الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 76

أضيف 11/اكتوبر/2015


قد تجدون التكرار في ثنايا بعض هذه المقالات، ذلك أنّ هذه المقالات، تصدُرُ بحالها، ونفَسِها، بينها فترات، تعبِّرُ عن نوع تبريرٍ، أو صيحةً في عالم الحقائق والغربة. والله أعلم.

لبسم الله الرحمن الرحيم
إنّ كثيرين نقدوا كتاب الفصوص، وحتى بعض ساداتنا سمعته يتحفّظُ من كتاب الفصوص للشيخ ابن عربي قدس الله سره، وسبق لي أن قرأتُ بعضا من سطور وفصول الفصوص، وما يحضرني من معانيه، أجدُها عين الحقيقة معبّر عنها بلغة وأسلوب الشيخ الأكبر. الشيخ الأكبر من أجرأ من كتب في الحقيقة وبسطها في الكتب والصّحف، وإنّ للحقيقة مذاقاً مختلفاً، يتراوحُ بين الاستنكار وبين الدهشة العظمى، بحسبِ وقوف الحقيقة من الواقف عليها، أو بحسب طلب هذا الواقف عليها لها.
إنّها حقيقة مطلقة، حينما تصِلُ لسواحلها، تجدُها عين النقائض، قد تتوهّمُها بلا سيّد ولا حاكم، مشرعةً بلا حارسٍ ولا مالك، مطلقة هكذا، هي الإطلاق، ذلك التوهّمُ يأتي من الفكرة المستشرفة لمن لا يصلُ إلى تلك السواحل ذوقاً وعيناً، وقد تحسِبُها حقيقة أنانية لا تعتدُّ بسواها، ولا تأبه لغيرِها. هي عينُ النقيضين.
من هنا تقرأ ما جاء عن بعض الأكابر، قولهم شطحاً، وإن شئتَ تمكيناً، فكلا الوصفين جائزين، أنّه وجد عرشاً بلا ملِك، فجلس على العرش وصارَ هو الملك. نعم، هي الحقيقة المطلقة ما جعلتْ الطريقَ إليها إلاّ من هذا الوجه، وجه الإطلاق والتنزيه أن تتجسّدَ وتتحيّز وتتعيّن، إنّما جعلتِ الإنسانَ خليفةً لها، والقالب الذي يحتوي سرّها، ولا يصِلُ إلى ذلك المهمه المُصمت الأخير، إلا أمينٌ صفيّ صفا حقّاً من كلّ الأغيار، وصارَ قالباً لذلك الإطلاق، وقابلاً لذلك التجلّي الساذج. فلا تقبَلُ غيرَها، وإن كانَ عبداً، فقد صارَ عينها، إذ وصلَ إليها، وساذجاً قابلاً لسذاجتها، هي لا تقبلُ غيراً، ولهذا فعرشُها لا محالةَ فارغٌ لكلّ واصل، فما ثمّ اثنينية يا مغبون. فلا تستغرب هذه الحقائق. فهي بسيطةٌ وإن تعالت عن العقول. وهي سرّ السرّ. ومن هذه السذاجة تجلّت كل العظمة والوجود واللانهايات.
وأوّل من تجلّى منها، هو قالبُ الكمال ومحورُ الجمال، سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه صاحب المقام المحمود ولواء الحمد سيدنا محمد النبيّ الأمي، فهو حامِلُ كمالات تلك الحقيقة المطلقة المتعالية، وحامل حقيقة ذلك العماء الساذج، بحرُ التجلّي والهيولى. معنى المعاني، وحقيقة الحقائق. لأنّ صفاءها وعماءها هو عينُ الفوقية والتعالي عن سائرِ التجليّات، فمنه بدأ الكمال والجمال والرّحمة، وهي أي هذه الكمالات هي المسمّاة بالرّحمة، فالرّحمة كانت برزخاً بين الحقيقة المطلقة وافتتاح الوجود بالصفات، وأوّل الصّفات هي كمالاتُها، لأنّها معبّرةً عن تنزّه العماء والحقيقة عن النّقص والتأثّر بالتجلّي، فهي المحتد الكمالي للصفات، فكان هو الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وهو المسمّى الإنسانُ الكامل، فهو مجلى الكمالات والصفات بإطلاقها ومنتهى كمالها وجمالها. وسائر الأفراد الخلفاء على قدمه ورثة له. وبعد المحتد الكمالي تبداُ سائرُ التجليات بمراتبها ونقصها وتفاوتها. بلا نهاية ... فالحقيقة المطلقة غير قابلة للحدّ والتناهي، وتلك هي كمالاتُه سبحانه فوق الحدّ والحصر والتناهي. ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلّم "زدني فيك تحيّراً"، وقال الله تعالى :"وقل ربي زدني علما". فلا نهاية لعلم الله تعالى وتجلياته، ولا حصر ولا إحاطة، فما يعلمُ بالله إلاّ الله سبحانه، ولا تصحّ كلمة عالم بالله إلاّ تجوّزاً، بل كلمة عارف بالله هي التي تداولها الساداتُ، وهي تعني المعرفة بالله على قدرِ ما تقبلُ القابليات بمعرفته سبحانه، فهو فوق الإحاطة والمعرفة والعلم سبحانه عزّ وجلّ.
وعليه فتلك الحقيقة، انبثقت منها حقائق الأعيان والخلْق، واستوعبَ كلّ مخلوقٍ وكلّ عينٍ من الأعيان حقيقته وتجليّاته ورحلته في ليلة أقداره، فما يمكنُ أن يستوعبَ فوق الحقيقة التي عليها فُطِرَ، فهي في الحقيقة معبّرةً عن عالم جبريّ أوّلي هو المعبّرُ عنه بإرادة الله التي سبقتْ كلّ إرادة، فلا يُمكنُ أن تخرجَ إرادة مخلوق وكائن عن إرادة الله تعالى، هذا معروف. ثمّ نسّق الله تراتبية الوهم والحجب، حتى ظهرتْ الإراداتُ والاختيار، وهي من جانبٍ آخر إرادة حرّةٌ منبثقةٌ من إرادة الله سبحانه، لأنّ الإنسان ما كلّفَ إلاّ لأنّهُ خلِقَ على الصورة، وتلك المخلوقية على الصورة وهبته الحرية والإرادة والاختيار، وفي الحقيقة ما ثمّ إلاّ حقيقته التي فُطِرَ عليها في الأزلْ، هي التي جعلته يختارُ ما يختارُ في حياته، ويتجلّى عليه ما يتجلّى من أقدار، فكلّ إنسانٍ هو قطبٌ في وجوده علِمَ ذلك أم لم يعلم، فوجودُهُ انبثقَ من حقيقته، وتجلّيه تجلّى من سرّه المكنون فيه، وهي الصورة التي خلِقَ عليه والسرّ المكنون في قلبه الذي انطبع به أوّل ما خلقه الله تعالى، ذلك السرّ هو الذي يجلِبُ جنسَ التجليّات التي تتنزّلُ عليه. وهنا بحرٌ غرقَ فيه من غرقَ، إنّه بحرُ القدر والقضاء والجبرية والاختيار. وخلفه يتجلّى سرّ الإنسان واصطفاؤه دون سائر المخلوقات، هذا الاصطفاء ضمّ الخصوصية الإنسانية بإطلاق، وإن كان أغلبُ من انتسبوا لهذا المخلوق شقوا بحقائقهم، لعظمِ الحقيقة المطلقة وثقلِها وعزّتها التي احتجبتْ، وحملها هذا الإنسان، إنّه كان ظلوماً جهولا، حين أشفقت منها السمواتُ والأرضُ.
لا يُمكِنُ أن تُجلى تلك النّصاعةُ للحقيقة حتّى لو أشارَ لها وكشف عنها الشاطحون أو العارفون، لأنّها محميةٌ بالقابلية، القابلية هي مستودَعُ القبول والعرفان والعلم، كما الدّوالُ الناطقة مجالاتُ تعريفها يتفاوت، ولا يمكنُ أن تقبلَ ما خرجَ عن مجال تعريفها. وكذلك هذه الحقائق، مستوى القبول فيها يرجِعُ للقلبِ لا العقل. لأنّ العقل في التحقيق واحدٌ، هو عقلٌ كلّي، والعقلُ الجزئيّ الذي يتفاوتُ بين النّاس مردُّه للقلب. ولذلك قال الله تعالى "أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها". فنسبَ التدبّر والأقفال للقلوب لا العقول. ومن أجل ذلك قال العارف بالله الحكيم الإسكندري "وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به" لأنّ العلم لا يقعُ إلاّ بزوالِ الحجب وارتفاعها، وتوافق القلب مع العقل، فيحدثُ التجلّي الكلّي والوصول.

مزيداً من الحقائق المتعالية التي تبدو في نظر البعض أو الكثيرين شاطحة، فالنبوّة هي مقام إفتتاح الوجود وبرزخ الرّحمة ومقام الصّفات، فذلك واضح فالنبوّة هي الإنباء، وهي الواسطة والنّسبة إلى الخلق، وهذا هو برزخ الرّحمة ومقام إفتتاح الوجود وتجلّي التجليّات وظهور الصّفات، وهو مقام سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى "وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين". للعالمين أي لجميع العوالم. فهو الذي إفتتح الوجود وكان صاحبَ مقامَ الإنباء، والنّسبة والواسطة إلى الحقيقة المطلقة. وجاء في الحديث : كنت نبيا وآدم منجدل في طينته، وفي حديث : كنت خاتم النبيين في أمّ الكتاب. نعم لأنّه ما تجلّى العلم ولا ظهرتْ الصفات إلاّ به صلّى الله عليه وسلّم. فهو الحجاب الأعظم والباب الأوحد إلى الله تعالى.
أمّا الولاية فهي سرّ النبوّة، فهي مقام الذات بل سرّ الذات، وباطن الصّفات، هي ذلك المجلى العمائي الساذج، والمعنى الذي تنزّه عن المعاني. هي الحقيقة المطلقة. حتى لو ناحَ النّائحون، فهذه هي الحقائق والعلم. فالله سبحانه في قرآنه تسمّى بالوليّ وما تسمّى بالنبيّ، وهذا دقيق ومرادٌ. ومن أجلِ هذا فإنّ المسمّى بخاتم الولاية، وهو الخليفة المذكور في كتاب الله تعالى حامل سرّ الخلافة الإنسانية، هو صاحبُ ذلك السرّ العمائي والسذاجة الذاتية بالأصالة. وهو صاحب الذات بالأصالة فيه انطوى السرّ المكنون.
ولذلك كتب الشيخ ابن عربي قدس الله سره عن ختم الأولياء، كتابه المسمّى بعنقاء مغرب، وأشار إليه كأنّه شيءٌ معجز أسطوري، وأخفى مقامه حتى لا يفتن الناس أكثر ممّا فتنت سطوره التي أشاعها في كتبه وصحفه، وكذلك كتماً للحقيقة عن غير أهلها، وأوّلهم الخاتم قبل بلوغه تلك الحقائق عرفاناً وقابليةً ... بل وكتمَ الخاتم، وما عيّنه، حتى نسب كثيرون تلك الختمية لأنفسهم. والولاية والختمية مرتبة من وجه، وهي سرّ الإنسان كما سبقَ أن ذكرنا، ولكنّها بالأصالة لواحدٍ هو خاتم الخلفاء وشمس المغرب. الذي يظهر بالاضداد والنقائض، ويُعبّرُ عن تلك الحقيقة المطلقة التي تقبلُ النّقائض والأضداد. ويعرفُهُ أهلُ الوصول الأمناء، ويعرفُه أهلم العرفان الحقيقي، ويشهدونَ تلك الحقيقة فيه سيرةً ووجها بملامح وجهه وخلقته، لأنّ الخلقات والشمائل الخلْقية والملامح معبّرة عن حقائق النّاس. كما هي الأخلاق تماماً، وهو يجمعُ الحقيقة المطلقة بخلقته وأخلاقه، في جمعه بين الأضداد كما هي الحقيقة المطلقة لا تتحيّزُ بمعنى أو معانٍ محدودة، بل هي مطلقة لها الإطلاق بإطلاقه ولانهاياته. وكتب كذلك الحكيم الترمذي رضي الله عنه عن ختم الأولياء وكتب عن مجذوب وحسب، وهو هذا المجذوب الذي يجمعُ بين الأضداد قبل كماله وخروجه إلى الإطلاق. وكتب عنها كذلك أو عنه بفقرات متفرّقة وأشعار منثورة متفرّقة في كتبه الشيخ الفرد الجيلي قدس الله سره. وعيّنه تعييناً أنّه هو المهدي، وهو خليفة الله. كما جاء في الحديث الصحيح في تعيين المهدي أنّه خليفة الله.
وإسم المهدي فيه تلك الدّلالة وذلك المعنى، فهو مهدي بسرّه الذي منه تجلّت سائر الأسرار، وهو مهدي إلى الإسم الأعظم بعفوية وتلقائية دلّت على سرّه، لمّا أعطى في مسيرته جميع المحاتد التي تجلّت في الوجود، وبذاتِ الوقت سلك نحو الذات، وما شاركته في ذلك السلوك نفسٌ، فهو سالكٌ بغيرِ نفس. ويأتي بالولاية كاملةً، بسرّها المكنون وحقيقتها. واسمُه دلّ على ما جاء في كتاب الله تعالى : المهدي : أي ألم هدى، المراد في قوله تعالى في افتتاح سورة البقرة : "ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين". فهو ألف الذات ولام العلم والأسماء وميم الصفات والحكمة والتعيين. فهو شطرٌ في حقّه وشطرٌ في خلقه. لأنّه عين المادة التي تجلّت منها الأعيان والخلق. فهو السيّد والخليفة ومالك الملك والإمام الأوّل. حقيقته التي أشار لها ودلّ عليها فرضتْ عليه مقام الكتم، لأنّ ختمه لم يدلّ إلاّ على الحقيقة المطلقة التي أشرنا إليها وهي عدم التحيّز والتعيّن وهي التجرّد من كلّ معنى وشيء.
فقد أعطى محتد السّائر بسعيه ونفسه إلى الله تعالى وهي زمن الخلافة الراشدة التي تُشرِقُ فيها الشمس من جهة واحدة، ثمّ أعطى محتد الذي زالَ عن عزّه وسعيه لمّا خرّب ظاهره وتنازلَ عن كلّ شيءٍ وهو زمن ظهور الدجّال، فهو دالٌّ على زوال هذا الختم من كلّ ما اكتسبه، فلمّا وجد ما اكتسبه فيه مشاركة نفس، وغير مقدّسٍ منها والنّفس مشاركة له، زالَ عنه وأسلمَ كلّه لله تعالى، وظهرَ دجّاله ظاهراً وفي الباطن هو خرابُ ظاهره وتخلّيه عمّا شاركت فيه النّفس، ثمّ أعطى أخيراً محتد نزول روح القدس وقبول الله له، وتجلّي ولايته العظمى ونزول الإسم الأعظم، وإشراق شمس الحقيقة عليه من كلّ الجهات.