الاثنين، 4 نوفمبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 58



- 58 - 

قال سبحانه {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدً}.

فلمّا أوى الفتية إلى الكهف، أوَوْا إلى كهف الحقيقة لترقّي عقولهم عن الوهم الذي يتداوله النّاس بينهم، الوهم في طبيعة المعاملات ودوافعها ومخارجها، فإنّك تكونُ مشغولاً بعملٍ أو نوع حياةٍ أو تجارةٍ أو نوع شُغلٍ، فإذا بك تصطدِمُ بحقيقةٍ تلوحُ لكَ عن هذا العمل والشغل والاهتمام الذي كنت تدمنه وتتفاعل معه فتغدُو بعد ذلك متحاشياً له راغباً عنه زاهداً فيه، كأنّك اكتشفتَ فيه شيئا أسقطه من عينك وأخرجه من قلبك، فسبحان مقلّب القلوب. عن شَهْرِ بْنِحَوْشَبٍ قَالَ قُلْتُ لِأُمِّ سَلَمَةَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ مَا كَانَ أَكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا كَانَ عِنْدَكِ؟
قَالَتْ: كَانَ أَكْثَرُ دُعَائِهِ (يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ) قَالَتْ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَاأَكْثَرَ دُعَاءَكَ يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ؟ قَالَ (يَا أُمَّ سَلَمَةَ، إِنَّهُ لَيْسَ آدَمِيٌّ إِلَّا وَقَلْبُهُ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ فَمَنْ شَاءَ أَقَامَ، وَمَنْ شَاءَ أَزَاغَ!)
فَتَلَا مُعَاذٌ {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}

فالقلوب بين إصبعين من أصابع الله، بين لَمَّتين لَمَّة الملك ولمّة الشيطان، لمّة الرّوح ولمّة العنصر والطبيعة الترابية والنّزغات النّفسية، فلمّا أوى الفتية وقد اعتزلوا ما يعبد النّاس من دون الله، فوصف الله حالهم في الكهف، فقال ترى الشمس تَّزَاورُ عن كهفهم، كهفهم أي ذواتهم وعوالمهم وأبدانهم، تزاور ذات اليمين، والازورار هو الميل، والشمس هنا المقصود بها شمس الرّوح، شمس الحقّ سبحانه، إذ دخلوا حضرة الجذب لحضرة الله سبحانه، فكانت الشمس ونور الحقّ يزّاور عنهم ذات اليمين أي يميلُ إليهم ذات اليمين، وذات اليمين أي أنّهم يميلون إلى الحقّ والفضيلة والخير ولطافة الرّوح العارفة العابدة لذلك وصف الشمس بالازورار والميلان من جهة اليمين، بينما وصف الشمس بالقرض ذات الشمال، أي تقطعهم عندما يميلون إلى جهة العنصر والتراب والنّفس، فذكر هنا اللّمتين التي يترواحُ فيها هؤلاء الفتية لأنّهم في كهف الذات، حيث الجمال والجلال منه سبحانه، وما من تجلٍّ إلاَّ منه سبحانه، ولأنّهم مرادون للخلافة الكليّة فظهرتْ عليهم الأحوال في تقلّباتها ذات اليمين وذات الشمال، فقال و هُم في فجوةٍ منه، أي في متَّسعٍ في كهفهم لم تسكُن قلوبهم لجمالٍ أو جلالٍ، قلوبهم في فجوةٍ من الازورار والقرض، في قبضة الملك الديّان سبحانه، يتعهَّدُها. ثمّ تلا ذلك قوله : ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدً. فتأمّل يرحمك الله تعالى كيف ذكرَ معنى الحديث الشريف السّابق في تقلّب قلب العباد بين إصبعين من أصابع الله تعالى، وأنّ الهداية بيده سبحانه والإضلال بيده سبحانه. فمن والى الله واهتدى بهديه فهو هاديه فهل مضلٌّ لمن لاذ بالله سبحانه ؟ أم من استغنى ونكص على عقبيه وأخذته العزّة بالإثم فمن يهديه بعد إضلال الله له ؟ ذلك من آيات الله. فكانت هذه الآياتُ تصِفُ بالدقّة حضرة المهدي المجذوب وتقلّبه في الأضداد، فهو الخاتمُ الفتى والأصلُ الجامع بين الأضداد، الظاهر بجميع الحضرات حضرة أهل اليمين وحضرة أهل الشمال وحضرات السّالكين ثمّ حضرة التقديس وأهل الكمال عند كماله وتمامه. الجامع لفصوص الأنبياء جميعاً، فهو الخليفة الوليّ النبيّ الرّسول، والجامع لفتوّة الفتيان، ومسالكهم، الظاهر بها المتقلّب فيها السادّ لثغراتها جميعاً، حتّى يكمل فيكون الأصل العالم الواحد الأحد السيّد الصّمد.

و لا عجبَ، فسورة الكهف قراءةُ بداياتها هي المانعة ضدّ الدجال والعاصمة من فتنته كما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم، والمهدي هو الرجل الذي يخرج الأرض وأهلها من فتنة الدجالوينقذهم منها. وهنا جديرٌ أن نضع نقلاً سبق أن وضعناهُ عن الخاتم في تركيبه العنصري وفترة جذبه وتقلّبه في الأضداد كما هو الأصلُ، قال الشيخ الأكبر في كتاب الفصوص في كلمة شيثية ((وهذا العلم كان علم شيث عليه السلام وروحه هو الممدّ لكل من يتكلّم فيه مثل هذا من الأرواح ما عدا الخاتم فإنّه لا يأتيه المادة إلاّ من الله لا من روح من الأرواح، بل من روحه تكون المادة لجميع الأرواح وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان تركيب جسده العنصري. فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كله بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري. فهو العالم الجاهل، فيقبل الاتّصاف بالاضداد كما قبِلَ الأصلُ بذلك، كالجليل والجميل، وكالظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه ليس غير. فيعلم ولا يعلم، ويدري ولا يدري، ويشهد ولا يشهد.)) انتهى.

فذكرَ أنّه يقبلُ الاتّصاف بالأضداد في مرحلة جذبه كما قبل الأصل ذلك وهو عين الأصل لا غير. والأصل هو الله سبحانه الذي تجلّى بالجمال والجلال سبحانه.

عَنْ عُبَادَةَ أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنِّي قَدْ حَذَّرْتُكُمُ الدَّجَّالَ حَتَّى قَدْ خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ أَدْعَجُ أَعْوَرُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلا حَجَرًا فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ بِأَعْوَرَ وَإِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا».


فقوله صلّى الله عليه وسلّم إنّكم لن تروا ربّكم حتّى تموتوا، أي لا تحلم ولا تتوقّع أيّها العبدُ أن ترى الله قبل أن تموت، وفي هذا الحديث الشريف المروي من عدّة طرق، الواردة فيه هذه العبارة : وَإِنَّكُمْ لَنْ تَرَوْا رَبَّكُمْ حَتَّى تَمُوتُوا. من جوامع الكلِم، أوَّلُ ما فيه عصمة أمّته من فتنة الدجّال الكذاب الفتنة الكبرى إذا ظهر بخوارقه ودجله الأكبر وله تأييد من الشياطين والعفاريت والسّحر والتكنولوجيا، فيفتن النّاس أعظم فتنة مدّعياً فيهم الربّوبية والألوهية. وهو الكذَّابُ الأعور الدجَّالُ المفسد في الأرض، صورة الدجل والشرّ والعور، عين المادّة وعين النّفس طافيَ البصيرة، لذلك هو أعور، أي له عينٌ واحدة هي عين المادّة والنّفس وليس له عين الرّوح والبصيرة. لأنّ الإنسان الكامل حقّ وخلق، فالدجّال هو صورة الإنسان الأعور المفصول عن مدد روح القدس المبتور عن حضرة الألوهية الجامعة، المفصول عن حضرة الجمع والواحدية والأحدية. وما ظهرَ هذا الدجّال وبفتنته الكبرى التي لم تعادلها فتنة في تاريخ البشرية إلاّ بتجليّات الخليفة، لذلك ما تصدّى لهُ إلاّ الخليفة. فافهم. ولهذا كان الذي يقتلُ الدجّال هو مقلوبه أي الإنسان المؤيّد بروح القدس ورمز روح القدس نبوَّةً، وهو المسيح بن مريم عليهما السلام، فالدجال مقلوب ومعكوس المسيح روح الله عليه السلام. لذلك ما سلّطَ الله عليه إلاّ المسيح روح الله ليقتله قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم: ((لم يسلط على قتل الدجال إلا عيسى بن مريم عليه السلام)). رواه أبو داود.فالحقائق تصرِّحُ بذلك. فهنا حقائق وسنعود لها.
فقال صلّى الله عليه وسلّم : إنّكم لن تروا ربّكم حتى تموتوا، أي رؤية الله ليست واقعة إلاّ في الآخرة فقط في العموم، إلاّ من ماتَ موت الفناء الأكبر في الدّنيا فشهد الدّنيا والآخرة والحقائق على ما هي عليه وعرف الله سبحانه حقّ المعرفة، وهم أهلُ الفناء الأكبر والبقاء بالله تعالى، فهؤلاء ماتوا، ماتت نفوسهم وخرجوا عنها مطلقاً، فنوا عن نفوسهم في الله فهم بالله باقون، وهم أهل الكمال وأهل الكشف الأكبر. أكابر القوم والعارفين بالله تعالى. أمّا غيرُهم ممّن لم يمتْ ولم يفنَ عن نفسه، فهذا فليحذرْ أن يخدعه الدجّال بتلبيساته، فإنّك لن ترى الله حتى تموت، أو حتى تنتقل إلى عالم الآخرة وهناك كما قال الله تعالى {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)} سورة ق. ثمّ أعطاك علامةً إذا التبس عليك الأمر أنّ ربّك ليس بأعور، والدجَّالُ جعله الله أعور العين، ليُعلمَ أنّه الطافي العين والبصيرة الكذاب، المقطوع عن حضرة الألوهية الجامعة، وإنّما كان ظهوره من حقائق التجليّات الإنسانية في الأرض، فافهم. فهو صورة الإنسان الكبير مفصولٌ عن حضرة الجمع والواحدية، ما عبّرَ إلاّ عن الخلقية والمادة فتظاهرَ هذا المسخ المفتون الدجال مع إبليس، وإبليس هو روحه وممدّه لفتنة الخلق والنّاس وادّعاء ما ليس له.

فإذا قلنا أنّ الخليفة المهدي هو المظهر الذاتي الذي يظهرُ فيه الله تعالى، فهذا كلامُ الحقائق المكتوم، بل الدجَّالُ علامةٌ من العلامات الدّالة على حقيقة الإنسان الكبرى وأنّه صاحب الصورة، وأنّ ثمّة خليفة هو صاحب المظهر الذاتيّ وإلاّ ما تجلّى هذا الدجَّالُ بهذا العلم الماديّ وهذا التدجيل وهذا السّحر وهذه الخوارق الكبرى الفاتنة التي ضاهت معجزات الأنبياء، وهي ممدودة من المادّة والعلم الماديّ والسّحر والتدجيل والعفرتة والشيطنة وليست من جنس معجزات الأنبياء عليهم السلام المؤيّدة بروح القدس ، فافهم. ثمّ انظُرْ متى ظهرَ الإمام المهدي ؟ فقد ظهرَ في مواجهة الدجّال وظهيره إبليس بفتنتهما الكبرى هذه، فما ظهرَ هذا الإمام الأعلى إلاّ في زمنِ الدجّال المدّعي ما ليس له. إنّما ظهرَ ليدفع تدجيله وفتنته وخوارقه الزائفة وينقذ الأرض منه ومن كذبه ويردّ المرتبة لصاحبها ولإتمام عالم الحقائق المتجلّي من أسمائه إلى آثاره على الأرض، ويقدّس الأرض من شرّها مطلقاً، ولذلك كان ختام حكم المهدي هو نزول المسيح روح الله عليه السلام، فيقتلُ المسيح ابن مريم عليهما السلام الدجال. ويخلّص الأرضَ منه، ولماذا لا يقتلُ المهدي الدجّال ؟ فقد ذكرنا وجهاً من سبب ذلك وهنا حقائق وعلمٌ كبيرٌ، تعلّق بالمراتب والمنازل والحقائق. فالمهدي مقامُه الخلافة الذاتية، والخلافة الذاتية حكمُها متعلِّقٌ بالأسماء. فإسمُ الله، هو الإسم الجامع للأسماء، وهو باطنُ الصّفات. أي بمعنى آخر، إسمُ الله حينما يتجلّى تتجلّى معه الأحدية والواحدية. فيتجلّى البطونُ للظهور، فيُعطي الإسم الأعظم الله، وإسم الله كما قلنا هو العلَمُ على الذات، والذات هي الجامعة لحضرة الأسماء. وهنا علمٌ دقيق، صعبٌ تمييزُه هكذا بلا خلفيات. ولكن ما نقولُه أنّ إسم الله هو إسم الذات، وفي الذات الأسماء هي عين الذات. هذا في مستوى، وفي مستوى آخر، في عالم الأرض والتجليّات، فحكمُ المهدي تعلّقَ بالأسماء، (ذات أسماء) متخطّياً حضرة الصّفات، ففي عالم التجليّات والأرض، نقولُ ذات ثمّ صفات ثمّ أسماء. بهذا الترتيب. لأنّ إسم الذات "الله"  توسّط لديه إسم الذات الصّفاتي "الرحمن" فظهرت الأسماء وآثارها في الأرض فافهم، لذلك فهي ذات صفات أسماء بهذا الترتيب. أمّا في عالم العماء فالأسماء هي عين الذات، فالأسماء متضمّنة في الذات بأعيانها العلمية، فلا وجود إلاّ للواحدية الإلهية، والواحدية هي مظهر الألوهية من حيث الوحدة والكثرة. فمن حيث الوحدة ذات ومن حيث الكثرة أسماء. فحكمُ الخليفة هو حكمُ الله في الأرض، فهي خلافة الله في أرضه، وبالتاّلي فهو حكمٌ ذاتيّ أسمائيّ، وعالَمُ الأسماء هو العدلُ، لأنّه يُعطي كلّ إسمٍ حقّه ومرتبته وحكمه، لذلك يظهرُ المهدي بالعدل المطلق التّام، كأعدل ما يكون فيملأُ الأرضَ عدلاً. ولهذا نجِدُ مجموع أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حينما تتحدّث عن حكمِ المهدي تتحدّث عنه بصفة العدل، رجلٌ يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت من قبله ظلما وجورا. فافهم. فهذا حديث جامع الكلم صلّى الله عليه وسلّم، ولا يَفهمُ معنى العدل الكامل في الأرض إلاّ أهل الله أهل التحقيق من القوم، كما هو تصريحُ أعلمهم بالله تعالى رسوله صلّى الله عليه وسلّم فوصف المهدي بالعدل والقسط، فيفهموا أي هؤلاء العارفين بالله مرتبة المهدي وأنّه صاحبُ الأسماء، صاحب جمعية الأسماء، وليس جامع الأسماء سوى إسم الذات الله. فافهم. فلذلك أعطى الأسماء عدلها في التجليّات، قال الله تعالى {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ * الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} سورة الملك. فارجِعِ البصرَ كرّتين في الأكوان وفي خلق الرّحمن فهل ترى من فطورٍ ؟ ارجِع البصر ينقلب إليك البصرُ خاسئاً خائباً وهو حسيرٌ كليلٌ أن يرى تفاوتاً أو فطورا أو قصورا، سبحانه الخالق المبدع العادل المنظّم الذي خلق فسوّى وقدّر فهدى وأعطى كلّ شيءٍ قدره وعدله واعتداله في اتّساق رهيب بديع وفي حكمة لا نهاية لإدراكها وإدراك غورها. فهذا حكمُ الله وتجليّاته سبحانه، وكذلك حكمُه إذا ظهرت خلافته في الأرض في آخر الزمان فسترى العدل المحكم التّام المطلق حتّى تمتلأ الأرض بعدله في الأرض. فتكونُ مرحلة حكمه كأنّها جنّة من العدل والرّحمة والخير والرفّاه.
فقلنا كان حكمُ المهدي ذاتيّ أسمائيّ، وعالَمُ الأسماء في الفرقِ -أي من حيث الحقائق الفرقية منقطعة عن حضرة الجمع والوحدة والذات- هو عالمُ إبليس، لذلك كان إبليس عدوّاً للخليفة، فافهم، ألا ترى أنّ عداوة إبلس قد أعلنها الله حينما خصّ آدم بالخلافة الأسمائية وعلّمه الأسماء كلّها ؟ فإبليس عادى الخليفة، عادى أن يكونَ الإنسان هو حامل سرّ الخلافة، قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} سورة البقرة 30-34.
فقصّة عداوة إبليس بدأت مع قصّة آدم عليه السلام وتعليم الأسماء. وقصّة الخليفة. لذلك فالمهدي في جذبه حربُهُ مع إبليس حرب كبرى، إبليس العالم بمداخل النّفس بجميع مداخلها وخديعتها ومكرها، وهنا كلامٌ كبير حول إبليس وعداوته الكبرى للإنسان، وحسده وشرُّهُ المستطير وحقده الدّفين على الإنسان، وكيف أنّه استكبر كبراً وجعل من نفسه ملكاً على عرشٍ في جزيرة على البحر يريدُ أن يُعوّضَ على نفسه ممّا فاته من طمعه أن يكون هو الخليفة، فإبليس يرى أنّه مسلوبُ الخلافة من الإنسان، وأنَّهُُ الأحقُّ بها، لذلك أقام مملكته مشابهة لتخيّلاته في مملكة الله سبحانه. وذلك كلّه من إرادة الله وتدبيره وتدوير الصّراع بين الخير والشرّ، والحقّ والباطل، والوجود والعدم والابتلاء الأعظم الذي ابتلى به الإنسان، فجعل له المصير بين جنّة ونار. فهذا كلّه حقّ ولكنّ أكثرَ النّاس لا يعلمون. إبليس أقام مملكة عظمى مهمّتها الكيدُ للإنسان وإضلاله، وسخّر ذريته وقبيله وسلّطهم على جميع البشر، وله مع كلّ مولود بشريّ قرينٌ يرسلهُ ليوسوس له ويتجسّس عليه، لذلك إبليس يجمعُ كلّ خواطر النّاس، من مات منهم ومن يعيش، ولا يصلُ إلاّ لأهل التقديس والكمال الذين نعتهم الله في قوله  تعالى ((فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ)) ص/82-83. فهؤلاء سماء قلوبهم محروسة مقدّسة. أو قلوب الذاركين الله تعالى الذين يحصّنون أنفسهم يومياً بالأذكار والصلاة والطاعات وذكر الله تعالى على الدّوام. ومع ذلك فهؤلاء يحدثُ أن يغفلوا مرَّاتٍ فيهجم عليه القرين والشيطان بوسواسه أو تجسّساته. فافهم عدوّك الأكبر، فهو لن يغفل عنك، بالوسوسة والتجسّس على خواطرك ونفسك، ولا يزالُ يكيدُ لك ببراعة وعلمٍ بما تكنِّهُ في نفسك، ويعلمُ نقاط ضعفك. ولكنّه عند ذكر الله تعالى يخنس ويهرب. وعلى العموم فكيدُ الشيطان ضعيفاً {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً} ، وإنّما كيدُهُ من النّفس ونقاط الضّعف التي يستغلّها فقط. فمن حصّن نفسه بذكر الله تعالى، واجتنب نقاط الضعف من الغضب وما حذّر منه الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فالشيطان لا يجدُ إليه سبيلاً.

فقامت عداوة إبليس وقبيله مع الإنسان، وإنّما أعدّ إبليس معركته الكبرى للخليفة المهدي، لأنّه يعلمُ يقيناً أنّ الخليفة هو الحاجز والحدّ الفاصل بينه وبين طموحاته وأحقاده المجنونة. فتظاهر إبليس مع المفتون السامريّ الدجّال الذي جعله الله مظهر هذه الفتنة. وكلّ ذلك من تجليّات الحقائق وآثار الأسماء وآثار الخلافة الإنسانية الكبرى التي اصطفى بها الله الإنسان. فكان لا بدّ أن تنتهي القصّة وتُختمَ، وختامها زوالُ الشرّ والباطل وانتهاء الكيد الشيطانيّ والتدجيليّ وانتصار الحقّ، فيقضي الخليفة على روح التدجيل والشرّ، على العدوّ الأوّل إبليس، وهذه هي ليلة صلاح المهدي التي ذكرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : (المهدي منا أهل البيت، يصلحه الله في ليلة) رواه ابن ماجة، وابن أبي شيبة. حديث صحيح. فالخليفة المهدي يُقدِّسُ الأسماء، ويقضي على إبليس روح الدجال، ويخربُ مملكته وعرشه على الماء في مثلّث برمودا. ثمّ ينعكسُ ذلك على الصّفات، فينزلُ المسيح روح الله للأرض في نهاية خلافة المهدي فيقتل الدجّال، فحكم المسيح بن مريم عليهما السلام في عالم الصّفات، لأنّه رمز روح القدس، معكوس الدجّال فيقتله، ألا ترى قوله صلّى الله عليه وسلّم أنّ الدجال يذوبُ عند رؤية سيدنا عيسى عليه السلام، فكلّ ذلك من عالم الحقائق، ولكنّ سيدنا عيسى يقتله بحربةٍ ليرى النّاس ذلك ويطمئنوا. وينتهي عالم التدجيل والشرّ الأكبر بوجهيه الإبليسي والبشريّ.

ثمّ هناك لفتةٌ أخرى أنّ الأرضَ هي عالمُ الخلافة والعبودية، فمن ظهرَ فيها بالربّوبية فهو دجَّالٌ وكذَّابٌ، وليس له تحقُّقٌ، لأنّ التحقّق أنّ الإنسان برزخٌ بين الحقية والخلقية، بين الربوبية والعبودية، فالأرضُ عالم العبودية، والأرض هي أرضُ التجلّي، والسماء هي سماء الرّبوبية، والألوهية هي الجامعة بين الشقّين، وحقيقتهما. قال الله تعالى {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ} ﴿الرحمن:19-20﴾. فهما بحرانِ لا يبغيانِ على بعض، ومن جاءنا في بحر العبودية يدّعي الربّوبية فهذا دجَّالٌ. لذلك فإبليس والدجّال ممكورٌ بهما مستدرجان، فاتهما التحقيق والفهمُ والعلمُ، وإنّما جعلهما الله لتدوير الفتنة والابتلاء في الأرض. فما تحقّقَ من تحقّقَ من العباد المخلصين إلاّ بمحض العبودية والعبدية، لذلك وصفَ الله تعالى عبده المهدي وفي سورة الكهف المخصوصة بدفع فتنة الدجال بقوله : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} الكهف/1. أنزل على عبده. فوصفه بالعبدية المحضة. ليُعلمَ ما خفيَ على الأدعياءِ والمدسوسين من حقائق الإنسانية والخلافة في الأرض.

يتبع ..