الخميس، 31 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 57



- 57 - 

فقلنا الخليفة واحد، الخليفة هو مسمّى الله سبحانه وحضرة الذات، هو الله الأحد، لأنّه ما في الوجود سواه وحده لا شريك له، هو الأوّل الآخر، الباطن الظاهر، ما بطن إلاّ هو سبحانه، وما ظهر إلاّ هو، ولكنّه الوهم الذي قامت به الحياة، فإذا زال الوهْمُ بدا الوجود وجود الواحد الأحد، فإذا كان الله هو الباطن الظاهر والأوَّلُ والآخرُ، والعبد والربُّ، والخلْقُ والحقُّ، لزِمَ ظهورُه في مظهرٍ ذاتيّ، هذا المظهر الذاتيّ هو الخليفة، هو الإنسان الكبير، هو السيّد الصّمد، خليفة الله في أرضه، أي الظاهر بحقائق الموجودات جميعها، لأنّ الأرض هي محلّ ظهور الموجودات إلى وجودها. جميع الموجودات، كالأعداد مثالاً، برزت من العدد واحد (1)، فكلّما أضفت واحد نتج عدد آخر، وهكذا بلا نهاية، فجميع الأعداد مندرج فيها الواحد، فهو أصل الأعداد. فإسم الله تذوبُ معه كلّ الأغيار، لذلك نقولُ : لا إله إلاّ الله، لا موجود إلاّ الله ، لا فاعل إلاّ الله ، لا حيّ إلاّ الله، ففي حضرة الله تزولُ الأغيار وتتلاشى الأشياءُ من وجودها وتعودُ لموجدها وقيّومها. تفقدُ الأعدادُ نسبتها فلا يظهرُ فيها إلاّ الواحد الأحد. قل هو الله أحد. أحدية تمحو كلّ شيءٍ معها وكل غيرية وكلّ اثنينية.

فهو وهمٌ قامت به الحياة، وهمٌ شامخٌ متدرِّجٌ أقامتهُ الحقائق، وهم ٌ متفاوتٌ متوزِّعٌ على أشواطٍ وأطوار وطبقات ومراحل، تجلّت به اعتبارات الحوادث والحجب دون الحقيقة الكليّة المطلقة ودون تجلّي القديم، فلا يزولُ هذا الوهْمُ بكليّته إلاّ بتجلّي الأحدية، لذلك منعَ أهلُ الله التجلّي بالأحدية، لأنّ الأحدية ليس لأحدِ فيها قَدَمٌ سواه وحده لا شريك له، كما قال أهل العلم بالله تعالى. لأنَّ الأحدية أحدية عينٍ وذات وأحدية شهودٍ وظلٍّ، وذلك أنّ أهل الذات الخلفاء الأفراد صحّ لهم شهود هذه الحضرة به سبحانه، حيث لا إسم ولا نعت ولا غير، ولا تمايز ولا تعدّد، حيث المعنى واحد والحقيقة واحدة، إذ هم مشاهدون لهذه الحضرة بالله تعالى كما قال سبحانه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقوله تعالى (قُلْ) كما قال بعض أهل العرفان هو إثباتٌ لشهوده صلّى الله عليه وسلّم هذه الحضرة الأحدية، قل يا محمّد عن شهود ومعاينةٍ وتمكينٍ هو الله الأحد. ولكنّ حقائق الذواتِ (ذوات الخلفاء) وتحقّقاتها هي التي تشهدُ لكلّ شاهدٍ لهذه الحضرة هل هو أهلٌ وجديرٌ جدارة تامّة أن يتجلّى بها وتُنسب إليه ؟ بيدَ أنّ أرض التجليّات، التجليّات الحقيّة والخلقية هي امتحانُ هذه الحقائق وهذه التحقّقات، وهي الاختبارُ والشاهدات لهذا النبيّ وهذا الفرد وذاك الوليّ وذاك المحقّق هل وسعُهُ أن يملك جميع الحضرات ويتجلّى بها بتفاصيلها ويتمكّن فيها ؟ وأن يسعَ علمُهُ التّفاصيل والإطلاق ؟ وحيثُ أنّ الجميع وقفَ في ذلك المهمه وتلك المفاوز وتلك العقبة بالحيرة والعجز عن الإدراك وبالقصورِ عن الوسع المطلق فقد كذَّبتِ إذ ذاكَ الحقائقُ والتحقّقاتُُ والعلمُ والوسعُ والإطلاق والتقييد والإجمالُ والتفصيلُ هؤلاء المحقّقين والأفراد والخلفاء، فصاحوا بالعجز عن درك الإدراك ونادوا بالحيرة بين العلم والجهل، فقال صفوتُهم وحضرةُ جمعهم صلواتُ الله وسلامه عليه "لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال له الله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} سورة طه :114. وقال الله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر:67]. فلا شيء يغيبُ عنه سبحانه، فما قدروا الله حقّ قدره، فوقعَ التحقيقُ هنا في النّسبة الصّحيحة لصاحب الأحدية والواحدية الأصليّ الذي ملكَ أرض التجليّات الواحدية من سماء الأحدية، فهي في قبضته لا يفوتُه منها شيءٌ لا قليل ولا كثيرٌ {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}. فافهم. فكان الخليفة : خليفة الله في أرضه هو الذي رجعتْ إليه الأحدية لأنّه هو حقيقة الواحدية، لأنّ التجليّات تجليّاته الذاتية، فلا يفوتُهُ منها شيءٌ، لأنّه عينُ التجليّات والتفاصيل والتقييدات والمحدودات المفاضة من سماء الذات، فشتّانَ بين المتحقّق بالخلْقِ والتبعية، وبين المتحقّق بالعينية والأصالة والسذاجة الذاتية. ولهذا منع أهلُ الله التجلّي بالأحدية لغير الله تعالى، يريدونَ لغير الخليفة لأنّه عينُ إسم الله سبحانه. لأنّ المنْعَ وقعَ بالنّسبة للأرض أرض التجليّات، فوقع المنعُ لتجلّي الأحدية إلاّ لصاحبها الذاتيّ الذي ثبتت لهُ بالوسع والعلم المطلق والخلافة الكاملة، {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة-115). فهذا هو معنى قولهم منَعَ أهلُ الله التجلّي بالأحدية لأنّها لا تصحّ فيها قدَمٌ لأحدٍ سوى الله سبحانه عزّ وجلّ والله هو الواسع العليم. وهنا أضعُ اقتباساً جليلاً نفيساً للفرد المحقّق عبد الكريم الجيلي قدّس الله سرّه. قال في كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل في باب : "في الزبور" :

((... ألا ترى إلى قوله تعالى حيث أخبر عن سليمان أنّه قال {هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فقال في جوابه : {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ} ثمّ عدّد ما أوتي سليمان من الاقتدارات الإلهية ولم يقل فآتيناه ما طلب لأنّ ذلك ممتنع اقتصاره على أحد من الخلق لأنّه اختصاص إلهي، فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه، وإليه الإشارة في قوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} يعني الصالحين للوراثة الإلهية، والمراد بالأرض هنا الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقيّة والمعاني الخلقيّة وإليها الإشارة في قوله : {إنّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون}. فإن قلت إنّ دعوة سليمان مستجابة باعتبار أنّ المملكة الكبرى لا تنبغي لأحد من بعد الله وهو حقيقة سليمان فقد صحّت الدعوة له فقد صدقت، وإن قلت : إنّ دعوة سليمان غير مستجابة باعتبار عدم قصر الخلافة عليه وأنّ ذلك قد صحّ لمن بعده من الأقطاب والأفراد فقد صدقت، فاعتبر كيف شئت، فلمّا علم داود امتناع قصر الخلافة عليه ترك هذا الطلب، فطلب سليمان تأدّباً إلهياً يريد تفرّده بالمظاهر الإلهية لتفرّد حقّه بها، وهذا ولو كان ممتنعاً فهو جائزٌ الطلب للوسع الإلهي والإمكان الوجودي، ولكن لا يعلم أحد صحّ له ذلك أم لا، وفي هذا المقام أخبر الحقّ تعالى عن أوليائه فقال تعالى : {وما قدروا الله حقّ قدره} و {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} فصار من هذا الوجه ممتنعا، فلهذا قال الصدّيق الأكبر : (العجز عن درك الإدراك إدراك). وقال عليه الصلاة والسلام : (لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) . فتأدّب صلّى الله عليه وسلّم في طلب ما لا يمكن حصوله، واعترف بالعجز لكمال ربّه، وكان عليه الصلاة والسلام أعرف بربّه من سليمان، لأنّ سليمان عرف ما ينتهي فطلب حصوله، ومحمّدا صلى الله عليه وسلم عرف ما لا ينتهي فتأدّب عن طلب إدراك ما لا يدرك، أعني تأدّب فترك الدعاء بحصول ذلك لعلمه أنّ الله لم يجعله لأحد، وإنّه خصوصية فيه ذاتية استأثر الله تعالى بها عن سائر خلقه، فانظر بين من لمعرفته بربّه حدّ ينتهي، وبين ما لا حدّ لمعرفته بربّه ولا نهاية لها.)) انتهى.

فانظُرْ لهذا الكلام العظيم النّفس الجليل التحقيق، الموافق لما قلناهُ، فشرح الأرض بقوله : الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقية والخلقية. ثمّ ذكرَ أنّ الخلافة الكبرى هي خصوصية ذاتية استأثر بها الله تعالى عن سائر خلقه، وذكر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانت معرفته بربّه كاملةً فلم يطلب إدراك ما لا يمكنُ إدراكه. ثمّ ذكر المظهر الذاتيّ الذي استوجبَ هذه الخلافة الذاتية الكاملة والمملكة الكبرى في الأرض، بقوله : ((فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه)). فهذا من أنفس الكلام وأعلمه. فسماء الأحدية قد شهدها الخلفاء والأفراد عليهم السلام كما ذكرنا، فمن كان صاحبها في التحقيق ؟ فهو الخليفة في الأرض. لأنّ الوجود هو وجود الله سبحانه جميعا، فلا شيء يخرجُ عن كونه ووجوده فافهم. فمسمّى الله ليس هو سوى الجامع لحقائق الأسماء. فكان لهُ خليفة في الأرض، يُطلقُ عليه خليفة في أرض الكثرة والعدد وليس هو سوى المعنى الأحديّ والحقيقة الكليّة المطلقة الغير مُدْرَكِ كنهها. فافهم.

وفي هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال الشيخ الأكبر في قصيدته الرائعة الذائقة في مقدّمة الفتوحات واصفاً هذا الخليفة الختم :

ومتى وقعتَ على مفتِّش حكمةٍ... مستُورةٍ في الغضّة الحوراء
مُتحيّرٍ مُتشوّفٍ قلنا له... يا طالب الأسرار في الإسراء
أسرِعْ فقد ظفِرَتْ يداك بجامِعٍ... لحقائق الأموات والأحياء
نظرَ الوجودَ فكان تحت نعاله... من مستواهُ إلى قرارِ الماء
ما فوقه من غاية يعنُو لها... إلّاهُو فَهْوَ مَصِّرِفُ الأشياء
لبِسَ الرِّداء تنزُّهاً وإزارُهُ... لمّا أراد تكوّن الإنشاءِ
فإذا أراد تمتُّعًا بوجوده... من غير ما نظرٍ إلى الرّقبَاء
شالَ الرِّداء فلمْ يكنْ متكبِّرًا... وإزارَ تعظيمٍ على القرنَاءِ
فبدا وجودٌ لا تقيُّدُه لنا... صفة ولا إسمٌ من الأسماء

إنْ قيل من هذا ومن تعني به... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمُ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

فقال : أيّها الطّالب الأسرار في الإسراء، والإسراء هي سورة صاحب الإسراء والجسم الإسرائيليّ المهدي عليه السلام، وسورة واقع آخر الزمان، إذا ظفرتَ به فقد ظفرتَ بجامع حقائق الأموات والأحياء ومصرّف الأشياء. ثمّ أشارَ إلى ما كنّا نقوله عن حضرة الأحدية، فقال :

لبِسَ الرِّداء تنزُّهاً وإزارَهُ... لمّا أراد تكوّن الإنشاءِ

أي هو صاحبُ رداء التنزيه والتشبيه حينما تجلّت به حقائق الإنشاء والأكوان والموجودات ولاحت آثارُها وقامت حياتُها. فبه تجلّت. فلمّا ظهرَت تجليّاتُه تنزّهََ عنها وتنزّهَ سبحانه عن التشبيه، فهو الظاهرُ في التشبيه ولكن خفيَ ظهورُهُ تنزيهاً، وهو الباطنُ في سرادق التنزيه تعالى وجلّ عن الإدراك. {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [ البقرة : 115 ].


ثمّ قال :

فإذا أراد تمتُّعًا بوجوده... من غير ما نظرٍ إلى الرّقبَاء
شالَ الرِّداء فلمْ يكنْ متكبِّرًا... وإزارَ تعظيمٍ على القرنَاءِ
فبدا وجودٌ لا تقيُّدُه لنا... صفة ولا إسمٌ من الأسماء

فإذا أراد الشهود لوجوده من غير نظر إلى الرّقباء والعيون، شالَ رداء التعظيم، وهو رداءُ ظهورِه في عالم الكثرة، إذ هو الملك السّلطانُ ذو الكبرياء والجلال يُشارُ إليه بالبنان، هو السيّد الصّمد، هو الرّوح الأعظم، فقال شال رداء التعظيم والظهور فلم يكن متكبّراً على أقرانه من الأنبياء والخلفاء عليهم السلام أهل الشهود والخلافة والجمال الذين تحقّقوا بحقائق الولاية والخلافة، فلمّا شالَ الرّداء بدا وجودٌ من غيرِ تقييد ولا تمايزٍ لا صفة فيه ولا إسم ولا غيرية. مُنتهى الكرم والجود، ومُنتهى العظمة والتواضع لهذا الخليفة. الذي هو مالك الملك والعظيم في علاه سبحانه.

وهذا الذي كنّا نقوله عن الحضرة الأحدية وشهودها، فلا تمايز فيها ولا تقييد لظهور أو إسم أو نعت، فيشهدُها الأفراد المتحقّقون، لذلك قال الشيخ الأكبر "فبدا وجود لا تقيّده لنا" لنا نحنُ متكلّماً عن الأقرانِ والخلفاء وهو منهم، وإلاّ ما صحَّ لهُ هذا الوصف وهذا العلم الذي هو آخر العلمُ عند المحقّقين، معرفة صاحب هذا الأمر، فنسبَ الشيخ الأكبر في هذه القصيدة نفسه إلى شهود هذا التحقيق وأنّه خليفة محقّق وفي أبياتٍ أخرى يذكرُ ذلك تصريحاً. ولكنّهُ أثبتَ الأمر والحضرة والرّتبة لصاحبها بالأصالة، فهو يُعرّفُ به. فهذا ما ذكرناهُ حول حضرة الأحدية التي ارتفع فيها التعدّد والتمايز، فهو معنى واحد متعالٍ شامخٌ آخرُ درجاتِ المتحقّقين. فكانت أرضُ الواحدية والكثرة هي التي ثبتَت فيها عظمةُ الخليفة الختم وكبرياؤه وعلمه ووسعه وإطلاقه وملكه فافهم، فهذا نفس ما كنّا نشيرُ إليه يُثبتُه هنا الشيخ الأكبر. ثمّ يُعيِّنُ لنا من هذا المقصود بصاحب الإسراء وجامع حقائق الأموات والأحياء، وصاحب هذا الوجود المطلق بإطلاقه وتقييده، صاحب حضرة الأحدية وحضرة الواحدية. فيقول :

إنْ قيل من هذا ومن تعني به... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمُ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

إنّه خاتم الخلفاء. الخليفة. جلّ عن الكفؤ والنّظير إلى آخر القصيدة.


وهنا في هذا المقام نقتبِسُ اقتباساً جليلاً عظيماً سبق أن وضعناهُ، لكنّه جديرٌ بالإشارة إليه، لنفاسة ذكره وعلمه والإشارة إليه :

يقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه في الفتوحات المكيّة :
(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. )
انتهى.


فهذه الفقرة عظيمة دقيقة عميقة، من وقفَ عليها أدرك ما نُدندِنُ حوله، لأنَّهُ يتكلَّمُ عن الصورة الإنسانية، فافهم. لذلك أشار الشيخ الأكبر إلى قوله تعالى "خلق الإنسان ووضع الميزان". حتّى لا يغترَّ من لم يتحقّق بدرجات التحقيق في هذا التحقّق العظيم، فخطابُه هنا للمحقّقين الذين تحقّقوا بالصّفات السبع، وصاروا إلى مقام الخلافة فشهدوا ذواتهم هي الحقّ سبحانه، لأنّهم صاروا الى ما ذكره الحديث القدسيّ الصحيح الذي رواه البخاري : "فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا". فنبّههم أن يقفوا على الميزان، فلا ينخدعوا بظاهر الصورة الإنسانية، لأنّها الصورة التي استوجبت الخلافة الكليّة، فينسبُوا لأنفسهم هذا التناظر والتكافؤ والتعادل، فقال تحقيقاً : ((فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك)) انتهى. فهي ياقوتة يتيمة مقابل صنجة حديد كما تساوتا في المقدار في كفّة الميزان فما تساويا في القدر والحقيقة، وهي صورة منفردة وهيكلٌ واحد لا نظير له ولا كفؤ ولا ندّ. والفقرة شرحت وفصّلت، وهذا من أنفس العلم وأنفس التحقيق.

وكذلك قال في القصيدة السابقة وصفاً لهذا الختم :

جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء


وهنا يقودُنا الكلامُ إلى الخليفة الأعظم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو أعظمُ خليفة لله تعالى، أعظمُ خليفة للخليفة الأوّل. لأنَّهُ الذي جعلهُ الله الأنموذج الكامل والإنسان الكامل المتحقّق بحقائق الذات وتجليّاتها، فهو سيّد الخلق جميعاً، وسيّد الأوّلين والآخرين من الخلفاء والأفراد والأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، لذلك قال "إنّما الله المعطي وأنا القاسم". فمجموع ما تفرّقََ في المحقّقين والأفراد والخلائق أجمعين من كمالات وتحقّقاتٍ اجتمعَ فيه صلّى الله عليه وسلّم، فهو المتحقّق الأعظم بالأحدية الظلالية الشهودية، ثمّ الواحدية في أرض التجليّات والأسماء. لذلك ذكرنا أنّ الأحدية أحدية عينية، وأحدية شهودية، ثمّ الواحدية كذلك هي واحدية عينية وواحدية ظلالية أسمائية، فالعينُ والذات والأصلُ هو الخليفة، فجلّ عن النّظير بين المطلق الذي به تجلّت الأسماء، من ذاته، وبين القابل للتحقّق وإن جاد عليه الله تعالى بغاية التحقّقات، والقابلية الكبرى، فكان صلى الله عليه وسلّم قاسماً للعطاء بين القِدَم، وبين نقطة بداية الخلق والحدوث، فهو صلّى الله عليه وسلّم الجيبُ الحادث الكاملُ القابلُ لتجليّات القدم. كما سبق أن ذكرنا النّقطة البيضاء والنّقطة السوداء، فقلنا النقطة السوداء هي نقطة الإفاضة وبحر العلم وبحر الإطلاق والنقطة البيضاء هي نقطة القابلية والتجلّي، فافهم. لذلك فالمهدي هو صاحب الكتاب، أنزل عليه الكتاب، كتاب الوجود المطلق، كتاب الغيب المطلق، لأنّ الله علمه واحد أحد غير متغيّر فافهم. كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، فالمهدي هو صاحب الكتاب وهو الإمام المبين الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو القارئ لهذا الكتاب، هو القلبُ القارئ الجامعُ الأوَّلُ من كتاب العماء، فهو سيّدُ المتحقّقين وهو صاحبُ التمكين وهو الخليفة الأعظم للوجود والأكوان. فكان القاسم لما أعطى الله سبحانه على الموجودات والكائنات والحوادث. وكان هو رسول الله تعالى إليها، محمد رسول الله. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. فرسول الله صلى الله عليه وسلّم هو أوّل المخلوقات وبه ظهرت المخلوقات والأكوان، ومن أجله خلقت. والخليفة هو الحقّ سبحانه. هو صاحبُ العماء والكتاب والإطلاق. فهيهات أن نُقارِنَ بين الخالق والمخلوق. فافهم. لذلك قال الله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ *قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُون} الأنبياء/105-109.
فكان المُرْسَل بالرّحمة إلى العالمين والخلائق أجمعين هو نبيّ الرحمة خليفة اسم الرّحمن صلى الله عليه وسلّم، ورسالتُه أنّ الله واحدٌ سبحانه لا إله إلاّ هو وحده لا شريك له، فهذه هي رسالة نبيّ الرّحمة صلوات الله وسلامه عليه. وهي التعريف برحمة الله الرّحمن الرّحيم سبحانه ووحدانيته المطلقة الجامعة. وإسم الرّحمن له من إسم الله جميع التحقّقات وجامع لجميع الأسماء، إلاّ أنّه صورة ذاتية ظلالية وليس ذاتية محضة وعينية، أي أنّه إسمٌ برزخٌ بين الذات والصّفات، جامع للأسماء جميعها المتجليّة من حضرة الذات، ولولا هذا الإسم لما تعرّفَ أحدٌ على الله تعالى أبداً، فهو واسطة الحدوث، وهو واسطة التعرّف، وهو مدينة العلم والتجليّات، فإسمُ الله هو مكّة العماء، وإسمٌ الرّحمن هو مدينة التجلّي، فافهم. وهناك تلحظُ الفرقَ في الأسماء، بين مكّة وكعبة السّجود وقبلة الأشباح ظاهراً، وباطناً قبلةُ الأرواح، وبين مدينة التجلّي والسّلوك والتحقّق والتشرّع، فمكّة للعرفان والأحدية والمدينة للتجلّي والواحدية. فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مولده بمكّة هجرتُهُ إلى المدينة، وكان المهدي مولده بمكّة وهجرته لبيت المقدس. النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مولده بمكّة العماء والأزل وهجرته لمدينة التجلّي والعلم والحوادث، والمهدي مولده بمكّة العماء وهجرته إلى الرّوح الأعظم، فالقدس حيث المسجد الأقصى هو رمز الرّوح. فكان المهدي صاحبَ الكتاب، هو العبدُ في مكّة العماء قبل نزول الكتاب أي الرّوح. والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو صاحب القرآن، الذي أنزل عليه ليقرأ كتاب الرّوح. فهو العبدُ في مكّة العماء، ولولا هذه المكيّة لما صحّت له قراءة كتاب الرّوح، فالمكيّة هي الأميّة، هي العبدية وهي أعلى درجات التحقّق، فالعبدية هي العبودية المطلقة المحضة. العبدية أعلى من العبودية، لأنّ العبودية اشترك فيها المتحقّقون بالعبودية بنسبها المختلفة، أمّا العبدية فهي الأمّية هي آخر منازل العبودية ونهاياتها. قال الله تعالى
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء/1. وقال الله تعالى  لْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا.} الكهف/1.
فانظُرْ كيفَ نالَ العبدية سيّدنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نالَها بالأحمدية، فغاية العبدية هي الأحمدية، أي نالها في مقام ختم الولاية، بالمهدي، فصاحب الإسراء في التحقيق هو المهدي الخليفة، فغاية العبدية نالها الإنسانُ الكامل الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه لذلك فاز بالقرب من ربّه غاية القرب، والحمدُ والمقامُ المحمود كذلك ناله بالأحمدية في مقام ختم الولاية بالمهدي، فالآية في التحقيق تعنتُ المهدي، فافهم. فأحمد هو المهدي في مقام العبدية المحضة، فكان سيّدنا محمّد هو أحمدُ الخلق لربّهم بهذا الشرف العظيم الذي نالَه.
 وقال الله تعالى {الرحمن علّم القرآن}. الرّحمن إسم ذات، له هذه النّسبة المكية الذاتية، وله نسبة الصّفات والمدنية، وهو صورة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الرّحمانية التي خلق الله عليها آدم عليها السلام. والصورة الرّحمانية هي صورة الله سبحانه. فقال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته" وقال "خلق آدم على صورة الرّحمن". فكلاهما صحيحٌ ودقيق وله دلالاته فافهم.


يتبع ..




السبت، 26 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 56



- 56 -

قال سبحانه عزّ وجلّ :
- إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
- فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا
- ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا


فأجمل القصّة هنا : أوى الفتية إلى الكهف وطلبوا الرّحمة والرّشد، فاستجاب الله لهم فضرب الله على آذانهم كي لا يلتفتوا إلى الدّنيا التفات توجُّهٍ وطلبٍ، فكأنّهم في الدّنيا يعيشون كما يعيشُ النّاس ظاهراً، وبواطنهم مضروبةٌ عنها ملتفتون إلى ربّهم فقط. ثمّ بعثهم الله بعد استيقاظهم وصحوهم من سُكرِ الجذبِ، وبعد بلوغهم الكمال والرّشد، أو بعد عودتهم إلى السّلوك والتفصيل والرّشد.

ثمّ فصّلَ أكثر في أحوالهم أثناء وجودهم في الكهفِ بما يبدو وصفاً قليلاً، وهو وصفٌ عظيمٌ استوفى جانب الحقائق عند أرباب العلم والحقّ، ونحنُ هنا نقتبِسُ من أهل العرفان وشيءٌ من قراءتنا في الآيات.

قال سبحانه {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدً}.

فلمّا أوَوا إلى الكهف، أي جعلوهُ ملجأً لهم ومأوى بعدما ضاقت بهم الأرضُ وانصرفتْ قلوبُهم عن دنيا النّاس، وتكرّرَ الفعل (أوى) فقال وصفاً لهم : إذ أوى الفتية إلى الكهف. ثمّ قال في تفصيل قصّتهم وهم يتحاورون بينهم : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا}. فالإيواء مذكور في القرآن في عدّة مواضع وهو يعني المسكن والملجأ والعناية والتعهّد والكفاية، فقد اعتزلوا عبادة غير الله تعالى واعتزلوا ما يعبدُ النَّاسُ إلاّ الله تعالى سبحانه، فكان هنا مفهومين في الجملة، فدلّ أنّ هؤلاء الفتية قبل لجوئهم للكهف، قد فتحَ الله عليهم نافذة الشهود الكلّي، نافذة الجذب إلى الحضرة الأحدية، فهذا الكهفُ لا يدخلُهُ إلا مجذوب لحضرة الأحد سبحانه، فلمّا شهدوا أحدية الأحد سبحانه، وهي أولى مراتب الجذب في سير التدلّي، فالطريقُ كما قال أهلُ العرفان طريقانِ: طريق تدلّي وطريق تدنّي، التدلّي يكونُ من الأعلى إلى الأسفل، والتدنّي يكونُ من الأسفل إلى الأعلى.

وكلاهما طريقانِ للكمال، واختلفت الطَّرائقُ، واختلف المدارسُ، واختلفَ السّالكونَ طريق الله تعالى بحسبِ ما سبقتِ العناية لهم، وما ترتَّبتْ أسبابُ سيرهم، فكان المجاذيب ابتداءً هم أهلُ طريقة التدلّي، لأنّهم مجذوبون ابتداءً جذب الذات، وكان المجتهدون المجاهدون السّالكون بالمجاهدات والهمم همُ أهلُ طريقة التدنّي. الفضلُ لا يُمكنُ حصرُهُ في طريقٍ لأنّ كلاهما طريقانِ للوصولِ والكمال، وفي حضرة الكمال اختلفتْ عطايا الواحد الأحد سبحانه لعباده، وكلّ وما أعدّ الله له من رزقه وسابق العناية الأزلية.

لكن المعلومُ أنّ طريقة التدلّي والجذب ابتداءً هي طريقة أكابر الأكابر، أي هي التي أجراها الله على أكابر آل البيت عليهم السلام. وقد كان ختم الولاية مجذوب الابتداء من أهل طريقة التدلّي، فهي الأكملُ، لأنّها محضُ فضلٍ من الله ووهبٍ واجتباءٍ خالص. وكلا الطريقان اجتباء، ولكنّ طريقة التدنيّ جرت بطريق الأسباب والعزائم والمجاهدات، والثانية جرت بطريق الاحتباء الخالص والجذب الكلّي التامّ. طريقة التدلّي يبدأُ السالك بدخول الحضرة الأحدية، حضرة الذات، ثمّ ينزلُ إلى حضرة الصّفات، ثمّ ينزلُ إلى حضرة الأفعال. طريقة التدنّي يبدأ السّالك بشهود لا فاعل إلاّ الله سبحانه، ثمّ يدخل حضرة الصّفات، ثمّ يدخل حضرة الذات، فهي آخر منازله. فيبدأ الأوّل من حيثُ ينتهي الثاني، والعكس. ولاحظ كلاهما ذاتيين، من أهل الذات. ولكن أهل الكمال تفاوتوا في التّحقيق والتحقّق.وكمثال على طريقة التدنيّ والمجاهدات هي ما خطّه الإمام الغزالي حجّة الإسلام رضوان الله عليه في كتابه الإحياء الذي رصد طريقاً للمجاهدة والإستقامة حتّى تلوح على العبدِ علامات الاعتدال والوصول والتخلّق. فإذا وفّق فتح للعبد، وجذب إلى حضرة الذات. ومن طريقة التدنّي طريقة النقشبندية الصّديقية التي هي طريق التحقّق الصفاتيّ، صفة صفة، تخلّي ثمّ تحلّي، حتّى يتحقّق العبد بدلالة الشيخ الكامل الواصل بخلاف المستدلّ بكتاب الإحياء فهو في واقع في جهد مضاعف أضعاف مضاعفة، وبوجود الشيخ يختصرُ للسّالك الجهد والتحقّق والدّلالة للتحقّق بالصّفات. أمّا طريقة التدليّ فهي كمثال طريقة الشاذلية، أي في مجملها هي طريقة جذب ابتدائيّ، والجذب ابتداءً طريقته تُسمّى طريقة الشكر، لأنّ العبد يُجذبُ ابتداءً، فإذا عادَ إلى الصّحو عاد شاكراً بكلّيِّته، بعدما ذاق وشاهد نعم الله عليه وعرفه معرفةً حقّة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم (أفلا أكون عبداً شكوراً). والطّرق المسلّكة بين الطريقين، والسّالكون بين الطريقين، كلّ لما أولاه الله وبما سبقت له العناية.

فقلنا فتح الله لأهل الكهف شهوداً ودخولاً لحضرة الأحدية، فما رأوا إلاّ الله تعالى، فاعتزلوا العباد وما يعبدون جميعا، إلاّ الله سبحانه وعبادته، وفي الجملة مفهوم آخر: اعتزلوا العباد، وقد علموا وشهدوا أنّهم ما يعبدون إلاّ الله تعالى، برغم اختلاف عباداتهم، فهم ما عبدوا إلاّ الله تعالى، أي أنّ الفتية شهدوا حضرة الأحدية، فعرفوا أنّ القومَ مهما عبدوا لن يعبدوا إلاّ الله سبحانه، لأنّه لا موجود إلاَّهُ، فكيف يعبدون سواه، ولكنّ النّاس لا يُدركون ذلك. فهذه هي الحقيقة، فما عبد النّاس إلاّ الله مهما عبدوا غيره في عالم الأسباب والكثرة، فليستِ الكثرة سوى تجليّاتِ أحديّته سبحانه. بل هو العابدُ والمعبود، ألا ترى قوله تعالى في سورة الفاتحة : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فهذا كلامُ الله تعالى، وكان الله ولا شيء غيره، وكان الله ولا شيء معه، فالكلامُ هنا كما قال أهل العلم بالله تعالى : هو كلامُ الله بلسانِ الخلق والعباد، إيّاكَ نعبدُ، فهو العابدُ بلباس الخلق، فافهم. فليس حقيقة الخلق سوى الحقّ سبحانه، فالخطابُ واضحٌ، ثمّ وضّحَ لخلقه طريقَ الاستعانة في العبادة بقوله سبحانه : إيّاك نستعين. أي يا عبادي لستُم سوى ظلالاً لحقيقتي وقيوميّتي، فإنِ أردتُم عبادتي، فاستعينُوا بي وبحولي، فكما كنتُ حقيقتكم وسرّكم وإرادتكم الباطنة فيكم، فأنا حقيقتُكم الدَّالة لكم على طريق عبادتي واستعانتي، فاستعينوا بي واعبدوني بي، بحولي وقوّتي وحقيقتي الموجودة فيكم، فهذه هي الحقيقة، لذلك من ظنَّ أنّ العبادة طقوسٌ وطاعاتٌ مُفرغَةٌ من رُكنِها الحقيقيّ وهو جزء الاستعانة بالله تعالى، فهو واهمٌ مشركٌ من حيث لا يدري، ناسبٌ لنفسه الفعل والقيومية والدلالة، فكيفَ تصحُّ عبادتُهُ وهي قائمةٌ بتلك النّسب القادحة في التوحيد له سبحانه ؟ من كرِمِ الله تعالى أن جعلَها عباداتٍ مسجّلة في سجلِّ القيام بتكليفها بحسبِ نسبة الاستعانة فيها والخشوع والخضوع والاستمداد،  بيدَ أنّ صاحب هذه العبادات النّاسب لنفسه الفعل والقيومية لم يقُمْ بحقيقتها، لأنّ حقيقتها أن تكونَ العبادةُ توحيداً، والتوحيدُ فيها أن تشهدَ الفعلَ لله تعالى والقيومية له وحده لا شريك له والدلالة منه، فاستعنه متبرِّئاً من حولك وقوَّتك وفعلك ونسبِ الفعل لنفسك وجهدك ونشاطك وشطارتك. أي بقدرِ استحضار الله سبحانه فاعلاً ومُعيناً في عبادتك فأنت مقتربٌ من حقيقة العبادة، فما العابدُ إلاّ هو في الحقيقة فأكمِلْ الحقيقة بشطرها الآخر لتتمّ لك الحقيقة بشطريها، فاجعلهُ -عزّ وجلّ- حقيقة عبادتك ومُعينك في عبادتك، واستعنهُ سبحانه، فالشريعة عبادته والقيام بأمره، والحقيقة استعانته في هذا الأمر وهذه العبادة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَل)). صحيح/ رواه جمهرة من المحدثين والصحاح. فالفاتحة جسّدت حقيقة الصّلة بين العبد والمعبود، كما كانت حقيقة الوجود شطرٌ عبدية وشطر حقيّة وربوبية. شطرٌ خلقية وشطر حقيّة.


الحمد لله ربّ العالمين : فكأنّ الحمد قام لله تعالى بربوبيته للعالمين، فحمد نفسه بنفسه إعلاناً بإسقاط العالمين من القيّومية والوجود الحقيقيّ، وأثبت وجودهم بحمدِه وربوبيته لهم لتعود حقائقهم وتفاصيلهم وحيواتهم إليه وحده لا شريك له قبل وجودهم، فوجودهم مجازيّ إمكانيّ مُحدثٌ اعتباريّ، مُتَوَهَّمٌ، فهذه آيةٌ معجزةٌ في الحقائق وحدها، من وقفَ عليها وقفَ على حقيقة العقائد وحقيقة التوحيد. فالله هو الموجود وهو الربّ الذي قام بربوبية العالمين والمخلوقات، فأثبت أحديّته باسمه الدّال على ذاته ليُعلمك أنّه هو الله حقيقة الحقائق وهو المُسمّى الحقّ والخلق. فكان إسم الله هو الإسم الجامع. الدّال على الواحدية بقوسيها الحقّي والخلقي، وقولنا الواحدية لأنّها الوحدة الجامعة للكثرة، والجامعة للشقّين، لذلك قال سبحانه وتعالى : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. غافر/16. فأتبع اسم الله باسم الواحد ثمّ اسم القهّار. فكان إسم الواحد هو المدخل على إسم الله وعلى معرفته، وكان القهرُ هو طريق شهود واحديته، لذلك اعتبر بعض المشايخ الذكر باسم القهّار من أسماء الوصول والتقدّم. لأنّ القاهرية إذا نزلت على العبد، وتجلّى عليه اسم القهّار لاحت له أعلام الواحدية، والواحدية هي علامة التحقّق بالإسم الأعظم. فإذا عرفتَ هذا، عرفتَ أنّ اسم الله له خليفة، هو حامل سرّه، جمع بين هذه الشقّين الشقّ الحقّي والشقّ الخلقيّ، خليفة له البطون والظهور حقيقة، هو معنى ومجلى اسم الله، وإلاّ فاسمُ الله قد جمع الشقّين فافهم. وكان دالاًّ على الواحدية والأحدية. فكان الإنسان هو الخليفة لهذا الإسم الحامل هذا السرّ المعظّم، هو عين اسم الله، بذاته هو الخليفة المهدي الخاتم. الوليّ. وهو الرّوح في مستوى الرّوح، لأنّ الروح الأعظم هو الروح المتجلّي بالوترية والشفعية، الوحدة والكثرة. فافهم. فهذا تحقيق التحقيق.

والخليفة واحد، الخليفة الأصليّ والوليّ الخاتم، وما عداهُ من الخلفاء الأفراد الكمّل هم خلفاء لهذا الخليفة. فهو صاحب السرّ الأوّل والذات والإسم الأعظم. وما عداهُ نائبٌ ووارث لخليفة إسم الرّحمن الذي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فافهم ما ذكرناهُ.
لذلك نعتَ الله سبحانه تعريفاً بصاحب هذا الإسم، لمّا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلّم عن الله. فقال الله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. قل يا محمد هو الله أحد. هو، وإسم "هو" أخصّ من إسم الله، لأنّه دلّ على الذات الساذج. هو،
ضمير غائب ومجهول، تعالى أن يُعرف أو يُدرك سبحانه، عزّ وجلّ عن الإدراك، لا يُدرِكُه سواه وحده لا شريك له، قل هو الله. الله : الإسم الجامع الدّال على الذات، قل هو الرّوح الأعظم، قل هو الخليفة الخاتم، قل هو الله أحد. هو أحد في أحديّته، لا موجود سواه، وجميع ما تراه إن هي إلاّ اعتباراتٌ قائمة به ولا انفصال بين ذاته وصفاته، فالحمدُ لله ربّ العالمين. ثمّ تنزّلَ في الخطاب فقال : الله الصّمد، هو السيّد الصّمد الذي استغنى عن غيره، وصمدت إليه المخلوقات والكائنات وافتقرت إليه، لم يلد ولم يولد، هو الأوّل الآخر الباطن الظاهر، لم يلد ليس آدم ولم يولد ليس عيسى بن مريم عليهم السلام. ولم يكن له كفؤا ولا نظيراً ولا ندّاً أحد.

يتبع ..

الجمعة، 11 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 55


 - 55 -

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} الكهف/9-10.

أم حسبتَ أنّ أمر هؤلاء الفتية عجَبٌ بما وجدُوهُ في كهفهم ورقيمهم وأمرِ لبثهم وحقائقهم العظيمة، كلاَّ كما قيل إذا عُرِفَ السّبب بَطُلَ العَجَبُ من وجهٍ، من وجه حقيقتهم ونسبتهم العظيمة القائمة بالله تعالى، وما انتسب لله تعالى فأيُّ كرامةٍ تتجاوزُهُ أو تسخيرٍ يقِفُ دونهُ ؟ إنّما خلقنا هذا الإنسان وسخّرنا له كلّ شيءٍ، فمن كان لنا كُنَّا له وأيَّدناهُ من عندنا، قال سبحانه {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية/13). فإذا عُرِفَ السّبب بَطُلَ العجبُ من وجه القدرة والكرامة والنّسبة لله تعالى وزادَ العَجَبُ من وجهٍ آخر، فحُقَّ لك أن تعحب من أمرهم لما أولاهم الله به من عناية وحفظ وتعهُّدٍ، فاقَ المقاييس البشريّة والعقول الترابية، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة/105).

فلمّاَ ضاقتْ عليهم الأرضُ بما رحبتْ، ولا بدّ أن تضيقَ بهم الأرضُ لأنّ قلوبهم شمّت ريحَ الرّحمن، ومن شمّ ريح الرّحمن جفى قلبُهُ لا محالة الأكوان والأوطان، واستوحشَ من أهلِ الدّنيا ولاحتْ عليه علاماتُ الغربة وأماراتها، وتغيّرتْ مناظيرُهُ للدّنيا والحياة، وفُتِحَتْ لهُ في قلبه نافذة إلى عالم أوسع وأرحب وأقوم ، إلى عالم الحقّ الموجود وحده لا شريك له، فغُمَّ عليه ممّا كان فيه، وبدأ ينزوي عن مناظيره السّابقة الماديّة، وليس بالضرورة انزواء جسدياً، بل هو انزواء شعوريّ.
فلمّا ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت أوَوْا إلى الكهف كهف القلب وكهف الملكوت المواجه لنافذة قلوبهم التي فتحت لهم فيها، وقالوا ربّنا آتنا من لدنك رحمةً، وتكرّم علينا بالنَّفَس الرّحمانيّ بعدما أذقتنا شذًى من نَسيمِه وأوردْتَ علينا نفحةً من هبوبه، فما عادَ لنا صبرٌ على فراقه أو طاقةٌ أن نتوجّه إلى غيره، كما قال الإمام ابن الميلق الشاذلي الشافعي رضي الله عنه (731-797 هـ). في قصيدته المنفوحة :


من ذاق طَعْمَ شراب القوم يدريه ... ومن دراهُ غداً بالرّوح يشريه
وقطرةٌ منه تكفي الخلْقَ لو طعِموا ... فيشطحون على الأكوان بالتيه

فمن ذاقَ نفحةً من النّفس الرّحمانيّ لا بُدَّ أن يحصلَ له جذبٌ إلى حضرة الله سبحانه، وتبدأُ رحلة أشواقه ولواعجه وصبابته المنفردة، أشواق بداياتُها لا تُشبهُ الأشواق الظاهرة، بل هي أحوالٌ من الغربة العظيمة ورحلة قهرية كبرى لأنّ روحه حوّلتْ وجهتها وتولَّهت بربّها وقلبُهُ غيّرََ تعلّقه بل استهلكته حضرة الله سبحانه في التعلّق، ولكنّه لا تتنزَّل حقيقة المشاهد والأحوال التي يُكابِدُها بَعْدُ على حضرة شهادته وعالم ملكِهِ ليعيَها ويُدركَها، ولهذا سمّوا المجاذيب لأنّهم مجذوبون من غير شعورٍ منهم لله سبحانه والله تولّى جذبهم إليه وأحوالهم، ولا يُدركون حقيقة تلك الأحوال ويفهمون تلك المنازل والمشاهد التي مرّوا بها إلاّ في النّهايات. فاختصرَ الله سبحانه دعاء هؤلاء الفتية في قوله : ربّنا آتنا من لدنك رحمةً، لأنّ السرَّ كلّ السرّ في النّفس الرحمانيّ والرّحمة، فالقلبُ الذائقُ الجامعُ لهذه الأحوال العظام وهذه الرّيح التي لا تُعادلها رياحُ الحوادث والخلْق هو القلبُ الرّحمانيّ، فدعَوا ربّهم : ربّنا آتنا من لدنك رحمةً ورُدَّنا يا اللهُ بفضلك ومنّك من فرقنا إلى جمعنا، وأخرجنا من وهمنا إلى حقيقتنا التي هي وجودُك، أخرجنا من وهْمِ اعتقادِ وجودنا إلى التوبة المطلقة من وجودِنا فلا نشهد موجوداً إلاّك يا عظيمُ هناك عند مقام الجمع وبرزخ الرّحمة وبحر القدم وأين الحادث من القديم يا عظيم ؟ سبحانك لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا تكلنا إلى غيرك، وتداركنا برحمانيتك لنتحقّقََ بصفاتِكَ وأخلاقك فتُمحقَ صفاتُنا وأخلاقُنا المذمومة الموصوفة بكلّ نقصٍ وعجزٍ وعدمٍ. آتنا من لدنك رحمةً كما وجد موسى عليه السلام عبداً آتاه الله من لدنه رحمةً وعلما، فسبقت الرّحمةُ العلم، فبالرّحمة نعلمُ بك {الرحمن علّم القرآن}. آتنا من لدنك رحمةً لنعثرَ على برزخ البحرين ومجمعهما، وقد فتحت لنا إلى هذا البحرِ نافذةً فغيّبتنا عن ذواتنا، فجُدْ علينا برحمتك فنتحقّق بعلم الحقيقة والشريعة، ونشهد بحر القدم وبحر الحادث بك يا ربّنا، وهيّئ لنا من أمرنا رشداً لنبقى بك ونتأيّدَ بكَ عن نفوسنا وزيغنا، ببقائكَ وفنائنا. بحياتك وموتنا، بوجودك وعدمنا، بحولك وقوّتك وعجزنا، بغناك وفقرنا، بعلمك وجهلنا.

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدً} فاستجبنا لهم دعاءهم وطلبهم، فضربنا على آذانهم في الكهف، وصرفنا مصارفَ قلوبهم عن غيرنا، ووجّهنا أسماع قلوبهم ومنافذها نحونا وتجليّاتنا حتّى لا يقِفُوا على غيرنا فيُفْتَنُوا، فظاهرهم أيقاظٌ وباطنُهم نيامٌ، ظاهرُهم في عالم الملك والشهادة وباطنهم في عالم الملكوت عند الله تعالى يتعهدهم سبحانه. ظاهرهم صحوٌ وحقيقتهم سكر وجذب، وعلامة كونِهم عند الله تعالى يتعهّدهم في السّماء قبل أن يستيقظوا ويرجعوا الى مقام الصّحو والبقاء به سبحانه، قوله سبحانه {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}. مدّة لبثهم المعجزة، فقال ضربنا على آذانهم سنين عددا، ظاهرها عدد معلوم قليل كما هو حساب عالم الملك والشهادة، وحقيقة لبثهم عند الله تعالى {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}. فلبثوا بأيّام الله تعالى يوماً أو بعض يومٍ كما ذكروا ذلك بعد استيقاظهم وصحوهم {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}. فكانت ثلاثمائة سنين مدّة لبثهم هي بعض يومٍ عند الله، في عالم الملكوت. {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]. أمّا عدم تحقيق الفتية لمدّة لبثهم فذلك راجعٌ للرّسوخ، فبقدرِ الرّسوخ والتحقيق يكونُ المرءُ علمُه محقّق، والله أعلم. ولذلك قالوا يوماً أو بعض يومٍ وقال الرّاسخون منهم ربّكم أعلمُ بما لبثتم، ففوّضوا فتفويض العلم والمشيئة لله تعالى من علامات التّحقيق. فكلّما زادَ العلم والتّحقيق والرّسوخ زادَ التفويض لله تعالى في العلم والمشيئة، لأنّهما له بإطلاق فالعلمُ علمُ الله تعالى، والمشيئة لله وحده، وإن كان هؤلاء المحقّقون نوّاباً لهُ، ألا ترى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ المشيئة والعلم في حديث المراحل الزّمنية للأمّة المحمدية، في حديث حذيفة رضي الله عنه "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها..."، ففوّض الرّفع لعلم الله تعالى ومشيئته المطلقة في جميع المراحل إلاّ مرحلة الخلافة الإلهية في آخر الزّمان فما ذكر تفويض المشيئة، لينبّهك يا مؤمن أنَّهُ هو الذي في الأرضِ إله كما هو في السّماء إله، وهو الظاهرُ بالصورة الآدمية في آخر الزّمان فكانت مشيئتُهُ واحدة "خلق الله آدم على صورته". لتعرفَ قدرَ هذا المهديّ فهو الدرّة اليتيمة، فتعالى أن يتساوى الخالق بالمخلوق في القدْر. وإن تساووا في الظهور والإنسانيّ ومظهر الخلافة فما استووا في القدر والحقيقة. فإلى الخليفة المنتهى والعلم والإمامة والمشيئة والحقيقة والتّصريف. ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.

ولستُ أزعُمُ علماً بحقيقة تلك المدّة واللّبث ولماذا خُصّصتْ بذلك القدر، فهذا علمٌ له أهله من أهل التّحقيق، وما نحنُ سوى مُقتاتين على هؤلاء العارفين بالله تعالى، وهم لا يخرجون هذا العلم وتفاصيله، فهو لأهله، وإن صدرت منهم بعضُ الرَّشحات فبقدَرِها وللضرورة.
ولكن يبدو لي اختلاف قولهم يوماً أو بعض يومٍ، راجعٌ أنّ هناك منهم من يلبثُ يوماً كاملاً من أيّام الله تعالى، وهو تحقيقاً المهدي عليه السلام. وهذا مذكورٌ بطريقة غير مباشرة في حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه مسلم في صحيحه عن مدّة لبث الدجّال : (أَرْبَعُونَ يَوْمًا ، يَوْمٌ كَسَنَةٍ ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ..). فذكر بعض العارفين بالله أنّ يوم كسنة هو اليوم الذي يتقابلُ فيه المهدي في جذبه مع إبليس (وإبليس روح الدجّال) في المواجهات ومداخل النّفس، أي اليوم الذي يتقابل المهدي مع الدّجال في ثوبه الإبليسيّ في حضرة الربّ سبحانه في عالم الملكوت وهو يوم من أيّام الربّ سبحانه، فكان من جنس السنة، فكان لبث المهدي في الكهف مدّة يومٍ. ثمّ يوم كشهر وهو يوم من جنس ليلة الحضرة المحمديّة، "ليلة القدر خير من ألف شهر" فذكر هنا الليلة المحمديّة من جنس الشهر. ويوم كجمعة أي كأسبوع وهو اليوم المعبّر عن أيّام الأسبوع السبعة أي نسبةً للسّموات السبع والله أعلم. ثمّ باقي الأيّام كسائر أيّامنا. وكونها أربعين يوماً لأنّ المهدي لا يبلغُ الكمال إلاّ عند الأربعين من عمره. فكانت أربعين يوماً بمقاديرها المختلفة. فهذا علمٌ فوق العلوم الظاهرة. واعلم أنّ العلم لا ينتهي ومطلق عند الله تعالى. لذلك قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "لو شئتُ لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير سورة الفاتحة"، وفي رواية (لو شئتُ لأوقرت سبعين بعيرا من باء بسم الله الرحمن الرحيم). فهذا العلمُ من علم الله تعالى اللّدنيّ الذي يُعلّمه أولياءه. وعلمُ الله تعالى مطلق بلا نهاية.

ثمّ لتعلمَ حقيقة هذا الخاتم الذي ردّ الله إليه حقائق الأمور، فظهرَ بحقائقها على الواقع مترجمة بآثارها في الأكوان، ليُعْلَمَ لأهل البصائر والعلم أنّه الذاتيّ الذي انعكستْ سيرتُهُ على الأكوان، فهو القطب الحقيقيّ، صاحب التّصريف الحقيقيّ، وليس صاحب التصريف سوى الله سبحانه. ولذلك ما فوّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -في حديث حذيفة- المشيئة والعلم في مرحلة حكم هذا القطب في آخر الزّمان ليدلّك أنّه القطب المتصرّف ويفعل ما يشاء وإليه يرجعُ الأمرُ كلّه. ولذلك كان علَم الساعة فهو صاحبها في الأساس. وجميع أشراط السّاعة الكبرى هي من آثار سيرة المهدي عليه السلام وظهوره.

ولستُ أدري لماذا كانت المدّة ثلاثمائة سنة التي ذكرها الله تعالى سبحانه وعلاقتها بالحقائق، ولكن يبدو لي -والله أعلم- أنّ هذا العدد من السّنين، له علاقة بالعدد ستمائة، لأنّ الله تعالى قال {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}. فقيل أنّهم كانوا يتقلّبون في السنّة مرَّتين، مرَّةً ذات اليمين ومرّة ذات الشمال، كي يُروّحَ الله عنهم، تارةً يلتفتونَ إلى الجهة الحقيّة وتارة يلتفتون إلى الجهة الخلقية، تارةً إلى الفضيلة والنّور والجمال والبسط والرّوح، وتارةً إلى الطّبع والكثافة والجلال والقبض والنّفس. ومن هنا صارَ العدد ستمائة تقليبة، ثلاثمائة إلى اللّطافة والحقيّة وثلاثمائة إلى الكثافة والخلْقية. وسرّ هذا العدد والله أعلى وأعلم، هو حرف النّون، الذي عبّرََ عن الدائرة الوجودية، فإذا اعتبرنا الوجود دائرةً، نصفها حقّ ونصفها خلق، كما ذكر الله "قاب قوسين أو أدنى"، فهما قوس الحقية وقوس الخلقية، ولكلّ إنسانٍ هذه الصورة "خلق الله آدم على صورته"، أي نصفه روح وغيب ونصفه جسم وحسّ، والنّون مُعبِّرٌ عن هذه الصورة كما أشار إلى ذلك الشيخ الأكبر، أنّ (ن) رسمُهُ نصف دائرة، فكانت نصف الدائرة المشهودة المحسوسة في عالم الحسّ والملك والشهادة هي رسمُ (ن) الظاهر، وأمّا النّصف الثاني الغيبيّ والقوس الحقّي فهو الغير مشهود لنا وغير مرسوم وغير ظاهر في الرّسم، اي القوس الأعلى فتأمَّلهُ (ن)، فكان النّون معبّر عن القوسين، قوس الغيب وقوس الشهادة. القوس الظاهر السّفلي هو قوس الشهادة، والقوس المخفيّ المستور الأعلى هو قوس الغيب. لذلك كانت نون، رسمها نونان : نون ثمّ واو ثمّ نون. فكلّ شيءٍ من الله بقدر وتقدير فاعلم.
والحروف التي جاء القرآن بلغتها ورسمها لها أسرار لا محالة، فهذا تقدير العزيز العليم الخالق سبحانه.
فالنّون في حساب الجمل عددها خمسون، وخمسون هي عددٌ مميّز منه سبحانه لذلك شرع الصّلوات خمسين صلاةً ابتداءً ثمّ خفّفها الله على حبيبه وصفيّه صلّى الله عليه وسلّم خمساً. كما قال صلّى الله عليه وسلّم "فراجعت ربيّ فقال هي خمس وهي خمسون لا يُبدَّل القول لدي". وحتّى اختصارها إلى خمس رجعت إلى عدد الهاء الذي عدده خمس، وهي هاء الهويّة -ذكر ذلك الشيخ الأكبر- فنابت الهاء عن النّون، رحمة من الله سبحانه بأمّة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم. فالحاصلُ أنّها خمسون، قيل هي متعلّقة بالهمّة والأقلام الكاتبة، فالنّون مذكور مع القلم، قال الله تعالى {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}. فكانت خمسون من كلّ جهةٍ، والجهات ستّ في الكون، فهي نون: نون الغيب ثمّ واو الجهات ثمّ نون الشهادة، فالواو عددها ستة. فانظر لهذا الإحكام، فإذا ضربنا خمسون في ستّة حصل لدينا ثلاثمائة، هذا بالنّسبة لنون واحدة، وهما نونان، نون الشهادة والحسّ والكثافة والخلْق، ونون الغيب والرّوح واللطافة والحقّ. فصار لدينا ثلاثمائة مرّتين، فصارت لدينا ستمائة. وهي تمامُ الهمّة الكاملة التي يتواصلُ فيها الرّوح بالجسم، والغيب بالشهادة، والقلبُ بالرّوح. وهو عدد أجنحة الرّوح الأمين، أجنحة سيّدنا جبريل عليه السلام. جاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح) رواه البخاري ومسلم. فافهم، فإنّ الرّوح عند نزوله قلب العبد الكامل، فذلك يدلُّ على كمال العبدِ واستعداده الكامل للتلقّي من الرّوح، وانفتاح كلّ نقاط التواصل والبورت والمنافذ بين الحقّ والعبد، فهذا علامة الهمّة الكاملة التامّة. فيصيرُ الإنسانُ روحاً في حقيقته وإن بدا على الهيئة البشريّة. فكانت ستمائة تقليبة، نصفها ذات اليمين لجهة الغيب والرّوح، ونصفها ذات الشمال لجهة الشهادة والحسّ والطّبع. فهي ترقّيات وتهيئة للاستعدادت الذاتية للقلب أن يكون محلاًّ قابلاً لنزول الرّوح عليه. ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)﴾. [سورة الشعراء]. وهذا مصداق قول الله تعالى في الحديث القدسيّ (ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن).

يتبع ..

السبت، 5 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 54



       - 54 -


{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}
فالحديثُ عن القلبِ هو أحسنُ الحديث، لأنَّ جوهر السّلوك والطّريق بهذا القلب، ولا نُريدُ الكلامَ عنهُ كلاماً عامّاً، بل نُريدُ اللّفتََ إلى حقيقة هذا القلبِ، فالسرّ كلّ السرّ في القلبِ، لذلك يعرِفُ السّبعة الأعلام ومعهم الخاصّة عند الكعبةِ يعرفونَ المهدي عليه السلام، يعرفونَهُ بسرّ القلبِ، فإنّ أصحاب المهدي الذين يبايعونه البيعة الأولى عند الكعبة بين الرّكن والمقام هم خاصّة الله تعالى وأهل كشفٍ إلهي وأهل علمٍ بالله من أعلمِ أهل الأرض بل أعلمُ أهلِ زمانهم وأصدق أهل زمانهم وأعلمهم علماً بالشريعة والحقيقة، مؤيّدون بروح القدس، فيعرفون المهدي برؤيته، بعلاماته وسمته اللاّئحِ على ظاهره ووجهه، فوجهه من أحسنِ النّاس صورةً وسمتاً، سمتُه وملامحُهُ دالّةً على فتى الرّقيم مرقومٌ بالعزّة والجلال ومرقومٌ بالرّحمة والصّفاء، وكذا فإنَّهُم يعرفونَهُ بقلبه وسرّه، وهذا هو سرُّ المهدي، يعرفُه الأكابر بقلبِهِ. فإنّ القلبَ إذا أردتَ مثالاً بسيطاً لمعرفة حقيقته فهو المعبّر عن الذات السّاذج، فأهلُ التحقيق من عباد الله المقرّبين وسِعَت قلوبُهم الحقّ سبحانه كما جاء في الحديث القدسيّ وذلك بنزول الرّوح على قلوبهم، كما نزلَ الرّوح الأمين على قلب سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم، فكان سيّد الجمع والقرب من الله تعالى هو صاحب القلب الجامع القارئ بالقرآن خليفة إسم الرّحمن المبعوث رحمةً للعالمين، وقلوب جميع الأنبياء والأولياء عليهم السلام تليهِ في القربِ من ربّه بحسبِ ما كتب الله لكلّ فردٍ منهم في الأزل، ولكنّهم نازلونَ ببرزخ الرّحمة فذاك هو مقام الجمع.
أمّا قلبُ الخاتم المهدي فهو الرّوح بعينه، أي أنّ قلبَ الخاتم المهدي لو مثَّلناهُ تمثيلاً لوجدت مكتوباً عليه الإسم الأعظم "الله". فهو عين الإسم الأعظم، أي أنّ المهدي سرّ الرّوح، فقلبُهُ هو سرّ الرّوح بالأصالة. فإذا رآهُ الأكابر عند الكعبة عرفوهُ، لا يخفى عليهم، كما لم يخْفَ عليهم حالُُهم القائم بالله سبحانه وشهودهم لتجليّاته وبقائهم بالله تعالى بين معاينة الأحدية والواحدية، بعروجهم الذاتي والرّوح النّازل في قلوبهم، فهم يطلبونَ الله تعالى في كلّ حالٍ وأمرٍ ولذلك إذ رأوا المهدي رأوا صاحب اللّطيفة الذاتية لا يخفى عليهم أبداً، رأوا حقيقتهم وروحهم وذات ذواتهم، كما أحبّ سيّدنا يعقوبُ ابنه سيّدنا يوسف عليهما السلام وتعلّق به تعلّقاً عظيماً، لأنَّهُ شهدَ قلب ابنه يوسف فرآهُ أصفى وأقرب إلى الله منه، فأحبَّ الله في يوسف عليه السلام، أحبّ مزيدَ تجليّاتِ الله عليه بقربه من يوسف، فافهم. فلا تظنّ أنّ الأنبياء عليهم السلام يفتقدونَ لدواعي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل أحوالُهم كلّها لله تعالى وهم أصفى العباد وأنقاهم وأقربهم لله تعالى. لذلك من وقف على قصّة يوسف في القرآن عرفَ كيف رقّى يوسف أباهُ عليهما السلام في درجة المشاهدة والتلقّي عن الله تعالى بعد ذلك، فكان ابنَهُ وكان أيضاً شيخه، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعد. وهكذا كلُّ قلبٍ لهُ سرُّهُ فقلبُ النبيّ هو الإسم الثاني "الرّحمن"، والرحمانية هي أعلى مراتب الوجود، هي مقام الجمع وهي مرتبة الصّفات والكمالات، فكان قلبُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه مدارُ الكمالات الإلهية والصّفات الربّانية والأخلاق العليّة، لذلك جعله الله الطّريق إليه والباب الأوحد، إذْ إذا لم تبلغ رتبة الصّفات والكمالات ومقام الجمع لا يُمكنُ أن تقرأ كتاب الوجود وتشهد حقائق الولاية والتفصيل، فتعرفَ الله تعالى بشهود أسمائه وصفاته من مقام الجمع ومقام القلبِ القارئ بالله تعالى، فقلبُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو القلبُ القارئ في مقامِ الجمع والتوحيد لكتاب الوجود وتفصيل التجليّات المتجليّة من الذات، فافهم، لذلك نزل عليه القرآن، والقرآن من القراءة، فكانت قراءة خاصّة فوق القراءة العادية، فزيادة الحروف زيادةٌ في المعنى وتخصيص وتمييز، والخلاصة هو قرآنٌ للكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، الذين تطهّروا من الدّنيا والنّفس والأنا والفرق، فصاروا إلى مقام الجمع والقراءة بالله تعالى، القراءة باسم الله الأعظم "الله"، فهذه هي رتبة إسم الرّحمن، فللرّحمن الرّتبة الوجودية الأعلى، لذلك كان أكمل الخلق وقدوتهم وسيّدهم ورسولهم هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مظهرُ اسم الرّحمن ومجلاه في حقائق العبودية والربّوبية، ولهذا خُصّ بالصلاة عليه كما سبق أن ذكرنا، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. فالصّلاة هي التجلّي عليه، فهو صاحبُ المقام المخصوص بالتجليّات بتمامها وكمالها، هو صاحبُ التمكين الرّاسخ والكمال التامّ، اصطفاهُ مولاهُ سبحانه في الأزل، قال «كنتُ نبيًا وآدم بين الروح والجسد» ، وقال : «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِلٌ في طِينَتِهِ». فهذا هو مقامُ النبوّة، فالنبوّة من الإنباء والاستنباء، إنباء الخلق بالرّجوع إلى ربّهم وإنبائهم برسالته إليهم ليعبدوه ويعرفوه سبحانه. ففي رواية : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : متى استنبئت؟ قال : (( وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق )). فكان صلّى الله عليه وسلّم نبيّاً في أمّ الكتاب، لأنّ الله ما خلق الخلق إلاّ ليرحمهم، فجميع أبواب العلم وجميع أبواب الخلْق وجميع أبواب الأقضية والأقدار متعلّقة بالرّحمة، وُلِدَتْ من رَحِم الرّحمة، فالتفصيل كلّه قائمٌ بالرّحمة، فكانَ النبيّ بالأصالة هو نبيّ الرّحمة المبعوث رحمةً للعالمين، فهو نبيُّ الأنبياء، وهو خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم، والخاتم والختْم هو الذي ختمَ الأمرَ واستوفاهُ إلى أقصاهُ ونهايتِه وحدِّه، فلا زيادة عليه ولا شيء بعده في ذلك الختم. كما تَختمُ رسالةً أو حساباً فلا يَقدِرُ أحدٌ أن يضيف عليه أو يزيد، ويُقالُ مختومٌ. ولهذا في القرآن العظيم تجدُ ذكر الأنبياء عليهم السلام إذا خاطبهم المولى سبحانه عزّ وجلّ : يناديهم بأسمائهم، يا موسى ، يا عيسى ، يا داود ، يا يحيى ، يا إبراهيم، بينما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا خاطبه المولى سبحانه خاطبه بقوله : "يا أيّها النبيّ". ذكر هذه اللّفتة العالية الشيخ الشعراوي رضي الله عنه، وهي حقّ. والقرآنُ كلّه حقّ وصدق ودقيق في عباراته وألفاظه، فهو مطلقٌ في معانيه ودلالاته لأنّه كلامُ الله تعالى سبحانه عزّ وجلّ، فالنبيّ هو نبيّ الأنبياء وخاتم النبوّة، رسولُ الإنباء وصاحب مقام النبوّة، فقامت الشهادة على طرفين : لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله. ثمّ لاحظ هنا إنّ الله تعالى ما تسمّى بالنبيّ، كي لا تُشركَ بالله تعالى ولا تعتدي على مقامِ التوحيد، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلم هو رسولُ الله تعالى، وإن كان متحقّقاً صلّى الله عليه وسلّم بكمال الصّفاتِ والأخلاق الإلهية كما ذكرنا وكان مظهراً للذات ومجلًى للأسماء والصّفات. ولكنّ الله تعالى تسمّى بالوليّ، فهل ترى في ذلك صُدْفةً أو عبثاً ؟ إنّما ليعرفَ العارفُ أنّ الولاية هي الأصل، لذلك قال أهلُ التحقيق من الأكابر أنّ الولاية هي الوجهة الإلهية للنبوّة، وقالوا : النبوّة دون الولاية وفويق الرسالة، لأنّ النبوّة خصوصية ذاتية، والرسالة وظيفة زائدة. ولكن كلّ نبيّ وليّ وليس كلّ وليّ نبيّ، فحصلت هنا خصوصية الأنبياء زيادة تخصيص. وكلّ رسول نبيّ وليس كلّ نبيّ رسول. فحصلت هنا خصوصية الرّسل زيادة تخصيص. وعليه فالعبودية قامت على الولاية، لأنّ الولاية عامّة، والنبوّة خاصّة، وهنا نعرفُ تمام العرفان والتّحقيق أنّ خاتم الأولياء هو صاحبُ العبودية المحضة المطلقة، لأنّ العبودية تعلّقت بالولاية، فكان خاتم الولاية، هو الذي ختم الولاية واستوفاها إلى نهايتها وحدّها وغايتها وأقصاها، ولا وليّ في الحقيقة سوى الله تعالى، فالله هو الوليّ كما جاء في الآية الكريمة، فكان خاتم الولاية هو العبدُ المحض في مقام العبودية، وهو صاحبُ الربّانية المثلى والأخلاق الإلهية العليا في مقام الخصوصية والربّوبية. فافهم هذا الكلام، فهو بسيطٌ واضحٌ لا لُبْس فيه. كونُ مصطلح خاتم الولاية لم يظهر تشريعاً، لأنَّهُ مكتومٌ، معرفتُهُ من الأسرار التي تَنْقُضُ الكثير من الحكمة التي أوجبها الله تعالى في عالم الحكمة، لذلك كان ظهورُهُ في ختام الدّنيا وآخر الزمان ومقروناً بالساعة والقيامة، وجاءَ الأمرُ لبعض أكابر الأولياء بإذنٍ من الحضرة العليّة حضرة الله سبحانه، وبإذنٍ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبوا حقائق هذا الختم المعظّم، ويبيّنوا مرتبته من أجله، ومن أجل أن تظهر الحقيقة في ختام الدّنيا ويظهر صاحبها. فقد ذكر الشيخ الأكبر أنّ كتاب الفصوص أملاهُ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فكتبه إملاءً من حضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في كتابه فصوص الحكم :"وكذلك خاتم الاولياء كان وليا وآدم بين الطين والماء ، وغيره من الأولياء ما كان وليّا إلّا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الالهية في الاتّصاف بها من كون الله تعالى تسمّى "بالوليّ الحميد" . فخاتم الرسل من حيث ولايته ، نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء والرّسل معه ، فإنّه الوليّ الرسول النبي." انتهى. فانظُر قوله كان خاتم الأولياء ولياًّ وآدم بين الماء والطين كما هي نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالنّسبة للأنبياء، فولاية الخاتم بالنّسبة لغيره من الأولياء هو الوليّ بالأصالة، وما من وليٍّ إلاّ وحصّل "الولاية" بتحصيل شرائطها عن طريق الرّحمانية والتحقّق بمقام الجمع ليقرأ حقائق الولاية وباسم الله تعالى اي باسم الوليّ الذاتيّ، وهنا قوله غيره من الأولياء هم جميع الأولياء بما فيهم الأنبياء، فافهم، فالأنبياء أولياء كذلك، وقلنا أنّ الولاية هي أصلُ العبودية وهي الوجهة الإلهية للنبوّة، فكان صاحبُ الوجهة الإلهية المثلى والعبودية المحضة والولاية الحقّة المختومة هو خاتم الأولياء الوليّ الذاتيّ، ثمّ عيّن لك السرّ لتفهم فقال : "من كونِ الله تعالى تسمّى بالوليّ الحميد"، فالوليّ هو الله تعالى سبحانه، فهذا هو معنى ختم الولاية، أي خَتَمَ مُسمَّى الولاية واستوفى حقائقها ومعانيها ودلالاتها فما فوقه زيادةٌ. فهو الوليّ بالأصالة والخاتم، لذلك نعتَ لك حقيقة ولاية خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام مقابلة لولاية خاتم الأولياء، فقال إنّ ولاية خاتم الرّسل أي النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم بالنّسبة لولاية خاتم الولاية، كما هي نسبة نبوّة الأنبياء بالنّسبة لخاتم النبوّة. فنبوّة الأنبياء قائمةٌ بتحقيق شرائط النبوّة، إلاّ النبيّ المحض الخاتم الذي كان نبيّاً وآدم بين الماء والطّين، فنبوّتهم تابعةٌ لنبوّته في الأصل والحقيقة فهو نبيّ الأنبياء كما شرحنا من قبل، وكذلك ولاية خاتم الولاية فولاية خاتم الأنبياء تابعة لولاية خاتم الأولياء وما قامت إلاّ بتحقيق شرائط الولاية بالله تعالى سبحانه، بخلاف الوليّ الخاتم فولايته أصيلةٌ من الأزل، إذ الوليّ هو الله سبحانه، فافهم هذا الكلام. فهذا تحقيق، وغيرُ هذا الكلام تزييفٌ واعتداءٌ على الحقائق.

فقلنا قلبُ النبيّ كان القلب القارئ وقلب الرّحمة مظهرُ اسم الرّحمن أصالةً، وكذا قلوب الأفراد المطهّرين من أفراد بني آدم استوى عليها اسمُ الرحمن، لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورة الرّحمن". ولكنّهم تفاوتوا في التحقّق بحقائق الرّحمن، واسم الرّحمن واسطة التحقّق بالإسم الأعظم، فبطونُ اسمِ الرحمن هو الإسم الأعظم "الله" الدّال على الذات.

لذلك لو تأمّلت سيرة الأكابر من أهل الله تعالى عموماً لوجدتها سير فيها الصّلاح وأشائر الحفظ والعناية والقرب ظاهرة عليهم من صغرهم، كما عرف النّاس اليوم الأوّل من رمضان برفض الشيخ الجيلاني قدّس الله سرّه وهو رضيع أن يرضع من ثدي أمّه، فلم يكن يرضع في نهار رمضان. والشيخ أحمد البدوي قدّس الله سرّه له هذا الصلاح وهو غلام، وكذا سير الصّالحين و الأكابر لهم من هذا الحفظ الإلهي الظاهر، الدّال على صلاحهم. وذلك أنّ جميع الأولياء ما حصّلوا الولاية إلاّ بتحصيل شروطها، وهي مقام الجمع الرّحمانيّ، بنزول الرّوح على القلب، فانعكس ذلك على سيرهم، فأرواحهم اقتربت من هذا البرزخ الرّحماني حفظاً كما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فالقربُ بقدرِ القربِ من سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم، وكذا سير الصّحابة رضوان الله عليهم. فالرّحمانية هي مقام الجمع، لذلك خرج منها الأكابر، أمّا الأنبياء فلهم العصمة قبل النبوّة وبعدها، وأمّا الأكابر فلقربِ أرواحهم من هذا البرزخ الجامع برزخ الرّحمة والأخلاق الإلهية، ظهرت عليهم ملامح القرب والعناية قبل تحقّقهم بشرائط الولاية.

بخلافِ المهدي عليه السلام، فكان صاحب الرّحمة، لأنّ الخلْق برزوا بالرّحمة أصلاً، والخليفة حقيقتهم الجامعة، فكانت الرّحمةُ صفتُه العظمى، ولكنّه عند جذبه تميّز عن جميع الأكابر بمحاكاته للأضداد والتلوّنات الفرقية الخلقية، لأنَّهُ في مقام التركيب العنصري والطيني، فعكسَ حقائق العناصر والخلق، لأنّه الخليفة الظاهر بهم في عالم الحقائق، فانظُرْ الفرقَ بين المهدي وغيره من الأكابر والأنبياء فلهم الحفظ البرزخيّ الرّحمانيّ، ولهُ الأصلُ الجامعُ الذي تجلّى بالأعيان والأضداد، لذلك ذكرنا أنَّهُ صاحبُ الرّقيم الأصليّ، فلمّا كان في كهفيّته وجذبه حاكى رقيمَهُ الأصليّ، فظهرَ برُقومِ ما تجلّى بهِ في الأصلِ فافهم، فكانَ رقيمُهُ حجاباً عليه أن يعرفَهُ أهلُ الدّعاوى من المنتسبين للطّريق، وحجاباً لهُ كذلك أن يُعرفَ من غيره، وهو قطب الأعاجب وقطب الحقائق وقطب الوجود، صاحب الكهف والرّقيم، لذلك عرّفه الشيخ الأكبر في فصل (لؤلؤة التحام اليواقيت وانتظام المواقيت) بقوله : ((فكان ياقوتة حمراء ، تجوّفت لها ياقوتة صفراء ، فأودعها سبحانه فيها وختم عليها بخاتم : "إن الساعة آتية أكادُ أخفيها")) انتهى. فهو في عهد التركيب العنصري ياقوتة صفراء، ثمّ عند الجذب تتعرّف الياقوتة الصفراء فيه بالياقوتة الحمراء التي هي ياقوية الحقيّة والخصوصية، وهناك يظهرُ بالحقائق الخلقية والأناوات الفرقية التي تجلّت منهُ في الأدوار والنّشآت الإنسانية المختلفة منذ عهد آدم عليه السلام، ثمّ ختاماً يظهرُ الختمُ المعظّم بعد الانسلاخ من التركيب العنصري وسقوط حجابه، قال الشيخ الاكبر في نفس الفصل (( فلمّا التحقت الحقيقتان والتفّت الرقيقتان زهرت الأفلاك واعتصمت الأملاك ، وظهرت الرّجوم لمن أراد الهجوم ، وتنزّل الروح الحقّ والكلم الصّدق ، ثمّ اختلت الياقوتتان في الظلمات لتعاين الصفراء ما غاب عنها من الآيات فعندما اجتمعت الصّفراء بأختها كانت لها بنتا ، ثمّ ارتقت إلى من كانت له بيتا فأكرمت الأمُّ مثواها وحمدت مسواها ، فتطلّعت الحمراء خلف حجاب الكتم ، فإذا هي بنور الختم فخاطبه بلسان الإستنباء أنا خاتم الأولياء ومقدّم جماعة الأصفياء.)) انتهى. فهذه هي حقيقة هذا الخاتم مقدّم جماعة الأصفياء، فهو صفيّ الأصفياء سيِّدُ الصّفاء ووليّ الأولياء، فافهم.
ثمّ يقولُ الشيخ الاكبر في نفس الفصل في ختامه : ((فإنّ القصد في هذا الكتاب هو معرفة الخليفة والختم وتنزّل الأمر الحتم فنقول : فرجع عوْدُهُ على بدئه في ليله وأدرك صلاة الصبح مع أهله، فتسوّد ذلك الجسدُ على أمثاله ممّن تقدّم أو تأخّر من أشكاله ، لمّا كانت مادة الحقيقة الأصلية والنّشأة البدائية إليه اسمه من ذاتها وإلى غيره من صفاتها.)) انتهى. فاقرأ إن شئت أنّ مادة الحقيقة الأصلية والنّشأة البدائية اسمهُ من ذاتها، أي اسمُه "الله" صاحبُ الذات، وغيرهُ من صفاتها أي إسم الرّحمن. فجميع الخلق انبثقوا من برزخ الرّحمانية، إلاّ هذا الخاتم فإليه الإسم الدّال على الذات، فتسوّد جسمه وهيكله على جميع الهياكل الإنسانية، فهو الذي قام فيه الحقّ لطيفة ذاتية. كما قال الشيخ عبد الكريم الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه "الإنسان الكامل"، يصِفُ حقيقة المهديّ الخاتم الوليّ: ((فقد سبق أن قلنا أن الحقّ إذا تجلّى على عبده وأفناه عن نفسه قام فيه لطيفة إلهية، فتلك اللّطيفة قد تكونُ ذاتية وقد تكونُ صفاتية، فإذا كانت ذاتية كان ذلك الهيكل الإنسانيّ هو الفرد الكامل والغوث الجامع، عليه يدورُ الوجود، وله يكون الركوع والسجود، وبه يحفظ الله العالم، وهو المعبّر عنه بالمهدي والخاتم وهو الخليفة، وأشار إليه في قصة آدم، تنجذبُ حقائق الموجودات إلى امتثال أمره انجذاب الحديد إلى المغناطيس، ويقهر الكون بعظمته ويفعل ما يشاء بقدرته، فلا يُحجبُ عنه شيء، وذلك أنّه لمّا كانت هذه اللطيفة الإلهية في هذا الوليّ ذاتاً ساذجاً غير مقيّد برتبة لا حقيقة إلهية ولا خلقيّة عبديّة، أعطى كلّ رتبة من رتبة الموجودات الإلهية الخلقية حقّها، ...)) انتهى. فانظُر إلى هذا الكلام العظيم الجريء الذي لا فوقه عن الخليفة المهدي، فهو صاحبّ اللطيفة الذاتية، قام فيه الحقّ لطيفة ذاتية وفي غيره قام الحقّ لطيفة صفاتية نفس ما ذكره الشيخ الأكبر، فكان المهدي الهيكل الإنسانيّ الكامل الذي استوجب الركوع إليه والسّجود، وباقي الصفات التي ذكرها فهي صفات العظمة والكبرياء، صفات لا تليق إلاّ بذي الجلال والعظمة والكبرياء سبحانه في جبروته وعزّته. إذ لمّا قال الله في الحديث القدسيّ (ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). فافهم أنّ الله تعالى سبحانه بجلاله وكماله وعظمته ما وسعته السّماءُ ولا الأرضُ، ولكن وسعَهُ قلبُ عبده، فمن هذا العبد الذي وسعَ قلبُه الله تعالى بالذات، فكان هو سرّ الرّوح الأعظم، وهو عين الذات والقائم والسيّد الصّمد الذي لا كفؤ له ولا ندّ تعالى الله في عليائه وكبريائه ؟ من هذا العبدُ؟ فالإنسانُ هو حاملُ السرّ الأعظم، لذلك كان الهيكل الإنسانيّ للخليفة هو العبدُ الكامل المحض المطلق حقيقة الحقائق والغوثُ الجامع والفردُ المحقّق، العبدُ في مقام العبودية والخليفة في الأرض، وهو الربّ والحقّ سبحانه في السّماء وفي مقام الربّانية المثلى والأخلاق الإلهية العليا بالأصالة، فهو صاحبُ أخلاق الله تعالى. ولذلك كان اسمُهُ "عبدُ الله". أي عبدُ الله سبحانه الذي ما وسعتهُ أرضُهُ ولا سماؤه ولكن وسعَهُ قلبُ عبده. فافهم هذا التحقيق العظيم.

ونقتبِسُ هنا كذلك أبياتاً من قصيدة الشيخ الأكبر عن الختم المعظّم أوردها في مقدّمة الفتوحات المكيّة :


إنْ قيلَ من هذا ومن تعني به... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمِ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

فانظُرْ بما وصفهُ هنا : خاتم الخلفاء، وذكر أنّه عبدٌ تسوّدَ وجهه من همّه، فمن هذا العبد الذي تسوّد وجهه من همّه ؟ إنّه خاتم الخلفاء في مقام جذبه قبل أن يكمل وينسلخ من تركيبه العنصريّ، تسوّد وجهُهُ من همّه وشدّة ما هو فيه من قهرٍ وجلالٍ وحالٍ، كما وصف الله تعالى أصحاب الكهف : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}

لولّيت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا، لحالهم والعظمة التي تكتنِفُهم في بواطنهم، فما احتملت ظواهرهم قبل التأييد والخروج إلى إطلاق الرّوح، لذلك كان المهدي وهو الخاتم، أشدّهم قهراً وحالاً وغربةً وعجباً، فهو صاحبُ الكهف والرّقيم، باطنُه عظيمٌ من عجائبِ الأحوال. وظاهرهُ يوحي بالغربة والقهر، لا يؤبه له أشعث أغبر.

ثمّ تأمّل هذا الخاتم كيف وصفه : أنّه لا نظير له ولا كفؤ في صفات جماله وجلاله. فهو صاحبُ الإطلاق وصاحبُ الملك وصاحب العلم وسرّ العباد ونور البصائر والسيّد الصّمد رغم أنفِ الحسود والمكابر والمعترض.


يتبع ..

الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 53



 - 53 -

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}

إنّهم فتية آمنوا بربّهم، إنّهم فتية من الفتوّة، وهم أهلُ الجذب لحضرة الذات لصفائهم، فما ركَنُوا لشيءٍ، لأنَّ قلوبَهم ذاتية ما وسعها إلاّ الله سبحانه، ومن وسِعَ قلبُهُ الله فأنّى يطيبُ بشيءٍ مهما كان هذا الشيء وهذا العطاء، لا مقامات ولا منازل ولا دنيا ولا جنان مهما غلا وعلا إلاّ وجه الله سبحانه "ليس كمثله شيء"، قلوبُهم تطلبُ الله سبحانه وكلُّ شيءٍ تنزَّهَ عنهُ وجهُ الله سبحانه، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. البقرة/115. فما دلّت الأشياء عندهم والمشارق والمغاربُ إلاّ على وجه الله سبحانه فما وقفوا عندها، بل هُم يريدون وجه الله لذلك قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم في نفس السورة {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف. يريدون وجهه، الذي لاحت منه الكمالات والجمالات والدّلالات والتجليّات، يريدون الله سبحانه، مُنتهى الصّفاء، لذلك فقلوبُهم ارتفعت عن جميع الحظوظ والمنازل والمراتب والمقامات والتصنيفات، اجتباهُم ربُّهم للصّفاء ، لوجهه، لحضرته. كالملك العظيم الكريم قسّم العطايا والغنائم والأرزاق والحدائق والقصور على الذين أدّوا عملهم ووظائفهم على أحسن وجه كما أمرَ وكما طلب، ثمّ ترك زمرةً من الحاشية عنده بعد أن ذهبَ كلُّ عامِلٍ وقائدٍ وراعٍ إلى هداياه وعطاياهُ فرحان بها، فقال لهم أمّا أنتُم فقد اجتبيتُكم لحضرتي وصحبتي ومنادمتي فمكانكم عندي ذلك أنَّ هؤلاء عملوا وأحسنوا العمل محبّة للملك لا طلباً لشيءٍ، بل طلباً لمحبّته ومعيّته، فلو أرسلهم مع ذوي العطايا والهدايا ما يكونُ قد وفَّاهُمْ مطلبهم وأجرهم ولا شكرهم على عملهم وسعيهم. ولله المثل الأعلى فهؤلاء آثرهم الله بحضرته وقربه وأهداهم فوق ذلك خزائن مملكته لا يُمنعُ عنهم شيءٌ. كما جاء في الحديث الصحيح ((فَيَقُولُ : " أَيْ عِبَادِي سَلُوا " . فَتَقُولُ نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ . قَالَ : فَيَقُولُ : " قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ " . فَيَسْأَلُونَ فَيُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوا وَأَضْعَافَهَا ، فَيُعْطِيهِمْ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ . ثُمَّ يَقُولُ : " أَلَمْ أُنْجِزْكُمْ عِدَتِي ، وَأُتِمَّ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي ")) . ذكر الشيخ الجيلي رضي الله عنه بما معناه فإنّ الله يسألهم سلُوا، فلا يسألون سوى الرّضوان وما خطر على بالهم من النّعيم، فَيُعطيهم الله ذلك وأضعاف ذلك، ولكنّهم لم يسألوهُ فوق ذلك، لأنّهم عاشوا حياتهم على ذلك المطلب وتلك الغاية وهي شريفة وعالية جدّاً، وما خطر على بالهم أن يكونَ فوق الرّضوان ما يُسأل، فكان هناك من هو أعلى منهُم الذين ما طلبوا غير وجه الله سبحانه. وهم هؤلاء الذاتيون أهل الحضرة وأهل المحبّة، فما جزاهم ربّهم سوى نعيم الحضرة وجنّة القرب، وانظُر في تقسيمات الجنّة ودرجاتها لتعلَمَ أنّها ثمانية درجات، أعلاها المقام المحمود والوسيلة ولا تنبغي إلاّ لعبدٍ واحدٍ وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صاحب المقام المحمود سيّد الأوّلين والآخرين وشفيع الخلق عند ربّه. ولو وقفنا على آياتِ سورة الرّحمن لوجدنا كيف اختلفَ العلماء والمفسّرون في تقديم أيّ الجنان هي الأعلى والأقرب، وذهب الجمهور أنّها المذكورة في الترتيب الأوّل لما ذكرَ الله فيها من تفصيلاتٍ كثيرةٍ، بينما ذهبَ حبرُ الأمّة ابن عباس رضي الله عنه وغيرُه من أمثال الشيخ الأكبر والقاشاني في تفسيره التأويلات وابن عطية وغيرهم أنّ الجنّة الثانية في الترتيب "مدهامتان" هي الأعلى والأقرب، ولا أريدُ التفصيل هنا، ولكنْ في هذا الاختلاف إشارةٌ أنّ عدم تمييز "المدهامتان" على كونِها جنّة القرب وفوق التي تسبقها في الترتيب، هو نفس ما ذكرناهُ من كونِ عامّة المؤمنين وخواصهم (إلاّ خاصة الله سبحانه) ما خطر على قلوبهم أصلاً هذا النّوع من القرب الذي هو فوق الرّضا. فهما جنّتان جنّة الذات وجنة الصفات كما ذكر ابن عباس، وهي منازل المقرّبين من الرّسل والأنبياء والأولياء ومنهم الملامتية أهل القرب، ومن علاماتها قوله تعالى {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} الرحمن/72. فهي خيام الفردانية بين الأحدية والواحدية، أخفاهم الله عن غيرهم أن يعرفهم. وحورُها لا تتعرَّفُ إلاّ على الكامل والذاتيّ الفرد الذي قطع مفاوز الطريق وتجاوز البحار بحار الأفعال وبحار الصفات إلى بحار الذات. مقاييس جمالها وحبّها عالية جدّاً، ولا تنظُرُ إلى غيرِ الأصفياء الذاتيين.

قال الله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}. فكانت زينة الأرض والدّنيا اختباراً للنّاس أيّهم أحسنُ عملا، والله لا ينظُرُ إلى صوركم ولا إلى مظاهركم وتزيّنكم وتقعّركم بين بعضكم بعضٍ بل ينظرُ الى القلوب والأعمال وحقيقة الأعمال الموزونة بمكيال المحبّة والصّدق، لنبلوهم أيّهم أحسنُ عملاً ، أي أشدُّهم صفاءً وطلباً لوجهنا، أيّهُم ارتفع عن الحظوظ والوجاهات ظاهرها وباطنها، فكلّها تجليَّاتُه سبحانه، فما جانَسَ شيءٌ ذاته سبحانه، فهذا هو أصلُ التسمّي بالتصوّف، إنَّهُ الصّفاء، ودَعْكَ من أهلِ الحظوظ الذين شابهوا أهل التصوّف في النّسبة الإسمية والرّسمية فهُم يطلبون الحظوظ والوجاهاتِ في أيّ شيءٍ يجدونَ فيه الوجاهة والحظوظ والمناصب، فإذا قلتَ التصوّف كما هو الواقع، فهو أنفارٌ وأنفارٌ بلا عدد، دوائرٌ وراء دوائر، كلّهم يزعمُ التصوّف، أمّا التصوّف الحقيقيّ المشتقّ من الصّفاء وإرادة وجه الله تعالى فهو الصّفاء وترك ما سوى الله سبحانه. يشهدُ بذلك عليه الوصول إلى بحار الذات، ولقاء حور الذات. قال الشيخ الرائد محمد زكي إبراهيم رضي الله عنه في رسالته المشهورة المعطّرة بريح الحقّ وروح القدس : ((يا ولدي: إذا قيل: إنَّ التصوف من (الصفاء)، فقد أصبح اسم التصوف أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، لأن الشرط في الاشتقاق: التجانس ، والموجودات كلها: ضد (الصفاء)، إنَّها كدر (إلا ما كان لله)، ولا يشتق الشيء من ضدِّه.)) انتهى.
نعم إذا كان التصوّف من الصّفاء فأين مشتقّ الصّفاء ؟ لذلك ابتلى الله النّاس بزينة الحياة الدّنيا، وزيّنَ الأرض، أرضَ النّفس والفرقِ بالعطايا والمقامات وراء بهرج الدّنيا الظاهر فقلّما يسلَمُ من هذه الدّنيا إلاّ الصّديقون والأصفياء الذين ربط الله على قلوبهم، فانظُر قوله تعالى {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}. فقال ربطنا على قلوبِهم، أي جذبناهم إلى حضرة ذاتنا فلم تلتفتْ قلوبُهم لغيرنا، فما زالتْ قلوبهم مجذوبة لحضرتنا وذاتنا حتّى تجاوزوا كلّ الظلمات والبهارج والعوائق والأغيار ووصلوا إلى الصّفاء وصلوا الى الواحد الأحد سبحانه. لا إله إلاّ الله، لا موجود إلاّ الله ، لا شيء يستحقُّ الطّلب والتوجّه إلاّ الله ، فافهم سرّ هذه القلوب، فالقلبُ هو بيت الربّ سبحانه، وتفاوتَ الإنسانُ بالتعرّفِ على حقيقة قلبه، والكشف عن الحجب التي حالت بينه وبين من يغذّي قلبه بالحياة والنّعم جميعها، لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). رواه البخاري ومسلم. وقال الله تعالى في الحديث القدسيّ (ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). فهذه هي قلوب الأصفياء ما وسعها السّماء ولا الأرض، فما جانسَ صفاءها شيءٌ فما وقفتْ على شيءٍ مهما كبر عطاؤه ومقامه، حتّى وسعتْ قلوبها ربّها، وصار القلبُ عرشَ الله سبحانه. فابحثْ عن قلبِكَ أيّها العبدُ ولذ بالله سبحانه وحده لا شريك له، فلمّا كانتِ السّمَاءُ والأرضُ على سعتها لم تسع جلاله سبحانه وتجليّاته، فلا تُتعبْ نفسك بالبحث بعيداً، ولكن ابحث عن الله سبحانه في قلبك، ولا بدّ لك من مرآةٍ نقيّة ترى بها الطريق إلى قلبك، إلى ربّك "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"، وهذه المرآة ليست سوى القلوب التي وسعت الحقّ سبحانه، قال صلّى الله عليه سلّم "المؤمن مرآة المؤمن". فإذا كان قلبُك لم يصلْ بعدُ لحضرة المؤمن سبحانه فابحث عن العبد المؤمن الذي وسع قلبُه الحقّ سبحانه ((ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)). فهناك مطلبُك وكهفُكَ.
ودليلُك إلى هذا العبد الواصل هو قلبُك مرّة أخرى وصدقُك، فقِفْ بالباب ولا تهجرْ تلك الأعتاب حتّى يُؤذن لك بالدّخول، وقلْ عبدٌ آثمٌ ضائعٌ ضيّعَ الدّليل وضيّعَ الطريق ومشفِقٌ من نفسه وحظوظها والسّراب الذي لاحتْ مراياهُ في ذاك الطّريق المهجور الذي درست معالمه، فما بقيَ في الأرضِ سوى عبيد الطّبع وعبيد الهوى الدّونيّ وعبيد المتع والوجاهات، فتبرّأ من حولك بكثرة قولك لا حول ولا قوّة إلاّ بالله تعالى، واستغفر لذنبك صبحاً وعشيّاً، وصلِّ على من صلاتُه نورٌ الذي من صلّى عليه مرّة، صلّى عليه الله عشراً وقد قال سبحانه {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ}.

يتبع ..