هي الشهادة الكبرى على المبايعة الأولى والسيّادة العليا التي ليس فوقها سيادة والإمامة الكبرى التي ليس فوقها إمامة.

فالخالُ في الخدّ الأيمن لهُ تلك الدّلالة، فهو علامةُ نقطة الذات، النقطة السوداء. وهو رمز البيعة والميثاق مع الله تعالى كما كانَ الحجرُ الأسود رمزاً للعهد والميثاق الذي أخذه الله من أرواح بني آدم، من أنبيائهم وأوليائهم وسائر البشر.
فالحجرُ الأسود يمينُ الله في أرضه، وانظر كيف يلوّحُ له المسلمون كعلامة ورمزٍ لتجديد العهد مع الله تعالى، فكانَ الخالُ في يمينِ خدّ المهدي عليه السلام له هذه الدّلالة على كونِهِ يمينُ الله في أرضه، فمن بايعهُ فقد بايعَ الله تعالى. فهذا هو الإمامُ والسيّدُ المبايعُ بالأصالةِ في قوله تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}.


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في كتاب "عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس مغرب" المخصوص بتفصيل حقائق هذا الإمام الأعظم بإذن من حضرة الله تعالى سبحانه، قال  "ولمّا قال وكانت علامة أيمن الخدّ وكونه يمين الواحد المالك فمن ثبتت له تلك العلامة فقد صحّت له الإمامة." انتهى.

ولذلك قال الشيخ الأكبر في فصل (إثبات الامامة على الاطلاق من غير اختلاف) من نفس الكتاب "عنقاء مغرب":
(... فقد صحّت المبايعة للخليفة وفاز بالرتبة الشريفة وإنْ توجّه إعتراض فلا سبيل إلى القلوب المنعوتة بالمراض، و لمّا كان الحقّ تعالى الإمام الأعلى والمتبّع الأولى قال :
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}
ولا ينال هذا المقام إلاّ جسم بعد النبي المصطفى الأعظم صلى الله عليه وسلم إلّا ختم الأولياء الأطول الأكرم)
انتهى.

فهذا هو الإمام الأعلى والمتبّع الأولى ولذلك فقد استوجبَ البيعة بين الرّكن والمقام، ركن الحجر الأسود ومقام الخليل عليه السلام، فهذا يمينُ الله في أرضه صحّت له المبايعة والعلامة والإمامة بين ركنِ الله الشديد الذي لا يُضام، ومقام الخلّة كما قال الشيخ الأكبر في عنقاء مغرب :

قال : "ولمّا كانت المبايعة لهذا الإمام بين الركن والمقام وليس له وراء ذلك مرمى لرام" انتهى.
وقال : "كذلك إذا كان واقفاً بين ركن الخلّة، وركن من رام بأضيافه سدّ الخلّة، الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم في صحيح الخبر "رحم الله أخي لوط لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد" خطاباً لجميع البشر، هنالك يوصفُ بعند ذي العرش مكينٍ، مطاعٍ ثمّ أمين، وتعقدُ له مبايعة التعيين في الحرم المنيع والبيت الرفيع." انتهى.

هنالك يُشهدُ له ويبايعُ على أنّه الرّوح الأعظم، والإمامُ الأعلى الأكرم خليفة الله في أرضه. والأرض في اصطلاحها الحقيقيّ العلمي هي أرض التجليّات الحقيّة والخلقية من سماء الذات.


قال الشيخ العارف بالله إسماعيل حقّي رضي الله عنه في تفسير روح البيان :

في قوله تعالى { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } الإسراء 12

قال ( فالمراد بآية الليل والنهار والقمر والشمس - روى - ان الله تعالى خلق كلا من نور القمر والشمس سبعين جزأ ثم امر جبريل فمسح بجناحة ثلاث مرات فمحا من القمر تسعة وستين جزأ فحولها الى الشمس ليتميز الليل من النهار اذ كان فى الزمن الاول لا يعرف الليل والنهار فالسواد الذى فى القمر اثر المحو وهذا السواد فى القمر بمنزلة الخال على الوجه الجميل ولما كان زمان الدولة العربية الاحمدية قمريا ظهر عليه اثر السيادة على النجوم وهو السواد لانه سيد الالوان كما ظهر على الحجر المكرم الذى خرج ابيض من الجنة اثر السيادة بمبايعة الانبياء والاولياء عليهم السلام وجعل الله شهورنا قمرية لا شمسية تنبيها من الله للعارفين ان آياتهم ممحوّة من ظواهرهم مصروفة الى بواطنهم فاختصوا من بين جميع الامم الماضية بالتجليات الخاصة.) انتهى.


فهذا الكلام نفيسٌ في الإشارة إلى الخال على الوجه الجميل وزمان الدولة العربية الأحمدية، من كونِ أنّ الأحمدية ظهرت ببعثة النبيّ أحمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فكان عهد الأمّة المحمديّة عربياً قمرياً كما ذكرنا أحمدياً مصداقاً لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم "لن تهلک اُمّة أنا أوّلها، ومهديّها وسطها، والمسيح بن مريم آخرها." العمدة وعقد الدرر.

فانظر لهذا الحديث الشريف الذي ذكر المهدي في وسطها مع أنّ المهدي هو الخليفة الذي يحكم خلافة آخر الزمان ويُزامنُ نزول المسيح عليه السلام. فالإشارة المرادة في ذكر المهدي في وسط الأمّة هي الأحمدية التي ظهرت ببعثة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}.

المهدي هو قطب الأقطاب والجميعُ نائبٌ عنه في الخلافة الإنسانية، فهو خليفة الله في أرضه، خليفة الله في أرض تجليّاته الحقيّة والخلقية فافهم. فما من نبيٍّ أو وليّ حاز الخلافة كان نائباً عن هذا القطب وهذا الخليفة الأوّل.

والحديث خصّص ذكر المهدي في وسط الأمّة، لأنّ الأحمدية ما تجلّت في الأرض إلاّ ببعثة خير الخلق وصفوتهم عند الله تعالى رسول ربّ العالمين إلى خلقه سيّدنا محمّد أحمد صلى الله عليه وسلم.

قول الشيخ العارف بالله إسماعيل حقّي رضي الله عنه في تفسير روح البيان
"فالسواد الذى فى القمر اثر المحو وهذا السواد فى القمر بمنزلة الخال على الوجه الجميل ولما كان زمان الدولة العربية الاحمدية قمريا ظهر عليه اثر السيادة على النجوم وهو السواد لانه سيد الالوان كما ظهر على الحجر المكرم الذى خرج ابيض من الجنة اثر السيادة بمبايعة الانبياء والاولياء عليهم السلام"

فهذه إشارة إلى الخال في وجه المهدي عليه السلام من طريق الإشارة والتلميح لأهل العلم بالله تعالى، أنّ القمر الذي استوعبَ ضوء الشمس كان بمثابة القلب الذي نزل فيه الرّوح، فكان القمرُ بمنزلة الذات والشمس بمنزلة الصّفات. كما وقف الرّوح عند سدرة المنتهى واخترق الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فالحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم اخترقَ في الحقيقة إلى سرّ الروح، وانظُر في التفاسير في آيات النجم الأولى كيف يفسّرها السّلف والخلف على رؤية الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للرّوح بهيئته، لجبريل عليه السلام الذي هو تعيّنٌ ملائكيّ للروح الأعظم كما تعيّن الرّوح الأعظم في الخليفة بالمظهر الإنسانيّ، كما أنّ التفسير شمل ذكر رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لربّه، فما كانت الرؤية واقعةً إلاّ على الرّوح الذي هو الحقّ تعالى فافهم، أمّا هوية هذا الرّوح وكنهه فهو من الغيب المطلق، لا يعلمُهُ أحدٌ من الخلق، لا يعلمُهُ إلاّ هو سبحانه عزّوجلّ.
فإنّ غاية معرفة الخلق أنبياءً وأولياءً ما عدا الخليفة صاحب الذات، معرفتهم وشهودهم توقّفَ على عالم الأسماء والصّفات. فافهم. وقد ذكرنا هذا مراراً وتكراراً.

وانظر كيفَ قرنَ الخال في الوجه الجميل بالحجر الأسود الذي كان رمز البيعة لله تعالى، وألمحَ إلى السيادة الأحمدية، فهذه إشارةٌ واضحةٌ لأولي الألباب، ثمّ لنعلمك أنّ صفات المهدي وشمائله ماكانت عبثاً وصدفةً كما يظنُّ البعض، بل هو تقدير العزيز العليم، فكان الخال في الخدّ الأيمنِ علامةً على نقطة الذات، ونقطة الهويّة المجهولة، التي منها تجلّت الرّوح.

وقولنا أنّ القمر كان مستوعباً لضياء الشمس، كما كان القلب مستوعباً لنزول الرّوح فيه، كما قال الله تعالى في الحديث القدسيّ (( ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن )) فهذه هي الصورة التي خلق الله عليها آدم وبنوه. فافهم، وهي مقام الشهود الذاتيّ وبرزخ الرّحمة المتوسّط بين مقام الذات ومقام الصّفات، وقد شرحنا ذلك.

وقلنا أنّ مقام القلب في الحقيقة هو للخليفة باعتبار الرّوح الأعظم تجليّات ذاته، فخلق الله برزخاً أهّل الإنسان : آدم وبنوه أن يكونوا على صورة الخالق سبحانه الصورة المعنوية فيَسعَ القلبُ تجليّات الحقّ سبحانه فافهم. وإنّما مقامُ القلبِ بالأصالة للرّوح القدسيّ للخليفة، لأنّ العروج وقع لسرّه ولذاته، فافهم. ما عرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سوى الى سرّ الرّوح، لذلك ما كان للرّوح -باعتباره تجلٍّ- أن يخترقَ إلى سرّه، فمقام السرّ هو مقام شهود الواحدية والأحدية، وهذا مقامٌ لا يقبلُ الاثنينية فافهم. وبهذا حصلتِ الخلافة للإنسان، ان يصبح قابلاً لتلك الأحدية وشهودها، لكنّه في مقام المثلية والشهود لا مقام العينية والأحدية الحقيقة. فما ثمّ إلاّ الله سبحانه. فهذا علم التحقيق ولذلك كان الكتمُ واجباً، فمن عرف هذه الحقائق صعقته، وطاشَ عقلُه، فهذه حقائق ذوقية شهودية سلوكية.

ولتعلم أنّ الله تعالى خلق النّاس قابلياتٍ متفاوتة ومراتبٍ، لهم محاتدهم إلى ربّهم، كالصّناديق التي هي نقطة قابليتهم ومرجعهم، فهناك من كان صندوق قابليته ذاتيّ، وهناك صندوق قابليته صفاتيّ وهناك صندوق قابلياته أفعالي، فمن كان صندوق قابليّته صفاتيّ يستحيلُ عليه أن يقبل حقائق الذاتيين، وهكذا، فالوسع غير موجود، بالتالي لو اطّلع على حقائق الذاتيين فقد يُنكرُها حتى لو كان من الصالحين، ألا ترى قول الله تعالى {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}. يقول بعض أهل العرفان عن هذه الآية أنّها إشارةٌ لكونِ من كان من جنس الأنصار أي الصّفاتيين لا مقام له في حضرة الذات، لأنّ قابلياته ومقامُه لا يقبلُ ذلك فوجبَ عليه العودة بعد دخوله حضرة الذات إلى مدينة الصفّات فهناك مقامه، قال الله تعالى {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}. وفي الأخير هي محاتد تعودُ بأصحابها الى ربّهم، فما ثمّ إلاّ الله موجوداً على التحقيق، فالعبرةُ أنّ الخلق محاتدُهم تعودُ بهم إلى برزخ الرّحمة، ليشهدوا تجليّات الله تعالى من هذا البرزخ الرّحمانيّ الذاتيّ. فطوبى لمن سعد عند ربّه جلّ وعلا.

ثمّ تأمّل الكعبة وستارها الأسود وعلى ركنها الحجر الأسود، فذلك رمز الخليفة الذي هو قطب الأرواح، ويمينُ الله في أرضه فكان عليه خال في خدّه الأيمن كما الكعبة التي هي قبلة في ركنها حجر البيعة والميثاق.

لذلك قال الشيخ الأكبر في عنقاء مغرب ما نقلناهُ : "ولمّا قال وكانت علامة أيمن الخدّ وكونه يمين الواحد المالك فمن ثبتت له تلك العلامة فقد صحّت له الإمامة." انتهى.

نعم من ثبتت له تلك العلامة فقد صحّت له الإمامة المطلقة العليا.

يتبع ..




الجمعة، 2 أغسطس 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 45


- 45 -

وعَوْداً لمزيدٍ من تفصيل حقائق الشمس والقمر، وتوضيح صفات المهدي عليه السلام، التي هي صفات وخلال وشمائلٌ شاهداتٌ أنّه الإمام الأعلى وسيّد السادت، السيّد الصّمد. الواحد الأحد جلّ جلاله. لمّا كان الحقّ تعالى لا يُعرَفُ إلاّ بأسمائه وصفاتِه، ولا إدراك لما وراء ذلك لكائنِ من كانَ، إلاّهُ وحدهُ لا شريك له، وكان صاحبَ هذا السرّ والذات والعلم ما وراء ذلك هو العبد الذاتيّ، لأنّ حقيقة الألوهية اقتضتْ أنْ تكونَ هذه البرزخية بين العبدية والربّوبية، لأنّهُ في الحقيقة لا موجودَ سواهُ، فافهم. فكانَ هو سرّ كلّ موجود، فعادتْ هويّات الموجودات والكائنات إليه سبحانه. فقلنا لمّا أرادَ اللهُ أن يتجلّى من كنزيته وعمائه ليُعرفَ، خلقَ الخلق ليعرفوهُ ويرحمهم، فما كانَ واسطة الخلق إلى ربّهم ولا أخرجهم الله للظهور والخلقية إلاّ بالرّحمة، وضع هنا خطوطاً كبرى. فما خلق الله الخلقَ إلاّ ليَرحمهم. فخلقَ برزخاً للرّحمة، هو مبتدأ الخلق وبداية الخلق، هذا البرزخُ توسطّ الخالق والخلق، توسّط الحقّ والأكوان، فنقطةُ بداية كلّ كائنٍ هو برزخُ الرّحمة، وكان هذا البرزخ وهذه الواسطة هو رسول الله إلى العالمين صلى الله عليه وسلم ، الذي قال الله تعالى فيه (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء:107). فكانتِ الرّحمة هي البرزخُ بين الذات والأكوان. ولهذا السّبب تفهم أنّ إسم الرّحمن هو ثاني إسم في الرتبة بعد إسم الذات "الله". فسمّيت هذه الرحمة الرّحمانية من إسم الرّحمن، وهو إسم مبالغة وجامع للرّحمة شاملٌ لها بكلّ اعتباراتها، سواء كانت رحمةً ظاهرةً أو رحمة باطنةً، أي سواء كانت رحمةً نعيمية أو كانت رحمةً تأديبية، قصدها التأديب من أجلِ إبلاغ المرحوم إلى نقطة استحقاق الرّحمة الرّحيمة النعيمية. فافهم. وتحت هذا الذي نقولُهُ علمٌ كبيرٌ يضحدُ بعض يقينيات من يعتقدونَ أموراً، هم في الحقيقة مخالفون لما هي عليه الحقائق. وخصوصاً في رحمة الله سبحانه الذي ما خلقَ الخلق إلاّ ليرحمهم. ولمّا كان الأمرُ ليس ضرورياً بالنّسبة للواقع، فلا يلزمُنا الخوضُ فيه. ولكنّه في علم الحقائق والعارفين بالله أقول العالمين بالله وهم فوق العارفين شيء من الحقائق الذي يطعنُ في علمهم بالله لو لم يتوصّلوا إلى هذه الحقائق.

فكان برزخ الرّحمة هو البداية، ومن كان بدايةً سابقاً كان لزاماً أن تكون إليه النهاية والمرجع، فافهم. فمقامُ الصّفات والعلم يبدأُ بالرّحمة. والرّحمة غير الذات كما قلنا. والرّحمة صفتُها العلم، إذ العلمُ ينبثِقُ أوّل ما ينبثقُ من الرّحمة، فالرّحمة هي أمّ العلم وبالتالي هي أمّ الصفّات كلّها، وخير خلق الله وسبب ظهورها من العدم هو المبعوث رحمةً للعالمين صلوات الله وسلامه عليه، بل هو عينُ الرّحمة المهداة. فافهم.

لذلك كان فناء الأشياء في خالقها وبقائها به، تعودُ إلى محتدِها الخاصّ بها وهي نقطة الرّحمة، وكلّ مخلوقٍ لهُ عودةٌ إلى هذا البرزخ، الذي هو برزخُ الرّحمة، ولكن كلّ في رتبته التي خلقهُ الله لها، وذلك بعد انقطاع الآباد، آباد الخلق، وعودتِها الى الله سبحانه، فهي بعودتِها تعودُ إلى برزخ الرّحمة، وهو برزخ البقاء بالله سبحانه فافهم، وبرزخ البقاء، الذي هو برزخُ الرّحمة الجامع هي رتبة خير خلق الله تعالى، وكلّ شيءٍ له محتدٌ خاصّ يعودُ به إلى ربّه سبحانه. وهنا اختلفت المراتب والمحاتد بين العباد والعبيد والخلق التي تعودُ بها إلى ربّها، وكان أهل الخلافة الكبرى ومقام القربة لهم محتدٌ جامعٌ وارثٌ لمقام الرّحمانية رحمانية خير خلق الله صلّى الله عليه وسلّم. خلاف البقيّة فلهم محتادهم ومراتبهم الخاصّة. ولكنّ هؤلاء الكمّل والأفراد والمقرّبين ليسوا سوى ورثةً لخيرِ خلق الله تعالى في هذا المقام، لأنّ المقام مقامه، فهو عينُ الرّحمة وهو برزخ الرّحمة الجامع، فافهم.

وإذا فهمتَ هذا علمتَ أنّ الخلق غايةَ وصولهم لهذا البرزخ، وهو برزخ الرّحمة والخلقية وبرزخ الصفات والعلم، أمّا الذات وهويّتها وحقيقتها، فليس لمخلوقٍ أن يُدرك حقيقتها فافهم، فالبرزاخُ وقفت هنالك، كالحدّ الذي لا يُتجاوز، ولا يمكن أن يُتجاوز، وكان صاحب الذات وسرّها الذي هو وراء هذا البرزخ الرّحمانيّ هو الخليفة المهدي عليه السلام فافهم، فهو الذات عينها. هو عين العماء والكنزية والهوية، فافهم.

وليُقيمَ الله الحجّة على الخلق والملائكة والأولياء والأنبياء جميعهم كان المهدي المجذوب المحجوب المتقلّب في الأضداد، العالم بعلم المراتب والحقائق، الطّاوي لطريق الله بلا تكلُّفٍ منه، الهازمِ لإبليس والدجّال بسرّه الأعظم المكتوم فيه وجسمه الإسرائيلي الأعجميّ، هو الحجّة على إمامته العليا وسيادته الكبرى، وعلى سرّه الذي استمدّ العلمَ من العماء والكنزية التي وراء برزخ الرّحمة. فافهم.

ولمّا كانت الرّحمة هي برزخ الخلق وبدايتهم، فكانت الرّحمة هي أمّ العلم، لأنّ المعلومات والأعيان كلّها انبثقت من الرّحمة ومن برزخ الرحمة، لتعلمَ علم اليقين أنّ الله فطرَ الخلق والأكوان بالرّحمة ليعيدها إلى الرّحمة، وكانت هذه الرّحمة ظاهرةً وباطنةً، تنوّعت بحسبِ حقائق الخلق فافهم. فحقائقهم هي التي حكمت فيهم، فهذا استوجبَ رحمةً ظاهرةً، وهذا استوجبَ رحمةً باطنةً لتعودَ به إلى برزخه ومحتده من ربّه.

فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعلم الخلق بربّه، لذلك كان الهادي إليه والدّليل إليه والواسطة إليه والمشرّع لدينه خاتم الأديان والرّسالات، والجامع لها.
 أمّا العالمُ الحقيقيّ فهو الخالقُ سبحانه فهو نقطة الذات وكلّ شيءِ إليه يرجِع. فحتّى برزخ الرّحمة يعودُ إليه، لأنّها رحمته سبحانه وهو أرحمُ الرّحماء وعالم العلماء ومالك الملك والمكوّن وحقيقة الكون والكائنات. لذلك كان أغيرَ على خلقه من خلقه وأرحمَ بهم منهم، فأقامَ الخلافة الذاتية في آخر الزّمان ليُقيمَ ميزانَ الحقائق، وليعودَ إليه كلّ شيءٍ، ولينسلخَ ليلُ الظلمِ بنهارِ العدلِ، فالعقاب والجزاء والعدل تكونُ من صفات المالك وصاحب الأمرِ، وهذا يقودُنا إلى صفة المهدي أجلى الجبهة أقنى الأنف، أو أعلى الجبهة أشمّ الأنف، فقد اعتدلَتِ الشمائلُ في رسول الله صلى الله عليه وسلّم برزخ الرّحمة والصفات الإلهية والكمالات الربّانية، أمّا الخاتم العزيز المهدي إذا ظهرَ فقد كان أقنى الأنف والقنى هو اعتدال الأنف وطول رقبته ورقتّها وانكسارها، القنى والشمّم كان معبّراً عن العزّة والكبرياء، والعزّة والكبرياء لا تليقُ إلاّ بصاحبها ذو الجلال والكبرياء الخليفة العزيز، وكذا جلى الجبهة وعلوّها فهو رمز النّصرة على العدوّ وظهور الحقّ وسطوعه. فكانت سيرة المهدي بين اللّين والعنف، فافهم، لأنّه المالك العادل، فهو أرحم الرّحماء بالمساكين والمظلومين، وهو الشديد العقاب والجزاء على الخصوم والأعداء، قامت خلافته للعدل المطلق، وإبادة الظلم والظالمين، والجهاد المتواصل. فهذا خليفة الحقّ سبحانه في أرضهِ فافهم. وقبلتُهُ في أرضه، وسرّهُ المطمطم.

يتبع ..

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 44




- 44 -

فقلنا نزل القرآن في ليلة القدر، فكان القمرُ رمز القلب الذي تنزلُ فيه الرّوح، والرّوح رمزها الشمس، فكان نور القمر عاكساً لضياء الشمس، فيشعُّ على ليلِ الأرض بقدَرِ. ولولا ليلة القدر لما حسنَ لأحدٍ أن يقرأ القرآن ويتحقّق بمقام الجمع، إذ النّهار هو مقام الجلال بضياء الشمس الأحديّ، وضياء الشمس للواحدِ الأحد وحده سبحانه، فخرجَ الخلقُ ببرزخ الرّحمة الذي هو ليلة القدرِ بنزول القرآن ونزول الروح على القمر الذي هو رمز القلب، فافهم.

فالقمرُ حين يعكسُ ضوء الشمس يكونُ في مقامِ الجمع لنورها وضيائها وحقائقها والتحقّق بأخلاقها وصفاتها من غير حلول ولا اتّحاد، ولا اتّصال ولا انفصال، فافهم، فهذا هو مقامُ الصّفات. وكان برزخ ليلة القدر وليلة الأقدار الوجودية وبرزخ خروج الخلق الى الظهور والأكوان وقمرها البدريّ وقمرها الأسنى والأعلى هو سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فمثّلَ هذا المقام القمريّ العربيّ الخصوصيّ الأعلى، الذي هو أعلى مقامات الخصوصية والعبودية والتحقّق بكلّ حقائق الرّوح الأعظم. فافهم.

وصارَ كلّ قلبٍ محمديٍّ متحقّق بهذا النزول وهذا الانعكاس هو وراثٌ وهو خليفة لكن في دائرة الخلق ، لذلك كان المحمديّون هم القمريون العرب بهذا الاعتبار، وكان الخليفة حامل سرّ الذات والأحدية هو رمز الشمس لأنّه عين الرّوح الأعظم، إذ الرّوح الأعظم هو تجليّاته من مقام الأحدية والهويّة الغير مدركة. فكان الخليفة أعجميّ بهذا الاعتبار شمسيّ والشمس حسابها سنويّ، وحساب الربّ عبّر عنه بالسّنين خلاف ليلة القدر التي عبّر عنها بالشهور كما ذكرنا. فصاحبُ مقام الإسم الأعظم والربّانية المثلى المسمّى بالعبد المحض في مقام العبودية والمسمّى "الله" في مقامِ الربّوبية والألوهية هو الخليفة القائم بأمر الله المهدي عليه السلام. فهو المعني بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} سورة الفتح-10. فهو الإمام الذي استوجبَ البيعة بسرّه المطلق، وغيرُهُ نائبٌ في مقامِ النيّابة، فإذا كان خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه في مقامِ النيّابة عن الله سبحانه، فغيرُهُ بالضرورةِ نائبٌ. ولمّا كان صاحب الإسم الأعظم خليفة الإطلاق وحقيقة الحقائق، فقد صارَ هذا السرّ بالنيّابة للإنسان، وهم أفراد بني آدم المتحقّقين بالخلافة والوراثة إذ قال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته".




قال الشيخ عبد الكريم الجيلي قدّس الله سرّه في فصل (الملك المسمى بالرّوح)
في كتاب (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل)

(الحقّ المخلوق به: هو الملك المسمى بالرّوح، وهو المسمّى في اصطلاح الصوفية: بالحقيقة المحمدية. نظر الله تعالى إلى هذا الملك بما نظر إلى نفسه، فخلقه من نوره، وخلق العالم منه، وجعله محل نظره من العالم. ومن أسمائه: أمر الله، وهو أشرف الموجودات، وأعلاها مكانة، وأسماها منزلة، ليس فوقه ملك، وهو سيد المقربين، وأفضل المكرمين. أدار عليه رحا الموجودات، وجعله قطب فلك المخلوقات، له مع كل شيء خلقه الله تعالى وجه خاص به يلحقه) انتهى.

وقال في نفس الفصل
(ثمّ اعلم أنّه لمّا خلق الله هذا الملك مرآةً لذاته لا يظهر الله تعالى بذاتِه إلاّ في هذا الملك وظهوره في جميع المخلوقات بصفاته، فهو قطبُ العالم الدنيوي والأخروي..) انتهى

وقال في نفس الفصل متحدّثاً باسمِ الرّوح الأعظم بطريق التلويح والرّمز للتعريف به :
(وأما المحتد والمكانة فاعلم أني كنتُ عينا مشهودا كان لي في الغيب حكما موجودا، فلما أردتُ معرفة ذلك الحكم المحتوم ومشاهدته في جانب الأمر المحكوم، عبدتُ الله تعالى بذلك الإسم كذا وكذا سنة وأنا عن اليقظة في سنة، فنبّهني الحقّ سبحانه وتعالى وأقسم باسمه وآلى أنّه (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) فلما حضرت القسمة وأحرزت ما أعطاني الإسم، أعني باسمه، زكّتني الحقيقة المحمدية بلسان الحضرة الرسولية، فقال عليه الصلاة و السلام (خلق الله آدم على صورته) ولا ريب في هذا ولا كلام، و لم يكن آدم إلا مظهرا من مظاهري أقيم خليفة على ظاهري فعلمتُ أنّ الحق جعلني المراد والمقصود من العباد، فإذا بالخطاب الأكرم عن المقام الأعظم: أنت القطب الذي تدورُ عليه أفلاك الجمال، والشمس التي تمدّ بضوئها بدر الكمال. أنت الذي أقمنا له الأنموذج، وأحكمنا من أجله الأمر فتوّج، المراد بما يُكنّى عنه هند وسلمى أو يلوّح عنه عزّة وأسما، فالكلّ إلاّ أنت يا ذا الأوصاف السَّنيّة والنعوت الزكيّة، لا يُدهشك الجمال ولا يُرعشك الجلال ولا تستبعِدُ استيعاب الكمال، أنت النقطة وهي الدائرة، وأنتَ اللابسُ وهي الثيابُ الفاخرة.) انتهى.

فهو هنا يعرّفنا بهذا الرّوح الأعظم، فهو المهدي الخليفة عليه السلام، ويتساءلُ الرّوح في هذا الكلام التمثيليّ لماذا أخفيَ مقامُه وهو حقيقة الحقائق ؟ فيُجيبُ الله سبحانه - وكلّ هذا الكلام تقريبيّ تمثيليّ فقط- فافهم. لتعلمَ ما ذكرناهُ عن حقيقة النّهار والليلّ، فلولا وجود القمر والليل، لما تعرّفَ أحدٌ إلى هذه الشمس، إذ النّهارُ للجلال، والشمسُ أحديةٌ ولا قمرَ عاكسَ لضيائها، ومتحقّقاً بحقائقها. ولهذا أُخفيَ مقامُه، فهو المقامُ الأوّلُ المطلق. فهو صاحبُ اليوم الذي انبثقتْ منه ليلة القدر، فليلةُ القدرِ تابعة ليوم هذا العبدِ الذاتيّ. فافهم.

قال الشيخ الجيلي في نفس الفصل
((قال الروح: فقلتُ: أيها السيّد الكبير والعلام الخبير نسألك بالتأييد والعصمة، أخبرني عن درر الحكمة وبحر الرحمة بأن جَعَلْتَ صدَفَها سوائي وما انعقدَتْ سوى من مائي، و لم وُسِم طيري باسم غيري وكتم هذا الأمرُ رأسا فلم يعلم لحديدته بأسا؟
فقال: اعلم أنّ الحق تعالى أراد أن تتجلى أسماؤه وصفاته لتعرِفَ الخلقَ ذاتَهُ، فأبرزها في المظاهر المتميزة والبواطن المتحيزة وهي الموجودات الذاتية المتجلية في المراتب الالهية، ولو أطلق الأمر كفاحا لهذا العبد سراحا، جُهَلت الرتب، وفقدت الإضافات والنّسب، فإنّ الإنسان إذا أُشهِدَ غيرَهُ فقد استوعبَ خيرَهُ وسهل عليه الاتباع وأخذ في ذلك ما استطاع فلهذا أرسل الله الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام بكتابه المبين وخطابه المتين، يترجم عن صفاته العليا و أسمائه الحسنى، ليُعْلَمَ أنّ ذاته لها التعالي عن الإدراك فلا يعرفها غيرها ولا إشراك، ولهذا أمرنا السيّد الأوّاه فقال (تخلّقوا بأخلاق الله) لتبرز أسراره المودعة في الهياكل الإنسانية، فيظهر بذلك علوّ العزّة الربانية، ويعلم حقّ المرتبة الرحمانية، ولا سبيل إلى معرفته بحسب حصره إذ هو القائلُ عن نفسه (وما قدروا الله حقّ قدره). هذا درّ الحكمة وبحر الرحمة. وكون الصدف سواك، وما انعقدت دراريه إلّا من ماك، فهو القشر على اللّباب، لئلا يرتقي الى الحكمة وفصل الخطاب سوى من أهّله لذلك في أم الكتاب. وأمّا وسم طيرك باسم غيرك فلاستيعاب خيرك. وأما كتم الأمر لعدم الطاقة على خوض هذا البحر، فإنّ العقول تقصر عن الإدراك، ولا محيص عن قيدها والانفكاك. وهذه الجملة قشور العبارات، وقبور الاشارات جعلناها عن الوجه نقابا، لتحجبه عمن ليس من أهله حجابا، فافهم إن كنت مدركا خطابا))انتهى.

فكلّ الكتمِ قامَ من أجلِ هذا العبد، الذي هو سرّ الأسرار وحقيقة الحقائق. وهو إمامُ الأئمّة، إذ محلّه خارج الخلق ولغته غير لغتهم مطلقاً. فهذا هو العبدُ الأعجميّ الشمسيّ العربيّ. برزخُ البرزاخ وحقيقة الحقائق.


يتبع ..