الخميس، 5 يونيو 2014

الحبّ والعشق سرّ التحقّق ..



أعرِفُ عارفاً بالله قال أنّ أهل العشق الدّنيوي هم أقربُ النّاس للإيمان بالله وأقرَبُهم من ملامسة مشاعر القرب من الله، هكذا قال بالمعنى أو نحو هذا الكلام، ولستُ أذكرُ الصياغة ودقيق المعنى من كلامه. وهذا المعنى قالَ مثله الشيخ ابن تيمية رحمه الله وسمَّاهُم عشّاق الصّور، وقال أنّهم إذا حسن إيمانهم وتوجّهوا نحو الله تحوّل حبّهم إلى الله تعالى بحُكمِ ذوقهم السّابق للعشق. وإن كانت تسميته عشّاق الصّور تحتاجُ إلى تحرير، لأنّ العاشق لا يقعُ في قلبِه العشق نحو معشوقه إلاّ بسرٍّ باطنٍ فوق الصورة الظاهرة مُطلقاً، وهذا معروفٌ عن العُشّاق أنّهم يرون محبوبهم أجمل وأحسن وأقرب إليهم من سائر الأشخاص مهما بلغ جمال وفضائل الغير مقارنةً بمحبوبهم، فهو سرٌّ فوق الظاهر والصور، يأخذُ بألبابِهم فلا يلتفتون إلى غير محبوبيهم.
ولكنّا نُثمِّنُ ما قاله الشيخ ابن تيمية على أنّ أهل العشق أكثر قابليةً لمحبّة الله تعالى والقربِ منه إذا توجّهتْ قلوبُهم إليه سبحانه، أو وجدتْ من يدلُّها على الطريق إليه. وأنَّهُم يملكونَ الفرصة أكثر من غيرِهم للإيمان بالله تعالى والإسلام لوجهه سبحانه. إيماناً يضربُ في العمقِ نحوَ المحبّة والتعلّق القلبيّ القائد نحو فضائل الرّوح وحقيقة الهداية التي جاء من أجلِها الدّين.

وأعتقِدُ أنّ من أسبابِ اندثار غراس الدين في النّاس في زماننا هو ابتعاد النّاس عن التديّن القلبيّ النّابع من سرّ المحبّة والعشق، وصارَ التديّنُ أقربَ للإنتماء لحزبٍ سياسيّ أو نادٍ من النّوادي أو مذهبٍ فكري أكاديميّ . بينما سرّ هذه القلوب هو الحبّ، ولغتها المُثلى هي الحبّ، وأرقى وأسمى وأفضلُ ما يرتقي إليه العبدُ في منازل القربِ من الله تعالى هو الحبّ، فإذا تحقّق له الحبّ من الله والحبّ لله سبحانه، فقد فاز لا شكّ في ذلك. فالقربُ قرينُ الحبّ، فالأحبُّ هو الأقربُ والأفضلُ .. وكذلك ميزانُ الحبّ عند الجميع.
وفي الحديث القدسيّ الصحيح : ((...حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر فيه ، ويده التي يبطش بها ،. ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه)). وهذه أعلى درجة يصلُ إليها الإنسان في القربِ من ربّه. والحديث صريحٌ فثمرةُ تلك المنزلة هي المحبوبية من الله تعالى ((حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ ..)). وكذلك في الحديث الصحيح ((إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ )).
وهذا الاندثار حصلَ حينما دخل هؤلاء المتفلسفين تناولُ صفاتِ الله تعالى بحيادية عجيبة بعيدة عن روحها، وتنزيهٍ أقربَ للتّعطيل، لتعطيلِ روح المعاني وسرّها وعفويتها وسريانِها في حياة النّاس بسجيّتهم وطبيعتهم ومعاملاتهم، ومثلهم السّطحيون الواقفون على الألفاظ بظاهرها، فلم تشفع لهم ظاهريتهم أن يأخذوا بالمعنى الذي يُوحيه الظاهر. عجباً !!! عجبٌ لا ينقضي فلا هؤلاء ولا أولئك أخذوا بالأريحية والبساطة والإنسانية في المعاني والمفاهيم، مع تناقضهم وتجاذبهم النّقيضين في تحرير الألفاظ والمعاملات المتعلّقة بذاتِ الله سبحانه. وهذا الدّين جاء للإنسان يخاطبُهُ بما فيه بما أودعَ الله فيه من مواهب ومعاملات ومشاعر وفضائل، فالحبّ هو الحبّ .. والعشقُ هو العشق. كيفَ صارَ هذا العشقُ هو أشدُّ الارتباطات وأوثقها وأعلاها بين الإنسان ومثيله الإنسان، حتّى فنى فيه شوقاً وعِشقاً وتيماً وقرباً وألهمَهُ ذلك أن يُضحّي بنفسه من أجل محبوبه ويفديه بكلّ ما يملكُ. فقبِلناهُ واقعاً وشهدناهُ معنى وظاهرةً ترويها الحياة حاضراً وماضياً. ثمّ نرفضُ أن يكونَ هذا الرِّباطُ الشديد والعلاقة المتينة موجودةً بين العبدِ وربّه، الذي هو أولى بالمحبّة والعشقِ والفناء فيه والتضحية من أجله، مع وجودِ الفارقِ العظيم بين محبّةِ مخلوقٍ ونتيجتها، وبين محبّة خالقِ إليه يرجعُ أمرُ كلّ شيءٍ ونتائجها؟!.

وعليه فتديُّنٌ من غيرِ حُبٍّ هو تديُّنٌ مغشوشٌ، أو -على الأقلّ- تديّن ناقِصٌ، من غير حبٍّ يقودُ العبدَ نحو ربّهِ، حُبٌّ فوق الخوف وفوق العطاء، الخوفُ قد يتزحزحُ عند ظروفٍ تُبسَطُ فيها الدّنيا ويطولُ فيها الأملُ وتتبهرجُ الدّنيا بزينتها ووجهها الفاتن ظاهراً، فيتسَّلَّلُ الخوفُ من القلبِ ويضعُفُ، وكذا العطاء والرّجاء قد يبهَتُ في ظلّ ظروفٍ مماثلة من العطاء العاجل وفتنة الدّنيا أو في ظلّ ظروفٍ فيها الخوفُ والترهيب والتهديدُ فيسبِقُ الخوفُ العاجلُ الرّجاءَ المؤجَّلَ. بيدَ أنّ المُحِبَّ يتجاوز الخوف والرّجاء، عاشقاً نحو محبوبه، يقدِّمُ أعزّ ما يملكُ فداءً لمحبوبه وهو فرحانٌ نشوانٌ.

قال الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} البقرة(165). فما ميّزَ اللهُ سبحانه هنا بين النّاس إلاّ بالحبّ، كأنَّهُ لا قائِدَ ولا سائِقَ نحو الوجهات المختلفة سوى الحبِّ. فهناك منهم من اتَّخذ أنداداً يحبّونهم كحبّ الله تعالى، أنداداً من حبّ الدّنيا وحبّ النّفس وحبّ الحظوظ المختلفة أو حبٌّ مخلوق من العباد، حبٌّ ذاتيّ كامِلٌ تألّهََ عند هؤلاء المتخذين أنداداً. وهناك المؤمنون الذي كان حبُّهم أشدُّ لله تعالى، وهؤلاء هُم الذين استحقّوا درجة الإيمان فوصفهم الله تعالى "الذين آمنوا". فكان الله أحبَّ إليهم من محبوباتهم الأخرى، فهُم في الحقيقة لم يتخلّصوا بَعْدُ من الأغيار جميعها ولكنّ الله مدحَهُم: أنّهم آثروا الله تعالى وكان حبُّهم له أشدّ وأقوى من رغائبِهم الأخرى. وهناك فريقٌ آخر وهم القليل الذين ليس عندهم رغائبٌ سوى الله تعالى، مُنتهى العشق والحبّ، حبٌّ لدرجة الفناء وتلاشي باقي المحبوبات الأخرى والأشياء وبقاء محبوبهم الأوحد. هؤلاء هم السّابقون فحبّهُم كلُّهُ لله تعالى ليس فيه مشاركة مهما قلّت. والخلاصة أنّ الأمرَ قامَ على الحبّ في سائرِ التوجّهات، صحيحة كانت أو خاطئة.

وقال الله تعالى تأكيداً على هذا المعنى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} الفرقان(43). فالهوى أصلاً سُمّيَ هوى من الهوى والميل والانحطاط إليه، لأنَّهُ أقربُ للنَّفسِ من الرّوح العارفة بالله، الهوى ممتزِجٌ بالنّفس وحاضِرٌ برغباته الحسّية العاجلة وعطاياهُ الحاضرة، بينما الرّوح تحتاجُ توجّهُاً ونُضجاً وعقلاً يرى العواقب وصبراً كي تظهر نتائج العلاقة بالرّوح البعيد نسبياً في عطاياه وذوقه وثماره. فوصف الله أنّ هناك من يتَّخذُ إلهه هواه، وهو ذاتُ الوصف في الآية السّابقة أنداداً يحبّونهم كحبّ الله. فهو هوىً وحبٌّ للأنداد والأهواء النّفسية هوىً غالباً كاملاً سائقاً العبدَ مالكاً عليه أمرَهُ فهو لا يأتمِرُ بغيرِهِ من ضميرٍ أو إيمانٍ .. فهنا الهوى صارَ كالإله الذي لا يستحقّ هذا الائتمار والاتّباع والطاعة سوى من كان إلهاً. فغلَبَ حبُّ الهوى النّفسيّ على هؤلاء حبَّ الله تعالى.
فها نحنُ نشهدُ أنّ توجّهات العباد قامت على هذه المحبوبية والهوى والميل، إمّا إلى رغائبِ النّفس، أو إلى ربّها .

وهنا سيقولُ القائلٌ كيفَ صارَ أهل العشق الدنيويّ أقربَ من غيرهم من أهلِ الأهواء والكفر إلى الله تعالى والإيمان به؟ والله ذمّهم في معرَضِ محبّة الأنداد، وهؤلاء اتّخذوا من محبوبيهم أنداداً يحبّونهم كحبّ الله تعالى ؟

فنقولُ والله أعلم، أنّ هؤلاء تميّزوا عن أهل الهوى وتأليه هواهم بصفة عامّة، بمحبّة إنسان وعشقه، وصارَ هواهُم مجموعاً في هذا الإنسان. وعليه فهذا محسوبٌ لهم.
ومحسوبٌ لهم باعتباراتٍ كثيرة، تجعَلُ منهم فعلاً مؤهّلين أكثرَ من غيرهم لذوق المحبّة الإلهية والإيمان. لأنّهم أوّلاً كما قلنا ما تفرّقت أهواؤهُم أوزاعاً بين الأنداد والمحبوبات النّفسية والرّغائب الدنيوية، فصار عندهم حبٌّ متوحِّدٌ مجموعٌ في شخصٍ، فغلَبَ حبّهُ جميع أهواءهم الدنيوية وحظوظهم الأخرى، وهذا يجعلُ تأهيلهم واضِحاً في اجتماع توجّههم نحو وجهة واحدةٍ، وإن كانت وجهةً خاطئة، ولكنّها وجهةٌ مجتمعة مركّزة وليست مشتّتة في مُطلَقِ الرّغبات والأهواء والحظوظ العاجلة.

ثانياً نقولُ أنّ توجَّهُهم نحو إنسانٍ بالمحبّة والعشق فيه سرّ عظيمٌ، لأنّ الإنسان سرُّهُ في الحقيقة سرٌّ جامعٌ للمحبوباتِ والأهواء الأخرى، فالإنسان مخلوقٌ على الصورة. وعليه فهنا قياسٌ خفيٌّ متوارٍ يُبدي عن حقيقة هذا العشق الإنسانيّ، فهو أقربُ عشقٍ في نوعيّته من محبّة الله سبحانه، لسرّ الإنسان الجامع. فحصلَتْ لَهُم تلك التجربة الشعورية والقلبية بينهم وبين محبوبيهم، وشهدوا عشقَهم يتلوَّنُ في ملامح وانفعالات معشوقيهم حتّى لو كان حبّاً وعشقاً من طرفٍ واحد، فذاقُوا تلك الإرسالاتِ التي يرسلُونَها مشاعراً وتعلّقاً وتعودُ لهُمْ نشوةً روحيةً وسمواً ولذَّةً تفوقُ أيّ لذّة. وهذا يجعلُ منهم قد حصَّلُوا  امتيازاً على غيرِهِم في ذوقِ اللَّذاتِ، فقد ذاقُوا لذَّةً أعلى من سائرِ اللّذاتِ الحسيّة المعتادة المستهلكة.

ثالثاً أنّهم وجَّهُوا حبَّهم لحيّزٍ خارج أناهم ونفوسهم، في حبّ شخصٍ غيرهم، وذاتٍ غيرَ ذواتِهم، بخلافِ المحبوبات الدّنيوية المختلفة والرغبات النّفسية ففيها نزعة نفسية أنانية ومصلحية وحظوظية، وهؤلاء بمحبّة هذا الغير أثبتوا أنّهم مستعدّون للتضحية بنفوسهم وذاتِهم وما يملكون من مصالح وحظوظ ورغبات في سبيل إسعاد ومحبّة هذا الغير. فهي محبّة مختلفة تقترِبُ في مماثلتِها محبّة الله تعالى التي من تجعل محبّ الله تعالى مؤثراً ربّه على جميع الحظوظ والرّغبات والمصالح ومستعدّاً للتضحية في سبيله، فهؤلاء العشّاق ذاقوا تلك المحبّة، وسرّها وإنْ لم تكن محبّة أصلية كما هي المحبّة أصليةٌ نحو الله سبحانه. ولكنَّهُم فازوا بهذا الذوق وتلك القابلية وتلك الحريّة، نعم تلك الحرية التي أطلقت فيهم المحبّة والعشق، فازوا بالاقترابِ خطوةً من ذوق معنى الحريّة والتضحية والحبّ في جوهره.

فضلاً أنّنا نقولُ بلغة الحقيقة، أنَّ العشّاق حينما وقعوا في العشق، ما أحبّوا وما عشقوا سوى الله سبحانه، عشقوا شيئاً من جمال الله تجلّى في محبوبهم، فهوى على قلوبِهم فخطفَها وأخذ بمجامعها. وذلك هو سِرُّ العشق.

وبهذا الاعتبار فقد كانوا أقربَ للإيمان بالله تعالى، وأقربَ للحريّة والتحرّر من نفوسهم وأنواتِهم وذواتِهم الترابية.

وإنّنا لو وقفنا على الطرائق السّلوكية، لوجدناها تقومُ على الشيخ، والشيخ ليس ينفعُ إلاّ إذا كان أوَّلاً شيخاً واصلاً وصلَ إلى المنبع فهو قادِرٌ أن يسقي غيره من المنبع. وليس شيخاً منقطعاً. ثمّ السرّ الأكبر والأوّل للفلاح في الطريق هو اجتماع قلب المريد على شيخه، به ينقِطِعُ عن سائرِ الأنداد والوجهات، فلا يلتفتُ عن شيخه، ويُسلّمُه يده وقيادَهُ ليقودَهُ بعد ذلك الشيخُ القيادة الحكيمة الصحيحة نحو المنبع. وهنا يبدو التماثل والتشابه بين حال علاقة الشيخ بمريده وتسليمه له ومحبّته له وفنائه فيه، وبين حالِ عشّاق أهل الدّنيا الذين يفنون ويهيمون في محبوبيهم. فقد صاروا بتلك القابلية للفناء والهيام والعشق قريبين من هذا السرّ الذي هو سرّ الفلاح والقرب من الله تعالى. قرباً خاصّاً.

ثمّ إنّ محبّة الشيخ واتّباعه والتسليم له والانقياد له هو في الحقيقة دورةٌ تدريبية للقاء الله تعالى والانقياد له والتسليم له سبحانه في أقداره وتجليّاته، والرّضا بقضائه وقدره والصبر على المحن والابتلاء وعلى مفاتن الدّنيا حتّى يصلَ العبدُ إلى ربّه. بل نقولُ أنّه لا يتحقَّقُ الوصولُ والتحقّق إلاّ بالعشق الإلهيّ والفناء في الرّوح الإلهيّ. وسرُّ الوصول وسرّ الطريق هو العشق والحبّ. ولهذا نقرأُ للصوفية الأوائل ومن لحقهم بإحسانٍ تلك الأشعار العاشقة الهائمة العذبة المنقطعة النّظير في المحبّة والعشق، فإنّ الله يجمعهم بالرّوح، لتتمثّل لهم فيهيمون عشقاً فيها وفي سرّها وهي الرّوح التي بها يتقدَّسُ هؤلاء السّالكون طريق الله تعالى.

وعليه فسِرُّ وحقيقة هذا الطريق كلّه هو العشق والحبّ، وليس يكونُ ديناً عميقاً متيناً فيه معاني الذّوق والتحقيق والقرب إلاّ بهذا العشق والحبّ. ذلكَ أنّ أعظمَ المشاعر وأعلاها وأقواها وأشدّها هو الحبّ والعشق، لا شيء فوقه. به تذوبُ المخاوفُ وتضمحِلُّ المساوئ وتقوى الهِمَمُ وتتحرَّرُ النّفوس من قيودِها، فيغدُو الجبانُ مقداماً شجاعاً، والبخيلُ سخيّاً كريماً، والضعيفُ قويّاً، والمهزومُ صامِداً، والذَّليلُ عزيزاً، والأسيرُ حرّاً، والخسيسُ شهماً نبيلاً، به بهذا الحبّ والعشق تنطلِقُ فضائلُ العبد المكنونة فيه، وتستعلي الإنسانيةُ والجمالُ والذَّوقُ والفطرةُ .. وسبيلُ السّلوك في الطّريق في الحقيقة هو الكشفُ عن هذه المحبوبية في قلب السّالك والمريد نحو ربّه، لينطلِقَ حرّاً يتجاوزُ المخاوف والمهالك والمفاوز، تتقلَّبُ عليه الأقدارُ بين منحِها ومحنِها وقلبُهُ غيرَ مبالٍ بها ، قلبُهُ معلَّقٌ بربّه فقط، عاشِقٌ كأقوى ما يكونُ العاشقُ، عاشقٌ عشقاً كليّاً، ليس لهُ وقتٌ لفضول الكلامِ والأعمالِ، أو وقتٌ للانشغالِ بغير محبوبه. إنَّهُ العشقُ والحبّ والتيمُ والهيامُ خيرُ قائدٍ نحو الله سبحانه، حتى يصلَ إلى المنبع وقد تحقّقَ، فلا يزالُ إلى الله اضطرارُهُ يزدادُ وتمكينُهُ يقوى، ووصالُهُ يتقدَّمُ.


الأربعاء، 4 يونيو 2014

رسالة مختصرة إلى صديق متابع (مرفوعة للفائدة)


 كتبنا هذا الموضوع بتاريخ :
الاثنين، 23 سبتمبر، 2013
ونرفعه اليوم للفائدة والتوجيه النافع المفيد :
____________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا يليقُ بعظمته وجلاله لا نُحصي عليه ثناءً هو كما أثنى على نفسه سبحانه، وصلّى الله على خير خلقه وصفوتهم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلّم كثيرا. أمّا بعد :

فهذه رسالة مختصرة إلى صديق متابع، كتبتُ بعض سطورها كتعليق، ثمّ أردتُ تعميمها هنا للفائدة :

أخي الكريم .. ، هذه المقالات والكتابات هي خصوصيات وكماليات لا ضروريات، أمّا الطريق فهو الطريق الى الله سبحانه من طريق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المهدي مكتوم المقام حتى عند الصوفية لا يعرف مقامه إلّا الاكابر، واذا كان مقامه مكتوم فليس واجبا عليك الإيمانُ بما نكتبه. ولا حتى بالضرورة أن تقتنع به. ومن حقّك أن تنكرهُ إذا لم تقتنع به ولا لوم عليك ولا تثريب، لأنّها حقائق ذوقية وعلمية تقَعُ بعد معرفة الله سبحانه. ولو كانت من المعارف السّلوكية الضرورية لكتب فيها أهلُ الله تعالى، كما كتب العارف بالله ابن عطاء الله السكندري الحكم العطائية، فمثل تلك الحكم العطائية هي خلاصة الطريق وزادُ القوم ومعالم السّلوك، أمّا مقالاتنا فهي خصوصيات وكماليات فقط.
ما خطّهُ - في مثل هذه الحقائق والأسرار الخاصّة بالمهدي - بعضُ الأكابر من الأقدمين إلاّ بإذنٍ من الحضرة العليّة لإظهار المرتبة لصاحبها إذا جاء وقتُه وزمانُه، فيعثُرَ على كنزه فيبلغَ يتِيمَا خلْقِه وحقِّه رُشدَهما ويُسقطاَ الجدار ويستخرجا كنزهما، وحينها يظهرُ العزّ صاحبُ الكنز، أي المهديّ. فهذه المقالات خاصّة جدّاً. لا بأس بقراءتها لفهم بعض المشاهد والأطوار، وزيادة بعض المعارف والتثقيف، ولكنّها ليست مقالات سلوكية ضرورية.

فالله سبحانه تعبّدنا من طريق الشريعة ومحبّة الصالحين وأمرنا أن نتّقيه ونكون مع الصّادقين
قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة/119)، والصّادقون هنا هم أهل السّند الروحي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحقّقوا بمقام المشاهدة وركن الإحسان فلا يغيبُ عنهم ذكرُ الله سبحانه طرفة عين. لذلك فهم صادقون، يدلّون على الله تعالى ولا يدلّون على غيره.

أخي الكريم طريق الله واضح بسيط مختصر لا يمرّ من باب المعارف النظرية والفلسفات، ولكن يمرّ من باب الشيخ العارف الصادق. واحذر المشايخ الادعياء فَهُم كثير في زماننا، وخصوصا من يدخلون السياسة ويوالون الظلمة وينافسون أهل الدّنيا في دنياهم فهؤلاء قطّاع طرق وليسوا أهل دلالة على الله تعالى، فالمشايخ الصادقون يدلّون القاصد على الله تعالى من أقرب الطرق إليه. فإذا أردت أن تعرف الله سبحانه محبّة في الله سبحانه لا لغرض أو مصلحة أو معارف تناظر بها الناس، فعليك أوّلا أن تصحّح نيتك في طلب الله وحده، ثمّ تلزم الإستغفار الكثير وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتستخير الله سبحانه صادقاً أن يدلّك على من يُعينك في الوصول اليه ، وصولاً فيه الصّفاء والمحبوبية والصدق وزكاة النّفس وطهارة القلب بعيداً عن الأغراض والهوى والحظوظ الدونية وبعيداً عن مقاضاة النّاس ومحاكمتهم، فالمؤمن رحيم متغافل عن النّاس وأخطائهم متسامحٌ
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرَّاحمُونَ يَرحمُهُم الرَّحمنُ ارْحَموا مَنْ في الأرض يرحمْكُم من في السَّماءِ).

فافهم ما ذكرته لك. واقصد اللبّ والخلاصة، وهي محبّة الله سبحانه. وبارك الله فيك وفي الجميع.


وأسألُ الله أن يُسهّل لك طريقا إليه خالصاً صافياً صادقاً ولجميع الأحباب والأصدقاء والمتابعين ويغفر لنا ذنوبنا ويطهّرنا من عيوبنا ويخلصنا له بالمحبّة والصدق. آمين.

وصلّى الله على خير الخلق وأشرفهم سيّد الأوّلين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين مولانا وسيّدنا محمّد النبيّ الأميّ الأمين وعلى آله وصحبه الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما في كلّ لمحة ونفَس بعدد كلّ معلوم لله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

__________________________
رابط الموضوع : http://miskhom.blogspot.com/2013/09/blog-post_23.html

الثلاثاء، 3 يونيو 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 65



 - 65 -

إنّ كلامنا عن صاحبِ لواء الذَّاتِ المهدي، لا نعني بذلك أنَّهُ الذات بهيئته ومظهره وتشبيهه، تعالى الله عن التشبيه والحلول والاتِّحاد. فجميعُ مقالاتنا من بداياتِها قامتْ على تأسيس التنزيه لله تعالى سبحانه، وكرّرنا مراراً أنّ كنه ذاتِ الله تعالى غيبٌ غير مدركٌ، وليس يُدرِكُهُ لا نبيٌّ ولا وليٌّ لا في الدّنيا ولا في الآخرة، فغاية إدراك الخلقِ وعلى رأسِهم سيّد الكمال والخلق وصفوتهم وسيّد الأوّلين والآخرين رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، غايةُ إدراكِهم هو إدراكُ التجليّاتِ المنزّلة من غياهبِ التنزيه إلى قوالبِ التشبيه، وهناك وقفَ الجميعُ بالحيرة والعجز عن الإدراك سبحانه، فما تعرَّفَ الله سبحانه لخلقِهِ إلاّ بالتجليّات والهوية الغير المدركة، فجاء في سورة الإخلاص المخصوصة بالتعريف بالله سبحانه وتعالى قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فجاء التعريف بدايةً بهاء الهوية وضمير الغائب "هو" وإن شئتَ فهو في حقّ الله تعالى إسم أي الضمير "هو" هو إسمٌ لله تعالى. أي أنّ الله تعالى كنهُهُ غير مُدرَك البتّة. فما تعرّفَ لخلقه إلاّ بالتجليّات التي ظهرَ بها الرّوحُُ الأعظم. فقد ظهر سبحانه بذاته في الرّوح، أي الرّوح الأعظم هو مرآةٌ ذات الله تعالى، أمّا كنهُ ذاتِه فهو غيبٌ مطلق غير مدرك البتّة. قلنا ذلك وكرَّرناهُ مِراراً. وكذلك قال سبحانه {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. فبدأ بـ "هو" وختمَ بـ "هو". ليغلِقَ بابَ إدراك هويّته وكنه ذاته مطلقاً، فلا يزالُ معروفاً عند أربابِ التحقيق والولاية والمقرّبين من عباده بـ "هو". وهو إسمٌ يعودُ إلى غائبٍ، حتّى يُعلمَ أنّه غيبٌ سبحانه. وهو غيبٌ تعالى عن إدراك كنهِهِ. قال الله تعالى {الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)} سورة البقرة. فعرّفََ في آياته هنا عن عباده المتّقين المفرّدين السّابقين الذين يقيمون الصّلاة وهي الصّلة بالله تعالى التامّة، فهم قائمون بالله تعالى باقون به سبحانه، وينفقونَ من ثمرة ما رزقهم من الكتاب الذي يمسّونه بطهارتهم الذاتية {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ*}. لأنّهم حصّلوا مقام نزول الرّوح إلى قلوبهم وعرجوا إلى سرّ الرّوح، فأمكنَهُم الله سبحانه من التصرّف بإذنه، بذلك السرّ، أن صارتْ قلوبُهُم معاينةً للأحدية، والأحدية مظهرُ الذات السّاذج الذي هو سرّ الرّوح، وإن شئتَ سرّ مرتبة الألوهية. والأحدية طلسَمٌ وغيبٌ لأنّها مرتفعة عن التعيين والتعريف، فلا إسم فيها ولا صفة ولا نعت. إنّها الأحدية التي لا تقبل الغيرية مطلقاً، فهذا غاية شهود المحقّقين والفانين في الذات، وليس لهم وراء ذلك إدراك لكنه الذات وحقيقتها. فقلنا عرّف الله سبحانه عن العباد السّابقين المحقّقين المفرّدين المطهّرين أصحاب التفريد بإقامة الصلة بالله التامّة، والإنفاق من رزق التجليّات بمسّ الكتاب (الذي أنزله على عبده الذاتيّ). ولكنَّهُ سبحانه عرّفَهُم قبلَ ذلك بقوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. فجعلَ إيمانَهم به سبحانه غيباً، فتأمّل يرحمك الله، فَهُم بالرَّغمِ من تحقُّقاتِهم التي لا فوقها، إذ هم الأختامُ المحقّقون المطهّرون عن الأكوان الذين تحقّقوا بالفردانية وطبع عليهم بخاتم الولاية وورثوا الوراثة الكاملة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، بالرَّغمِ من علمهم بالله تعالى المنزَّلِ عليهم من إسم العليم وتحقّقاتهم الختامية وكمالِهم، فقد عرَّفَ بهم أنّهم يؤمنون بالغيب، وهذا الإيمان بالغيبِ هو في حقّ ذات الله تعالى وكُنهِهَا الغير المدرك. فهم عالمون بالله باقون به يقيمون الصّلة الكاملة به سبحانه من غير حلولٍ ولا اتّحاد، ويتصرّفون في الأكوان بإذن الله تعالى بختم الولاية الذي تُوِّجُوا به، ومع ذلك فكُنْهُ ذاته سبحانه غيبٌ بالنّسبة لهم، لذلك عرّفهم بالإيمان بالغيبِ. والإيمان يكونُ دائماً للغيب، لأنّكَ عندما تكونُ مشاهداً معايناً فأنتَ تجاوزتَ مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشهود والمعاينة. ثمّ ليتأكّد هذا المعنى، قال الله تعالى بعد ذلك : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فعطفَ "والذين يؤمنون بما أنزل إليك..". كما ذكر ذلك الشيخ الجيلي فعطفَ الفئة المؤمنة أصحاب اليمين -من غير السّابقين- الفئة المؤمنة التي تؤمنُ بباقي أركان الإيمان غيباً، لأنّ سائر الأركان عندها غيباً، فكان العطفُ بين السّابقين وأصحاب اليمين. لأنّ السّابقين ليس عندهم غيبٌ من أركانِ الإيمانِ سوى كنهِ ذات الله تعالى عن الإدراك، فهم مؤمنون به غيباً، وأمّا باقي أركان الإيمان من القدَرِ والملائكة والرّسل والكتب فهم مشاهدون لهم، معاينون لهم. يشهدون القدر في لوح القدر، ويعاينون الملائكة، بل هم معاينون للرّوح الأعظم. وبقيّة المؤمنين إيمانُهم بأركان الإيمان التي جاءت في الحديث الشريف الصحيح، إيمانُهم بها غيب. فالغيبُ موجودٌ لكلا الفريقين، ولكن عند أهل التّحقيق والسّابقين هو كنه الذات الغير مدرك أبداً لهم لا في الدّنيا ولا في الآخرة، وعند أصحاب اليمين الغيب هو باقي الأركان الواردة في باب أركان الإيمان.

وعليه فيجبُ الانتباه لما نذكرُهُ في التعريف بحامل لواء الذات والقائم بحقّ حمد الله المهدي عليه السلام، فهو المظهر الذي يظهرُ فيه الله بذاته. أي أنّ سرَّهُ هو السرّ الذاتيّ، وعلمُه هو العلمُ الكليّ الكامل بالله تعالى، هو الوليّ المتصرّف، هو الرّوح الأعظم الذي ظهر الله فيه بذاتِه. وليس يظهرُ الله تعالى إلاّ في هذا الرّوح، فهو حاملُ السرّ الذاتيّ والكنه الغير مدرك. فتعالى عن النّظير والشّبيه والمثيل مطلقاً، كما تعالى سبحانه عن الإدراك.

واسمُ الله هو إسمُ مرتبة من وجه، أي نعم، ذكرنا ذلك فقلنا اسمُ الله هو الإسم الجامع لمراتب الوجود جميعها، وبه يتحقَّقُ الحاملون للإسم الأعظم القرآنيون المطهّرون. وتحقّقُهُم به يُصطلحُ عليه : الفناء في الذات والبقاء بالذات. فهم ذاتيون اصطلاحاً، لا حقيقةً. فالذاتُ غير مدركة أصلاً كما أشرنا، ونريدُ كنه الذات وهويّتها هي الغير مدركة. لذلك ذكرَ الشيخ الأكبر في الفتوحات المكيّة أنّ الله أغير الغيورين وغيرتُه تجلّتْ أكثر ما تجلّت سبحانه عزّ وجلّ، في كونِ ختْمِ أسمائه هو : الإسم "هُو". كما سُقنا الآية الكريمة
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }. فبدأ بـ "هو" وختمَ بـ "هو". غيرةً منهُ سبحانه فتعالى عن المشاركة والإدراك والنّظراء. وكانَ الختم العزيز المهدي هو صاحب هذا الهو والكنه بسرّه ولطيفته، ولهذا كانَ هو سرّ الوصلِ والفصلِ. وإلاّ لما قامتِ أصلاً حقيقة التوحيد. ولانفصلَتِ التجليَّاتُ والصِّفاتُ عن الذات، وذلك لا يكونُ فافهم. فحتّى قولنا أنّ اسم الله إسمَ مرتبة، فهذا لا يعني عدم وجود صاحب هذه المرتبة بالأصالة والسرّ الذاتيّ. وإلاّ لوقعَ الفصلُ ولما قامت حقيقة التوحيد كما ذكرنا. ولكونِها مرتبة يتحقَّقُ بها المتحقّقون الأفراد الأختام الورثة، فقد صارَ لها ختمٌ ليختِمَها وتعود إليه بالأصالة والذات فلا تقعُ المُشاركة والمزاحمة ولا التعدّد. فهو الأصلُ وغيرُهُ ظلٌّ له فقط. فافهم. والولاية ذكرنا أنّها سرُّ مرتبة الألوهية ولكنّ الوليّ الخاتم هو الوليّ بالأصالة المتصرّف المالك صاحبُ الملك، خاتِمُ تلك المرتبة، وحامل سرّ الكنه وسرّ الذات، وبهِ صار الإسمُ "الله" إسمُ ذات. وإنّما كانت مرتبةً -أي مرتبة الإسم الأعظم الله- لأنَّهُ لا وجودَ إلاّ له وحده، فهل معه أحدٌ في التّحقيق؟ لا. ولكن التعدّد والحدوث اقتضى أن يتميّزَ الأصلُ والظلُّ، ولولا الأصلُ لما وجِدُ الظلُّ، فافهم. ولولا أنَّ الظلَّ يرجِعُ للأصلِ لما سمّيَ ظلاًّ، ولما قامَ بأصلِه إذن، فهو تابعٌ ملحقٌ لحوقاً إمكانياً لا حقيقياً، فلهذا سمّي ظلاًّ. فما دخلَ في المخلوقية فهو من عالمِ الحدوث وهو من عالم الظلال، وكان الخليفة هو الرّوحُ الذي تجلّى الله فيه وظهر به بذاته، فهو الأصلُ الذي به تجلّى الله تعالى في عالمِ الظّلال، فمهما كان من ظلٍّ فلهُ أصلٌ يعودُ إليه، فكان الخليفةُ هو أصلُ تلك الظّلال، فالخليفة الأصلُ حامل سرّ الذات، وغيرُهُ بما فيهم سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه هم من عالم الحدوث والظّلال. وإلاّ لوقعَ الفصلُ بين الذات والتجليّات والصفات. وذلك لا يكونُ فما في الوجود والتحقيق سواهُ وحده لا شريك له. فالله اسمُ مرتبة وأسمُ ذات. فهو إسم مرتبة باعتبارِ التحقّق وعودة المخلوق إلى خالقِه، وعودةِ الظلّ إلى أصله، وهو إسم ذات باعتبارِ أنَّهُ لا إله إلاّ الله، ولا موجود سواهُ، فعادتِ التجليَّاتُ والصِّفاتُ إلى المظهر الذي تجلّى الله فيه بذاته، فهو صاحبُ الذات بهذا الاعتبار. قال الله تعالى {الله لا إله إلاّ هو} .. { قل هو الله أحد}. فالهو والكنه الغير مدرك هو الله جلّ جلاله، أحد في أحديته وليس له كفؤاً أحد. فالله إسمُ ذات، بردِّ ورجوعِ الإسم لحامل سرّ الذات. وهو المظهرُ الذي يظهرُ فيه الله بذاته. وهو إسمُ مرتبةٍ كما قلنا لسائر المحقّقين الخلفاء الأختام، فهُم ظلالٌ للأصلِ، وهي مرتبة البقاء بالله. ولهذا كان سيّد الخلق والكمال وقدوتهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانت رتبته تُسمى رتبة البقاء الذاتيّ، فقد خلَقَ من أجله الأكوان والإنسان، فنصبَهُ لَهُم قدوةً وغايةً ونهاية الكمال والتحقّقات، وهو ظلٌّ لصاحبِ الذات الأصل، فنزلَ عليه القرآن بالرّوح الأمين على قلبِه، ليكونَ من القارئين لكتاب الوجود، الكتاب الذي أنزلَ على العبد الذاتيّ المهدي الخليفة. فالمهدي الخليفة أنزل عليه الكتاب، فهو الكاتب بسرّ ذاته ولطيفته الذاتية الأصلية، وغيرُه نزل عليه القرآن، فهو قارئ لهذا الكتاب فقامَ الحقّ سبحانه لطيفة ذاتية في المهدي الخليفة، وقامَ في غيره لطيفة صفاتية، أو ظلالية. فافهم هذا الذي نقولُه فهو من أنفس التحقيقات.

فقد صارَ صاحب لواء الذات واللّطيفة الذاتية بهذا الاعتبار سفير وخليفة الحقّ سبحانه، لأنّه لا سبيل إلى ظهور الحقّ سبحانه إلاّ بمظهرٍ في عالم الكثرة والحدوث، حيثُ ما في التّحقيق سواهُ موجوداً، فكان مظهرُ الحقّ سبحانه بذاته هو الخليفة. ففي سماء الربّوبية والقدِم هل موجودٌ غير الواحد الأحد؟
وإقرأ بدايات سورة النّجم، حيث ورد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اخترقَ إلى سرّ الرّوح ورأى من آياته الكبرى، وجاء في أخبارٍ صحيحة أنّه رأى ربّه عند عروجه في ليلة الإسراء والمعراج، وهو رأى الرّوح الأعظم حينما اخترقَ لسرّه. عند سدرة المنتهى. فرأى ربّه، والله بذاته وكُنه ذاته وأحديّته مُتعالٍ عن الإدراك فضلاً عن الرؤية، فافهم. وإنّما رأى المظهر الذي يظهرُ فيه الله بذاته، وهو الرّوح. وما استنكفَ السَّلفُ والرّاوي أن يقولَ رأى ربَّهُ. وكذلك جاء في الأحاديث الصّحيحة أنّه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه في رؤيا على هيئة شابٍّ أمرد. فالمرادُ هنا هو الرّوح حامل لواء الذات والمُسمّى : الحقّ المخلوق به. وهو ليس سوى الخليفة المهدي عليه السلام.
فلا حرجَ في إطلاق لفظة الربّ عليه، لأنّ سرّهُ هو السرّ الذاتيّ، ولطيفته ذاتية فهو ليس بظلٍّ. ولإقامة كلامنا على التأسيس فسننقلُ بعض اقتباسات الأكابر المحقّقين في توصيفهم للخليفة المهدي. وإطلاقُ لفظة الربّ لا تليقُ إلاّ به سبحانه هو صاحب الذات والهُو والكنه الغير مدرك، فتعالى الله عمّا يُشركون.

قال الشيخ الأكبر قدّس سره في الفتوحات المكيّة في وصفِ الخليفة :
(("إني جاعل في الأرض خليفة" يُؤمن به من كل خيفة، أعطاه التقليد، ومكّنه من الإقليد، فتحكّم به في القريب والبعيد، وجعله عينَ الوجود، وأكرمه بالسجود، فهو الرّوح المطهّر والإمام المدبِّر، شفّعَ الواحدَ عينه، وحكم بالكثرة كونَه، وإن كان كل جزء من العالم مثله في الدلالة ولكنّه ليس بظلّ فلهذا انفرد بالخلافة وتميز بالرسالة فشرّع ما شرع، وأتبَع واتّبع فهو واسطة العقد وحامل الأمانة والعهد)). انتهى.
فنعته هنا أنّه ليس بظلّ فانفرد بالخلافة وكان واسطة العقد وحامل الأمانة والعهد. أي حامل سرّ الذات حيث تجلّت تجليَّاتُها، وإلاّ لما قام معنى قوله تعالى
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }. فوجهُ الله هنا هو وجههُ سبحانه. وإلاّ لوقع الشرك والانفصال. ثمّ عرّفه أنّه شفع الواحد عينُه، وحكمَ بالكثرة كونَه، فنسبَ إليه الكون، ونسبَ إليه التشفيع والكثرة، ونسبَ إليه مقاليد الأمور والتصرّف. فهو الربُّ والذي استحقّ السّجود، لأنَّهُ حامل سرّ الذات والكنه الغير المدرك وصاحب العلم الكلّي الكامل بالله تعالى، وصاحب التّصريف المطلق.
وقال الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه "الإنسان الكامل"

ذاتٌ لها في نفسها وجْهَـانِ ... للسّفل وجهٌ والعُلا للثانـي
ولكلّ وجهٍ في العبـارة والأدا .... ذاتٌ وأوصافٌ وفعلُ بَيَانِ
إن قلت واحدة صدقْتَ وإنْ تقُلْ ... اثـنانِ حـقّ إنّـه اثنـانِ
أو قلتَ لا بل إنّهُ لمثلّثٌ ... فصدقت ذاك حقيقة الإنسانِ
أنظر إلى أحدية هي ذاته ... قل واحدٌ أحدٌ فريدُ الشانِ
ولئن ترى الذاتين قلت لكِوْنِهِ ... عبدا وربا إنّه اثنانِ
وإذا تصّفحتَ الحقيقة والتي ... جمَعَتْهُ ممّا حكمُه ضدّانِ
تحتارُ فيهِ فلا تقولُ لسُفلِه ... علو ولا لعلوّه داني
بل ثمّ ذلك ثالثاً لحقيقة ... لحقت حقائق ذاتها وصْفانِ
فهي المسمّى أحمد من كون ذا ... ومحمّد لحقيقة الأكوانِ
وهو المعرّف بالعزيز وبالهدى ... من كونه ربّاً فداهُ جناني

فوصفه الشيخ الجيلي بالذات الأحدية، فهذا محقّق عالم بالله يصِفُ صاحب الذات المُسمّى أحمد، والمعرّف بالعزيز والهدى : المهدي {ألم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين}، وعرَّفهُ أنّه ربٌّ. وأنّه الظاهرُ بالمحمدية في الأكوان فكان هو الظاهر بمحمّد لحقيقة الأكوان. وهو أحمدٌ الذي قامَ بحقّ الحمد، وما قامَ بحقّ الحمدِ سواهُ على التّحقيق، والحمدُ هو إعطاء كلّ مرتبةٍ حقّها، وما ظهرتِ المراتبُ ولا ظهرَ التعدّدُُ إلاّ بالتجلّيات الحقيّة والخلقية، وما ثمّ في التَّحقيقِ حامِدٌ ومحمودٌ وحمدٌ سوى الواحد الأحد المعبود سبحانه، فهو عينُ الحمد والحامد والمحمود، فهذا معنى القيامِ بحقّ الحمدِ، فمن هو سرّ الحمد والحامدين؟ هو المحمود سبحانه، الذي تجلّى بخلقه، فأعطى كلّ مرتبةٍ حقّها، وليس ذلك سوى أحمد بالأصالة وهو الخليفة المهدي، فكان العبد الذي قام بحقّ حمد الله تعالى على التّحقيق دون سواه. وكان سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم عند تحقّقه بالإسم الأعظم، التحقّق الظلاليّ الشهوديّ العبد الذي استحقّ لواء الحمد دون غيرِه من الخلق، فهو صاحبُ لواء الحمد والمقام المحمود، والخليفة أصلٌ لا مزاحمة بينه وبين الخلق. وإنّما كان صاحب لواء الحمد هو القدوة والأنموذج الذي جعله الله مكمّلاً وقدوةً سيّداً لسائر المتحقّقين والعباد والمخلوقات، وجامعاً لجميع التجليّات خاتِماً لها متحقّقا بها، وهو سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجميعُ العباد سائرون على قدمه متحقّقون من بعده.


وقال الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه في الفتوحات المكيّة :

(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. ) انتهى.
فهنا كلامٌ واضحٌ، في التفريق بين المتحقّقين وبين صاحب الأحدية والذات. فهيهات أن يتماثل الأصلُ والظلُّ. فتحقّق المحقّقين والأولياء والأنبياء هو تحقّق بالعلم والصفات، لا بالذات. وذكرَ أنّ هناك ياقوتة يتيمة لا نظير لها. وهي ياقوتة الخليفة والرّوح صاحب الذات وصاحب الأحدية وصاحب الكنه، فشتّان بين الخالق والمخلوق. فافهم. أن ينخدَعَ من لم يتحقّق بين المرتبة وبين الأصل وصاحبها الذي به ظهرت. فأمرَ سبحانه بإقامة الميزان.

وكثيرٌ من الاقتباسات ذكرناها في ثنايا مقالاتنا تتكلَّمُ عن حقيقة هذا الوليّ الخاتم. فليس له نظير ولا مثيلٌ، فمهما وقع التماثل في المظهر والإنسانية الظاهرة، فالختمُ سرّهُ وعلمُه هو فوق الإدراك وفوق التناظر والمثلية.


وقال الشيخ الأكبر في كتاب عنقاء مغرب تلميحاً لهذا المقام : ((فرأيتُ ختم الأولياء الله الحقّ، في مقعد الإمامة الإحاطية والصدق، فكشف لي عن سرّ محتده وأمرت بتقبيل يده، ورأيتُه متدليّاً على الصدّيق و الفاروق متدانياً من الصّادق المصدوق، محاذياً له من جهة الإذن، قد ألقى السمع لتلقّي الإذن ولو تقدّمه منشور ، وخاتماه نور على نور ، فكان له في ذلك الجمع الظهور وما عداه فيه كلابس ثوبي زور))انتهى. فما عداهُ كلابس ثوبي زور، لأنّه الأصلُ وغيرهُ ظلٌّ لهُ. فهو صاحب لواء الذات.

ووصفه الشيخ الأكبر
في عنقاء مغرب بقوله مقسماً : ((وأقسم لك بهذا البلد إنّه للسيّد الصّمد)). انتهى. ولا صمد إلاّ الله المعرّف في سورة الإخلاص بقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ }. ولا صمد سواهُ "هو" وحده لا شريك له، الذي استغنى وغيرُهُ إليه افتقر.

وقال الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل في باب : "في الزبور" :
((.. فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه، وإليه الإشارة في قوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} يعني الصالحين للوراثة الإلهية..)) انتهى.

وقال الشيخ الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل"، يصِفُ حقيقة المهديّ الخاتم الوليّ:

(فقد سبق أن قلنا أن الحقّ إذا تجلّى على عبده وأفناه عن نفسه قام فيه لطيفة إلهية، فتلك اللّطيفة قد تكونُ ذاتية وقد تكونُ صفاتية، فإذا كانت ذاتية كان ذلك الهيكل الإنسانيّ هو الفرد الكامل والغوث الجامع، عليه يدورُ الوجود، وله يكون الركوع والسجود، وبه يحفظ الله العالم، وهو المعبّر عنه بالمهدي والخاتم وهو الخليفة، وأشار إليه في قصة آدم، تنجذبُ حقائق الموجودات إلى امتثال أمره انجذاب الحديد إلى المغناطيس، ويقهر الكون بعظمته ويفعل ما يشاء بقدرته، فلا يُحجبُ عنه شيء، وذلك أنّه لمّا كانت هذه اللطيفة الإلهية في هذا الوليّ ذاتاً ساذجاً غير مقيّد برتبة لا حقيقة إلهية ولا خلقيّة عبديّة، أعطى كلّ رتبة من رتبة الموجودات الإلهية الخلقية حقّها، ...) انتهى.

فعيَّنهُ أنَّهُ صاحب اللّطيفة الذاتية وغيرُه قام فيهم الحقّ لطيفة صفاتية.

وقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في مقدّمة الفتوحات :

إنْ قيل من هذا ومن تعني به... قلنا المحقِّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمُ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

وهنا نزّهه الشيخ الأكبر عن النّظراء والمشابهة مطلقاً، وجعله سرّ العباد ووصفه بأوصاف الإله. حتّى قال على لسان المندهشين:
قالوا لقد ألحقتَهُ بإلهَنِاَ... في الذات والأوصاف والأسماء
وأجابهم :
فبأيّ معنى تعرفُ الحقّ الذي... سوّاك خلْقًا في دُجَى الأحشاء
أجابَهم أنّ معرفة الحقّ تقضي بوجود سرّه في خلقه، فوجبَ وجود صاحبِ هذه المرتبة الذي ظهرتْ به المخلوقات، فهو هذا الخليفة خاتم الخلفاء. هو سرُّ الوصلِ والفصلِ. وإليه ترجِعُ الظّلالُ والمراتب والتجليّات.

كثيرة هي الاقتباسات الصّريحة والملمّحة. ولكنّنا أردنا التنبيه لحقيقة التنزيه لكُنْه الذات العليّة المتعالية عن الإدراك، التي لا تُدركُ لا دنيا ولا آخرة، فهو سبحانه في أحديته وعلاه، وحقيقة الخلافة بين الأصل والظلّ. والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل.




الاثنين، 2 يونيو 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 64


- 64 -

قلنا : "فيتجلّى نعيم الجنّة بهذا الاعتبار. ويُصبحُ العبدُ أنّى اشتهى شيئاً وأراده وجده، وليس يشتهي سوى النّعم والجمال والرّحمات والفضائل، لأنّ حياته قائمةً بالله تعالى على الاعتبارين : الباطن والظاهر. بخلاف الحياة الدّنيا، فالحياة فيها قائمة على المعنى الظاهر فقط. لأنّ النّفس تنزِعُ فيها إلى الطّبع والتّراب والعنصر وأناها الذي يميلُ بها ضدّ حقيقتها الأصلية التي ترجِعُها إلى ربّها.". اه.
قولنا أنّ الحياة الدّنيا قائمة على المعنى الظاهر، أي أنّ العبد فيها غير متحقّق، يعيشُ على ظاهر الحياة فقط، وهو غافل عن باطنها وحقيقتها، فيتحقَّقُ بظاهرها وأسبابها، بخلاف الآخرة فالحياة فيها حقيقية، لأنّ العبدَ المؤمن في الجنّة يُصبحُ متحقّقاً فيها مهما أراد شيئاً وطلبَهُ حقّقه له الله تعالى وأعطاه، فله مشتهياته ورغباته محقّقة حاضرة بلمح البصر. فهو في نعيمٍ مقيم عظيم. فحياته قائمة بالله تعالى ظاهراً وباطناً، وكلٌّ حسب منزلته في الجنّة، وحسب مستوى ترقّي قلبه في التجليّات والذوق. فيتمنّى بقدرِ ما يريدُ، والقلبُ هو الحاكم في الأمنيات والإرادة. ولذلك اختلفت منازل العباد في الجّنة، بقدرِ تحقّق قلوبهم ومعرفتها بالله تعالى وذكرها له سبحانه. فاختلفتْ لذَّاتُهم ورغباتُهم وخيالاتهم ووسعُهم وتجليّاتهم. فالحياة الحقيقية في الآخرة، إذ يُصبحُ العبدُ حيّاً بالله تعالى بالمعنى المقصود، حياتُهُ مستمدّّة من أصلِ الوجود من الحيّ الواحد المعبود سبحانه وتعالى. قال الله تعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). العنكبوت-64. فسمّاها الحيوان، وهي مبالغة في لفظ الحياة وزيادة في البناء للزيّادة في المعنى، وتثبيت معنى الآية السابق أنّ الحياة الحقيقية هي الآخرة (يا ليتني قدَّمتُ لحياتي)، مقارنةً مع الحياة الدّنيا التي هي لهوٌ وتلهيةٌ ولعبٌ وغفلةٌ، سريعة الزّوال، كثيرة الفتن، شيمتُها التحوّل والتقلّب، فحياتها لهوٌ ولعِبٌ لا يليقانِ بأهل العقل والرجاحة والأكياس الذين ينظرون في عواقب الأمور.
 

فالآخرةُ حصادُ زرعِ الدّنيا بميزانٍ دقيقٍ عادل عظيمٍ. لأنّها أي الآخرة باطنُ الدّنيا. ومهما كان العبدُ يسقي الجِرابَ الذي يسقيهِ، فمنهُ يستقي في الآخرة. فمن يسقي جرابَ النَّفسِ الأمّارة بالسوء، ويعيشُ في دائرتِها غافلاً عن ربِّهِ، وغافلاً عن وجودِهِ الحقيقيّ الذي به قام وهو وجودُ واجب الوجود سبحانه، فسيستقي من هذه النَّفسِ وتحقُّقَاتِها في آخرته، فتنعكِسُ عليه هذه الدائرة التي ارتهنَ فيها، وهي دائرة الوجود العرضيّ المزيّف الذي ينزِعُ إلى الشرّ والسّوء والمساوئ. فتسقيهُ نفسُه يومئذٍ سقياهُ التي استقى منها، ويحصِدُ زرعَهُ الذي زرعَه في الدّنيا. فيخلُدُ أهل الكفرِ والجحودِ والنّفاقِِ في النّار والجحيم، تسقيهُمْ نفوسهم بما تحقّقتْ به، وهي ما تحقّقتْ إلاّ بالكفرِ والجحودِ بالله تعالى مصدرِ النّعم والرّحمة والخير المطلق. أي تسقيهُم ما يُضادُّ هذه النعم والخير والرحمة وهو العذاب والجحيم والشقاء. فهذا هو جزاءُ الكافرين والمنافقين. قال الله تعالى {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا} الفتح-6 . فجعلَ دائرة السّوء نتيجة ظنّهم بالله ظنّ السّوء. ونالوا الغضب والطّرد والبُعد وعذاب الجحيم. أمّا المنافقين فإنّ أعمالَهُم الظاهرة على الطاعات والإسلام لم تشفَعْ لهم لأنّ حقيقتها هي الكفر والجحود، فسقتهُمْ نفوسُهم الجاحدة الكافرة باطناً الظانّة بالله تعالى ظنّ السّوء المطلق سقيا العذاب والبعد والجحيم مثل الكفرة، وكانوا أشدُّ كفراً وعداوة لله والمؤمنين فكانوا في الدّرك الأسفل من النّار، أي كانت نفوسُهم أشدّ سوءاً في ظنونها السيّئة بالله فانقلب ذلك عليهم وما شفعت لهم أعمالُهم الظاهرة لأنّ حقيقتها هي الكفرُ والعداوة والسّوء، كمن يُظهِرُ لكَ الإحسانَ والخير ويبشُّ في وجهَكَ وهو يكيدُ لكَ ويُريدُ أن يؤذيكَ من حيثُ أنتَ تُحسِنُ الظنّ به، فهو يستعمِلُ ابتسامته وخيره الظاهر لك وإحسانه من أجلِ أن ينالَ منكَ ويؤذيك، فأعمالُهُ ليستْ خيراً ولا إحساناً بل هي عينُ الأذى والكيد والإساءة والشرّ، وهكذا حالُ أعمالِ المنافقين ومعاملتهم مع الله تعالى. أمّا العصاةُ من الموحّدين، فتسقيهُم نفوسُهم ما لبِثُوا فيه من دوائر الظنّون السيّئة والأعمال الطّالحة السيّئة، ولكن يشفعُ لهمْ إيمانُهم بالله تعالى وتوحيدُهم، أي أنّهم ما كفروا وجحدوا المصدر والمرجع الأصل في الخير والنّعم، ولكن عصوا وتفاوتوا في العصيان والتمرّد، فسقتهم نفوسُهم بقدرِ ابتعادهم عن التحقّق والتزكية النّفسية والصّلاح. وردّوا بعد ذلك إلى الأصلِ وهو إيمانُهم بالله تعالى وتوحيدُهم. ولمّا كانوا عبيدَ الأجرِ والظاهرِ من الأعمالِ والأسبابِ، جزاهم الله تعالى ووفَّاهُم بظاهرها، وأقامَ لهم أعمالهم حاكمةً عليها، الصالحة والطالحة، وحكم عليهم الميزان.{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]. وكذا المؤمنين فإنّهم كانوا فريقين، فريقٌ كان من أهل الظاهر وطلاّب أجرٍ فقط، ما عبدوا الله تعالى بمكيالِ المحبّة والعشق، ولكن عبَدُوهُ بمكيالِ الأجر وظاهر الطاعات، فوفَّاهُم الله تعالى بميزانهم الذي أقامُوهُ في الدّنيا مع ربّهم، وهو ميزان الظاهر والأسباب، فأقام لهم الميزان حاكماً على أعمالهم الصالحة وطاعاتهم، فلمّا كانت أعمالهم الصالحة غالبة وطاعاتهم وافرةً جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، وهو أكرم الكرماء وأحسن الشاكرين، وأدخلهم الجنّة كما وعدهم. وفريقٌ آخر وهو فريقُ القلوبِ والتقوى، الذين عبدوا الله تعالى محبَّةً له سبحانه وطلباً لوجهه وذاته، فأقام الله لهم ميزانهم الذي أقامُوه مع ربّهم، وردَّهُم إلى قلوبِهم المُحبّة لله تعالى، فنالوا الكرامة عنده وسبقوا يوم القيامة. وزادَهُم على أعمالهم الصالحة وطاعاتهم مثاقيلاً لا يعلمُها إلاّ هو سبحانه، لأنّ مثاقيلَ أعمال القلوب لا يُقاسُ بها أعمال الظاهر. وما تفاوتت الأعمال الصالحات إلاّ بالنيات والقلوب، كما قال صلّى الله عليه وسلّم "إنّما الأعمال بالنيات". وهؤلاء جاؤوا ربَّهم بقلوبٍ محبّة ونياتٍ صافية خالصةٍ يطلبون وجهه، فردّهم سبحانه إلى ميزانِهم الذي جاؤوا به ربَّهُم وما خيَّبَهُم فسبقوا يومئذٍ. ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى شَيْءٍ إِلا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا ". فتأويلُ الحديث إن كانت الجنّة نعيماً خالِصاً لا حسرة فيها ولا ألم ولا حرمان وهو كذلك -أي لا حسرة فيها ولا ألم- ، فتأويلُ الحديث أنّ أهل الجنّة مقصود بهم عموم من يفوزون بالجنّة ويُبشّرون بها بعد الحساب أو عندَ دخولهم الجنّة ابتداءً، فيرونَ عظمة عطاء الله تعالى ووفرته، وميزانَ عطائه الذي قامَ على تعظيمِ المُنعِمِ سبحانه، فبقدرِ التعظيم والمحبّة لله يزدادُ ميزانُ القربِ والعطاء عنده سبحانه، فيتحسّرونَ على ما فاتَهم من أوقاتٍ ما ذكروا فيها ربّهم وما عظَّموا المُنعِمَ على النّعََمِ التي كانوا يتقلّبون فيها في الدّنيا، مع شهودِهم معنى الحياة الحقيقية ذوقاً وعياناً فيتحسّرونََ على ما فاتَهم من القربِ القلبيّ والحبّي لمولاهم سبحانه الكريم العظيم. وأدلُّ دلائل وعلامات تعظيم الْمُنعم والرّغبة في قربه ومحبّته هي ذكرهُ في الأوقات. وإنّما كانتِ العبادات وقامت الطاعات لإقامة هذه الصّلة بين العابد والمعبود، والخالق والمخلوق، ومن أجلِ ذلك كانتِ الصّلاة ركنُ الدين وعمودُه، لأنّها شملتْ هذا المعنى العظيم وهي ربط الصّلة بالله تعالى، وردّ العباد إلى المُنعِم بذاته سبحانه والوقوف بين يديه، كي لا يغفلَ العبادُ بشهودِ النّعم والتلذّذ بها على حسابِ المُنعِمِ وشهودِه سبحانه، فأقامَ لهم الصلاّة فيها تلك الصّلة المباشرة بين العبد وربّه، وفرّق أوقاتها على اليوم ليؤسّس هذه الصلة ويقوّيها لأنّها سرّ العبودية وحقيقة الفلاح، ولهذا جاء في نداء الصلاة حيّ على الفلاح، فالصّلاةُ عمودُ الدّين بهذا الاعتبار، فيها معنى الذكر بجماعه الذكر القلبيّ واللّسانيّ وتسخير سائر الأعضاء لهذه الصلة بين العبد وربّه وذكره سبحانه، فهي ليست ذكراً عادياً، بل ذكرٌ مكثَّفٌ شامل. ولسرّ الصّلاة وتميّزها ما اختارَ الله لها التّشريع إلاّ في السّماء عند سدرة المنتهى في ليلة المعراج، فأعظِمْ بها تكريماً وعماداً وشرفاً لهذا الإنسان، وحازتْ هذه الخصوصية لأنّ فيها كما قلنا معنى العبودية وسرّ شهودِ المُنعِم سبحانه والوقوف بين يديه وردّ العبدِ إلى ربّه يُناجيه ويذكرُه ويدعوه ويستشعِرُ قيامه ووقوفه بين يدي ربّه. ولمعنى التعظيم وشهود المُنعِم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي)). فجعلَ محبّة الله تعالى تقومُ بشهودِ حقيقة تلك النّعم التي يتقلَّبُ فيها العبدُ، وحقيقتُها هي الله سبحانه. وهنا بابٌ مفتوحٌ للبصيرة والذوق والمعرفة، كيف أنّ العبدَ يتقلَّبُ في النّعمِ التي لا تُحصى، وكلّما شهدها بتدبّرٍ وذوقٍ زادَ تعظيمُه لربّه وشكره ومحبّته، وعرفَ قدر هذا التّخصيص وقدر تلك النّعم. إذ لا موجودَ سواهُ سبحانه، فكلّ القدرِ والشرف والتكريم والحبّ والخصوصية في الوجودِ أوّلاً أيّاً كان هذا الوجود، ثمّ في الوجود على الصورة الإلهية، ثمّ في تنزّلِ تلك النّعم التي لا تُحصى ولا تتناهى وهي ثمرة الصورة الإلهية. فهنا بحرٌ من التفاوتِ في تقدير هذه النّعم التي وهبها الله لخلقه. وهو الغنيّ العظيمُ في علاهُ. لذلك قال سبحانه عزّ وجلّ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..} [سورة الزمر:67]. فكانَ الذكر في الأوقات هو عنوان المحبّة وعنوانُ الرّغبة في القرب، وعنوان التعظيم للمُنعِم سبحانه. وكان الذّكر مطيّة القرب القلبيّ، والعلوّ في الدرجات عند الله تعالى، فيتحسَّرُ أهل الجنّة على كلّ ساعة مرّت لم يذكروا فيها الله تعالى. وكيف فاز الذاكرون الله بعظيمِ الدرجات، ومنازل الحبّ والقرب. فضلاً عن كونِ أجر الذكر أجرٌ عظيمٌ مع سهولته ويسره، فهو من أيسر العبادات إطلاقاً، وهو مع يُسرِهِ من أعظمِها ثماراً وأجراً.

والذِّكرُ كما قال أهل العرفان والتربية : هو منشور الولاية. من أُعطِيَهُ فقد أعطيَ باب الولاية والقرب. وما زالَ العبدُ يذكرُ الله تعالى حتّى يطوي الطريق إلى ربّه. وأنّ القلبَ سرُّهُ في التحقّق هو الذكر، وكثرة الذكر. لأنّ الذّكر هو مفتاحُ التجلّي، فمهما أقامَ العبدُ على ذكرِ ربّه، فقد أقامَ على تجلّيه عليه بقدرِ الذّكر والأوقات التي تستهلِكُ العبدَ في ذكره، ونوع ذكره، وكيفية ذكِره. وكثرة الذّكر تستجلِبُ الخشوعَ وتوسِّعُ مداركَ القلبِ لسعة التجلّي الأقدس، فهو مع دوامِ الطّرق والذكر والإقامة على الذّكرِِ يفتحُ منافذ القلبَ نحو الرّوح ليتلقّى منها أمداد الحقّ سبحانه إليها، يفتحُ المنافذ ويوجّهِها نحو الرّوح، فيخِفُّ العبدُ أكثر، من عبء الجسد وعبء الطّبع التّرابيّ الذي يشدّهُ للطبائع الدونية والمساوئ النّفسية، ويترقّى بالرّوح. لأنّ القلبَ سرّهُ التقلّبُ، وسرّهُ التوجّه، وحيثُ توجّه وجهةً استهلكتهُ كلّه، فإذا توجّه نحو الله تعالى وأمداده عبر الرّوح، فقد ارتفعَ عن توجّهه الدونيّ الترابيّ الدنيويّ. والقلبُ هو البرزخُ بين الرّوح العارفة بربّها الشاهدة له، وبين النّفس المتّصلة مباشرةً بعالمِ الحسّ والطبائع الترابية والعنصرية، والذكرُ يملأُ هذا القلبَ بأنوارِ الحقّ سبحانه، وأمداد الرّوح، مهما زادَ وتقوّى وتركّز هذا الذكرُ زادت الأنوار والأمداد، واتَّسعتِ المنافذ نحو الرّوح. فيستجلِبُ هذا التوجّه نحو الحقّ سبحانه أنوارَ تجليَّاتِه عليه. فيُصبِحُ العبدُ في معية الحقّ، معيِّة بقدرِ حضورِهِ في الذكر وبقدر كثرة ذكره. ولهذا كان الذِّكرُ أفضلُ العبادات مُطلَقاً. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :"ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم " قالوا : بلى يا رسول الله، قال: " ذكر الله".حديث صحيح. إنّ الأعمالَ والطّاعات تتعاظَمُ عند الله بقدرِ نيتِها وخلوصِها، وتفاوتت أقدارُها ودرجاتُها عنده سبحانه، ولكنَّ الذِّكرَ هو السرُّ الذي يجعَلُ لجميعِ العباداتِ والطّاعات معناها الحقيقيّ، فدوامُهُ في الأوقات يغمُرُ العبدَ ويجعلُه في معيّة الله تعالى، فتأتي طاعاتُهُ خالصةً قائمةً بروحِها فيها معنى العبودية والمحبّة لله تعالى والتعظيم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ : جَبَلُ جُمْدَانَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سِيرُوا سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ " . قَالُوا : وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ .. ". حَدِيثٌ صَحِيحٌ. سبق المفرّدون وهم السّابقون من عباد الله تعالى الذين استهتروا بذكر الله تعالى حتّى أصبحت أنفاسُهم ذاكرة لله تعالى.



___________

وقولنا : (والإشارة هنا، هي في كونِ أنّ الإنسان لا نهاية ولا حدّ لشرّه إلاّ إذا تجلّى الله عليه بمحاسنه وفضائله وكمالاته. قال لي أحد مشايخي قدّس الله سرّه وسرّهم : "الإنسان لا نهاية لشرّه ومساوئه إلاّ إذا تجلّى عليه الله بمحاسنه وفضائله".) اه.

أي أنّ النّفسََ الإنسانية لا نهاية لشرّها ومساوئِها ما دامت ملتفتةً لنفسِها معرضةً عن ربِّها سبب وجودِها وسبب النّعمِ التي تتوالى عليها، فلا ترتهنُ إرادتُها حينئذٍ سوى في الأنانية والشرّ والمساوئ والجحود. قال العارف ابن عطاء الله السّكندري رضي الله عنه
(لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك، ولا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك). ولذلك يتجلّى التدجيلُ على أوجِهِ في العالم، فهو ارتهانُ النّفس البشريّة في سجنها النّفسيّ حتّى ترتكسَ إلى قاعِ الحضيض، وتهوي الى دركة البهيمية بل الشيطانية، ولا تزالُ تهوي هذه النّفس المسجونة في قفصِها النّفسيّ إلى دركات الانحطاط، وتُسمّى حينها النّفس الدجّالة، وهذا يُفسِّرُ ما جاءَ من أوصافٍ وأحاديث تصِفُ آخر الزّمان، وانقلابَ مفاهيمه وانحراف سلوكياته، وقلّة خيره وصالحيه، وتهارج النّاس على الدّنيا وبيعهم لدينهم بعرض من الدنيا قليل، ويُصبحُ المحافظ على دينه كالقابض على الجمر، لأنّه وقتها يُصبِحُ المحافظ على دينه المتمسّك بانتمائه الحقيقيّ وهو الانتماء لله تعالى، يُصبحُ غريباً معاكساً للتيّار العامّ القويّ جدّاً، تيَّارٌ مدجَّلٌ. والحفاظ على الدين هنا ليس هو الحفاظ على ظاهره فقط، فكم من تديّن ظاهر وحقيقته التدجيل، وما ارتضاهُ عصبة التدجيل العالميّ أن يكون موجوداً على حساب التديّن الحقيقيّ النقيّ الذي يجمعُ القلبَ على ربّه، ولا يشغله عنه. وأكثر حال المتديّنين في آخر الزّمان مشغولون عن ربّهم، بسبب التدجيل الذي عمّ واخترَقَ الكثير من الهيئات والحالات وانحراف المفاهيم وانقلابها، وعدم وضوح في الرؤية والفهم والتديّن. فضلاً عن فساد النيات والقلوب وانجذابها للدّنيا والشهوات المؤثَرَة التي استعلتْ بوسائلها القويّة، ونفوذها وسهولتها. فحينئذٍ لا يكونُ صلاحُ هذه الدّنيا المدجّلة والنّفس الرّاكنة لأناها وشرّها، إلاّ دالاًّ عن ظهورِ الرجل الذاتيّ، الذي صلاحُهُ يعكِسُ صلاحَ العالم. ولهذا يظهرُ هذا الرَّجلُ من آل البيت عليه السلام في آخر الزّمان، وإصلاحُهُ يكونُ في ليلةٍ، ليُعطي حقيقة مقامِهِ الذاتيّ المؤهِّل لهذا الإصلاح الجذريّ الانقلابيّ العظيم في الكون، وكذا رحمةً من الله لبقيّة المؤمنين وبهذه الأمّة المحمديّة المرحومة، فيظهرُ المهديّ عليه السلام، ولا يكونُ ظهورُهُ سوى مُعبِّرٍ عن نفخ الرّوح في الإسلام، فهو الرّجل الذاتي والخليفة الذي كان سرِّهُ ذاتياً، والوحيد المؤهَّلُ أن يقلَبَ هذه النّفس العنصرية المسجونة في قفصِها النّفسي التدجيليّ المنحطّ إلى نفسٍ صالحةٍ مؤيّدةً بروح القدس. فيظهرُ إماماً عادلاً وهو في الحقائق وعالم العرفان دالٌّ على مرتبته الذاتية وإمامته العليا لمن كان يعقلُ معنى إصلاحه في ليلة وقلبه للعالم كلّه رأساً على عقب، وإبادته للظالمين. وبالتّالي فظهورُهُ لا يُعبِّرُ إلاّ عن الساعة وعلاماتها الكبرى.  


________________

شاهِدُ الخليفة

وشاهِدُ الخليفة ليس هو الطريقة المعتادة، بل شاهدُهُ هو ما اعترضَ عليه الملائكة لمّا أنبأهم الله تعالى بأمرِ الخليفة في الأرض، أي أنَّ الخليفة هو روح جميع الخلائق وسرّ جميع العباد، فشاهدُهُ هو التحقّق بجميع مظاهرهم وتلوّناتهم واعتباراتهم سواء بجمالها وكمالها أو نقصها وجلالها. وهذا إذا استعصى على الكثيرين إدراكُهُ فهو سرُّ الخليفة وحقيقتُهُ وحجَّتُه وعلامتُهُ التي ذكرها الله تعالى في شأنِهِ وعلامتُه التي فضّلَهُ الله بها على غيره من الملائكة المعترضين وسائر الخلق. فسرُّ الخليفة هو التحقّق بالأسماء جميعها، والتحقّق بالأسماء يقتضي الظهورُ بآثارِها في الأرضِ. فقد صارَ بهذا الظهور والتلوّن والشاهدِ الخليفةُ هو سرّ جميع المراتب والخلائق، وحقيقة الحقائق، التي تعيّنتْ في الأعيانِ وظهرتْ في الأشكالِ والأطوارِ والخلفاء والعباد على اختلافهم. فليس اسمُ الخليفة سوى الإشارة إلى الإنسان مطلق الإنسان الذي استخلَفَهُ الله تعالى في الأرض فمنهُ الشاكر ومنه الكافر. ولكنّ حقيقة الخليفة وحقيقة هذا الإنسان هو المُرادُ بالخليفة اصطلاحاً، لأنّهُ السرّ الذي تلوّنَ بسائر الخلفاء والأنبياء والنّاس وليس ذلك السرّ سوى الوجه الذاتي الذي ذكرَهُ سبحانه وتعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. ولهذا فالخليفة المُطلق لا يظهرُ إلاّ بعلامات السّاعة الكبرى، لأنَّهُ نهاية الوجود وختام خزانة الجود الإلهي، وحقيقة كلّ موجود. فلا تتعجّب من وجودِ هذا الخليفة وهذا العنقاء المغربية، لأنّه حقيقة الخلفاء، وإلاّ لوجبَ أن ترجِعَ الحقيقةُ والخلافة بعينيتها إلى صاحبِها باسمِهِ وسرّه الذاتيّ، وحيثُ لم يُعلن عنهُ ولم يُعرف غيرُهُ، فوجبَ أن يتفكّرَ المعترِضُ عن سرِّ وجودِ تلك المرتبة التي ظهرَ بها الخلفاءُ، وهي ليست مرتبة النبوّة، فالنبوّة مرتبتُها الرّحمانية والكمالات، ومقامُها الرحمة التي أرسلت بها إلى سائر المخلوقات والعالمين، فدلّ ذلك على وجود ختمٍ وخليفة مطلقٍ هو الخليفة في الآيات المذكورة في سورة البقرة، فقد نعته الله تعالى خليفةً واحد وأسجد لسرّه الملائكة، بينما الخلفاء هم سائرُ النّاس بإطلاق الخلافة بنقصها وكمالها، وخلفاء متناوبون واحداً بعد واحدٍ في مقام الخلافة الكاملة، ولمّا كان الخليفة هو المرادُ من الإنسانية بكمالِها وصورتها الإلهية، فحقيقة الإنسان والخلفاء جميعاً، هو سرُّ الوصلِ والفصل لجميع هؤلاء الخلفاء الذي أعطى لكلّ واحدٍ من هؤلاء الخلفاء محتدهُ الخاصّ به، أنبياءً وأولياءً في مقامِ النبوّة والولاية، وأعطى لكلّ أنسانٍ محتده الخاص به، فليس مردُّ الناس والعباد سوى إلى ربّهم في المنتهى، أقولُ ذلك للمعترضين الذين يزعمون خصوصية الفهم والانتماء لسلك العرفان. فمن صاحبُ هذه الخلافة الذي أعطى سرّ محاتد جميع الناس والعباد ليرجعوا إليه في النهاية؟ لترجع أعيانُهم الثابتة وحقائقهم إليه في النهاية؟ إنَّهُ الخليفة الذي تجلّى بالأعيان، وهو عينُ كلّ عينٍ وسرُّ كلِّ محتد. فافهم سرّ اعتراض الملائكة على الخليفة، وهو ذاتُ الأمرِ الذي شرّفَ به الله هذا الخليفة وأسجدَ له الملائكة، لأنَّهُ ظهرَ بسرّ الأحدية، وحقيقة الواحدية التي تجلَّتْ فيها الأسماء، ثمّ تعيّنتْ بها الأعيان، فصارَ خليفة مطلقاً، فشاهدُ الخليفة الأصليّ المطلق هو التلوّنات بالقوالب الخلقية جميعها قبل أن يتحلّى بالثوب الكماليّ المحمديّ، وهو سرّ الكمال المحمديّ، لأنّ الأخلاق والكمالات هي كمالاتُ الله تعالى، وهي لأهل الكمال وعلى رأسِهِم النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم بالعرَض. قال صلّى الله عليه وسلّم "تخلّقوا بأخلاق الله". فهذه الأخلاق هي أخلاق الخليفة المُطلق، لأنَّهُ عينُ الظاهرِ بالنبي الخاتم، فهو سرُّ الأنبياء، وحقيقةُ الأولياء. إنَّهُ الرّوحُ المطهّر الذي يظهرُ الله فيه بذاته. فافهم إن كنتَ ممّن يفهم، وسواءٌ سلّمتََ أم لم تُسلّم، فهذا أمرٌ لا يُنكِرُهُ اليوم سوى متخلِّفٍ عن حقيقة العرفان الذي تجلّى -أي العرفان تجلّى- كنهارٍ مُشرِقٍ وشمسٍ ساطعةٍ.
 
يتبع ..