الأحد، 29 سبتمبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 52



- 52 -

أصحاب الكهف والرّقيم

سورة الكهف هي سورة الذاتيين أهل الجذب لحضرة الذات، فتية الكهف، وفتى موسى عليهما السلام، من الفتوّة، وهم العصابة الأقدسية أهل الصفاء الذاتيّ، فذكرت السورة في بداياتها صفاتهم وعلاماتهم ومشربهم، فابتدأت بالحمدلة ، والحمدُ للحقيقة بخلاف البسملة فهي للشريعة كذا قال أهل العرفان، وعلامة دلالتها على الشريعة باؤها التي كانت مبدأها فكانتِ الباء باء الاستعانة بالله والاستمداد منه سبحانه أي باء الخلق والحوادث، وباء الحجاب لأنّ حروف البسملة كلّها نورانية ما عدا حرف الباء فهو ظلماني، والمقصود بالحروف النورانية هي الحروف المقطّعة في فواتح السور، وهي أربعة عشر حرفاً أي نصف حروف الأبجدية، وكونُ عددها شطراً دلالةً على قوس الحقيّة وقوس الخلقية من الدائرة الوجودية، فالحروف النورانية هي الدّالة على قوس الحقيّة وعلى عالم الملكوت، والحروف الظلمانية دالة على قوس الخلقية وعلى عالم الملك والشهادة، فكان الباء ظلماني ليدلَّ على حجاب الحوادث والبشرية وحجاب الخلقية، كما حجبتْ بشرية الأنبياء والأولياء خصوصياتهم وحقائهم وبواطنهم وكما حجبَ الظهور البطون، فدلّتْ على الشريعة بظهور الخلق ووجودهم، وإن كانت البسملة دالّة على الحقيقة في الشريعة، لأنّ الباء هي باء الاستعانة بالله والاستمداد كما ذكرنا ولكنّها دالّة على الخلقية والنّفس، كما قال بعضُ العارفين "بسم الله الرحمن الرحيم" هي للعارف بمقام "كن" بالنسبة لله سبحانه، فهي هنا حقيقة، وكونُها تميّزتْ عن كلمة كن فهي حقيقة في شريعة، لذلك كان العارف يقول "بسم الله الرحمن الرحيم" والمحقّق المقرّب يقول "كن" كما قالها صلّى الله عليه وسلّم "كن أبا ذر"، لأنّه نائبٌ عن الله سبحانه متحقّق بالإسم الأعظم. والحمدُ للحقيقة لأنّ القائم بحق الحمد هو صاحب الحقيقة ولأنّ الحمد اختصّ بالبطون والظهور لُحُوقاً، فاستوفى البطونُ حقيقةَ الظهور، فاستوفى الحمدُ حقيقة البطون والظهور جمعاً وتفصيلاً.

فذكرَت السورة ابتداءً رئيس الفتية وسيّدهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا}، وهو المهدي عليه السلام، القائم بحقّ حمد الله على التحقيق، لأنّ الحمد اختصّ لله سبحانه وحده لا شريك له، فهو الحامد والمحمود والحمد، فنعته بالعبدية في مقام الذاتية قبل نزول الكتاب بسبق لفظة عبده لفظة الكتاب. والكتاب هو الإمام المبين الذي أحصى فيه الله كلّ شيء هناك في كنه العماء قبل أن يخلق الخلق، فكان هذا العبد متعلّق بالذات قبل نزول الكتاب عليه، فهو ذاتيّ محضٌ فحقّ لهذا العبد الذاتيّ أن تعود إليه الأعيان في العماء ويكونَ عينها وأن يكون الحامد والحمد والمحمود، كما قال صلّى الله عليه وسلّم "كان الله ولا شيء غيره" وتُكمَّلُ تحقيقاً "وهو الآن على ما عليه كان"، ثمّ تنزّل الحمد على عبده ونبيّه سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك بالتخصيص له أن جعله مظهر الجمع والفرق، مظهر الجمع ابتداءً بنزول الرّوح على قلبه، ومظهر الفرق تفصيلاً بالتجلّي الدائم عليه، فأنزل عليه القرآن جملةً، ثمّ فرقه عليه، فصار حامداً بالله جمعاً وتفصيلاً غير متناهٍ تبَعاً للتجليّاتِ المفاضة عليه، إذ لا نهاية لتجليّات الله سبحانه، لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، فلا نهاية لتجليّات الله سبحانه وعلمه. ثمّ تنزّل الحمدُ على الفتية المطهّرين أهل الكهف، أولياء الله تعالى. فكانوا مطهّرين نسبة لكهفيتهم وغربتهم ، وهو كهف العماء والحضرة الذاتية، ذكرهم الله تعالى في قوله : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( 78 ) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( 79 ) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 80 )} وهم أهل القرآن خاصة الله تعالى. فكان المهدي رئيسهم لأنّه خصّ عليهم بنزول الكتاب عليه، وخصّوا هم بالطّهارة لمسّ هذا الكتاب المكنون. فاشتركوا في نزول القرآن عليهم وكان سيّدهم وأكملهم وقدوتهم هو صاحب القرآن النبيّ المجتبى صلى الله عليه وسلّم، فجميعهم نسبتهم للرحمانية في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}، على خلاف المهدي عليه السلام فنسبته لله فهو صاحب الإسم الأعظم مُطَهَّرٌ تماماً عن الصّفات، وهم ذاتيون صفاتيون. فالمهدي ذاتيّ محض لا تعلّق له بالصّفات، تعلّق بالذات قبل نزول الكتاب عليه، بخلاف غيره من الذاتيين والمطهّرين هُمْ ذاتيون بمسّ الكتاب بعد نزوله ومطهّرون قبل نزول القرآن عليهم، فالمهدي سرّهم وحقيقتهم وذاتهم في التحقيق. لذلك كان المطهّر المحض الفرد الجامع لا نظير له ولا كفؤ. فحَمْدُ المطهّرين حمْدَ الأسماء والصّفات، وحمد المطهّر المهدي حمد الذات وسرّ الذات. فلولاهُ ما حمد الحامدون الله سبحانه. فبه حمد الحامدون، إذ هو الظاهر بالأعيان وعين هويّتها. كما لولا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما تعرّف الخلق على الله سبحانه. فافهم هذ الكلام فهذا تحقيق، رغم غربته وإنكاره.

إنّ علامة هؤلاء الفتية أنّهم مجذوبون لحضرة الله تعالى ابتداءً، لذلك خصّوا بنعت أصحاب الكهف، فهم أصحابُ الكهفِ ابتداءً، وحتّى انتهاءً عند مقام بقائهم بالله فهم الكهفيون مذهبُهم في التصريف مذهبُ الخضر عليه السلام، ما ظهرَ تصريفهم للنّاس، كما لم يظهر تصريفُ الخضر للنّاس، لأصحاب السفينة رغم أنّه أنقذهم، وقتل الغلام رغم أنّه كان سببا في تصريف الموت إليه، وبناء الجدار وستر كنز اليتيمين الى حين يبلغا رشدهما بتقدير محكم أحكمه الله سبحانه وعلِمَهُ الخضر علما لدنياً من الله.

فلمّا جذبوا لحضرة الله أنكروا أحوال النّاس وأنكر النَّاسُ أحوالهم، فما وسِعَهُم سوى الكهف ساتراً لأحوالهم، يتقّلبون ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوسيط، {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}. فَهُمُ الغرباء في هيئتهم عند الجذب، وهم الغرباء في أحوالهم وقلوبهم لم تسَعْهُم الدّنيا ولم يسَعُوها، لأنّهم مطهّرون مرادون مجذوبون قبل خلق الدّنيا، أصفياءٌ ، كما ذكرنا صحّ لهم مسّ الكتاب المكنون فهم مطهّرون بعد نزول الكتاب المكنون على العبد المحض المهدي وقبل نزول القرآن، لذلك خرجوا عن الأكوان. يتقلّبون في أطوار القبض والبسط، ذات اليمين وذات الشمال، ويسمّون المجاذيب العقلاء، يحسبهم النّاس عقلاء فلا تبدو عليهم علامات الجذب التي اشتهر بها المجاذيب الخارجون عن أطوارهم الذين يسمّيهم النَّاسُ الدراويش، ولكنّهم مجاذيب في حقيقتهم والنّاس لا يشعرون بهم وبجذبهم، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}، تحسبهم في حال الصّحو وهُم في سُكرٍ وجذبٍ تامّ، يتقلّبون بين الجمال والجلال، يتجلّونَ بالأضداد كما تجلّى الأصْلُ به، لأنّهم مرادون للخلافة والولاية الكبرى والتحقّق بالإسم الأعظم فهُم يُحاكُونَ أرواحهم المجذوبة عند الله سبحانه وتعالى. فافهم.


القهرُ سمْتُهم قبل الكمال والتحقّق والصّحو، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}، مجذوبون حتّى النّخاع مشاهدون لتوحيد الله سبحانه، والنّاس منكرةٌ عليهم، فيكادونَ يموتونَ قهراً وأسفاً من شدّة الإنكارِ عليهم، الآية تصفُ حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعلّك باخعٌ نفسك، لعلّك قاتل نفسك اسفاً عليهم،  وتصِفُ حال الفتية المطهّرين بالتبعية، وتصِفُ حالَ سيّد الفتيان ورئيسهم المهدي الذي يكادُ يموتُ أسفاً وقهراً من شدّة الإنكارِ عليه، إذ هو مشاهدٌ لحضرة التوحيد، وغيرُهُ يريدُ أن يشرك بالله شريكاً وندّاً، لذلك سبق الآية السّابقة قوله تعالى {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}، فهو باخعٌ نفسَه من شدّة إنكارِ حتّى ممّن يزعمون أنّهم خواصٌ، وهُم ليسوا بخواص فالخواصّ هم أهلُ الكهف الذين عاينوا هذا التوحيد وعرفوا الله سبحانه، فالمهديّ باخِعٌ نفسَه كيفَ غفلوا عن هذه الشمس الواضحة بالنّسبة إليه وبالنّسبة للحقيقة اللاّئحة بأعلامِها ودلائلها، كيف غفلوا وأشركوا وجعلوا لله ندّاً وولداً، كنايةً على الشراكةِ في الجمال والكمال والصّفات، ولا كامل ولا جميل وموجود تحقيقاً إلاّ الله تعالى، فالمهديّ سيّد الفتية بإطلاق، لأنّه مولِدُهُ بمكّة ونشأتُهُ فيها فلا يرى أحداً مع الله تعالى مطلقاً. فهو سيِّدُ الموحّدين، إذ أحوالُه كلّها جذبٌ كاملٌ لحضرة الله سبحانه.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا *هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. إنّهم فتية آمنوا بالله تعالى ودخلوا حضرة الجذب، فزدناهُم هدى وربطنا على قلوبهم، فصاحُوا ربُّنا ربُّ السمواتِ والأرض لن ندعو من دونه إلهاً ولن نجعل له شريكاً، وهؤلاء قومُنا اتخذوا الأنداد والشركاء مع الله فحُجِبُوا بغيره عنه وعن شهوده، إنّهم الموحدّون بالله سبحانه هؤلاء الفتيةُ، فلا يرونَ غيره، لذلك يظهرُ بعضُ الشَّطحِ في كلامهم، إذ هو شطحٌ عند غيرهم، بينما هم غارقون في عينِ التوحيد ما رأوا غير الله تعالى، ومن رأى الله تعالى لم يرَ نفسَهُ، فهو مفقودٌ. فيستغربون من غيرِهم إشراكَ الجمال والجلال والكمال مع الله تعالى ونسْبِ ذلك لغيره سبحانه. بينما يستغربُ غيرُهم حالهم وشطحَهم ودعاويهم التي يرونها دعاوي، فانظُرْ إلى هذا العجب العُجاب، وإلى غربتهم، {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} فلا عجبَ مع قدرة الله تعالى وآياته وحكمته، وهمُ العجبُ حقّاً، فحقّ لكَ أن تعجبَ من أمرِهم، غرباءٌ قد استنكرهم النَّاسُ، بينما هم عند الله الوجهاء والموحدّون والصّادقون والمرادون ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.

أمّا قوله تعالى {
أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}، فصاحبُ الرّقيم هو سيِّدُهم، هو صاحبُ الكتاب، المهدي الذي أنزِلَ عليه الكتاب فشاركهم في الكهفية، وما شاركوهُ في الرّقم والرّقيم، فهو المخصوصُ بنزولِ الكتاب عليه، أي أنّهم هم أهلُ الشهود والعيان المعايِنُونُ لرقيمِ الكهفِ والعماء، والمهدي هو صاحبُ الرّقيم وذاتُ ذواتِ المرقوماتِ وهي أعيانٌ في علم الله وعمائها، فهو صاحبُ الرّقيم. وهو صاحبُ الكهفِ. فافهم هذا العلم، وعند الله المزيد.

يتبع ..


الاثنين، 23 سبتمبر 2013

رسالة مختصرة إلى صديق متابع

 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا يليقُ بعظمته وجلاله لا نُحصي عليه ثناءً هو كما أثنى على نفسه  سبحانه، وصلّى الله على خير خلقه وصفوتهم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلّم كثيرا. أمّا بعد :

فهذه رسالة مختصرة إلى صديق متابع، كتبتُ بعض سطورها كتعليق، ثمّ أردتُ تعميمها هنا للفائدة :

أخي الكريم محمود ، هذه المقالات والكتابات هي خصوصيات وكماليات لا ضروريات، أمّا الطريق فهو الطريق الى الله سبحانه من طريق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. 
 المهدي مكتوم المقام حتى عند الصوفية لا يعرف مقامه إلّا الاكابر، واذا كان مقامه مكتوم فليس واجبا عليك الإيمانُ بما نكتبه. ولا حتى بالضرورة أن تقتنع به. ومن حقّك أن تنكرهُ إذا لم تقتنع به ولا لوم عليك ولا تثريب، لأنّها حقائق ذوقية وعلمية تقَعُ بعد معرفة الله سبحانه. ولو كانت من المعارف السّلوكية الضرورية لكتب فيها أهلُ الله تعالى، كما كتب العارف بالله ابن عطاء الله السكندري الحكم العطائية، فمثل تلك الحكم العطائية هي خلاصة الطريق وزادُ القوم ومعالم السّلوك، أمّا مقالاتنا فهي خصوصيات وكماليات فقط.
 ما خطّهُ - في مثل هذه الحقائق والأسرار الخاصّة بالمهدي - بعضُ الأكابر من الأقدمين إلاّ بإذنٍ من الحضرة العليّة لإظهار المرتبة لصاحبها إذا جاء وقتُه وزمانُه، فيعثُرَ على كنزه فيبلغَ يتِيمَا خلْقِه وحقِّه رُشدَهما ويُسقطاَ الجدار ويستخرجا كنزهما، وحينها يظهرُ العزّ صاحبُ الكنز، أي المهديّ. فهذه المقالات خاصّة جدّاً. لا بأس بقراءتها لفهم بعض المشاهد والأطوار، وزيادة بعض المعارف والتثقيف، ولكنّها ليست مقالات سلوكية ضرورية. 

فالله سبحانه تعبّدنا من طريق الشريعة ومحبّة الصالحين وأمرنا أن نتّقيه ونكون مع الصّادقين
قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة/119)، والصّادقون هنا هم أهل السّند الروحي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحقّقوا بمقام المشاهدة وركن الإحسان فلا يغيبُ عنهم ذكرُ الله سبحانه طرفة عين. لذلك فهم صادقون، يدلّون على الله تعالى ولا يدلّون على غيره.

أخي الكريم طريق الله واضح بسيط مختصر لا يمرّ من باب المعارف النظرية والفلسفات، ولكن يمرّ من باب الشيخ العارف الصادق. واحذر المشايخ الادعياء فَهُم كثير في زماننا، وخصوصا من يدخلون السياسة ويوالون الظلمة وينافسون أهل الدّنيا في دنياهم فهؤلاء قطّاع طرق وليسوا أهل دلالة على الله تعالى، فالمشايخ الصادقون يدلّون القاصد على الله تعالى من أقرب الطرق إليه. فإذا أردت أن تعرف الله سبحانه محبّة في الله سبحانه لا لغرض أو مصلحة أو معارف تناظر بها الناس، فعليك أوّلا أن تصحّح نيتك في طلب الله وحده، ثمّ تلزم الإستغفار الكثير وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتستخير الله سبحانه صادقاً أن يدلّك على من يُعينك في الوصول اليه ، وصولاً فيه الصّفاء والمحبوبية والصدق وزكاة النّفس وطهارة القلب بعيداً عن الأغراض والهوى والحظوظ الدونية وبعيداً عن مقاضاة النّاس ومحاكمتهم، فالمؤمن رحيم متغافل عن النّاس وأخطائهم متسامحٌ
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرَّاحمُونَ يَرحمُهُم الرَّحمنُ ارْحَموا مَنْ في الأرض يرحمْكُم من في السَّماءِ) .

فافهم ما ذكرته لك. واقصد اللبّ والخلاصة، وهي محبّة الله سبحانه. وبارك الله فيك وفي الجميع.


وأسألُ الله أن يُسهّل لك طريقا إليه خالصاً صافياً صادقاً ولجميع الأحباب والأصدقاء والمتابعين ويغفر لنا ذنوبنا ويطهّرنا من عيوبنا ويخلصنا له بالمحبّة والصدق. آمين.

وصلّى الله على خير الخلق وأشرفهم سيّد الأوّلين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين مولانا وسيّدنا محمّد النبيّ الأميّ الأمين وعلى آله وصحبه الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما في كلّ لمحة ونفَس بعدد كلّ معلوم لله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

الأحد، 22 سبتمبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 51


- 51 -
قال الشيخ الأكبر قدس الله سره في (فصل نكتة الشرف في غرف من فوقها غرف)
في كتاب : ( عنقاء مغرب في معرفة ختم الاولياء و شمس المغرب

فمن شرَفِ النبيِّ على الوجودِ ... ختامُ الأولياءِ من العقود
من البيت الرَّفيع وساكنيه ... من الجنس المعظَّم في الوجودِ
وتبيينُ الحقائقِ في ذراها ... وفضلُ الله فيه من الشهودِ
لو أنّ البيت يبقى دون ختم ...ٍ لجاءَ اللصُّ يفتكُ بالوليدِ
فحقِّق يا أخي نظراً إلى من ... حمى بيتَ الولاية ِ من بعيدِ
فلولا ما تكوَّنَ من أبينا ... لما أمِرَتْ ملائكة ُ السجودِ
فذاك الأقدسيُّ إمام نفسي ... يُسمّى وهو حيٌّ بالشهيد
وحيدُ الوقتِ ليس له نظيرٌ ... فريدُ الذاتِ من بيتِ فريدِ
لقدْ أبصرتهُ ختماً كريماً ... بمشهدِه على رغمِ الحَسُودِ
كما أبصرت شمسَ البيتِ منه ... مكانَ الخلقِ من حبلِ الوريد
لو أنّ النورَ يشرقُ من سناهُ ... على الجسمِ المُغيّبِ في اللُّحُودِ
لأصبح عالماً حيّاً كليماً ... طليقَ الوجهِ يَرْفُلُ في البُرودِ
فمن فهم الإشارة فليَصُنْها ... وإلا سوفَ يلحقُ بالصَّعِيدِ
فنورُ الحقِّ ليس به خفاءٌ ... على الأفلاكِ من سَعْد السُّعودِ
رأيتُ الأمرَ ليسَ بهِ توانٍ ... سواءٌ في هبوطٍ أو صعودِ
نطقتُ به وعنه وليس إلاّ ... وإنّ الأمر فيه على المزيدِ
وكوني في الوجودِ بلا مكانٍ ... دليلٌ أنّني ثوبُ الشهيدِ
فما وسعَ الوجودُ جَلال ربِّي ... ولكنْ كانَ في قلبِ العبيدِ
أردتُ تكتُّماً لما تجارى ... إليه النُّكْرُ من بيضٍ وَسُودِ
وهلْ يُخشى الذئابَ عليهِ من قدْ ... مشى في القفرِ في خَفْرِ الأُسُودِ
وخاطبتُ النّفيسة َ من وجودي ... على الكشفِ المُحقَّقِ والوجودِ
أبَعْدَ الكشفِ عنهُ لكلِّ عينٍ ... جحدتُ وكيفَ ينفعني جحودي
فردّتْ في الجواب عليَّ صدقاً ... تضرّعَْ للمهيمنِ والشهيدِ
وسَلْه الحفظَ ما دامَ التلقِّي ... وسَلْه العيشَ للزَّمنِ السَّعيد
سألتكَ يا عليمَ السرِّ منِّي ... عصاما في المودَّة ِ بالودودِ
وأنْ تُبقي عليَّ رداءَ جسمي ... بكعبتِكم إلى يومِ الصُّعودِ
وأن تخفي مكاني في مكاني ... كما أخفيت بأسَكَ في الحديدِ
وتستر ما بدا مني اضطراراً ... كستركَ نورَ ذاتكَ في العبيدِ
وأنْ تبدي عليَّ شهودَ عجزي ... بتوفيتي مواثيقَ العهودِ

فهذه قصيدةٌ عصماءٌ في الختم المعظّم ، كما هي قصائدُ الشيخ الأكبر في هذا الختمِ عصماءٌ خرائدٌ.

فافتتحَها بذكر شرفِ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي فاق شرَفِ الخلق أجمعين بنسبةِ الختمِ الذي كان من ذريّته وأمّته.

فمن شرَفِ النبيِّ على الوجودِ ... ختامُ الأولياءِ من العقود

وذلك دليلٌ أنّ هذا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد حَبَاهُ الله بأعظمِ الفضل وأكمله وجاد عليه بآخر الجود وأكبره، فلمّا كان الرّسول باب الوصول إلى الله تعالى {قل إن كنتم تحبُّون الله فاتَّبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران:31]. وحجابه الأوحد {الرّحمن علّم القرآن} الرحمن. إذ لا يُعرَفُ الله إلاّ بأسمائه وصفاته ومظهرُ أسمائه وصفاته وخاتمها هو خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، فكذلك جعلَ الله هذا الختم : ختم الولاية والأحمدية يخرجُ من ذريّة هذا النبيّ صلى الله عليه وسلّم ومن أمّته كما كان هذا النبيّ طريقاً في الشريعة والحقائق إلى الوصول لحقيقة الولاية ومعرفة الله سبحانه. فانظُرْ لهذا التناسب والتوافق المكتوم، بين الحقائق كونِ النبيّ واسطة العرفان إلى الله تعالى وكونِهِ جدّ الختمِ في النّسبة الإنسانية والعُنصرية الطينية، لذلك كان عنوانُ الفصل والقصيدة : "نكتة الشرف في غرف من فوقها غرف" ، كأنّهُ شرفٌ فوق شرف كالغرف التي فوق بعضها بعض، فالختمُ اصطفاه الله في النِّسبة الطينية من صفوة الخلق وخير البريّة كما اصطفى الله النبيّ من ذريّة آدم عليه السلام، فكأنّ شرفَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تعلّقَ من جهتيه بشرف هذا الختمِ، فظهور الأحمدية والذاتية والولاية الكبرى بظهور نبيّ الأنبياء وصفيّ الأصفياء أحمد زاوجَهُ ووازاهُ هذا الظهور والاصطفاء للختمِ من ذريّته صلى الله عليه وسلّم ومن أمّته والحُكم بشريعته. فاسمُ الرحمن جامع بين الصّفات والذات لذلك صحّ لهُ أن يكون الواسطة لمعرفة الذات أي لمعرفة الله سبحانه، فالنبيّ حازَ الأحمدية بوجهها الكامل كما كان صاحبَ المحمديّة التي هي الوجهة للخلق والصّفات، أي حاز التحقّق بالإسم الأعظم الله، وحاز الذاتية كأتمّ ما تكونُ الأحمدية من جهة الخلقِ لا من جهة الهويّة الغير المدركة وكنه الذات الغيبيّ، فالنبيّ صلى الله عليه وسلم باءٌ وبطونُه ألفٌ، وعلامة هذه الأحمدية الكبرى هي المقام المحمود والوسيلة التي بها كان شفيعاً للخلق في يوم القيامة والشفاعة، فكان باب الولاية والأحمدية والخلافة الكبرى إلى يوم الساعة والقيامة فيظهرُ الخاتمُ الوليّ أحمد ختم الأختام السيّد الصّمد المطهّر عن الأكوان من ذريّته ومن أمّته، فما صحّ ظهورُ هذا الختم إلاّ بوقوع علامات الساعة والقيامة الكبرى فتلك علامة طهارته عن الأكوان والصّفات. وعلامةٌ ودليلٌ أنّ هذا الختم يظهرُ بالبُطون في عالم الظهور، لأنّ ظهوره واقعٌ ومقرونٌ بالساعة والقيامة، فما كان سوى أحمد خالص، عين الحقّ سبحانه وعين الذات في مظهر الإنسان،
قال الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل: ((.. فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه، وإليه الإشارة في قوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} يعني الصالحين للوراثة الإلهية..)) انتهى.  فلمّا كان هذا الختم حقيقة البطون وصاحب الذات والوليّ المحض وأحمد بالأصالة صاحب الإسم الأعظم "الله" القائم بحقّ حمد الله تعالى الذي أعطى كلّ رتبة حقيقتها ووفّاها مرتبتها لأنّه عينُ الظاهرُ بالخلق، وهذا هو معنى القائم بحقّ حمد الله تعالى، فهو عين التجليّات وعين الصفات المتعيّنة من بطونِها الى الظهور. فصحّ للنبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم الشرف الأكبر بنسبة هذا الخاتم إليه نسباً وأمَّةً وتبعيَّةً في الحكم بشرعه، قال الله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} الأحزاب: 33. فغاية التطهير هو هذا الختم العليّ المطهَّرُ عن الأكوانِ تحقيقاً بطوناً وظهوراً، فحتّى في ظهوره ما ظهرَ إلاّ بعلامات الساعة ويوم القيامة الكبرى ليدلّ لكلّ ذي لبٍّ ونُهى أنّه المطهَّرُ عن الأكوانِ صاحبُ لواء الأحمدية والولاية وخاتمُ الدّنيا والآخرة وسيّدهما وإمامهما.

قال صلّى الله عليه وسلّم : "أبشِري يافاطمةُ ، المهديُّ مِن ولَدِكِ." (أبونعيم ، وابن عساكر). فجعل بشارتها في كونِ المهديّ منها تشريفاً لها به، وكذلك هنا جاءت صياغة الشيخ الأكبر في البيتِ الأوّل على هذا المنوال تشريف النبيّ وقع بهذا الختم الوليّ، أن يكونَ من نسبه ومن أمّته، فذلك فيه ما فيه من الشرف والفضل والاختصاص العظيم لهذا النبيّ العظيم صلّى الله عليه وسلّم. وإنّما يُعرفُ هذا الفضل والشرف والاختصاص بمعرفة هذا الوليّ الختم على التحقيق كما ذكرنا.

من البيت الرَّفيع وساكنيه ... من الجنس المعظَّم في الوجودِ
وتبيينُ الحقائقِ في ذراها ... وفضلُ الله فيه من الشهودِ


فهذا الختم الوليّ من البيت الرّفيع وساكنيه، ويقصدُ بيت الولاية والرّوح والأحمدية، ومقام الحضرة العليّة، من الجنس المعظّم في الوجود عَوْداً على البيت الرّفيع فهو من أهل الحضرة بل هو الرّوح وصاحب الحضرة، هو الرّوح الأعظم. هو ذرى الحقائق وأعلاها وأسناها، فذلك فضلُ الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم.

لو أنّ البيت يبقى دون ختمٍ ... لجاءَ اللصُّ يفتكُ بالوليدِ
فحقِّق يا أخي نظراً إلى من ... حمى بيتَ الولاية ِ من بعيدِ
فلولا ما تكوَّنَ من أبينا ... لما أمِرَتْ ملائكة ُ السجودِ


فحقّق أيّها الوليُّ والعارف والمؤمن وانظُرْ من حمى بيت الولاية من بعيدٍ، مع أنّها مرتبةٌ تداولَها وتناوبها الجنسُ الإنسانيّ، وحازوا بها أعظمَ المقامات وظهروا فيها بالألف الذاتيّ، وبمقامِ التّصريف ومقامِ الإنسان الكامل الذي اختصر العالم والوجود فيه، فمن صاحبُ هذا المقام بالأصالة التي ظهرَ به الأنبياء والأولياء الأفراد والأقطاب على مدى الزمن ؟ فلو لا وجودُ صاحبِ هذه المرتبة وختمها لادّعاها من شاء لنفسه أو لاختلف عليها المختلفون، أي هذه المرتبة التصريفية الولائية والأحمدية مرتبة الإسم الأعظم التي تحقَّقُ بها المتحقّقون؟

ولجاءَ اللّصُّ يفتكُ بالوليدِ واللّصُّ هنا هو الدجَّالُ وظهيرهُ إبليس، فلو أنّ المرتبة وقفَتْ على الصّفات فقط بلا صاحبها الذاتيّ، هذا العنقاءُ الأسطوريّ بين العدم والوجود، هذا المقام المكتوم الذي هو فوق العقول وظاهر النّقول لسرقها اللّصُّ : الدجَّالُ الذي هو من جنس الصّفات والخلق، فهذا البيت الرّفيع لهُ ختمُه الذي ملَكَهُ وإليه يعودُ بالذات، الذي لا تُجانسُهُ الصّفات، بل هو محضُ ذاتٍ، لذلك خابَ سعيُ اللّصِّ : الدجّال وظهيره إبليس فسقطا بكيد الخليفة ومكره إذ كانَ ذاتياً فتلوّنََ بالأضدادِ ورجعتْ حقائقهما إليه، فهما من تجليّاتِ ذاته وحقائقِ ظهورِ آثار أسمائه وصفاته، فلا موجودَ غيرهُ، ولا انفصالَ بين ذاتِه وصفاته. فظهرَ صاحبُ هذه المرتبة الختم وصاحبُ الذات الذي ارتفع عن الصّفاتِ والتلوُّناتِ مُطلقاً، أي أنّ الصّفات لا قيامَ لها من دونِه فهي عدمٌ بذاتيته لذلك عادتْ إليه الصِّفاتُ، إذ هو وليٌّ وذاتيٌّ في كلّ تلوُّنٍ وتجلٍّ ومظهرٍ يظهرُ به، فافهم.

ولولا ما تكوّن من أبينا آدم عليه السلام ونفخة الرّوح فيه لما سجدت له ملائكة السّجود، وإنّما سجدت لهذا الرّوح الأعظم المطهّر، للحقّ سبحانه. وكان نائباً بالظهورِ في ذاك الوقتِ آدم عليه السلام.

فذاك الأقدسيُّ إمامُ نفسي ... يُسمَّى وهو حيٌّ بالشهيد
وحيدُ الوقتِ ليس له نظيرٌ ... فريدُ الذاتِ من بيتِ فريدِ
لقدْ أبصرتهُ ختماً كريماً ... بمشهدِه على رغمِ الحَسُودِ
كما أبصرت شمسَ البيتِ منه ... مكانَ الخلقِ من حبلِ الوريد

فذاك الأقدسيّ، الرّوح الأعظم الخليفة الختم إمامُ نفسي وحقيقتُها فهو الحيّ الذي يحيى به كلّ شيءٍ وهو الشهيدُ على كلّ شيءٍ لا يفوتُهُ أمرٌ، فكلّ صغيرة وكبيرة لا تقومُ إلاّ به بحياته وقيّوميّته وبعلمه. فهو الحيّ القيّوم العليم.

وحيدُ الوقتِ ليس له نظيرٌ ... فريدُ الذاتِ من بيتِ فريدِ

وحيدُ الوقتِ والشانِ فريد الذات لا نظير له ولا كفؤ ولا شبيه ولا مثيل ، تعالى الله عمّا يشركون.

كما أبصرتُ شمسَ البيتِ منه ... مكانَ الخلقِ من حبلِ الوريد

لقد أبصرتُهُ ختماً كريماً بمشهده في منزلته وفي عظمته برغم الحسدة والمعترضين على كثرتِهم جهلاً وإنكاراً، وعلى رغمِ أنفِ الحسودِ الذي أبى أن يقبلَ أن يكونَ هذا الختمُ ختماً لهذا المقامِ وصاحباً لهذا الأمر ومليكه. أبصرتُهُ ختماً في صمديّته كما أبصرتُ شمس البيت منه أي الختم في جذبه وكتمه وهو في نشأتِهِ العنصرية والطيّنية، فسمَّاهُ شمس البيتِ، أي قبل أن يخرج وينسلخ عن مظاهر بشريّته وعنصريته وطينيته فهو من أهل البيتِ نسباً، أبصرتُه وهو في جذبه وعنصريته وكتمه مكان الخلق من حبل الوريد، أي تلوّنات المجذوب والمكتوم قبل بيعته وظهوره، كانت معبِّرةً عن الخلق وتلوّناتهم، لذلك وقعَ الإنكارُ على هذا الختم المكتوم المجذوب، لأنّه كان عاكساً لحقائق الخلق وتلوّناتهم فتجلّى بالأضداد، بين علوّ وسُفلٍ، وعلمٍ وجهلٍ ، وجمالٍ وجلالٍ، فاستعصى على الأدعياء والقاصرين أن يعلموا ذلك من هذا الختم المجذوب الذي يتقلَّبُ وهو في مقامِ شمس المغرب وشمسِ البيتِ بحقائق الخلق على اختلافهم كما تلوّن الذاتُ السَّاذجُ وتجلّى بالخلق. فافهم. وهو إشارةٌ إلى قوله تعالى {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ۖ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}.سورة ق /16. فلفتَ انتباهِكَ أنّ الحقّ سبحانه أقربُ إليك من حبل الوريد، فإذا عرفتَ نفسك عرفتهُ وزال عنك حجابُ الجهل والظلمة النّفسية، وذلك دليلٌ أنّ الخلقَ تحليّاتِ الحقّ سبحانه، وما في الوجود سواهُ، وأنّه الظاهر والباطن، والأوَّلُ والآخر، فلزمَ أن يكونَ لهذا الظهورِ ختمُهُ الذي جمعَ البطون والظهور. فكان هو صاحب شمس البيتِ في كتمه وعنصريته، وهو الختمُ في ظهوره وحكمه.

لو أنّ النورَ يشرقُ من سناهُ ... على الجسمِ المُغيّبِ في اللُّحُودِ
لأصبح عالماً حيّاً كليماً ... طليقَ الوجهِ يَرْفُلُ في البُرودِ
فمن فهم الإشارة فليَصُنْها ... وإلا سوفَ يلحقُ بالصَّعِيدِ


ثمّ يُضيفُ تبييناً لو أنّ نور هذا الختمِ يُشرِقُ من سناهُ على الجسم الذي تناثر وانحلّ في اللّحود وصارَ أثراً بعد عينٍ، لو يشرقُ عليه نور هذا الختم لأصبح حيّاً عالما كليماً طليق الوجه يرفُلُ في بروده وسعوده بنزولِ الرّوح عليه، على قلبه. فليس نور هذا الختم سوى نور الله سبحانه، مُحيي الموتى مؤيِّدُ العباد.

فمن فهم الإشارة فليَصُنْها ... وإلا سوفَ يلحقُ بالصَّعِيدِ
فمن فهِمَ الإشارة فليَصُنها وإلاّ سوف يلحق بالصّعيد أو يُسلبَ بعد الإفصاحِ عنها، وهي هذا العلمُ بمقامِ هذا الختمِ المُعظّم المكتوم المحسود. وكذا إشارةً إلى نكتةِ الموتِ والحياة. والله أعلم.

يتبع ...

الخميس، 19 سبتمبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 50



- 50 -

فقلنا : لو لم يبق من الدّهر إلاّ يومٌ لبعث الله هذا الخليفة الختم، ولو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم لطوّلََ الله ذلك اليوم حتّى يخرج هذا الرّجل المهدي الذي هو سرّ الأنبياء عليهم السلام، فإنّ من أسماء كتاب "عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس مغرب" التي ذكرها الشيخ الأكبر أنّ الحضرة وسمتها له، إسم : (سدرة المنتهى وسر الأنبياء في معرفة الخليفة وختم الأولياء) ، فإنّ هذا الرجل الخاتم هو سرّ الأنبياء وسدرة منتهى السّائرين إلى الله تعالى وحقيقة الحقائق حقيقة كلّ شيء، فلو لم يبق من الدّنيا إلاّ يوم لطوّل الله هذا اليوم حتى يخرج هذا الرجل لتعودَ المراتبُ إلى سيّدِها وصاحبها، ففي عالمِ الحقائق برزتِ الدّنيا لتظهرَ آثار الأسماء فيها بمراتبِها، فيتجلّى بطونُ حقائق الأسماء بظهورِ آثارِها في الأكوانِ والأرضِ. فلمّا كانَ ختامُ النبوّة ظهور إسم الرّحمن وهو الإسم الثانيّ في الرّتبة من حيث الحقائق، وهو تمامُ حقائق الأكوان والخلقية، وهو الواسطة إلى الذات وإلى الإسم الأعظم "الله"، وهو الحجاب الذي حجبَ الذات عن غيرِ أهلها ، كما حجَبَ حرفُ الباء حرفَ الألف، فكان الباءُ ظلَّ الألف في الشّكل، فالباء ألفٌ أفقيّ تحته نقطة (ـ)، كأنّه ظلّ له، بل هو ظلّ لهُ في الشّكل وكذا في الحقائق، والنّقطة تحت الباء هي نقطة الاستمداد ونقطة الإطلاق، هي نقطة الكنزية والعماء، لأنّ حرف الباء هو حرف الصّفة ورمز الرّحمانية وهو دالٌّ على سيّد الخلق صلوات الله عليه وسلامه، فلو تأمّلنا الحروف والكلمات فإنّنا نجدُها عند تجريدها حرف ألف ممتدّ تعرّج وتشكّلَ كيفما شاء فسطّر الحروف والكلمات، والباءُ ظلُّ الألف، فكانت الحروف والكلمات أيضاً مُشكّلة من باء ممتدّ متعرّج فتشكَّلتِ الحروف والكلمات، فالباء شابهَ الألف وكان له ظلّاً، فالباء دالٌّ على البشرية الظاهرة، وعلى الخلقية في الإنسان، وعلى خلقية الأكوانِ، وعلى مظهرِ الحوادثِ، والألف الباطنُ فيه (أي في الباء) دالٌّ على خصوصيته (أي خصوصية الباء وخصوصية الإنسان وعلى بُطونِ تجليّاتِ الْمُكوّن في الأكوانِ)، فالإنسان برزخٌ كما ذكرنا بين البشرية والخصوصية، بين العبدية والربوبية، بين الخلقية والحقيّة، وباكتمال خصوصية الباء يُصبحُ في مقامِ الاستمداد من النقطة المطلقة، الدالّة على الكنزية والعماء، لذلك كان الباءُ مميّزاً بتلك النّقطة تحته، كما هي أي النّقطة علامة على كونِ الباء محلّ الصفات لا الذات فتميَّزتِ النّقطة تحته بانفصالٍ شكليٍّ مُعَبِّرٍ عن انفصالٍ اعتباريّ ولا انفصالَ في الحقيقة، كما أنّ تحتية النّقطة إشارة إلى تحتية الماء، كما قال سبحانه (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) هود/7 .
فالماء هو ماء الجبروت وماء الغيب، وماء الكنزية كما هي الأحدية الذاتية لا صفة ولا إسم ولا نعت فيها ولا غيرية، كما الماء تشبيهاً لا لونَ له ولا رائحة ولا طعم، واللهُ ضربَ لنا الأمثالَ في كلّ شيءٍ سبحانه لنعلَمَ ونتعلّمََ فحيّرََ وكلّما زادَ العلمُ زادتِ الحيرةُ، فكانَ العرشُ عرشُ المخلوقات يستمدُّ أمدادهُ من الماء الذي تحته، ماء الإطلاق، وكانتِ الباءُ تستمدُّ أمدادها وخصوصيتها من نقطة الإطلاق، حيثُ ما تجلّى منها من تجليَّاتٍ وخلقٍ إلاّ وزادهاَ أي النّقطة زادها ذلك عماءً وكنزيةً وخفاءً، فالنّقطةُ كما سبقَ أن ذكرنا لا نهاية لها ولا حدّ لما في بطونِها، فما من حروفٍ وكلماتٍ وسطورٍ تناثرتْ منها وبرزتْ من جبّتها إلاّ وهي كقطرة من بحرٍ، أو كما قال سيدنا الخضر عليه السلام لسيّدنا موسى عليهما السلام "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر"، عندما نقرَ العصفور نقرة بمنقاره في البحر، أي أنّه ما نقص من علمِ الله وبحرِ معلوماته شيئاً، على سعة علم الخضر عليه السلام الرّجل الذي خصّه الله بعلم اللّدنيات وبحر الحقيقة وسعة علم موسى عليه السلام رسول من أولي العزم من أعلم عباد الله بالشرائع.

فحجبَ الباءُ الألف، فتأمّل فأنتَ جازَ لكَ أن تقولَ أنّ عينَ الكلمات والحروف هي باءٌ امتدّت وتعرّجتْ فأعطتْ تلك الحروف، كما جازَ لكَ أن تقولَ أنّ الكلمات والحروف هي ألِفٌ ممتدٌ ومتعرِّجٌ، ومردُّ الباء والألف إلى نقطة، فجميعُ الحروف والكلمات مردّها إلى نقطة، فهي نقاطٌ مترادفة متتالية، ومن هنا تفهمُ سرّ خصوصية هذين الحرفين المتقدّمين في الرتبة، حرف الألف الرّتبة الأولى وحرف الباء الرّتبة الثانية بعد الألف، وهما يرمزانِ لنفس المادّة التي تشكّلتْ منها الحروف والكلمات، فتأمّل، فتقولُ ألفٌ أو تقولُ باءٌ وهي ظلُّ الألف، نفس المثال ينطبِقُ على الحقيقة المحمديّة المسمّاة بالرّوح الأعظم، فهي من حيثُ وجهتها الظاهرة للخلق وفي مثالنا وجهتها للحروف والكلمات ومن حيث كونِها ظلّاً ومادةً للتعَيُّنِ ومن حيث كونِها دالّة على الصّفات والأكوانِ هي باءٌ وهي المسمّاة محمّد صلى الله عليه وسلّم، فافهم، وهي نفسها من حيث وجهتها للحقّ سبحانه وبطونِها ودلالتِها على النُّقطةِ بُطوناً وكونِها ذاتُ المادّة (المادّة التي تشكّلت بها الحروف والكلمات) أي دالّة على الذات بذاتِها وبُطونِها هي ألفٌ وهي المسمّاة أحمد والخليفة وهو عينُ الحقّ سبحانه وتعالى، فتأمّل هذا المثال العظيم وهذا التوضيح فإنّه نفيسٌ للغاية، والألف هو الخليفة وهو عين الحقّ سبحانه هو الرّوح الأعظم وهو مادّة الخلق بذاتِها، لأنّ بطونَ الخلق هو الحقّ سبحانه، فافهم فإنّه لا موجودَ سواهُ سبحانه، وإنّما هي مراتبٌ واعتباراتٌ وإضافاتٌ فقط.

وهذا المثال لو فهمتَهُ فهمتَ، قول الله في الحديث القدسيّ «كنتُ كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق وعرفتهم بي فبي عرفوني». فإنَّ الألفَ في المثال برجوعِ الحروف والكلماتِ إلى الألف معبّرٌ عن الكنزية والعماء، مُعبِّرٌ عن بطونِ النّقطة، فتخيّل ذلك، فباعتبار الألف لا وجودَ للخلقِ هناك، فالحروف والكلمات هي عينُ الذات في كنزيتِها، أي أنّها لم تتعيّن بعدُ، أي هي موجودةٌ بأعيانِها في علمِ الله تعالى القديم، ولكنّها لم تبرُز إلى الوجود والخلق بعدُ، فهي في بطونِ النّقطة المطلقة، وعماء الكنزية، كما هو الحبرُ والمدادُ في الدّواة قبل أن يبرزَ حروفا وكلماتٍ وسطوراً في الورق والقرطاس، ولكنَّهُ عند الله تعالى معلومٌ قبل ظهوره وبروزه فعلمُ الله لا يتغيّر ولا يُنسبُ الله إلى جهلٍ، فإذا برزَ إلى الخلقية بكلمة كن وتعيّنََ انقلَبَتِ الألِفُ باءً، فما برزَ من غيبِ النّقطة وعمائها، وما خرج من دواة الحبرِ، إلى الوجود والتعيّن صارَ الباءُ هو الواسطةُ وهو الحجابُ، وصارتِ الحروف والكلماتُ متشكّلاتُ في الأكوانِ في عالم الظُّهور بواسطة حرف الباء، لأنّنا نتكلّمُ عن عالم الأكوانِ والتقييدِ والزمان والمكانِ، عن عالم الصّفات حيثُ برزتِ الاعتبارات والإضافاتُ وظهرتِ النِّسبُ من عمائها وتوزَّعتِ الأدوارُ والدَّلالاتُ في عالم الصّفات والتعيّن، فما أصبحت الحروف والكلمات ألفاً في ظاهرها وفي تقييدها، لأنّ الألف دالٌّ على الذاتِ ودالٌّ على الإطلاق والكنزية والعماء، فهو عينُ النّقطة المجملة لتفاصيله ومادّته الذاتية، كما الدّواة جامعةٌ لحبر ومداد الحروف والكلمات، فإذا فهمتَ هذا الذي شرحناهُ، فهمتَ وجهَيْ الحقيقة المحمديّة، بين دلالتها على الصّفاتِ والأكوانِ فهي خاتم الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم محمّد، ودلالتِها على الذاتِ فهي الرّوح الأعظم الخليفة والحقّ سبحانه أحمد، ففي عالمِ التقييد والخلق هي محمّد وفي عالم الإطلاق والعماء هي أحمد، فهي باءٌ في عالمِ الخلق والحدوث، وهي ألِف في عالم الحقّ والقِدَم، لذلك كانَ سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم حائزاً على كلّ الكمال الصّفاتيّ المتجلّي من عينِ الذات ومن العماء، لأنّه مُتَرجِمٌ للعماء والذات في عالم الأكوانِ والصّفاتِ، ولكنَّهُ من جنسِ عالم الصّفات والتقييد والخلق، لهُ من الكمالات ما برزَ من كنهِ النّقطة، فافهم، وهو أكملُ الخلق وسيّدهم وجميع ما في الخلق مجموعٌ فيه ومتفرّقٌ فيهم، فهو حرف الباء وهو خليفة اسم الرّحمن ذو الرّتبة الثانية الواسطة بين الذات والصّفات، بطونُه الذات وظاهرهُ الصّفات، بطونُهُ الألف وظاهرهُ الباء، بخلافِ الخليفة فهو صاحبُ العماء والكنزية والإطلاق، هو صاحبُ النّقطة، هو عينُ النّقطة المطلقة بإطلاقِها، هو الألِفُ في غيبِ النّقطة وإطلاقِها، فافهم هذا المثال العظيم والشرح الوافي الجليل الذي لا تجدُ مثله بهذا البسطِ والتوضيح، في شرحِ أنموذجٍ التوحيد، وأسرار الحقائق.

ولو سألتَ لماذا نُسِبَت الحروف والكلمات في عالم التقييد والأكوانِ والتعيّنِ إلى حرف الباء، ولم تُنسب إلى أصلِها وهو الألِف ؟ فالجوابُ في الحديث القدسيّ الساّبق : «كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أُعرف فخلقت الخلق وعرفتهم بي فبي عرفوني»، فلولا أن خلق الله نسبةً بينه وبين الخلق لما ظهرتِ النِّسبُ والتغايرُ والإضافات أصلاً، فافهم. فكانتِ الباءُ هي منصَّةُ التعرّف على الألف، وواسطةُ الدّخول على الكنزية والسَّبيلُ إلى معرفة الله سبحانه، فقال سبحانه "فبي عرفوني"، فما كانتِ الواسطةُ سواهُ سبحانه ولكن بنسبةٍ أخرى مختلفة، بها برزَ عالمُ الحدوث وتميّزَ عن القدم، فكان صلّى الله عليه وسلّم هو هذه الواسطة فافهم، لذلك قال سبحانه في الحديث القدسيّ "لولاك يا محمّد ما خلقتُ الأفلاك"، فبي عرفوني، أي باسمي الرّحمنِ عرفوني، فافهم. وكان خليفة اسم الرّحمن وبرزخ الرّحمة هو الحبيب المصطفى خير الخلق وسيّد ولد آدم صلّى الله عليه وسلّم، ترجمانُ لسانِ القدم وحجابُ الذات ومظهرُ الأسماء والصّفات، فقال سبحانه {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}الأنبياء/107،
ومن وقفَ على كلمة "فبي" وجدَ حسابها في حسابِ الجمل أبجد نفس حساب "محمد" مساويةً 92. "فبي" عرفوني أي باسمي الرحمن عرفوني. فظهرتِ الأسماءُ مبرزاتِ لآثارِها في عالم الكثرةِ ومترجماتِ لحقائقها وأسرارِها في عالم الوحدة.

لذلك كانت رحلة الإنسان هي رحلة المعرفة والشهود، أنّ الكون جميعه يعودُ لخالقه سبحانه، وأنّ الواسطة والحجاب للدخول على الحقّ سبحانه هو حبيبه ومصطفاه ورسوله إلى العالمين سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، وأنّ الإنسان خلقه الله على صورته، فالباء مخلوقٌ على صورة الألِف، والألف هو عينُ النّقطة، فكان خليفتها في عالم الصّفات والظهور والحدوث، فهو حرفٌ فافهم، حرفٌ جازَ لهُ الظّهور في عالمِ الحروف والكلمات، ولكنّ محلّه ليس محلّ الحروف كما وضّحنا لك، لأنّه مادّة الحروف والكلمات وأصلُها وذاتُها، وهو معبّرٌ عن كنزية النّقطة وعمائها لأنّه مادة العماء والكنزية، هو ذاتُ المادة الكنزية، فرجعت إليه الأعيانُ في كنزيتها لأنّه ذاتُها وعينها، فافهم، وهذا يشرحُ لك الحديث النبويّ الشريف : عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ قَالَ : ( كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ) رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ وأحمد. أي أنّ الألِفَ لم يكن لهُ حكمُ النِّسبِ من العُلُوِّ والسُّفلِ في العماء، وهو جامعٌ لكلّ ما يتجلّى من العماء الى الوجود والأكوان، فنسبةُ العلوّ إليه هي ذاتها نسبة السّفل في العماء، فلا نسب هنا ولا غيرية فما ثمّ إلاّ هو سبحانه، وإنّما تجلَّتِ النّسب والأحكامُ والإضافاتُ الدّلالاتُ في عالم الحوادثِ والأكوان. من أجلِ هذا تفهمُ فهماً لماذا كان الصّفاتيون لا يُشاهدونَ إلاّ حرفَ الباء ظاهراً في الحروف والكلمات، وحُجِبَ عنهم الألِفُ، ونحنُ هنا نريدُ بالباء صاحب الصّفات خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم، فهم ما رأوا الأكوان والحوادث إلاّ في صاحبِها الذي ظهرَ بها فغابَ عنهم أن يروا غيرَهُ لأنّهم لم يخرجوا عن الأكوانِ ولم يدخلوا العماء فيتعرّفوا على الألِف الذي هو بطونُ الباء، فافهم. في المثال مرجعُ الكلمات والحروف واضح، ومرجعها للباء وضّحناهُ لك، ولكن في عالم الحقائق الألِفُ غير ظاهرٍ إلاّ لمن نفذ إلى بطونِ الباء، وخرجَ عن الأكوان، فرأى إطلاق الألف وعلم الألف وتعرّفَ أنّ هناك حرف ألف موجود، وهو المُعبِّرُ عن غاية القربِ، وغاية التحقّق، وهو حقيقةُ الباءِ وبُطونُهُ، فَيُسلِّمُ بذلك شهوداً وعياناً وذوقاً، أمّا إذا لم يخرج من الأكوانِ ولم تكن له قابلية للخروج منها فأنّى له أن يُدرك ذلك ؟ كلاّ وربّ الكعبة لن يُدرك.

 والألفُ بذاته أصالةً هو الخليفة المهدي، وبالنيّابة هو سائرُ الخلفاء الكمّل من أفراد بني آدم، فآدم استوجبَ السّجود لأنّه ظهرَ بصورة الألف نيابةً وخلافةً عن الألِف الأصليّ الذي هو الخليفة، فسجدت له الملائكة، قال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". وأمّا علمُ الأسماء فذاك مبحثٌ آخر، يجعلنا نفهمُ حقيقة الخلافة الإلهية التي مجالُها الأسماء.
وقد وضعتُ لك في هذا المثال أنموذج التوحيد، ومراتب الإسمين الذين انبنت عليهما الدّنيا والآخرة، وانبنت عليهما الشهادتان : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله. صلوات الله وسلامه على خير خلقه وصفوتهم حجابه والواسطة العظمى إليه.

يتبع ..

الأحد، 15 سبتمبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 49


- 49 -


تعالى نرى مزيداً من حقائق هذا الختم، ولماذا كانَ سبباً في إصلاحِ الدّنيا، وكانَت بعثته ووجوده في آخر الزمان هو مكرٌ بإبليس والدجّال، تعالى نحكي هذه القصّة بمزيدِ وضوحٍ لأنّ لي قلباً لا يملُّ من حقائقِ هذا الختمِ الفريد،،،

عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث رجلا مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي، يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا". رواه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
وفي رواية لأبي داود بسندٍ صحيح : "لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلا من أهل بيتي يملؤها عدلا كما ملئت جورا".

وغير ذلك من الأحاديث التي وردت على هذه الصيغة : لو لم يبقَ من الدّنيا إلاّ يوم لبعث الله رجلاً ... فانظُرْ في لفظ النبوّة وهذه الصياغة العجيبة، وتأمّلها جيّداً، فهذا كلام من أوتيَ جوامع الكلم الذي لا ينطِقُ عن الهوى بل هو وحي يوحى، كلامُهُ حقائقٌ ومفاتيحٌ وجوامِعٌ مفتوحةٌ على القراءة والتأمّل، والصياغة هنا جاءتْ عجباً، فكأنّ بعثة هذا الرّجل ركنٌ من أركانِ الدّنيا، شيءٌ لازمٌ من حقائقها، لا تكمُلُ الدّنيا ولا تنتهي إلاّ ببعثة هذا الرّجل. هنا إعجازٌ في التعبير منهُ صلّى الله عليه وسلّم، فيه جمعٌ بين الكتمِ والتعظيمِ، الكتمِ في بساطة ذكر هذا الرّجل الذي هو منه صلى الله عليه وسلّم أو من آل بيته عليهم السلام، وكونِهِ يُعِيدُ للدّنيا عدلها ونورها بعد فسادها وانتشار الظلم والجور فيها، هكذا رجلٌ صالحٌ يسمّى المهدي اصطلاحاً، خليفة يُبعثُ في آخر الزمان، ولكنّ التعظيم مكتومٌ في الصّيغة كونِ هذا الرّجل رُكناً في وجودِ هذه الدّنيا، ولا تنتهي إلاّ بخروجه وظهوره، فتكونُ وظيفته الظاهرة أن يملأها عدلا وقسطاً بعدما ملئت جوراً وظلماً. لو لم يبق من الدّهر إلاّ يوم. لبعث الله الخليفة الختم، المعنيّ بقوله تعالى (إنّي جاعل في الأرض خليفة) ، المنعوت بوصف النبوّة أنّه عينُ الخليفة المقصود، ((فإذا رأيتموه فبايعوه ولو حبوًا على الثلج ، فإنه خليفة الله المهدي)) صحّحه جمهرة من المحدّثين. وقوله صلى الله عليه وسلم: ((يخرجُ المهديُّ وعلى رأسِهِ غمامةٌ , فيها مُنادٍ يُنادي : هذا المهديُّ خليفةُ اللهِ, فاتّبعوه.)) (الطبراني وابن عدي والكنجي وأبونعيم).

الخليفة ختم الخواتيم سيِّدُ الخواتم جميعها إذا كان هناك أختامٌ كالورثة من الأولياء الذين تحقّقوا بالختمية أي بالنيابة في الإسم الأعظم وهم أهل التحقيق المقرّبين أو خاتم النبوّة والرسالة المكرّم صلّى الله عليه وسلّم سيّد الخلق والأكوان، فالمهدي هو ختم الخواتيم جميعها وسيِّدُ الخواتم لذلك جاء في ختامِ الزمانِ علَماً على الساعة والقيامة الكبرى وعلامةً على الخروج عن الأكوانِ وانتهاء زمان الدّنيا وجاءَ إماماً للخلافة الإلهية العادلة الفاصلة الحاسمة، فهو ختمُ الأختامِ وإمامُ الأئمة. قطبُ الوجود وكعبة الشهود، روح الأرواح الذي استوجب السجود لذاته في السّماء. المبشَّرُ بقدومه "المنتظَر" الذي تنتظرُهُ الخلائقُ والأكوانُ والأرضُ انتظارَ الفرعَ لأصلِهِ، والطِّفل لأمّه، والمحبّ لمحبوبه، والضائع لدليله، والظامئ لساقيه، والحائر لهاديه، الموجود لموجده، والمحروم للمُنعم عليه، والمسمّى المهديُّ : العبد الذاتيّ المحض حقيقةُ الكتاب وحقيقة الهدى لكلّ الأكوان والخلائق {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ}[البقرة:1-2]، قطبُ الوجود الذي تنجذبُ حقائق الموجودات إليه، كما ينجذبُ الحديد للمغناطيس لأنّهُ ذاتُ ذواتها وعينُ أعيانها لمّا كانت في كنزيّتها وعمائها، قاهرُ الكونِ بعظمتِه، القائم بأمرِ الله المعظّم، قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((يأوي إلى المهديّ أمَّتُهُ ، كما تأوي النَّحلُ إلى يعسوبها, يملأ الأرضَ عدلًا كما مُلئت جَورًا, حتّى يكون النَّاسُ على مِثلِ أمرِهم الأوَّلِ, لا يُوقظُ نائمًا, ولا يُهريقُ دماءً )) رواه الكنجي.

وقال الله تعالى {أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ}[النحل:1]
قال الإمام القاشاني رحمه الله في تفسيره الإشاريّ تأويلات القرآن : (({ أتى أمرُ الله } لما كان صلى الله عليه وسلم من أهل القيامة الكبرى يشاهدها ويشاهد أحوالها في عين الجمع، كما قال صلى الله عليه وسلم: " بُعِثْتُ أنا والساعة كهاتين " أخبر عن شهوده بقوله تعالى: { أتى أمر الله } ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر لكل أحد لا يكون إلا بوجود المهدي عليه السلام قال: { فلا تستعجلوه } لأن هذا ليس وقت ظهوره.)) انتهى. فأمرُ الله هو الرّوح الأعظم والقائم بهذا الرّوح المهدي عليه السلام الذي يسمّيه أئمة آل البيت والسّلف الصالح وأهل العلم بالله : القائم بأمر الله. فانظُرْ قول القاشاني لمّا كان صلّى الله عليه وسلّم من أهل الجمع مطهّراً عن الأكوان وخارجاً عنها فقد شهد بعين الجمع أحوال مشاهد القيامة الكبرى وكذلك كلّ عبدٍ مطهّرٍ من أهل القرآن أهل الله وخاصّته الأفراد فهم مشاهدون أحوال ومشاهد القيامة الكبرى لذلك صحّ لهم الخروج عن الأكوان والطّهارة منها، ولذلك كان تعبير القرآن مُشيراً لهذا المعنى بقوله تعالى "أَتَىٰ أَمْرُ ٱللَّهِ"، بفعل الماضي أَتَىٰ. فالزمَّانُ لأهل التقييد فافهم أمّا أهلُ الإطلاق فقد خرجوا عن قيد الأكوان فهم مشاهدون للماضي والمستقبل كأنَّهُ واقعٌ. فالذي أردنا الإشارة إليه هنا أنّ القائم بأمر الله وعلَم الساعة والقيامة الكبرى هو المهدي عليه السلام لذلك كانت لا تحدثُ أهوالها وأحوالها ولا تظهرُ علاماتُها إلاّ بوجوده فيشهدُها أهلُ زمانه بالتفصيل، لأنَّهُ صاحبها. فهو المطهَّرُ عن الأكوان الحقيقيّ سيِّدُ المطهّرين ورئيسهم صاحب الكتاب الذي خصّه الله بنزول الكتاب وغيرُهُ خُصّ بنزولِ القرآن وراثةً للنبيّ العدنان صلّى الله عليه وسلّم، فتطهّروا هم بالرّحمانية وكملوا بها على قدم سيّد الأنبياء والخلق عليه الصلاة والسلام، وكان صاحب الإسم الأعظم والذات الخليفة المهدي القائم بأمر الله. لذلك فالمهديّ لا يعرفُ مقامَهُ المكتومَ المعظّم سوى المطهّرين أهل الكمال والبقاء الذاتيّ الذين صحّ لهم مسّ الكتاب المكنون، لأنّ المهدي قبل ظهوره وبيعته أي في جذبه وكتمه كانت نشأتَهُ في العماء والكنزية في الكتاب المكنون، فأحوالهُ من تلك الكنزية والعماء والعماء والكنزية لا يدخلُها إلاّ من خرجَ عن الأكوان والنّفس وصارَ إلى مقام البقاء بالله، فافهم. لأنّه الوليّ بالأصالة وغيرُهُ لا يكونُ ولياًّ إلاّ بطريق الرّحمانية، فهيهات أن يعرف إمامة المهدي الخليفة ومقامه الرّفيع الأعلى سوى أهل الكنزية والعماء الأفراد المطهّرين، وانظُر إلى من تكلّمَ عنه بصفة العلم والإشارة إلى حقيقة مقامه سوى أهل التحقيق أكابر الأكابر أمثال الشيخ الأكبر والشيخ الجيلي والحكيم الترمذي والشيخ القاشاني في تفسيره وغيرهم من هؤلاء القلّة الأفراد الغرباء الأمجاد، كما أشار إليه أئمة آل البيت الأطهار وعرّفوه بمقامه الأعلى إذ يسمّونه القائمِ بأمر الله وبشّروا بقدومه. فالذاتيون الأفراد الأطهار قرَّةُ عيونهم هو هذا الخليفة ومنتهى فنائهم ومحبّتهم وذوبانهم فيه، لأنّ من فنى في الذات فقد تخلّى عن الأغيار وبالتّالي صارَ انجذابه كاملٌ لصاحبِ الذات لله سبحانه، فالانجذاب يقعُ بقدرِ التماثل الباطنيّ وعلى قدرِ الصّفاء، ولهذا سمّي الصوفية صوفية من الصّفاء، فبقدرِ الصّفاء يقعُ التحقّق والتقرّب من الله سبحانه. هذا هو قانون الجذب، وانظرْ في قوله صلّى الله عليه وسلّم (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)، فلمّا فنى هؤلاء في الذات وقع لهم الجذب لحضرة الذات، وههنا أسرارٌ من فضلِ الله تعالى تقعُ لأهل الجذب الذاتيّ لا نريدُ أن نخوضَ فيها لكي لا يفهمُها من عليه الحجب والشوائب فهماً ناقصاً فيرتدّ ذلك عليه بالوبال، وهي من أفضال الله تعالى وإعجازاته التي حيّر بها وبهرَ أهل الجذب الذاتيّ عباده المطهّرين، فلا تَقِسْ يا صاحي الدّنيا بمنظار الماديّين ولا بمقياس المحجوبين بل قِسْها بمحبّة أهل الله تعالى أهل الولاية والقرب، سلف الأمّة وخلفها الأخيار، فإنّ السماء لم تنقطعْ عن الأرضِ أبداً ولن تنقطع إلاّ بذهاب العبد الخاتم قطب الوجود. فقلنا هؤلاء الكمّل بعد عودتهم من الفناء والجذب إلى حضرة البقاء والكمال والتحقّق والوراثة هناك يقعُ لهم التعرّف على صاحب هذه الحضرة وإمامها فليس في قلوبهم غيرُه من جهة التعلّق والعبدية والمحبّة الذاتية، ولغيره المحبّة التابعة لمحبّة الله تعالى. أمّا غيرُهُم فيحتاجونَ الفناء في صاحب الصّفات وسيّد الأكوان صلى الله عليه وسلم لأنَّهُ الباب والحجاب، فافهم. لذلك قامَ تعظيمُ صاحب الأكوان في الأكوان، لأنّهُ سيّدُها وإمامُها والقائدُ لنورِ الله تعالى ومعرفته، فلن تدخلَ إلاّ من بابه الأوحد، فاشتهرَ في الأكوانِ وعلى ذلك سارَ أهل التحقيق والمربّين على تعظيم هذا النبيّ العظيم صلوات الله وسلامه عليه فإنَّهُ سيِّدُ النّاس أجمعين ومحبوب ربّه اصطفاه لمنصّة الشهود وبعثه رحمة للعالمين وجعله دليل السّائرين إلى ربّهم وجمعَ فيه الكمال الإنسانيّ الذي تفرّق في غيره من الأنبياء والأولياء عليهم السلام.

ولذلك قد تجِدُ مشايخ لكنّهم لم يخرجوا عن الأكوان ولم يتحقّقوا بالفردانية، فتجدُهم لا يرونَ في الوجود سوى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ويظنّونَ أنّه غاية غايات القرب الإنساني وسيِّدُ السادات الذي ليس فوقه سيِّدٌ (في المظهرِ الإنسانيّ) ففاتهم التحقيق، وهم من الصالحين والعلماء ومشايخٌ لهم أتباعهم، ولكنّهم ليسوا مشايخاً على التحقيق من الذين دخلوا حضرة الحقّ سبحانه، وفنوا في الذات، لأنّ الذاتيين عرفوا الحقّ سبحانه تحقيقاً، أمّا هؤلاء فَيُسمّونَ الصّفاتيين فنوا في الأفعال وفنوا في الصفات فَهُم في بحر الصّفات لم يتجاوزوها الى الذات، فما رأوا بالشهود والعلم إلاّ بحر الصّفات فرأوا يقيناً وشهوداً سيّد الصّفات والأكوان هو كلّ شيءٍ، رأوهُ كلّ شيءٍ لا باعتبارِ جعلهِ في مقام الألوهية (حاشاهم من الشرك) بل بجعله في مقامِ العبدية المحضة وأنّه الواسطة إلى ربّه وهو صلى الله عليه وسلّم حقيقٌ بالعبدية المحضة لأنّ الله جعله العبد الدّال عليه والأنموذج الكامل القدوة المُسمّى الإنسان الكامل، أي ما رأوا الإنسان الكامل إلاّ فيه صلّى الله عليه وسلّم وهم لربّهم من أهلِ التنزيه المطلق وليسوا من أهل الحقيقة الذين عرفوا الله بالجمع بين التنزيه والتشبيه كما هي الحقيقة، لأنّ الحقيقة المحمديّة لها وجهان ولها اعتباران، لها وجهٌ للخلْقية فهي من هذا الوجه تُسمّى محمّد سيّد الأكوان، وهي كما عبّرنا عنها سابقاً النقطة البيضاء، ولها وجهٌ للحقّ سبحانه فهي من هذا الوجه تُسمّى أحمد وهو عينُ الحقّ سبحانه، هو الرّوح الأعظم أمرُ الله، وهي التي عبّرنا عنها النّقطة السوداء. فالصفاتيون لم يتعرّفوا على الحقيقة المحمديّة إلاّ من جهة الصّفات ولم يخترقوا إلى ذاتها كما اخترق الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عند سدرة المنتهى فرأى من آياتِ ربّه الكبرى ورأى الحقّ تعالى بالحقّ سبحانه، رأى الرّوح الأعظم. فهم وقفوا عند الصّفات فظنّوا أنّ ذلك أعلى وآخر ما تمظهرَ من الإنسان، وهو حقّ من وجهٍ فمن جهة الصفات فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم جعله الله خاتم الصّفات وبحرها ومجلى كمالها الأكمل، فافهم، فالعبودية تمّت ببعثته صلّى الله عليه وسلّم فهو سيّد الخلق أجمعين، أمّا صاحب الذات السيّد الصّمد فهو فوق الصّفات، فهو الحامد والمحمود والحمد، هو حقيقة الصّفات التي تعيّنت وهو الذات بإطلاقها وكنهها هو الغيب المطلق هو بحر الصفاء، ما ثمَّ شيءٌ في الوجود يُجانسه، فالصّفات مشتقّة منه والكمالات لاحت من ذاته، فهو الإطلاق واللانهايات في الكمالات والصّفاء والعلم، هو صاحب العلم المطلق والصّفاء المطلق،  لذلك كان اسم الصوفية أي من الصّفاء، فعلى قدرِ صفائك أنتَ صوفيّ، فهم يهيمون في الصّفاء، وبحر الصّفاء هو صاحب الذات المطهّر من الأكوان والصّفات مطلقاً، فافهم. لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم كما جاء في صحيح البخاري: (لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله.) فافهم. وغيرُ ذلك من الأحاديث الشريفة التي بيّن فيها صلّى الله عليه وسلّم الحقائق وأنّه رسولُ الله تعالى.
وهؤلاء الصّالحون الصّفاتيون كما ذكرنا لم يشهدوا في النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سوى العبدية والتحقّق بما خلع الله عليه من الكمال التامّ والصفات الكاملة ولكنّهم لم يُدركوا ولم يقع لهم التعرّف على الإمام الخليفة، لتعلَمَ هذا العبدَ الذاتيّ الذي ما عبّرَ إلاّ عن الإطلاق، فغارَ أن تنزلَ الأسرارَ فيُدركها غير أهلها الأمناء، وهم أمناء مأمونون عليها، فحتى هؤلاء الصّفاتيون وهم أصحاب مراتب عالية، وهم على أقدام الأنصار من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، ما وقع لهم هذا التعرّف، وحتّى لو قرؤوا ذلك أو سمعوهُ لما قبلوه ولأنكروهُ إنكاراً، وهذا هو واقع الحال، وقد ذكرنا ذلك أنّها قابليات وصناديق، لذلك نادى المنادي على أهل يثرب وهم هؤلاء الصّفاتيون "يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا". أي ارجعوا عن هذا المقام الذاتيّ، فإنَّهُ لا طاقة لكم به ولا مقام لكم فيه، فهم له منكرون وهو غير معرَّفٌ عندهم، كمجالات تعريف الدّوال، فافهم، لا يُمكنُ أن تشتغلَ الدّالة إلاّ في مجال تعريفها، وكذلك النّاس معادنٌ وقابلياتٌ، حكمتْ عليهم حقائقهم. فنقولُ هؤلاء الصّفاتيون حُجِبُوا بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن معرفة الله تعالى حقيقة المعرفة، فهم ليسوا من خاصّة الله تعالى أهل القرآن، أهل العروج الذاتيّ الذي نزل عليهم العلم بالقرآن، بنزول الروح قلوبهم. فعلم هؤلاء الصّفاتيين ناقصٌ. {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}.

يتبع ..