الأحد، 30 نوفمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 67




لبسم الله ..

هناك حقائق عجيبة، لا تُدرك، لأنّ التعبير عنها يجعلها منقوصة وربّما تُسبّب ثلماً وخللا عند المتلقّي الغير مستعد لها والذي لا يملك الخلفيات التي تجعلها مقبولة عنده.

من أعظمها حقيقة الولاية، فالولاية مرتبتين. مرتبة الولاية العامة لسائر المؤمنين بالله.
ومرتبة الولاية الخاصة : وهي الولاية الكبرى ومرتبة الخلافة.

الأولى مرتبة الولاية العامة : مصداقها قول الله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (البقرة-257).

المرتبة الثانية : الولاية الخاصة مصداقها قول الله تعالى : {
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿٦٣﴾ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿٦٤﴾} (يونس).

والفرق بينهما فرقٌ عظيمٌ، كما الفرق بين التقييد والإطلاق. الأولى ولاية للعناية وإخراج المؤمن من الظلمة إلى النور فهو في طريق التحقّق والتنوير والإثبات.
الثانية هي مقام الولاية والتصريف والخلافة والحرية الكبرى.

لا شيء صدفة وعبثاً في التعبير القرآني. وللقرآن حقيقة إحصاء جميع حقائق الخلق ابد الآبدين. أحصى كلّ شيء وكلّ الحقائق وأجملها. فالقرآن هو العلم. هو كلّ العلم.
وهو علمٌ غير منتهٍ وغير نافد، بل مطلق ولانهائي .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأتي القرآن الكريم يوم القيامة بكرا كأن لم يمس". وهو ذاتُ التعبير الوارد في كلام الخضر عليه السلام لمّا قال لسيدنا موسى عليه السلام "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر".

فما أردناهُ هنا أنّ لفظة الوليّ هي صفة الله تعالى سبحانه، وهي التصريف والتدبير والملك. وتسمية الخلفاء بمسمّى الأولياء والوليّ في القرآن الكريم، هو ذاتُ المعنى المراد في قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". فبالولاية صحّت للإنسان هذه المرتبة وهذه الصورة. فافهم. وهي أي الصورة مقرونة بالولاية بمعناها الخاصّ المراد في المرتبة الخاصة الثانية فنقول فلان "وليّ الله". فهو المتحقّق بالصورة الإلهية المعنوية. وهو ذات المعنى المراد في الحديث القدسي الصحيح "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ..". والحديث القدسي وضع أوصاف الوليّ بدقّة وهي مرتبة الفناء في الله سبحانه والبقاء به : "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ".

فإذا فهمتَ ذلك، فهماً عاما على الأقلّ، فهمتَ لماذا كان خاتم الولاية هو صاحبُ مسمّى الوليّ بالأصالة. كان وليا وآدم منجدل بين الماء والطين.

فجميع الأولياء والعباد ما صحّت لهم الولاية التصريفية إلاّ بتحقيق شروط الولاية والاتّصاف بحقائقها، بالخروج عن دائرة الأكوان، والتحرّر من رقّ العنصر والطين، ليعودوا الى مقام الروح الخالص، هناك يصبحوا في مقام الولاية. إلاّ الخاتم الوليّ فولايته متحقّقة حتّى وهو في دائرة الأكوان وتحت التركيب العنصري.وذلك يحتاجُ ربّما الى توضيح يُقرِّبُ المعنى والفهم.

وهذا الذي لا يُدركُ إلاّ لعارفٍ بالله يعرف معنى الولاية ومقامها وفلكها، وهو أعلى فلك وأعلى دائرة. فهي فوق النبوّة. عند تجريد الدوائر. ولا نقصِدُ أنّ الأولياء أفضل من الأنبياء عليهم السلام، بل نحن نتحدّث أنّ الولاية هي آخر الدوائر التحققية وهي التي تعطي التحقّق بالصورة الإلهية التي أهّل الله لها الإنسان. وإلاّ فالأنبياء وقفوا على سواحل بحر الولاية بما عصمهم به الله تعالى وعلّمهم العلم الثابت وكانوا المعلّمين وكانوا القدوات في برور التخلّق والتحقّق الصفاتي. لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو سيّد المتحقّقين وسيّد الأوّلين والآخرين. فكان الوليّ المقرّب وكان النبيّ الخاتم. لأنَّهُ أوَّلُ مخلوقٍ حصّلََ الكمالات والصفات الإلهية فكان الواسطة بين الحقّ سبحانه والخلق، بل كانَ المقصودَ من الخلْق وكان الأنموذج الذي به الله ظهر سبحانه.
فقلنا لا نعني بعلوّ وفوقية فلك الولاية الأفضلية، بل في التحقيق أفضلية الأنبياء محقّقة في الأكوان، إلاّ أنّ آخر وأعلى الشرف الإنساني هو الولاية في التحقيق. لأنّها مقام الحرية والإطلاق والصورة الإلهية المقصودة، ومقام المعرفة التي خلق الله لها الإنسان.

ونُضيفُ أنّ الله سبحانه لم يخلق الإنسان للمنافسة والتفضيل والحساسية بين أفراده، بل لا موجود سبحانه سواه، وكان الوصول إليه هو ارتفاع تلك الحساسيات التي ليس لها معنى في بحر الإطلاق. فليس ثمّة سوى الحرية. ومن هنا كان الأولياء والأنبياء هم الأصفياء، أي أهل الصفاء والنقاء من تلك الحساسيات. ليس هناك عند الله تعالى إلاّ الرحمة والحرية والصفاء والإطلاق.
فخلق الله الخلْق ليذوقوا تلك النّعم وتلك الرحمة ويشهدوا ما خلق وأبدع وما سوّى وقدّر سبحانه وصوّر. فخلَق الإنسان واصطفاهُ بالصورة والخلافة.

وعودةً لتحرير معنى كونِ الوليّ الخاتم كان وليا وآدم بين الماء والطين كما هي نبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو النبيّ الأصاليّ والخاتم الذي استحقّ لفظة ومسمّى النبيّ بالأصالة، فهو صاحبُ مقامُ الإنباء ومقام التعريف بالله سبحانه والواسطة إليه والنسبة بين الخلق والحقّ، فكان النبيّ بالأصالة وما سواه من الأنبياء نبوّتهم مشتقّة ومقتبسة من نبوّة خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام. كان الله في عمائه وليس معه شيء. كما جاء في الحديث الشريف الحسن عن
أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: ((أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه)) رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، وصححه الترمذي في موضع، وحسنه في موضع، وحسنه الذهبي.
فلمّا أراد التجلّي سبحانه خلق نسبة وبرزخاً هو برزخُ الإنباء والرّحمة، به رحم الخلْق بظهورهم من العماء إلى الوجود، وفي الحديث ثمّ خلق العرش ثمّ استوى عليه، أي خلق العرش عرش الموجودات واستوى عليه بالنسبة الرحمانية، أي أنّ الخلقية والحوادث بدأت بالنسبة الرحمانية والبرزخ الرحماني المحمدي لذلك قال الله تعالى {الرّحمن على العرش استوى}. وصاحبُ هذا المقام والنسبة هو نبيّ الأنبياء عليه الصلاة والسلام. فكان برزخاً بين بحر القدم وبحر الحدوث، وكانَ النّسبة الذي به بدأت الحياة الخلقية والزمان والمكان. فهذا هو معنى النبوّة تحقيقاً، وهو مختصّ بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلّم الذي منه بدأ الخلق. وسائر الخلْق به ظهروا فهو القاسم لما أعطى الله تعالى. كما قال صلى الله عليه وسلم "إنّما أنا القاسم والله هو المعطي". أي هو القاسم لما كان في عماء الله سبحانه. أمّا الولاية فهي أعلى من النبوّة، لأنّها تختصُّ بمقام التّصريف والعطاء من بحر العماء. فافهم.
الولاية وجهتها للحقّ سبحانه، مقامُها سرّ الألوهية، والنبوّة وجهتها للخلق، فهي القاسمة من بحر العماء والحقّ سبحانه إلى كون الخلق والحوادث.
وهنا أشكلَ العلم والعرفان على الكثيرين، في التفريق بين المحمدية والأحمدية، فالمحمدية هي النبوّة ووجهتها الى الخلق والحوادث، والأحمدية هي الولاية ووجهتها الى الحقّ سبحانه وبحر القدم. والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم كان العبد البرزخ بين النبوّة والولاية، والجامع بين المحمدية والأحمدية، لأنّه العبد القاسم والفاتح للوجود. فهو محمّد النبيّ وهو أحمد الوليّ. وبالأحمدية والولاية نال صلى الله عليه وسلّم المقام المحمود. كونه أوّل عبد ومخلوق وسائر الأولياء والأنبياء ساروا على قدمه. إلاّ أنّ الوليّ بالأصالة وأحمد بالأصالة هو خاتم الولاية. وهذا معنى قولنا كان وليا وآدم بين الماء والطين. فأحمد هو المهدي. وليس هو سوى الحقّ سبحانه. فافهم. لأنّ صاحب العماء هو الوليّ المتصرّف ذو الملك سبحانه. هو الوليّ بالأصالة هو الله سبحانه

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى28). {أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير} (الشورى الآية 9).
وقولنا كان وليا بالأصالة وآدم بين الماء والطين، أي أنّ ولايته متحقّقة وهو في تركيبه العنصريّ وقبل خروجه الى الإطلاق. أي أنّه متصرِّفٌ في الكون بطبيعة رتبته حتى وهو في دائرة التركيب العنصريّ. لذلك كان الحديث عن الختم المجذوب. حينما تكلّمنا عن الختم المجذوب وحينما تكلّم عنه الشيخ الأكبر والشيخ الترمذي في كتابه ختم الأولياء، وهو لم يتكلّم سوى عن المجذوب.

لأنّ الجذب والتركيب العنصريّ هو آية وحجّة الختم، كونُه صاحب الرتبة الذاتية والولاية الأصالية، فسرُّهُ جعله كذلك. وهو الذي جعله وأهّله أن يعودَ بالأكوان من ظلمتها وتدجيلها وفسادها وانحرافها عن الفطرة إلى روحها وصلاحها وقدسيتها. سرّهُ الذاتيّ.

فجميعُ الأولياء يتصرّفون بشرط تحقيق شرائط الولاية، وذلك بعد خروجهم عن الأكوان، وهناك كان الأقطاب يتصرّفون بالنيابة عن الله سبحانه فهم خلفاؤه. إلاّ الختم المجذوب في آخر الزمان، يأتي ويستلم القطبية قبل خروجه عن الأكوان برتبته ومن غير قصدٍ منه، لأنَّهُ عينُ الروح الأعظم الذي كان في العماء ربّاً، وظهرت به الأعيان العلمية والمخلوقات. فيكونُ عرشُه وجسمه هو العرش الكلّي للمخلوقات، لأنّه الروح الأعظم، ولكن من غير إدراك لحقيقته في البداية وهناك يبدأ إسراؤه من دائره نفسه إلى حضرة قدسه، بسذاجته الذاتية وعفويته ورتبته الطبيعية المنطوية فيه وسرّه المكنون. فهو ليس بظلّ بينما سائرُ العباد عروشهم ظلالية، فحين فنائهم تهوي عروشهم الترابية وينالون الخلافة على العرش الكلّي وتصحُّ لهم رتبة الوليّ والمتصرّف، بينما الختم المجذوب، فهو صاحبُ العرش والأكوان ..فإذا جاءَ انعكست سلوكياته ونفسه على الكون، وهو في طريق التحقيق قبل الخروج من الترابية والعنصرية والأكوان. لأنَّهُ في جذبه وفي طور تركيبه العنصريّ، يكونُ عاكساً للظاهر والخلق، والقوالب الخلقية. طبعاً يكونُ عاكساً للدائرة الخلقية والعنصرية في الأكوان ممثّلاً لها، وفي نفس الوقتِ إسراؤه يمنحه الشهود والعلم والذوق في حقائق الذات من غير شهود منه وعلم كما هو العلم الكشفيّ المحيط والتفصيليّ والشهود العياني، فهو المشاهد والغير المشاهد والعالم والغير العالم والذائق بحكم سرّه الذاتيّ. فيرتقي في العلم على حسبِ إسرائه في الحقائق وتكشّفها له.

ومن هنا ربّما نفهمُ لماذا كانت حربُ إبليس وحليفه الدجّال وأعوانهم على الخليفة، على المجذوب، طمعاً أن يستولوا على الدّنيا من خلاله، لأنّ نفسه هي مرآة العرش. ولهذا في عقود قليلة جدا تحدثُ تلك القفزات العلمية والتواصلية والتكنولوجية والمادية والحضارية الكبرى، لأنّها فترة الختم المجذوب قبل كماله وخروجه من تركيبه العنصري ومادته. فيحدثُ أن تتواصل المادة تواصلاً لم يسبق له مثيل من قبل، لأنّها فترة الخليفة. فافهم. أي لأنّ العرش صارَ تحت حكم جسد المجذوب، جسد واحدٍ. والمجذوب يحكمُ عرشه كغيره بالروح والعنصر، لم ينسلخ من ترابيته وتركيبه العنصري وتأثير النّفس فيه. فتقوى المادة وحكمُها في زمنه في آخر الزمان قبل فنائه وخروجه من دائرة الأكوان. أي ما يقارب نحو أربعين سنة.

ويستغلُّ هذا المتاح إبليس والدجّال الكذاب. ويُجنُّ جنونهما ويطيشُ لبّهما أن يريا طموحهما يتجسّد منه شيئاً من السيطرة على الأكوان من خلال المادة، عبر نفس المجذوب. ويزدادُ الحسدُ والحقد المنفوث فيهما، وإبليس حاسد حاقد كما جاء في القرآن الكريم، لمّا تكبّر واستعلى وقال أنا خيرٌ منه خلقته من طين وخلقتني من نار. يقصدُ آدم، ويريدُ الخليفة الإنسان. وتلك إرادةُ الله تعالى سبحانه في الأكوان. قضتْ أن يحدث الصّراع بين المادة والنّفس المسجونة في سجون المادة والتراب، وبين الروح التي إليها الأمرُ والمبدأ. وكان إبليس هو روحُ المادّة وروح الشرّ وروح الأنا القاصرة في الأكوان، لأنّ الله خلق الإنسان على الصورة، وهذه الخلقية والنّفس هي في الحقيقة مخلوقة من الرّبوبة والكبرياء، فهي الباعثة لكلّ إنسان على أناهُ أن يتشبّثَ بكبريائه وأناهُ وما هو متاح لديه، فهي الهوى في النّفس الدّاعي لكلّ حظّ دنيوي ونفسيّ وماديّ وشهوة قريبة متاحة وما يقيمُ الأنا ويثبِّتُه، وفي المقابل هناك الرّوح والصورة التي أهّل الله لها الإنسان، أن يعودَ إليها بإسقاطه التراب والهوى النّفسيّ ودعوى الكبر والرّبوبة. ويعودَ إلى صورته المطلقة التي أرادها الله له وهي الصورة المحمدية الكاملة، والروح الخالص والحرية الكبرى.

فقلنا المادة تطلبُ الأنا والرّبوبة من خلال النّفس البشرية والترابية المعجونة بالطين والمادة المنفوخ فيها ربوبة الربّ سبحانه. وتتجسَّدُ هذه الأنا والظلمة والوهم في إبليس كشيطان وجان حاسد وذريّته التي تسعى في الأرض فساداً وإغواءً وتضليلاً، وتتجسَّدُ في الدجّال الأعور في عالم الكثافة والمادة، وهو بشر مغبونٌ مستدرجٌ مخدوعٌ من إبليس يخدعه أن ينالَ بتلك الخوارق والمادة ودائرتها ما يتوّهمه قدرةً. وهي قدرة وخوارق مدجّلة مادية مبنية على الأسباب وقوانين المادة التي خلقها الله سبحانه وقدّرها تقديراً سبحانه، فيُدجِّلُ بها على النّاس ويزعُمُ الرّبوبية بالتدجيل. لأنّ الله ضربَ على قلبه وأقفله فهو لا يرى ولا يعقل، في غفلة كبرى وحماقة عظمى وفتنة قصوى تدعمُها المادة وأسبابها التي أقامها الخالق سبحانه. استوجبَت هذا الأمرَ حكمتُه سبحانه في خلقه وما ذكرناهُ عن طبيعة النفس البشرية المخلوقة من الرّبوبة والصّراع المقضيّ في هذه الدنيا وهذه الدار الفانية بين النّور والظلمة، والروح والمادة. لذلك قال الله تعالى في الحديث القدسيّ ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي)). وقال صلى الله عليه وسلم ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)). لأنّ الكبر هو المانع للعبودية التي هي حقيقة العبد والمخلوق ومنتهاه. فالكبر لايليقُ بمن حقيقته العدم، والصورة الإلهية ما كان ليتحقّق بها العبد إلاّ بعودته لحقيقته الأولى وهي وجود الواحد الأحد المعبود سبحانه، وهناك يشهدُ بالله سبحانه. ومن هنا نفهمُ أنّ الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم نالَ منتهى الكمالات الإلهية بالعبودية الخالصة والعبدية المحضة فقال الله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. الإسراء-1. قال : عبده. وكذلك وصفه في سورة الكهف بتلك العبدية فقال {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب}. وهي نفس صفة المهدي لأنّ الآيتين في الإسراء والكهف تنطبقان على المهدي، بعبديته وإسرائه ونزول الكتاب عليه. فهو صاحب الكتاب. نزل عليه الكتاب، فهو الرّوح الأعظم، أي كتاب العماء وبحر الهيولى الذي منه تتخلَّقُ الخلائق والأشياء، فهو الكاتب والرَّاقمُ بمادته الذاتية جميع الحقائق الخلقية والحقية. وعبدية المهدي لأنّه الذي أظهر هذه المرتبة ورقمها وفطرها ليتحقّق بها العباد، فافهم فهو العبدُ المحض في مقام العبدية والعبودية وهو الربّ في مقام الربوبية. فمنه ظهر كلّ شيء، وهو صاحبُ الأضداد. ولذلك وصفَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين السؤال أين كان ربنا قبل الخلق، فقال : كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء. أي ما كان هناك تمايزٌ في الحقائق والأشياء، ما ثمّة هناك علوّ وسفل، لأنّها كلّها ترجع إلى الواحد الأحد سبحانه، وفي العماء مثاله كدواة الحبر، اجتمعت فيها كل المعاني والكلمات والحروف ولكنّها لم تتمايز فهي حبرٌ واحد، لا يقالُ حبرٌ أفضل من حبر في الدواة، فكلّ المعاني فيه واحدة ومادتها واحدة، فلمّا برزت الحروف والكلمات في القرطاس، ظهرت المعاني بها، فتمايزت هناك الكلمات والحروف بمعانيها ومداليلها، فبروزها في القرطاس حروفا وكلمات هو عالم الكون والحدوث، وعدم تمايزها في الدواة قبل بروزها هو عالم العماء. فافهم. فهذا مثال توضيحيّ لمعنى العماء، الذي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن هنا كان المجذوب جامعاً للأضداد ليدلَّ على تلك الوحدة الجامعة كما هو الأصل، وهو الأصلُ بسرّه.

فقلنا كان المهدي عبداً محضاً لأنّه هو حقيقة الربّ والعبد كما سبق أن اقتبسنا من أكابر العارفين بالله كالجيلي الذي قال
(واعلم : أنّ قولنا الحق والخلق، والرب والعبد انمّا هو ترتيب حكمي نسبي لذات واحدة كل ذلك لا يستوفي معناها) اه. وهذه الذات هي المهدي الوليّ الخاتم. فكان هو صاحب الكتاب هو الروح الأعظم الذي منه تتخلّقُ الاشياء.  والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم نزل عليه القرآن، أي هو القارئ لذلك الكتاب، والقاسمُ لما فيه على الخلق. وكذلك كلّ وليّ كاملٍ تحصلُ له الوراثة بنزول القرآن. إذ قال الله تعالى {الرّحمن علّم القرآن}. فبالقرآن والطهارة من الأكوان يحصلُ للعبد ثمرة مسّ الكتاب والإنفاق من رزقه والتصرّف فيه. فالخلاصة أنّ مقام العبدية هو آخر التحقّقات التي بها ينالُ العبدُ مقام الختمية والولاية والحمد، لأنّها إعلان الفناء في الخالق سبحانه. ولهذا كان اسمُ الختم المهدي عبد الله. وهو إسم جميع عباد الله المتحقّقين بالإسم الأعظم. من كونِ الألوهية تقتضي تلك الثنائية والشطرية بين الحقّ والخلق. فالخلق نتاج تجليّات الحقّ سبحانه وآثار أسمائه وصفاته. والخليفة هو خليفة الحقّ سبحانه، وراقمُ ما به ظهروا فهو الأَولى برقمِ الحقيقة الأولى التي خلق الله لها الخلق، فكان اسمُه عبد الله، فهو العبد المحض وهو الربّ المطلق. هو الرّوح الأعظم. سمّي الخليفة، لأنّ الله فوق القوالب التشبيهية والمظاهر التحيّزية، فكان الخليفة والوليّ خليفة الإطلاق والحقّ سبحانه والمظهر الذاتيّ.

فاحتدام الصّراع بين المادة والروح، يتجسَّدُ أكثر ما يتجسّد في زمن الخليفة، وفي عرش الخليفة وهو مجذوب، فأجرى الله ما أجراهُ عليه، ليُشهِدَ أولياءه وملائكته وخلقه حجّة هذا الخليفة وسرّه، فبسرّ هذا المجذوب الذاتيّ، المكنون فيه، يطوي ذلك الصّراع العظيم الذي لا يقدِرُ عليه أحدٌ، حينما يستولي الشيطان والدجال على مجموع الأرض، وغزو النّفس بكلّ ما يملكانه ويقدران عليه، فتتلاشى خدعهما وحيلهما أمام هذا المجذوب، ويظهرُ الفرقُ بين الدجل والباطل والوهم وبين الحقيقة والحقّ والثابت. ليزولُ وهم الدجّال وحمقُهُ وحسد الشيطان ونفثُه وهو يرى العبد الذاتيّ في عزّ عجزه وضعفه يتولّى أمر العرش والكون فينعكِسُ به على الدّنيا من غير قصدٍ منه ولا طلب، بل اصطفاءٌ من الله سبحانه، وسرّ مكنونٌ فيه أنّه هو الذي بمادته الذاتية وسرّه المكنون رقَمَ تلك الحقائق والخلائق، فتنعكِسَ مراحلُه على الكون والأرض، ويجمعُ المجذوبُ كما سبق الإشارة بين الأضداد فهو في دائرة النّفس والتركيب العنصريّ وتأثيره من جهة وهو من جهةٍ أخرى سارٍ بالعلم والعقل والنّفوذ والذوق في أسرار الكون والوجود وحقائقه وأسرار المكوّن، وهي أسرار غيبية لا تحصُلُ إلاّ لمن لهُ قدَمٌ هناك في تلك المراتب والغيوب، فدلّ على قدمِه الرّاسخ وسرّه الجامع. فهو الوليّ صاحب الذات الساذج ومادته هي مادة الكون والخلائق والحقائق، وكان قلبُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم أمّياً بهذا الاعتبار، ليكونَ قابلاً لشهود الذات الساذج فيشهد بالصورة الإلهية بالله تعالى، وكذلك كلّ قلبٍ أمّي هو قلبُ وليّ من أولياء الله تعالى، {
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } (الجمعة-2). فللآية هذا الوجه الباطن كما لها وجهها الظاهر في المعنى، من كون الأميين هم العرب في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وهم في الوجه الباطن أهل الولاية والاجتباء الذين تمّ لهم الرّجوع إلى الصورة المحمدية بتلك الأمّية التي أهلتهم لشهود الذات الساذج والتحقّق بالختمية. والوليّ الخليفة قلبُهُ هو السرّ الأول والذات الساذج الذي منه تجلّت مادة الكون ومادة التجلّي. فهو السرّ الأحديّ والذاتيّ. هو فوق الاعتبار الخلقيّ هو الرّوح الأعظم.

يتبع ..