الخميس، 25 ديسمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 70



                            النقطة المُصمتة (.) والنقطة المجوّفة ( o )
                                   نقطة الذات ونقطة الصّفة

النّقطة ( . ) كانت في كنزيّتها تُخفي أسرارها وعلومها وبحارها وكلماتها وحروفها ومعانيها، فشاءت أن تتجلّى، فما تجلّت إلاّ من ذاتها لذاتها في ذاتها، ولكنّها تجلّت بحكمة وعلم وتقدير قدّرت تجلياتها ببعدين زمان ومكان، مقداران متجليّان من حكمتها وقدرتها وإرادتها في تجليّاتها، فأنشأتْ نقطةً مرآةً لها مجوَّفةً ( o ) . تكونُ هذه النّقطة المجوّفة مرآة التجليّات وبها تخرجُ الأسرار والعلوم والموجودات من عماء النقطة المصمتة الأولى، فكانت النّقطة الثانية هي نقطة التعيّن بها برزت جميع الحروف والكلمات والمعاني والدلالات وسائر التجليّات من عماء النقطة وكنزيّتها. وجعلتها مجوَّفةً تحملُ صورتها في الدائرة حول التجويف، ألف دائرٌ الذي هو من جنس النّقطة، أوّل حرف ظهر من النّقطة وأوّل حرف له اقترب من النّقطة بعدا واحداً. فكان الألف هو حامل سرّ النقطة وعلمها وعماءها بالذات والتّمام، لأنّ النّقطة ما برزت إلاّ حروفا في عالم الأبعاد والتجلّي فجعلت الألف خليفة لها، وبه تشكّلت المرآة التي هي النّقطة المجوّفة أي بالألف، فحصّلت النّقطة المجوّفة البرزخية بين عماء النّقطة المصمتة وبين عالم التعيّن والتجلّي والتجويف، وذلك بواسطة الخليفة الألف لأنّه عينُ النّقطة ولكنّه كان كتاب النّقطة في كنزيّتها. لأنّه نقطتين، نقطة الكنه الغير المدرك ونقطة العماء والمادة المتجليّة، وجاءت النقطة المجوّفة أوّل مرآةً للنّقطة المصمتة أي مرآةً للألف، ولكن منها اي بالنقّطة المجوّفة بدأ بُعد الزمان والمكان والتجلّي. فسمّيت نقطة الصّفة لأنّها أظهرتْ صفات النّقطة المصمتة من الكنزية الى الظهور بالآثار في عالم التجلّي والخلْق. فجمعتْ نقطة الصّفة بين العماء والكنزية وبين الظهور الصفاتي والتعيّن في عالم الصفات والخلْق.
وسائر من جاء من حروف عالياتٍ من أخذوا الصورة الألفية، أخذوا تلك الصورة بواسطة النقطة المجوّفة نقطة الصّفة التي هي ألف بالصورة ومرآة هذا الألف الأصليّ الذي خلَفَ ومثّل النقطة بذاتها.
فلمّا برزت الحروف والكلمات والتجليّات من عماء النقطة المصمتة برزوا بالواسطة نقطة الصّفة والتعيّن والتجويف مرآة الشهود والنقطة القاسمة من بحر العماء والكنزية، فكانت السّابقة والفاتحة للوجود والقاسمة من عطاء النقطة الأحدية.


غير أنّ الحروف والكلمات لم تكن في الأخير والحقيقة سوى النّقطة الأولى الأحدية التي أخذت ما أرادت ممّا شاءت من صور وحروف وكلمات بواسطة خليفتها الألف الذي خطّ الحروف والكلمات وحبرها. فكان وجهُ النّقطة يلوحُ في كلّ حرف وكلّ كلمة وكلّ لمسة لأنّها أصل كلّ شيء،ولأنّه في التحقيق ما ثمّة سوى تلك النّقطة المصمتة وما تجلّى شيءٌ إلاّ في ذاتِها ولكنّها قدّرت وشاءت أن تتجلّى لمخلوقاتها وموجوداتها وحروفها وتُشهدَهَم وجودها وخلْقها وإبداعها وكمالاتها الغير منتهية وصفاتها العليّة. فأبرزَتهم من مرآة شهودها نقطة الصّفة. فكانت نقطة الصّفة هي أوّل حامل لسرّ النّقطة المصمتة وما جاء من بعدها من حروفٍ عاليات أخذوا صورة الشهود كانوا على قدمها وبواسطتها. فكانت أقربهم للسرّ الذاتيّ المصمت في كنزيته الغير المدرك.
وقالت بلسان حضرتها العلية النقطة الأولية "إنّي جاعل في الأرض خليفة"، أرض تجلياّتي وصفحات سطوري وكلماتي، به تظهرُ الحروف والكلمات والمعاني والاعتبارات بين مداليلها المختلفة وتمايز معانيها. مهما برز في هذه الأرض فبحقيقة هذا الألف الذي رسم وكتب وأظهر الحروف والكلمات وكان مادتها من نقطتي. فسمّته إنسان، وأخذ هذا الإنسان جميع مكنونات الحروف والكلمات والمخلوقات في عالم الأرض والتجلّي. لأنّه خُلِقَ على صورة الألف الأوّل الأصليّ الذي رسمَ الحروف والكلمات والتجليّات. وجعلت هذا الإنسان مطلق الإنسان مركّب بتركيب حقائق الموجودات فيه التي ترجِعُ إليه، فيأخذ تأثيرها عليه بتمايز معانيها فيه واختلاف دلالاتها عليه، بين علوّ وسفلٍ، ومن هنا برز الابتلاء والتكليف، وتمايز الإنسانُ بين نازلٍ إلى حضيض الدّلالات والمعاني والكلمات، وبين متعالٍ إلى علوّ الدّلالات وإطلاقها وكمالاتها التي فاضت بها من نقطتها وكنزيّتها الأولى، وجعلتِ النّقطة المصمتة رسولها إلى عالم الأرض والتجليّات إلى هذا الإنسان المخلوق على صورة الألف الأصليّ، هي النّقطة المجوّفة نقطة الصّفة التي بها ومن أجلها خلقت هذا العالم بين علوّه وسفله، وأظهرتهُ ليشهد خلقُها وعبيدها بتلك المرآة ما صنعتْ. فكانت نقطة التجويف ونقطة الصفة لها مظهر في الحروف شابه الألف، هو أقرب الحروف إلى الألف، له وجهة للألف ووجهة أخرى للحروف الأخرى، هو حرف الباء. له نفس شكل الألف، إلاّ احدوداب عند الطرفين، ونقطة تحته. لأنّ الألف كان لا يمثّل إلاّ المادة الأولية في عمائها، بكونه كان مستقلاًّ ما قام بحرف آخر، حرف الألف ا ، فكان حرف الألف هو رمز الهوية التي تتوجّه إليها سائر الحروف والمخلوقات، مستقلّ منفصل حامل سرّ النّقطة المصمتة. إذ الحروف كلّها هي نقطة في الأوّل والأخير. فكانت الباء حرف الصفة وواسطة الإنسان إلى حرف الألف، لها شكل الألف كأنّ جميع الحروف تشكّلوا من باء عند الكتابة والرّسم، لأنّها أعطتهم البُعد الزماني والمكاني خلاف الألف الذي بُعدُه هو بُعد العماء. ولذلك جاء رسمُ الباء كأنّها ألف نائم، ظلّ للألف، فابتعدت قدر نقطتين عن النّقطة، ابتعدت نقطةً في رسمها كما ابتعد الألف، ثمّ ابتعدت عن النقطة التي تحتها بانفصال اعتباريّ، بعداً آخراً، فكان بعدُها الأوّل عن الألف وكان بُعدها المنفصل الاعتباريّ عن نقطة الكنه الغير المدرك. الذي هو مدركٌ للألف الأصلي وحسب، الذي ابتعد بُعداً واحداً عن النقطة، لأنّه عينُ النّقطة مُدرك لكلّ حقائقها وأسرارها وكنهها وكان خليفتها في الأرض وعالم التجليّات، فافهم.

فلمّا قالت النّقطة المصمتة بلسان حضرتها العلية "إنّي جاعل في الأرض خليفة". قصدت أنّ عالم الأرض وحيّزه وحيّز تجلياتها فيه سيكونُ قائماً ما قامَ بألفٍ هو خليفتها، هو حامل سرّها وحامل سرّ النّقطة، وصاحب المادة العمائية الذاتية، الذي به تتشكَّلُ المخلوقات والتجليّات وهو حاملُ الوجه الذاتيّ  لمّا قالت بلسان حضرتها العليّة :
﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. فالوجه ما كان إلاّ بالخليفة والألف الأصليّ الأوّل حامل سرّ الذات. ثمّ جعلت النّقطة العليّة الإنسان  خليفةً بالاعتبار الذي ذكرناه بكونه على صورة الألف، حاملاً لجميع ما برز للوجود فيه، وكان المقصود من سائر الإنسان الخليفة الذي يكونُ حاملاً لسرّ الخليفة الأوّل، أي ألفاً ظاهراً موجوداً في كلّ زمانٍ، يكونُ هو الخليفة والألف الذي به تقومُ الحروف والمخلوقات، ويكونُ على صورة المرآة مرآة الشهود والنقطة المجوّفة نقطة الصّفة التي حملت صفة النقطة وكمالاتها وإطلاقاتها في عالم التجلّي، أي على صورة الباء من وجهٍ وارثاً للباء وخليفةً لها، وفي نفس الوقت على صورة الألف خليفةً ونائباً للخليفة الأصليّ الألف الأصليّ الذاتيّ. فافهم.
على هذا النّسق تجلّت النقطة من كنزيتها وعمائها، وجعلت خلائف على مدار الأزمنة يقومُ بهم في كلّ وقتٍ ما برزَ، يحملون سرّ الألف الأصليّ الذاتيّ.

ثمّ لمّا نضجت مسيرة الوجود إلى ذروتها وتأهّلت للشهود العليّ ظهرت الباء الأصلية التي بها برز هذا الوجود وظهرت النّقطة المجوّفة التي بها برز جميع التجلّي من عماء النّقطة المصمتة، فدلّت هذه الباء على الألف الأصليّ وكانت له واسطةً. وهي السّبب التي من أجلها خلقت النقطة العلية الخلْق ليشهدوا بواسطة هذه النقطة المجوّفة (نقطة التعيّن والصفة) خلْقها (أي خلْق النقطة المصمتة) وتجلياتها وإبداعاتها وجمالها وكمالاتها.


ثمّ لمّا حان موعدُ الساعة والعودة إلى عالم الجزاء واليوم الآخر، ظهر الخليفة الأصليّ، الألف الأصليّ حامل سرّ النقطة المصمتة والذي هو مادة جميع المخلوقات والموجودات. فظهرَ أوّلاً بنسبته العادية مركّباً بتأثيرات الدّلالات والمعاني والحروف والكلمات المختلفة في الوجود، في زمنٍ كانت قد أخذتِ الطبيعة الظاهرة الكافرة بغيب الوجود وحقيقته وبنقطته وبألِفه الذي به ظهر، أخذت سيطرتها على الموجودات بتدجيل المعاني وقتل المعاني والدّلالات العلوية وتثبيت المعاني والدّلالات السّفلية، بتدجيل وشرّ عظيمين لم يعرفهما زمان قبل ذلك. ففسدت الأرضُ وعمّها الظلمُ العظيم والفساد الكبير، والخليفة متأثّرٌ بتلك المعاني الموجودة والدلالات السّفلية لأنّهُ عينُها وروحها في الأصل فهو يأخذُ ما هو موجود قبل رجوعه إلى أصله الأوّل، وإطلاقه، لأنّه في دائرة التقييد. وهنا يظهرُ سرّهُُ فيقودُه سرّه الذاتي فيه المكنون فيه أن يعود بالوجود إلى أصله إلى إطلاق معانيه وجمالها الأعلى، عند تحرّره من قيده وتركيبه العنصريّ فتكونُ حينئذٍ الساعة ويوم القيامة، لأنَّهُ قد ظهرَتْ شمسُ المغرب والألف الأصليّ العائد بالوجود إلى أسمه الأعظم ووجوده الأصليّ وحقيقته المقدّسة من الدّلالات السفلية والحضيض. فيظهَرُ إماماً مجاهداً قائماً بالعدل حقّ قيامه ليُعطي كلّ حقيقة موجودة في وقته قيمتها التي تليقُ بها، فهو الذي ظهر بها، وهو حقيقة كلّ شيءٍ، فيعدلُ ويُبيدُ الظلم والظالمين، وآخرهم الدجّال. ولا يكونُ هو من يقتلُ الدجّال، لأنَّهُ هو الألف الأصليّ وهو الذي تحمّل ظهور هذا الدجّال فهو حقيقته، فإذا حان موعد تحرّر وجوده من الدجل والشرّ والحضيض والسّفل ينزلُ روح الله النبي المؤيّد بروح القدس ليقدّس الموجودات فتظهرُ بتمايزها لكن تمايزها الجميل والعلوي المقدّس ويقتل روح الله الدجّال. ويحكمُ روح الله الذي هو روح الألف هذا الوجود الألفيّ المقدّس. وتنتهي قصّة الدّنيا. وتبقى التفاصيل الختامية لزوال هذا الوجود الدّنيويّ الذي قام بهذا الألف، فإذا ذهب هذا الألف ذهب هذا الوجود الدّنيويّ، ثمّ يُعطي هذا الألف ذاتُه الوجود الأخروي الأبديّ الخالد. وفيه يُجازى كلّ مخلوق جزاءه.


السبت، 13 ديسمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 69



وما أردتُ تبيينه في المقال السابق أنّ كلّ عبدٍ وكلّ إنسانٍ هو في الحقيقة مخلوق على الصورة في حقيقته، هذا هو الإنسان وهذه هي إرادة العناية الربانية في آدم وبنيه، ولذلك فإنّ كلّ عبدٍ له مجرّة خاصة به إن شئنا قول ذلك، أو أنّه يجمعُ السموات والأرض جميعها فيه، نسخةً منها. نعم نسخةً منها كما النسخة الأصلية للعالم. وهذا العالم الذي ينطوي في كلّ واحدٍ منّا هو منطوٍ بالمادة من كونِ كلّ جزءٍ فينا يعكِسُ ما هو موجود خارجنا وفي العالم الكبير، وهو منطوٍ فينا بالرّوح التي يتجلّى بها جميع الأشياء والعالم. وعلى هذا النّمط والصورة خلق الله الإنسان، وكلّفه.

فقال له عبدي وهبتُك هذا الوجود وهذا العالم وخلقتُك على الصورة، وأنعمتُ عليك بجميع ما في السموات والأرض وسخّرتهم لك، وأرسلتُ لك الرّسل ليعرّفوك حقيقتك وحقيقة ما أنت فيه، ووهبتُك العقل لتسمع وترى وتعقل وتفهم والقلبَ ليقودَ خطاك إليّ إن أطعتني من خلال رسلي ورسالاتي.

وجعلتُ فيك فطرةً تولدُ عليها وهي حقيقتُك وأصلُك، فطرةٌ تقودُ قلبكَ إليّ، ولكنّني خلقتُك لتعبدني وتعرفني، وتعرِفَ نعمي عليك وحقيقة وجودك، وأنّك بالإرادة المودعة فيك تملك سلاحاً ذو حدّين، إمّا أن تختارَ حقيقتك وأصلَك وترجعَ إليّ بالشكر والعبودية فأحرّرَك منكَ وأتفضَّلُ عليك بجميع ما وهبتك في العوالم، وبجميع ما تحمله روحك ممّا تعلمه وممّا لا تعلمه وممّا تراهُ وما لا تراهُ، ولديّ مزيد وعطائي لا نهاية له ولا حدّ فأنا الخالق العظيم جلّ شأني، أو تختارَ الوهمَ على الحقيقة، والنّعيم العاجل المتوهّم بإرجاع الأمر إليك ولو على حساب القيم وما شرعتُه لك من خلال شرائعي التي جاء بها الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي شرائعٌ ما جاءت إلاّ لتوجيه حياتك وحياة من حولك للأفضل وللمصلحة العليا والفضلى وللخلاص من أسرِ وهمِك والكفر بالمنعم الذي تفضلّ عليك، والكفر بوجوده الذي هو الوجود الحقيقيّ، وجميع ما تراهُ من خيرٍ ونعم وعجيب المخلوقات هم مخلوقاتي وهم تجليّاتي وهم آثار أسمائيّ وصفاتيّ وآثار أفعالي في هذا الوجود. فلا شيء حولك له القيومية بنفسه، إلاّ بقيامه بي وحدي أنا سبحاني فأنا الحيّ القيّوم المطلق. فلا تكفرْ بي وبوجودي وبالحقيقة التي أقمتُك عليها وبالصّورة التي بها أنت تملكُ هذا الاختيار المطلق، الذي وهبتُه إيّاك، ولكنّه اختيارٌ كسلاحٍ ذو حدّين، فإمّا أن تخترقَ الوهْم وتؤمن بي وتنعم في الأخير بالخلود في النّعيم والرحمة المطلقة، وتحيا حياةً طيّبة في الدّنيا والآخرة. أو تبقى حبيس الوهم وتختار الظلم والأنانية والكفر ومصدر الشرّ والنّقص في حياتك وفي الأخير ستعودُ إليّ لأجازيك جزاء كفرك بوجودي وجزاء شرّك وبغيك في الأرض وظلمك لعبادي وخلْقي.

هكذا خيّرَ اللهُ سبحانه كلّ عبدٍ، سواء عرف أو يعرف هذا الاختيار، وأنَّهُ في الحقيقة لا موجود حولك سوى تجليّات نفسك عليك، فافهم.

فمجرّتك وعالمك والعالم من حولك كلّه هو تجليّات الصورة عليك، ولكنّها تمرُّ عبرك، عبر قلبِك وعبر نفسك، فتنعكِسَ تجليّات الصورة المنعكسة من الإسم الأعظم، لأنّ الإنسان مخلوق على الصّورة، ولكن بوجودِ نفسه وفرقِه، فإنّ ذلك يُعطي وجودُهُ الذي هو فيه، وجميع ما في الحياة هي حصادُ لزرعِك بطريقةٍ ما. فإنّ جملة الأسماء التي تعلمُها والتي لا تعلمُها التي أظهرتْ هذا العالم هي تتأثّرُ بك أنتَ في ما يدورُ حولك، وقد ذكرتُ هذا في مقالٍ سابق عن الإنسان وعلم الأسماء والتّصريف. ومن هنا فإنّ جميع ما يتعرَّضُ له المرءُ والعبدُ مصدرُه الله سبحانه، ولكن هو نتيجة قلبِه واعتقاداته وأخلاقه الباطنة فيه، وصورة نفسه في الحقيقة. وكان مصدرَ الشرّ والنّقص والأذى هو نفسُك، وكان مصدرَ الخير هو الله سبحانه. ونقصِدُ هنا أنّ مصدرَ الخيرَ يأتي من حيثُ الهوية المتجرّدة المطلقة المنسوبة لله سبحانه، ومصدرَ الشرّ هو نفسُكَ. ولا يظهَرُ هذا الأمرَ للنّاس والعبيد إلاّ في مرحلةٍ متقدّمة من السّلوك وعند اقتراب العبدِ من الحقيقة ليخرجَ من قيده إلى إطلاقه، ويخرج من وهم نفسه إلى صورته المخلوق عليها بأصليتها وحقيقتها أي إلى وجود الله سبحانه.

وهكذا خلَقَ الله الإنسانَ وكلّفَه في الدّنيا، وذلك بجعله مزيج روحٍ خالصة عارفة بالله هي أصلُه وحقيقته وصورته المقصودة من الوجود، وهي العاكسة لما هو فيه من حياةٍ، وجسد ترابيّ وطيني وتركيب عنصريّ يشكّل بصيغة ما وجودَهُ المقيّد ونفسَه العنصرية .. فإذا هو ركَنَ لهذا الوجود المقيّد أعطاهُ ما هو من جنسِه، وهو التقييد والألم الحسّي واللّذة الحسية في دائرة العنصر، والوهم الذي قام به الحياة. وأعطاهُ هذا الوجود المقيّد والوهم الذي هو فيه آثارَ الموجودين معه في العالم، ويعيشُ على تلك البهيمية والطبيعة الحيوانية فيه، لا يأخذ من دنياه سوى ما عاشَ من أجله وله. أمّا إذا آمن بالله سبحانه وبالغيب، والتجليّات الأسمائية المتصرّفة في حياته بالله سبحانه، فإنّ آثارَ هذه التجليّات تتعدّى ذلك الوجود المقيّد، ويقودُهُ ذلك للنّور، ولا نور في الحقيقة إلاّ نور الله سبحانه الذي أنار بنوره السموات والأرض وجميع المخلوقات بتجلّيه سبحانه، وجميع الموجودات والكائنات وهمٌ وآثار تجليّاته وحسب.
لذلك قال الله تعالى سبحانه
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ  أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} سورة البقرة.
فالله وليّ المؤمن به يخرجه من ظلمات الوهم إلى نور الوجود الحقيقيّ إلى نور الله سبحانه. والذين كفروا بالله وبوجوده وبالغيب الذي يديرُ حيواتهم ويقيمُها، تولّاهم الطواغيت وهي جميع الطّبائع والأوهام المتجليّة في وجودهم غير الله سبحانه فتسقيهم طواغيتهم الظلمة ومزيدا من الرّكون الى الطبيعة الترابية والوهم، وليس ثمّة سوى الوهم ما يُضادّ مصدر النّعم جميعها والخير جميعه والوجود جميعه فينعكِس ذلك عليهم شقاءً وحرماناً وعذاباً في الدّنيا وفي الآخرة أجلى وأمرّ. أمّا المؤمن وإن تعرّضَ للمعوّقات في طريقه وطريق خروجه من الظلمة فهو منقادٌ إلى النّور الحقيقيّ، والوجود الحقيقيّ ومصدر الخير والإطلاق والنّعم جميعها. فينعمَ بذلك في مرحلةٍ ما في الدّنيا بحياةٍ طيّبة حتّى لو كانت في النكّبات والمعوّقات والابتلاءات التي هي من طبيعة الرحلة الى الوجود الحقيقيّ وطبيعة الدّنيا، ويذوق تلك النّعم والهناء والسّكينة من الله سبحانه تغمرُ قلبُه، ولكن آثارُ الحياة الطيّبة وذوقُها لا يظهرُ إلاّ في مرحلة ما من تجاوز الظلمة والقرب من الله سبحانه. هذا لعموم المؤمنين، وفي الآخرة نعيم يتجلّى خالد، ورضا من الله سبحانه الذي به آمن المؤمن.

فقلتُ لا تظهَرُ هذه الحقيقة بجلاءٍ ووضوحٍ إلاّ لسالك طريق الله للتحرّر من قيده إلى إطلاقه، ووهم نفسه إلى حقيقة وجوده، فإنَّهُ حينئذٍ يتجلّى عليه وهمُ وجوده ووهم الطّبائع فيه أي من حوله، بالحربِ عليه، ولمّا كان العالم هو صورته ونسخته ومنطوٍ فيه، فإنّ الذي يقودُ الحرب عليه هو قرينه وهو نفسُه ووجوده الوهميّ والعنصر فيه الملتصق به الذي يغذّي الحسّ والعقل التّرابي، وحينها يجدُ شيطاناً عليماً بالعالم والعيوب والمداخل النّفسية، يتجسّسُ على نفسه ويعلمُ عنه كلّ صغيرة وكبيرة منذ ولادته، وهو لا يقدرُ على دفع هذه الجوسسة لأنّه أسير النّفس ولم يخرج ولم يتحرّر من الأكوان ولم يخرج إلى الإطلاق والفناء عن نفسه. وتقوى هذه الحرب وتأخذ أبعاداً أكبر كما ذكرنا عند من يكونُ سلوكه جادّاً فيحصلُ بسلوكه اتِّساعُه في الإسراء والعالم ليخرج من القيد والوهم، فيأخذ بذلك عقلُه التّرابيّ ونفسُه وقرينُه حجماً أكبر وقوّةَ أقدر في التصريف في عالمه يُعاني من شيطانه ومن يوالون الطواغيت على حساب الوجود الحقّ والنّور. فيُبتلى أشدّ البلاء.

ومن هنا كان أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أي بقدرِ اتّساعك وجديّتك وصدقك في طيّ الطريق تتجلّى عليك العداوة من القرين والطّباع والطواغيت حولك. وكان الأنبياءُ القدوة فكانوا أشدّ النّاس بلاءً. ثمّ يحصلُ البلاء بحسبِ هذا الصّلاح والصّدق في طلبِ وجه الحقّ سبحانه.

وهذا الذي كنّا نشرحُه عن العقل التّرابيّ والقرين والمهديّ وما يحصلُ له، وينعكِسُ ذلك عليه دجّالاً في عرشه هو عقلُه التّرابيّ المنعكِس من وجوده الوهميّ والترابيّ والطّبعيّ العنصريّ. ولأنّ المهدي كان الوليّ الذاتيّ الذي كان مصدرَ التجلّيات وصاحب الذات الساذج، فقد أعطى الصّراع النّفسيّ والعقل الترابي كما ذكرنا دجّالاً عليماً بعيوب النّفس عليما بالمادّة، يدجّلُ على النّاس بالأوهام ليجعلهم يؤمنوا بوهمِ حياةٍ قائمة على المادّة والأسباب من غيرِ مسبّبٍ وموجدٍ سبحانه، ومن غيرِ غيبٍ يحكمُ هذا العالم الشهادي الظاهر.
فالحقائق إذن أعطتْ ظهورَ هذا الدجّالَ، ورافق ظهورُه وإفساده قرونا طوالاً بدأ من زمان سيّدنا موسى عليه السلام وبعثته، وقد شرحنا ذلك في مقالات سابقة أنّ بعثات الرّسل عليهم السلام، كانت مراحل في الوعي والنّضج الإنسانيّ وحقائق الخلافة الإنسانية الكبرى، وكانت بعثة سيّدنا موسى عروجاً ونقلة نوعية للإنسان. ومنه بدأت الرسالات السماوية الكبرى. فتأمّل. والتي وجودها الى يومنا قائم. وهذا يضاهي تماماً ما ذكرناهُ في حياة المجذوب أنّ دجّاله يظهر بعد فتح دائرة القلب وبداية العروج في الحقائق السماوية. أي بعد فتح روما يخرج الدجّال.

فالحقائق أعطتْ ظهور هذا الدجّال اللّعين لأنّ الله جعله رسول المادّة والوهم والحدّ المتطرّف من العقل التّرابيّ، وما كان ظهورُه وخطرُه يشتدُّ إلاّ في زمن الخليفة الذّاتيّ، الذي ظهر به العالم، ليُعطي الجزء الماديّ والعنصريّ والوهم المنفصل عن حقيقته الذي يُغذّي وجود كلّ نفسٍ بكلّ شرّ وكلّ وهم وكفر وأنانية. ولهذا كان أعوراً ليُجسَّد هذه الحقيقة أنّه أعورُ العين، ليس له سوى عين المادة والظاهر والشهادة وهو طافي العين الرّوحية كافرٌ بالغيب، وأنّه وهمٌ ليس إلاّ يتجلّى بقوّته  وظهوره الجسديّ في زمن الخليفة أو المجذوب، لأنّ المجذوب هو الذي ظهر بالشّطر الخلقيّ كما سبق ان أشرنا.

وإبليس وشياطينه هي الجزء النّفسيّ المغذي لكلّ نفسٍ وشرّها وكفرها ووهمها. فالحقيقة أنّ إبليس والدجّال مؤتمرون بالقرين نفسه، وهو نفسُ العبد. لأنّهما من سطوات الوهم والعقل التّرابي على النّفس.

ومن هنا كان ظهور الخاتم والخليفة هو إرجاعُ الحقائق لما هي عليه، والقضاء على هذا الوهم وعلى هذا الشرّ في العالم، فيتقدّس المجذوب، وينعكِسُ ذلك بقتل الدجّال والقضاء على ياجوج وماجوج. وياجوج وماجوج هم من آثار الانسلاخ من التركيب العنصريّ للمجذوب، وتغيير عرشه. فالله يمنّ عليه بعرش جديد وجسدٍ جديد يليقُ بالأمير والخاتم والخليفة الذي يظهر ويحكمُ بالعدل. وجهه كالكوكب الدريّ من أحسنِ النّاس وجهاً. ويتجلّى ذلك -أي أثرُ التقديس- في عهد المسيح عليه السلام حيث يُقتلُ الخنزير وهو رمز الخنزيرية ويُكسرُ الصّليب وهو رمز الشرّك ويعمّ السلامُ الأرض في عهد روح الله، وتنبتُ الأرض أشجاراً وفواكه من أحسن ما يكونُ طعما وحجماً وبركةً وخيراً، وتخضرُّ الأرض، ليُعطي تجلّي أثر الإسم الأعظم على الحياة. يحكمُها روحُ الله المسيح. فافهم هذه الحقائق الكبرى.

وإنّ الخاتم والخليفة جوهرُه وحقيقتُه ليس من أفراد بني آدم، وإن كان على الصورة الإنسانية، ولذلك لم يدخلْ ابداً في اعتبار التفضيل. فهو ذاتُ الباري سبحانه متجلّ بمظهرٍ إنسانيّ. الإمام الأعلى للوجود. أعلمُ الخلْق بالله تعالى.

هو الجوهرة المصونة والياقوتة التي لا قياس لفردِ بها، فهو فوق القياس فافهم. فهو السيِّدُ الصّمد. وهو حقيقة قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". أي أنّ الصورة الإنسانية التي وُهبها الإنسان هي صورة ما تجلّى به الله على الإنسان وخصّه به من فضلٍ عظيم ورجوعٍ إليه. ولكن هذه الصّورة الإنسانية محدودة بحدّها، فاعلم. أمّا الخاتم فهو ظاهرٌ بالصورة الإنسانية، وهو فوقها وخارجٌ عنها لأنّه هو حقيقتها، وهو خالقُها. فلا مجالَ للمقارنة بين أفراد بني آدم جميعاً وبين الخاتم. وذلك أشارَ إليه جهبد العارفين بالله في كلامٍ نفيس عظيم دالٌّ على علم هذا العارف بالله وأدبه ومقامه الرّفيع وهو الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي قدّس الله سرّه العزيز لمّا قال في الفتوحات المكيّة : 


(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. ) انتهى.


  فافهم، فهذا فهمٌ عزيزٌ نفيسٌ، لا يعرفُه سوى الأفراد الغرباء الأمجاد قدّس الله سرّهم العزيز، فظهورُ الختم في الصورة الإنسانية لا يجعله محدوداً بحدّها وصورتها ومقتضيات ما جادَ به الله سبحانه على الإنسان وصورة العلم به. فهو فوق ذلك الحدّ، وليس داخلاُ في الاعتبار أنّه فرد من أفراد بني آدم. لأنّه المظهر الذاتيّ في الصورة الإنسانية، ظهرَ ليُرجع العالم لنصابه، ولم يشتهرْ في الأكوان، لأنّه فوق ذلك الحدّ من التشهير والرّتبة. ولهذا قال الشيخ الأكبر واصفا إياه "فقد زال بختمه عن رتبته".
وكذا وصفه الشيخ الجيلي وعرّفه تعاريف واضحة أنّ "لغته ليست لغة الخلق ولا محلّه محلّهم". وغير ذلك من التعريف به في مواطن مختلفة، والكتمُ الضاربُ عليه وعلى رتبته الشريفة. ولهذا أشارَ الشيخ الأكبر في قصيدته :

وحيدُ الوقتِ ليس له نظيرٌ ... فريدُ الذاتِ من بيتٍ فريدِ
لقدْ أبصرتهُ ختماً كريماً ... بمشهدِه على رغمِ الحَسُودِ
فقال : "أبصرته ختما كريما بمشهده على رغم الحسود."  

فلو كان كغيرِه ورتبته كغيرها من الرّتب، لما أشارَ إلى حسّاده والمنكرين عليه، فإنّما وقعَ الحسدُ والإنكارُ لرتبته العزيزة جداّ. وكذلك نعته في خاتمة كتابه عنقاء مغرب : بوصف السيّد الصّمد. ولعمري فإنّه لا صمد إلاّ صاحب الوجود الأحد سبحانه.

يتبع ..

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 68



 الخليفة 

إنّ مدارَ ولاية الخاتم المجذوب في آخر الزمان، تدورُ حولَ طبيعة الخلافة في هذه الدّنيا، فلمّا كان مشروع الخليفة أو كان هو الخليفة، فقد اختارته العناية لتجسيد حقيقة الصراع الدائر بين النّفس وهواها والروح وقدسيتها، والصراع بين المادة والكثافة وما له معنى الفناء والزوال وبين الروح واللّطافة وما له معنى للبقاء.

فلمّا خلق الله الخلْقَ من أجلِ أن يعرفُوه بالنّسبة المحمدية، وكان صلّى الله عليه وسلم هو الأنموذج الأمثل والكامل والمعنى الذي من أجله خلق الله الخلْق وظهر وتجلّى من عمائه سبحانه، فكان رسول الحقّ سبحانه وصاحب الإنباء والمسمّى الإنسان الكامل والأنموذج الحقّي الذي اقتفى أثره الخلْقُ.

فاحتاجَتِ الدّنيا في آخر زمانها أن يظهرَ الخليفة الذي به دارت الصراعات وتجلّت التجليّات والذي مثّل حقيقة التجلّي في جميع مظاهره ومختلف محاتده بين الأطراف المتناقضة، فظهرَ هذا المجذوبُ من نسل وذرية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم وفي ذلك إشارةٌ لقول الله تعالى في محكم كتابه [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ] [الأَحْزَاب:33]. أي أنّه يُمثِّلُ حقيقة التطهير المطلق، فكان العبد المطهّر عن الأكوان في حقيقته، وإن كانت الآية تنطبق على آل البيت في العموم، ولكن لها هذا الوجه المخصوص في الإشارة الى المطهّر عن الأكوان المهدي. فقلنا ظهر هذا المجذوب من آل البيت، إنساناً ليُجسّدََ حقيقة الخلافة في أنموذج صراعها الذي قامت عليه وصراع الأسماء في ظهور آثارها عليه، فهو السرّ الباطن الذي توجّه بتجليّات الأسماء والاتّصاف بها، فانعكستْ عليه آثارُها وهو بشَرٌ قبل خروجه من التركيب العنصريّ. ليحملَ على عاتقِه حقيقة ما تعرّض له بنو آدم جميعاً، وما عانوه من حقيقة التجلّي الإلهيّ والإنسانية في معناها الواسع والكبير الشامل بين الإنسانية في أوجها الإنساني حينما تؤيِّدُ بالرّوح الإنساني أو الروح الإلهي. لأنّهما في الأخير -أي المصطلحان: الروح الإلهيّ أو الروح الإنسانيّ- نفس المعنى ونفس الشيء من كون الإنسان هو الذي اصطفته العناية لهذا التجلّي الإلهي وهذه الخلافة الكبرى. فافهم. فقلنا بين الإنسانية في أوجها الروحي وبين الإنسانية في حضيضها البشريّ التّرابيّ، فأعطى هذا الخليفة المجذوب جميع الحقائق حقّها وتحمّلها في مسيرته، وعانى أوج الصّراع الدّائر بين المادة والنّفس المنجذبة للأرض والفناء والتلاشيّ وبين الرّوح المحلّقة في سماء التقديس، وبه أي بهذا المجذوب ظهرت الحضرات المختلفة للإنسان حضرة الإيمان والإسلام وحضرة التدجيل وحضرة البهيمية وحضرة الشيطنة ثمّ حضرة التقديس.

وليستِ تلك الصورة الدائرة للصّراع الأعظم الدّائر في زمانه سوى انعكاسٍ لما كان يمورُ في نفسه وشخصه، فأعطى صورة الإنسان وملاحمه الباطنية وانعكاسها على الأرض، ولكن أعطى ذلك بصورتها الكاملة والعليا بين الأوج والحضيض، لأنّه الخليفة وحقيقة جميع التجليّات ولأنّه سرّها وخزانة الجود والتجلّي، فكان لزاماً أن يظهرَ الصّراع محتدماً بذلك الشكل العظيم المهول الخارق. فهو زمانٌ استثنائيّ جدّاً بين فتنه الكبرى وشرّه العظيم وبين عطاء الله فيه ومضاعفة الأجر والفضل فيه للمحسن والثابت على الحقّ كما أخبرت بذلك النّصوص النبويّة الشريفة كون الفضل والأجر في عمل يمتدّ إلى خمسين من عمل الصحابة وإلى سبعين في رواية أخرى. وهو زمنٌ كذلك شملَ فترة العدل المطلق والعظيم والرّخاء الذي يحمله الخليفة عند بيعته ويقيمُ العدل في الأرض ويملأُ الأرضُ قسطا وعدلا بعدما كانت ملئت ظلما وجورا قبله.

فكان المهديّ بما يبدو ظاهراً من أفراد بني آدم، وهوكذلك في الاعتبار قبل خروجه من تركيب العنصر والمادة. ولكنّهُ في الباطن والحقيقة هو معنى خلق الله آدم على صورته، معنى الصورة حينما تتنَزَّلُ على الإنسان بذاتيتها، هو الرّوح الأعظم في مظهر الإنسانيّ فافهم، فهنا توصيفٌ يدقُّ ويجلُّ عن الفهم إذا لم يقف عليه الواقف وقفته المرادة.

فالمهديّ حتّى وهو في جذبه وتحت تأثير التركيب العنصريّ، فهو صاحب السرّ الأوّل الذاتيّ، لذلك تنعكِسُ عليه آثارُ الصورة الإلهية وآثارُ الإسم الأعظم، بتجلّي الأسماء وآثارها عليه، فهو حين جذبه مجذوبٌ من العناية كامل الجذب، ليس له اختيارٌ ولا إرادة نفسية، فأعطى التجلّي عليه الخلافة الظاهرة الرّاشدة العادلة، بقيادة الخليفة والإمام الأعلى المهدي عند بيعته وهو الرّوح الأعظم فافهم، كأنّ إمامة المهدي والخليفة في مظهره الكامل بعد البيعة والظهور هو صورة قلب المهدي المجذوب، الذي قادَ الصّراع في عرشه وهو مجذوب، وأعطى عدل الخلْق والتجليّات حقّها بالعدل والقسطاس المستقيم. خلافة عادلة منتهى العدل والخلافة الراشدة على منهاج النبوّة بما لم يدع أيّ صورة نقصٍ في أصول هذه الخلافة واركان الإمامة العليا. حتّى فتح الأمصار وفتح روما. وهي كنيسة القلب. ثمّ خروج الدجّال، وذلك صورة من صور الصّراع النّفسي عند السالك، بعد فتح دائرة القلب وكنيسة النّفس، فإنّ حقائق السّلوك تتغيّر من أرضية ظاهرية، إلى سماوية. ولأنّ المجذوب سلوكه وسيره بدأ من دائرة التركيب العنصريّ، ولأنّ جميع السلوك قام على وجود النّفس، وجميع الشرائع جاءت من أجل النّفس. جاءت لتُخرجَ الإنسان من حُكمِ نفسِه إلى دائرة قدسه، وهذا هو حقيقة التديّن. والذي أغفله التديّن المعاصر وغفل عن الحقيقة مطلقاً، في جهلٍ وتسطيح عظيمٍ عن الحقائق، وعن سرّ وجود الشرائع النبوية والرسالات السماوية. فظهر لدينا تديّن معكوس يدينُ بالمظاهر والطّقوس ومفرغ من روحه وحقيقته، والتي هي أي حقيقة التديّن هي الخروج من قيد واسر النّفس الترابية والهوى الشيطانيّ، ومخالفة الهوى والقرين بالانكسار لله سبحانه والاضطرار وتحقيق معنى وسرّ العبودية، والمظاهر قد تقومُ ولكنّها في كثيرٍ من الأحيان قد لا تقيمُ معنى العبودية المراد والخضوع الحقيقيّ لله سبحانه، الخضوع القلبيّ، وعزل النّفس الأمّارة بالسّوء.

فقلنا أنّ المجذوب، حينما وقع عليه التجلّي الأسمائيّ في جذبه، أعطى في البداية صورة الانقياد الأوّليّ وطاعة الجوارح فعدلَ وقامَ بحقّها، ثمّ عند ترقّيه بفتح دائرة القلب، فهو ما زال تحت تأثير النّفس والتركيب العنصريّ، فشاركه إذ ذاك في العروج السّماويّ وجودُ النّفس. فتأخّرََ القلبُ عن قيادِ عرشِهِ، لئلاّ تشاركَهُ النَّفسُ في قيادها وهي موجودة. فخرج حينها دجّاله، وهو النّفس الدجّالة تسعى في الأرض فساداً، وكان انعكاسها هو خروج الدجال في مرحلة حكم الخليفة العادل، لأنّ المرحلة هنا هي مرحلة عروج سماويّ بعد فتح دائرة القلب. وكان آخر معاقل الأرض والجوارح هي روما. وكونُ تجسّدتْ النَّفسُ دجّالاً يخرجُ ويفسد في الأرض ويزعُمُ الرّبوبية، ذلك أنّ الإسراء والعروج السّماوي في حقائق النّفس يأخذ منحًى أكبر، واتّساعاً في العقل والكشف.

وهذا يُعطينا صورة الإنسان، أيّ إنسان، أنَّهُ بين تأثيرين، تأثير روحه والذي يقوده نحو الرّوح والقيم السماوية والنّور والى حقيقة وجوده الأصليّ، وهو وجود الواحد الأحد لله سبحانه وتعالى، ومن جهة أخرى تحت تأثير العقل الترابيّ والنّفس. فعليك أن تفهمَ أنّ القرين ليس سوى هو أنت، نعم أنتَ في دائرة نفسك وتحت عقلك الترابيّ. لأنّك بين وعيين، الوعي الأصليّ والرّوح والضمير والوازع الديني فيك والفطرة، وعقلك المحكوم بالقلب والروح. ومن جهة أخرى وعي آخر ثانٍ نسمّيه العقل الترابيّ أو هو النّفس، نفسُك الأمّارة بالسوء. أو يُمكنُ القولُ هو أناكَ النّفسية المتشّبّتة بوجودها ووهمها الوجوديّ.

العقل الترابيّ هو العقل الذي يديرُ مصالح النّفس المجرّدة عن قيمها، يلتفتُ للمحسوس والماديّ والعاجل فقط، للهوى .. هو عقلٌ له إيجابياته لأنّه عقلٌ، يدير المعاش البشريّ، ولكنّ خطرُهُ أنّه يحكمُ بما هو محسوس وماديّ ووهمٌ وينقادُ للأنا النفسية والترابية، فسُميّ العقل الترابيّ، فهذه محاولة تحرير لهذا الاصطلاح. ولكنّنا نريدُ أن نوضّح لك معنى القرين، فهو ليس سوى نفسك، وليس سوى أنت تحت عقلك الترابيّ ووهمك الوجوديّ أو وجودك الوهميّ. لذلك كان القرينُ هو وجودك النّفسيّ والوهميّ الذي يمنعُك أن تتحرّرَ منه، لأنّه مرتبطُ بالمادة والتراب والمحسوس والظاهر، بل العاجل. وهو يُضاد حكم الرّوح وحكم القلب، والله تعالى لمّا وصف الكفّار قال في محكم كتابه :
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالهَا}. فنسب الأقفال وحقيقة التدبّر للقلب وليس للعقل. لأنّ القلب هو الحاكم والآمر، ولأنّ القلب هو الذي له نافذة إلى الرّوح وعالم الملكوت. فهو البرزخ بين عالم الملك والشهادة وبين عالم الملكوت والغيب. فوصف الله هؤلاء الذين لا يتدبّرون القرآن أنّهم على قلوبهم أقفالها، فهم لا يلتفتون إلى النافذة الملكوتية، حيث تطلُّ الرّوحُ عليهم بأنوارها وأمدادها. وحيث يتنزَّلُ عليهم نداءُ الفطرة المودعة فيهم، وحيث يدعوهم العقلُ الثابتُ للإيمان بوجود الواحد الأحد سبحانه الذي منه صدَرَ كلّ شيءٍ وكلّ موجودٍ. فكأنّهم أقفلوا قلوبهم، أو أقفلت نفوسهم قلوبهم. فعجزت العقول أن تتدبّرَ، فصارت عقولهم ترابية محضة، لا تستمع لحقائق الفطرة والروح، وتتمسَّكُ بالوهم. فيخدعُها وهمُ وجودها وتُنكرُ الحقيقة المطلقة.

ومن أجل ذلك قال سيّد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه
((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)). [أخرجه البخاري في الصحيح]. فمدارُ الصّلاح على القلبِ فتأمّل. لأنّ العقلَ وظيفتُه التحليل والتفكيك، ولكنّه يشتغلُ في الدوائر التي يفتحها له القلب، ويأمرُهُ أن يعمل فيها. فإذا كان القلبُ مقفلاَ غير صالحٍ، فإنّه حينها لا يشتغلُ العقلُ إلاّ في الدوائر الترابية والمادية والوهمية المتجلّية التي يوجّهها إليه القلبُ، بل يصبحُ القلبُ حينئذٍ في دائرة الحجرِ والإقفال. لأنّ العقل الترابيّ الذي يحكمُه الوهمُ يستلِمُ الحكم، ويتواطَأ مع النّفس فإذا بالغ العبدُ واستمرّ تحت دائرة الإقفال وإنكار الفطرة والرّوح. والسّعي إلى النّقيض المقابل للحقيقة ومصدر الخير والفطرة في أفعاله وأعماله وسيرته فذلك يقودُهُ في الأخير لموتِ قلبه أو إقفال قلبه بصفة نهائية، نسألُ الله العفو والعافية والسلامة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)). متفق عليه.



فيتجسَّدُ هذا الصّرَاعُ العظيم بين الوهم والحقيقة، بين العقل التّرابيّ الموهوم وبين القلب والرّوح في الإنسان، ويتجلّى في عرش الخليفة، وفي نفس المجذوب، ولمّا كانَ قد وقع له فتح دائرة القلبِ هذا المجذوب التي تناظرُها في الأرض فتح روما أو القسطنطينية الكبرى، فإنّ النّفس قلنا تأخذ في سلوكها وعقلها ووعيها منحًى أكبر للحقائق والاتّساع الباطنيّ، فيتجلّى ذلك قوّةً مقابلةً في العقل التّرابيّ وتدبيره وقوّة الأوهام، مع زيادةً في تحرير الحقائق والمعارف عند المجذوب، فيحصُلُ عند ذاك فترة الدجّال، وهي النّفس التي تستلِمُ الجوارح والأرض، لأنّ قلبَ المجذوب قلبٌ أمينٌ لا يسلكُ إلاّ بالله تعالى في صدقٍ متفرِّدٍ من غيرِ مزاحمة للنّفس في مسعاه وسلوكه، فيحصلُ أنّ المجذوب يبقى تحت صراع العقل التّرابيّ من جهة وأوهامه القائدة للنّفس، وتحت حكمِ قلبِه الصّادق وعقله المتين في تحرير الحقائق وإدراكها. وليس هو أي المجذوب سوى رمز وحقيقة القلب الصادق الأمين، وسرّه المكنون المطهّر عن الأكوان، فيُعطي بمسيرته جميع الحضرات البشرية الإنسانية، فكان أسمُه الخليفة هو الدَّالُ على سرّه، أنّه هو الخليفة الذي به ظهرت جميع الحضرات والمحاتد، حتّى ينتهي في الأخير للعروج الأكبر، بين قوّة عقلية ترابية كبرى ونفس دجّالة، وقوّة عقلية روحية تخترقُ الحقائق إلى مثواها الأخير. وهناك يتجلّى عليه الروح القدسيّ، أي في عرشه، وهو نزول روحُ الله المسيح بن مريم في الأرض ليقتل الدجّال عند باب لدّ. وهو في السيرة الذاتية للمجذوب لقاؤه بالرّوح وعروس الحضرة. وتأييده بروح القدس أخيراً. والدجَّالُ يتجسَّدُ ظهورُه وقوّته وهيمنته في زمن الخليفة لأنّه يُمثلُ العقل التّرابيّ في الإنسان، وهو يمثل الحدّ الأعلى المتطرّف للعقل التّرابي والوهم ولا يكونُ ذلك إلاّ في حكم وقطبية المجذوب الخليفة الإنسان الذي أعطى الوجود جميعه، فافهم. ويكونُ لهذا العقل التّرابيّ ظهوراً لأنّه وقع في عرش المجذوب وجسده الترابيّ، فالمادّة والظهور كان بسببِ ذلك، ولذلك فإنّ أخطرَ زمان وأقواهُ هو فترة ما قبل ظهور المهدي الخليفة العادل، في الفساد الذي يغزو الأرض وهمينة قوى الشرّ وتحالف البغي واليهود والصّليب الحاقد والكفر المتمرّد، يقودُهم الدجَّالُ ومن خلفه إبليس وشياطينه. ثمّ يتجسَّدُ هذا الظهور صريحاً بعد حكم الخليفة العادل وفتح روما كما شرحنا انعكاساً لسيرة المجذوب، أربعين يوماً كما جاء في الحديث الشريف الصّحيح. ثمّ ينزلُ المسيح روح الله ليقدّس الأرض ويقتل الدجّال. لأنّه هو مقلوب الدجّال ومعكوسه، من كونِ الدجّال كما قلنا يُمثّل حضرة الوهم والعقل التّرابيّ فروح القُدس تمثّل إبطالَ هذا الوهم وإرجاع الأمر لله سبحانه وتعالى، ولهذا فإنّ الدجّال يذوبُ بمجرّد اقتراب المسيح روح الله منه، كما يذوبُ الوهمُ عند ظهور الحقيقة، وكما يختفي الظلام عند ظهور النّور، ولكنّ المسيح عيسى عليه السلام يقتله بحربةٍ عند باب لدّ ليطمئنَ النّاس بمشهد قتله ويزيلَ عنهم روع ما فعله هذا الدجّال من إفسادٍ في الأرض طوال تلك القرون الغابرة.



يتبع ...