الخميس، 30 يناير 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 60



- 60 -

الكلامُ عن حضرة المهدي عليه السلام كثير، إذ حيثُ شرّقتََ أو غرّبتَ نحوَ الحقائق العليا فأنت لا تخوضُ في الحقيقة إلاّ عن حضرة المهدي، إذ حضرتُه هي حضرة الربّ المعتدلة، فهو حقيقة الحقائق، ما مُدٍحَ ممدوحٌ أو حُمِدَ محمودٌ إلاّ ومدحُه وحمدُهُ عاريةٌ وعرضيٌّ واستعارةٌ استعارها من حضرة هذا الخليفة حامل لواء الذات حقيقة وذاتاً وعيناً. ولمّا كان مظهراً وخليفةً فقد ارتفعَ عن التعيين والتخصيص تخلُّقاً بحقيقته الغنية والمطلقة والغيبية، لو شاءَ لأشهرَ مرتبتهُ، ولكنَّهُ صاحبُ الصّفاء الأسبق، والفناء الأطبق ، وصاحبُ الإطلاق المُطْلَق والأخلاق العالية العليا التي لا فوقها، فزال بحقيقته عن شهرته، وبحكمته وإطلاقه عن تخصيصه، ولولا غيرةُ التوحيد وحكمة الحقائق التي تركّبتْ عليها هذه الدّنيا لما ظهرَ هذا الختم والخليفة ليختمَ الدّنيا، ويُترجِمَ حقائق الوجودَ إلى واقعٍ موجودٍ، ويُتَرجمَ آثار الأسماء ومظاهر الخلائق إلى حقيقتها الذاتية ووحدتها الجامعة.

لذلك سيرتُهُ قبل ظهوره ملاحم باطنية كبرى، تُترجمُ عن حقيقة هذه الحياة التي غفل عن حقيقتها النّاس، وهي غفلة من حكمته سبحانه، ولا تستغرب أو تتعجّب من كونِ دربِ الكمال قليلٌ رجاله، قلّة لا تكادُ تُذكر، فتلك رحمةٌ الله بخلقه وعباده، فدربُ الكمال يسّاَقطُ دونهُ الرّجال والأفذاذُ والأبطالُ وما شئتَ أن تتخيّله من بطولاتٍ كبرى، فدربُ الله سبحانه ودرب الكمال والفناء، شيءٌ آخرٌ وقفَ دونه بالعجز الجميع، حيثُ لا سالك إلاّ بالعناية واجتباء الله سبحانه، وفي هذه الحقيقة النّاصعة الغريبة قال الإمام إبو يزيد البسطامي قدّس الله سرّه "السَّالكُ مردود والطّريق مسدود". نعمَ يا أخي لا تتعجّب، فهو طريقٌ مسدودٌ إلاّ من استعانَ بالله تعالى كامل الاستعانة، والسَّالكُ مردودٌ حتّى تأفلَ إرادته وهمّته النّفسية فيشهدَ الحقيقة الكبرى أنَّهُ لا سبيلَ إلى الفناء إلاّ بطرحِ النّفس ودعاوى السّلوك وقارونية الأنا، في ملاحم نفسية كبرى عظمى قال عنها أحدُ العارفين بالله والحكماء "الملاحمُ النّفسية أعظمُ ملاحماً من الملاحم التاريخية المسطورة في كتب التاريخ والمحفوظة في ذاكرة الشعوب". نعم إنّها ملاحمٌ تجلُّ عن الوصف ويعجزُ التصوّرُُ أن يتخيّلها، ولا يدركُها إلاّ أصحابُها المعانون لها، لأنّها ملاحمَ كونية تمورُ في وجدانِ هذا العبد السّالك إلى الله تعالى، التغييرُ فيها لا يُلامِسُ جزءاً من الحياة أو دولةً أو حتّى خريطة أرضيةً في صراعٍ عالميّ، بل هي ملاحمٌ كونية شاملة والتغييرُ فيها شاملٌ كاملٌ، والحربُ فيها على الصغيرة والكبيرة. وعبّرََ عنها أحد العارفين فقال : "ليس العجبُ في من هلك كيف هلك ، بل العجبُ في من نجا كيف نجا !؟ " نعم هذا وصفٌ لحقيقة هذه الملاحم التي يعيشُها السّالكون درب الفناء، فانظُر تشابه وصفهم وتقارب طرحهم. فما أعظمَ هؤلاء الرّجال، فمعرفة ما قاسوه وما سلكوه وما طووه، يجعلُ العارف بهذه الحقيقة مقدِّساً لهم معظّماً، حامدًا لله تعالى على وجودهم، لأنّهم المشاعل والمنارات والساداتُ وأهل الهمّة العظمى، في دنيا غدّارة جبّارة موَّارةٍ بالتقلّبات والأخطار والنّفوس العاتية بين أجناب العباد، ولكن لمّا خفيت هذه الملاحم فقد خفيَ أمرُ هؤلاء الرّجال والأبطال الحقيقيون، وخفيَ قدرُهم في الدّنيا، وما خفيَ إلاّ عن أهلِ الغفلة عن طريقِ الله تعالى، أهل الغفلة عن الطريق الصّحيح، طريق التغيير، وليس طريق النّسبة الشكلية والانتماء الظاهريّ وتكثير السّواد، وإعلاء الدّعاوى هنا وهناك. فصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بقوله : "قدمتم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر . قالوا : وما الجهاد الأكبر ؟ قال : مجاهدة العبد هواه " رواه البيهقي، وفي رواية للنسائي : أخبرني حدثنا أبو مسعود محمد بن زياد المقدسي سمعت إبراهيم بن أبي عبلة يقول لأناس جاءوا من الغزو ((وقد جئتم من الجهاد الأصغر فما فعلتم في الجهاد الأكبر قالوا يا أبا إسماعيل وما الجهاد الأكبر قال جهاد القلب.)).
فإنّ أهل العلم بالله يصحّحون هذا الحديث في معناه، وهو معبِّرٌ عن حقيقة ما ذكرناه، أنّ درب الجهاد النّفسي والفناء والسلوك إلى الله تعالى أعظم بما لا مقارنة بالجهاد الظاهر. لأنّه جهادٌ شاملٌ كونيّ يفوقُ التصوّر، وخصوصاً تصوّر القاعدين المخذولين الذين لم يذوقوا معاني السّلوك والتغيير والتربية الإيمانية والإحسانية فتجدهم ينكرون الحديث متناً وسنداً. لا إشكالَ في تسنيد الحديث كما هي رتبته السندية فهذه وظيفة المحدّثين، ولكن التعدّي على المتن ومعناه بالإبطال فهذا شُغلُ الجهلة وأهل السطحية الذين ابتُليَ بهم هذا الدين وهذه الأمّة.

والجهادُ الأصغرُ في الحقيقة هو صورةٌ من هذا الجهاد الأكبر جهاد الهوى وجهاد الفناء، لذلك علا شأنُه وعظّم الله أهله الشهداء، فالشهادة هي نوعُ فناءٍ بتقديم الرّوح في سبيل الله تعالى، فيُبدِلُ الله العبد بروحه روحاً أصفى وجنّة أرضى. فمهما صفَتْ نية المجاهد والشهيد في سبيل الله فقد نالَ من معنى الفناء الذي يفنى به أهلُ الفناء، فكانت الشهادة في سبيل الله من أعلى منازل القربِ والدرجات عند الله تعالى، كأنّما العبدُ لمّا استجابَ لداعي الله تعالى ولم تثقل عليه نفسُه ولم يخلُد للأرض والدّنيا وزينتها وقدّم روحه وماله في سبيل الله تعالى ودفاعاً عن كلمته وعن الحقّ استعاضَ بوجودِهِ المتعلّق بزينة الدّنيا وشهواتها ومتاعها بالرّغبة في الله تعالى وطلبِ وجهه سبحانه، فنالَ معنى الفناء الذي يناله السّالكون بمجاهداتهم لنفوسهم، ينالُ ذلك النّصيب من الفناء والتحقّق عند الله تعالى بقدرِ خلوص نيته، التي خلصتْ تحقيقاً لأهل الفناء لأنّهم ما فنوا إلاّ بموتِ نفوسهم وخروجهم عن تأثير العنصر والتراب إلى صفاء الرّوح وحكمها وهم لا يزالون أحياءً.

وهؤلاء المتحقّقون السّالكون هم أهل النّسبة الحقيقية لله تعالى وهم الرجال على أقدام الصحابة رضوان الله عليهم، حازوا معنى النّظرة النبويّة والسّند الرّوحي والمدد الربّانيّ، أفاقوا على البرءِ من عيوبهم وأدوائهم الباطنية وعللهم النّفسية وتطهّروا منها فهم لا يبغونَ علوّاً في الدّنيا ولا ظهوراً ولا بهم لوثاتُ النّفوس المدسوسة المخبوءة التي تظهرُ عند الفتن والمحن، بل هؤلاء الرّجال تطهّروا من كلّ لوثة نفسية وخلِقٍ دنيّ أصفياءٌ أنقياءٌ أتقياءٌ، صحابة حواريون أنصار الله وأحبابه، ورثة الأنبياء عليهم السلام مؤمونة جوانبهم مدفوعة بوائقهم طاهرة أرواحهم إخوان القرآن، إذا تليَ القرآنُ بأخلاقه المقدّسة فهم أهلُ القرآنِ مصاحفٌ تمشي حقّاً، الإنصافُ مطلبُهم والعدلُ دأبُهم والرّحمة خلُقهم والعلمُ نورُهم والإيمانُ حقيقتهم، أين منهم الذين امتلأتِ الأرضُ اليوم ومن أزمانٍ من الأدعياء والسّفهاء والمتطاولون على الخلْق والمتعطّشون لدماء البشر يسفكونها هدراً، والمتعصّبون لانتماءاتهم القاصرة، والمتحيّزون لرسموهم العابرة، شتّانَ شتّانَ بين هؤلاء وأولئك. لذلك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .( بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا ، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ ) رواه مسلم
وفي رواية (بدأ الإسلام غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ ، فطوبى للغرباء ، قيل : ومن الغرباء يا رسول الله ؟ قال : الذين يصلحون إذا فسد الناس .). هؤلاء هم الغرباء الذين هم على أقدام الأوّلين من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذين يقلّون عند الطمع، ويكثرون عند الفزع. وجاء في الخبر أنّ سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه دخل المسجد ، فوجد سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه جالسا إلى بيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فقال له عمر : ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن ؟ هلك أخوك ؟ قال : لا ، ولكن حديثا حدثنيه حبيبي صلى الله عليه وسلم وأنا في هذا المسجد ، فقال : ما هو ؟ قال : إن الله يحبّ الأخفياء الأحفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يعرفوا ، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة عمياء مظلمة ). نعم هؤلاء هم الغرباء الذين يورّثهم الله الأرض، فليس فوق هذا الوصف من سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم وصفٌ.

فقلنا إنّ هذا الطريق حقيقتُهُ أن يُحاطَ بالعبدِ فلا يجدُ مهرباً ولا مخلَصاً ممّا هو فيه سوى الواحد الأحد سبحانه، إحاطةً من كلّ جانبٍ تُعلنُ حقيقةً عن إرادتِه النقيّة الخالصة الرّاغبة في وجه الله سبحانه، حيث هناك لا يكونُ لهُ من سلاحٍ ولا مددٍ سوى سلاح الاستعانة بالله تعالى والاضطرار الأعظم والفقر المطلق والعجز التامّ بين يدي الله سبحانه، فيتحقّق حقيقة ما قاله الإمام أبو يزيد البسطامي قدّس الله سره "الطريق مسدود والسالك مردود". فتموتُ المشيئة النّفسية والإرادة العنصرية، وهناك يأتيه المددُ من الله تعالى، مدد الرّوح، ويحيا من جديدٍ حياةً أخرى، هي الحياة بالله تعالى وهي المعبّر عنها بالبقاء بالله تعالى فيعوّضه الله تعالى قوّة وقدرة وحياة وإرادةً ومدداً منه خالصاً فيصبح على الوصف الذي جاء في الحديث القدسيّ "إِنَّ اللَّه قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إليَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إليَّ مِمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّب إليَّ بِالنَوَافِلِ حَتَى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ." رواه البخاري.
كما قال الحكيم ابن عطاء الله السكندري قدس الله سره : "تحقّق بأوصافك يُمدّك بأوصافه . تحقّق بذلّك يمدّك بعزّه . تحقّق بعجزك يمدّك بقدرته . تحقّق بضعفك يمدّك بحوله وقوّته.". انتهى.

وهذه الحقيقة تلوحُ عند معرفة هذه النّفس، فالنّفس روح عارفة بالله وعنصر وتراب وكثافة، فكلّ عبدٍ هو مزيج بين الروح والنّفس العنصرية الكثيفة، وهذه الرّوح العارفة هي مقام الجمع، حيثُ يعرفُ العبد ربّه ويشهده شهوداً ويكونُ في ذاك المقام حيّاً به سبحانه وباقٍ به، فقال صلّى الله عليه وسلّم "من عرف نفسه فقد عرف ربّه". لأنّه في الحقيقة مرجعُ كلّ شيءٍ إلى الله تعالى سبحانه، فما قامَ شيءٌ بنفسه، فمهما عرفتَ نفسكَ فقد عرفتَ ما أودَعَ الله فيها، إذن فقد عرفتَ حقيقتها التي تقومُ بها، وهناك عند ارتفاع الحجب لا تجدُ إلاَّهُ وحده لا شريك له المدبّر الواحد القيّوم سبحانه، وما من شيءٍ إلاّ ويقومُ بالله تعالى، ولكن اختلفتْ المحاتد محتد كلّ شيءٍ وكلّ مخلوقٍ من ربّه فاختلفتْ حقائق هذه الأشياء، وإلاّ فلا موجود تحقيقاً إلاَّهُ سبحانه. إنّها الحقيقة الكبرى التي يعجزُ عنها الإدراك والاستيعاب.

ولذلك كان الوصولُ إلى الله تعالى، يستوجبُ أن تقطعَ كلّ ما يحولُ بينك وبينه سبحانه، وما يحولُ بينك وبينه هو كلّ شيءٍ، وقِفْ على عبارة "كلّ شيءٍ". فهذا معناه أنّك ستتعرَّضُ لقطّاع الطّريق لتصلَ إلى هذا الإطلاق وهذه الأميّة والتحرّر من كلّ شيءٍ، وقطّاع الطريق هم كلّ شيء، درجاتٍ وراء درجاتٍ، تتراكمُ عليك المعوّقات والمحبطات والمثبطات، كلّما طويتَ أشياء ومستوى، ابتلاكَ الله تعالى بمستوى أعلى من تجليّات الجمال والجلال، فانظُرْ في كلّ شيءٍ، فهي بين الجمال والمنحة وجنسهما، والجلال والمحنة وجنسهما، مستوى بعد مستوى، حتّى تصلَ إلى كمالات الجمال وكمالات الجلال، تُبتلى بهما فإذا صمدَ العبدُ وصدقَ في طلب وجه الله تعالى، هناك يُصبحُ العبدُ الذاتيّ، الذي صحّ له حقّاً وصدقاً طلب وجه الله تعالى، فما فتنه عن الطّريق شيءٌ من الأشياء، ولو وقفَ مع شيءٍ فتِنَ به، مهما كان هذا الشيء، حتّى لو كان مقاماً نورانياً أو علما من العلوم اللّدنية، فالحُجُب ليس ظلمانية فقط، بل الحُجُب حجب نورانية كذلك، وكم سالكٍ سقط مع هذه الحجب والفتن خصوصاً الحجُب النورانية فهي معوّقات السّالكين حينما يتجاوزون مراحل متقدّمة، والسّقوط كما أهل العرفان والتحقيق بالنّسبة لمن يقعُ في الحجب النورانية كالعلم فينشغل به عن وجه الله تعالى، السّقوطُ والفتنة هو التحوّل عن القصد والغاية والوجه المقصود وهو وجه الله سبحانه، أي تتحوَّلُ غاية العبدِ ويقفُ على ذاك العطاء وذاك المقام فيغدو ممتلئاً به باطنُه ومفتونة به نفسُه، فيحولُ بينه وبين وجه الله سبحانه ذلك. وهو شيءٌ ليس بالسّهل أبداً، لأنّ مستوى الفتن تزدادُ مع مرحلةٍ، فيُصبحُ العبدُ يرجو الخلاص من تناوبِها عليه بين الجمال والعطاء وبين الجلال والشّدات والمحن، فإن لم يُثّبته الله سبحانه يُفتنُ، إمّا بالعطاء والجمال والعلم والمقامات، أو يُفتنُ بالشدّة والهول والمحن والزلازل.

وعليه فالرّحلة هي طيُّ النّفس، فمن لم يطوِ نفسَه فهذا غير مأمونٍ، ولا يُنصحُ لهُ بالتصدّر ودعوى الإمامة، اللهمّ فقط إن كان وراءه شيخٌ يقومُ عليه ويوجّهه وخرجَ بإذنٍ صريحٍ منه، ويكونُ مستعدٌّ أن يقفَ بإذن هذا الشيخ لا يخرجُ عن الشيخ قيدَ أنملة، أو إن لم يكن هناك شيخٌ أن يكونَ هذا المتصدّر على فقرٍ مستمرٍّ وتواضعٍ حاضر لا يغيب ومستعدٍّ في كلّ وقتٍ لقبول النّصيحة وشهودِ التقصير في نفسه وعدم رؤية نفسه فوق النّصح وفوق الغيرِ، وإلاّ هلَكَ وأهلكَ غيرَهُ هذا المتصدّر. إنّها حقيقة عظيمة، وكم تصدّر من لم يطوِ نفسه ولم يجعل وراءه شيخاً يعودُ إليه، فأصبحَ من قطّاعَ الطّريق من حيث لا يدري، قاطع لطريقه حيثُ انشغلَ عن لبّ الطّريق وهو طيّ النّفس والوصول إلى حضرة القدس، فبقيتْ نفسُه حيَّةً وهو متصدِّرٌ مفتونٌ بمدح المادحين وملتفتٌ لتعظيم المعظّمين وهو يُلقي عليهم من النّفائس والعلم أو غيره، وقاطع لطريق غيره، لأنّ النّفس غير مأمونة، ولا يصبحُ النّصحُ عنده لغيره خالصاً وصادقاً، ويدخلُ عليه الحسدُ والعُجبُ وطلب الحظوظ، وتتراكمُ عليه الأدواء وتقوى نفسُه وتشتدُّ، فهذا قد صار من قطّاع الطريق، وقد كانَ سالكاً طاوياً كادَ أن يحقّق مراده، ففتنه شيطانه ونفسُه. لذلك أوصوا وشدّدوا أن يكونَ الشيوخ المربّون والمرشدون أهل كمالٍ وتكميلٍ قد طووا نفوسهم مطلقاً. وأوصوا أن يكونَ الظهور بثوب المحمديّة، وهو ثوب الوراثة والكمال والخروج من النّفس وعيوبها.

رغمَ أنّني أطلتُ ولكنّني لم أستوفِ ما أردتُهُ في حقيقة السّلوك، فإذا عرفتَ أنّ الإنسان بين حقيقة نفسية وحضرة قدسية، عرفتَ أنّ الشيطان وإبليس لهُ العلمُ بكلّ حضرات النّفس قبل كمالها وخروجها الى الإطلاق وتحقّقها بصفات الله تعالى، لأنّك ما دمتَ مقيّداً بكثافتك البشريّة وتركيبك العنصريّ ولم تخرج منه  خروجاً كاملاً، فأنتَ مرهونٌ بهذه الكثافة البشريّة وهذا التركيب العنصريّ فيك، وهو ذاتُه لمن علِمَ شيطانُك وقرينُك، لأنّ الكمال هو التحرّر من قيد الكثافة والعناصر، فافهم. فسيُقيمُ عليك قرينُك حرباً شاملةً يقودُها إبليس، لأنّك في طريقك للتحرّر من هذه الطبيعة العنصرية، فهي بطبيعتها تُدافعُ عن وجودها فيك، فهذا هو قرينُك وهو حربٌ الشيطان عليك وهو ركونُ نفسك لمقتضيات الطّبع، ولماّ كان الإنسان مخلوقاً على الصورة، فقد صارَ الخروج عن مقتضيات الطّبع والعنصر والكثافة هي الخروج عن الأكوان، وبالتّالي فكلّ ما في الأكوان سيتعرَّضُ لك وتُبتلى به، ليُنظَرَ في حقيقتك هل أنتَ صادقٌ في إرادتك الخروج من هذه الأكوان وهذه الطبائع العنصرية القائمة فيك ؟ وعليه فكلّ شيءٍ هو غيرُ وجه الله سبحانه، لأنّ الله ليس كمثله شيءٌ، ومنهُ تجلّت الأشياء، فقد صارَ طريقُ العبد إلى الأميّة التي هي الذاتية والتحرّر من كلّ شيءٍ والتعلّق به. ولهذا كان الجهادالأكبر هو جهادُ النّفس وأهوائها، لأنّ طيّ النّفس ومعرفتها هي طريقُ معرفة الله سبحانه. والتحقّق بالكمالات والصورة التي خلق الله عليها الإنسان. هناك إذا تحقّق وعرفَ نفسه وطواها يصبحُ الإنسان الكامل، محمّد زمانه. إذ الإنسان الكامل هو سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم. فلا أكملَ منهُ فاعلمِ. فقد جعله الله حقيقة الصّورة. صورة العبودية المثلى والكمال الأعلى. وعلى هذه المحمديّة الكاملة يخرجُ الإمام المهدي عليه السلام. ذلك أنّ الإمام المهدي هو الوليّ النبيّ الرّسول، فهو أحمد بالأصالة في مقام الولاية والأحمدية، وهو محمّد كذلك لحقيقة الأكوان. فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خاتماً لمقام العبودية ومنه خاتماً للكمالات الإلهية الإنسانية، وكان المهديّ خاتماً لمقامِ العلمِ والذاتية والولاية وصاحبُ هذه الكمالات الإلهية والإنسانية بالأصالة والعين لذلك يخرجُ حاكماً بالعدلِ مقدّساً للأرضِ من دجّالها وشرّها، فيُعطي أثرَ الإسم الأعظم في تجلّيه الكونيّ.

يتبع ..