الأحد، 29 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 81






ذكرتُ في مقال لي سابق أنّه "لولا المرزوقين ما كان سبحانه رزاقا ولا المخلوقين ما كان خالقا ..الخ." والعبارة بهذا التركيب تبدو خطأ، تعالى الله عن ذلك سبحانه، إنّما أردتُ ظهورَ أسمائه وصفاته، فما ظهرت لنا إلاّ بالآثار والتجليّات. وإلاّ فالله سبحانه لم يزل رازقا خالقا نافعا ضارا مغيثا محييا .. فقد كان الله ولا شيء غيره وهو الآن على ما عليه كان. ولهذا فما خلْقُه ومخلوقاتُه سوى مسرح آثار أسمائه وصفاته، أي ما عند الله زمانٌ، فهو فوق الزّمان سبحانه وفوق المكان، والخلْق وجودهم اعتباري مجازيّ، لأنّهم مسرح تجليات أسمائه الحسنى. فالعالم ظلّ لأسماء الله وصفاته، والظلّ لا يقومُ بنفسه، ويزولُ الظلّ إذا ارتفعت الكثرة الأسمائية وظهرت الأحدية. وكلّها حضراتٌ تتدرّجُ. ولا موجود سواه وحده لا شريك له سبحانه. وعقيدة السادات إثبات الصفات والأسماء قبل وجود الخلق. فلا نُخالفهم لأنّ التراتبية توجبُ ذلك. ودفعاً أن تختلطُ عقائدُ النّاس بعقولهم الترابية وقياسهم العقليّ النّظريّ. وإلاّ فما ثمّة قبلٌ عند الله سبحانه، والقبلُ اعتباريّ، والزّمانُ مخلوق منه سبحانه. والأحدية ثابتة لله تعالى، وأحديته لم ولن تتغيّر، وما زاد فوقها وعليها شيءٌ، فبقيَ أنّ الخلْقَ والعالَم حضرةٌ من حضراته سبحانه، تُجلي آثار أسمائه وصفاته. والأسماء مشهدُها الحضرات، فكلّ إسمٍ لهُ واجهةٌ في العالمَ وأثرٌ، والأسماء تجلّتْ من إسم الله الجامع لها، بواسطة اسمه الرّحمن الذي رحمها فأعطتْ آثارها وظلالها وتجليّاتها. فلمّا تجلّت هذه الأسماءُ اللاّمتناهية له سبحانه وإن جمعتها أسماء جامعة معدودة، فهي أمّهاتٌ للأسماء الغير متناهية، فلمّا تجلّت الأسماءُ أعطتْ صورة هذا العالم بهذا القدرِ المُحكم وهذا الجبروت الأعظم وهذا الكمال الأمثل. معبّرةً عن عظمته سبحانه وعظمة أسمائه وصفاته المقدّسة. فأعلمتنا - عن عظمته سبحانه وعن أسمائه وصفاته - هذه المخلوقات وهذا العالمُ الذي لا يزالُ الإنسانُ يكتشفُ ارتباطاته وجمالياته وتناسقه المذهل المحكم العظيم جدا، وعوالم فوق الحصر، وأشياء مركبّة فوق بعضها بعضٍ بإحكامٍ مذهل لا يتناهى، ولا ينفصِمُ، وليس فيها خللٌ أو خطأ، بل كلّ شيءٍ مرتبطُ ببعضه وبالعالم، ارتباطاً عظيماً، في حياة عظيمة مذهلة متناسقة مركّبة، قامت على الأسباب والإحكام والحكمة الثابتة. مستمرّةً في ارتباطها وحكمتها وحياتها، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} سورة الملك (3-4). تأمّل وتأمّل في خلق الله سبحانه حيثما ولّيتَ وجهك وتأمُلَكَ، فلا تزالُ مع مزيدِ التأمّل والنّظرِ إلاّ مكتشِفاً لمزيد الأسباب والحِكَمِ والارتباطات والتركيب العجيب المذهل، والتناسق الباهر المعجز. إنّ هذه العوالم والمخلوقات مسرحُ تجليّاتِه سبحانه، تجليّاتِ أسمائه الحسنى الغير المتناهية التي برزتْ من برزخ الرّحمة، من اسمه الرّحمن. فقد خلق الله تعالى الخلق والعالَم بعبارة بسم الله الرحمن الرحيم. ولذلك كانت عبارةً جامعة لما في كتاب الله تعالى جميعا. اسمُ الله الأعظم الدّال على ذاته وعلى جميع الحضرات. واسمُ الرحمن الدّالُ على الأسماء والصفات، الذي به رحِمَ الله أسماءهُ فظهرت آثارَها في الأكوان، ثمّ اسمه الرّحيم الذي هو الرّحمة الأقدسية التي تُرجِعُ كلّ شيءٍ إليه سبحانه في منتهى رحلة الخلْق إلى ربّهم "وأنّ إلى ربّك المنتهى". فقامَ عالم الإمكان بين الأزل والأبد، والأزلُ والأبدُ عند الله يلتقيان، فما ثمّة عند الله زمان فافهم، وبينهما أي بين الأزل والأبد وُجِدَ عالَمُ الإمكان، وحضرة العوالم والمخلوقات. لذلك كان تعبيرنا الذي ذكرناه على تلك الشاكلة موهماً، ولكنّه مع ذلك فهو موهِمٌ في نظرِ أهلِ العلم، وبمنطق التراتبية التي قامَ عليها العالَم، وإلاّ فأحدية الله سبحانه، ووجوده الثابت لا يُبقي معه شيئاً متوهّماً. كما قال الجنيد رضي الله عنه للذي قال الحمد لله وسكت عن قول ربّ العالمين يريدُ القائلُ إثبات الحمد لله قبل وجود خلقه، فقال له الجنيد : قلها يا أخي فإنّ الحادث إذا قرن بالقديم تلاشي الحادث وبقيَ القديم.

وقال الله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة. فما خلف تلك الظّلال إلاّ وجه الله سبحانه، وماخلف هذه الأكوان وهذه العوالم وهذه المخلوقات إلاّ وجهه سبحانه، والوجه هو الذات. إنّ الله واسعٌ عليمٌ، إنّ الله واسِعٌ لم يزلِ متجليّاً وخالقاً متعالياً عن الحدّ والحصرِ في صورةٍ أو حيّز، بل وسِعَ كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، عليمٌ سبحانه، لأنَّ الأكوان والخلْقَ مظهرٌ لاسمه العليم، فاسمُ العليم اسمٌ محيطٌ جامعٌ، علمه سبحانه فوق الحصر والإحاطة، غير متناهٍ. فجمعت هذه الآية حقيقة العقيدة في الله تعالى، ولكن لا يشهدُ ذلك إلاّ أهلُ الذوقِ والشهود، ونزّهته سبحانه عن كلّ صورةٍ ومظهرٍ وتشبيهٍ، كما أنّها ما فصلت تلك الصور المتجليّة في العالم في المشارق والمغارب عنه، بل أرجعتْ قيامها ووجودها له سبحانه، فثمّ وجه الله، أي قامت به سبحانه. وهكذا قامتِ الدّنيا ملايين السنين، بل مليارات السّنين تُجلي عن آثار أسمائه وصفاته، ورحلتها في التجلّي والظهور حتّى خُلِقَ آدمُ عليه السلام مختصرُ العالم، وآخر مخلوقٍ جامعٍ لجميع ما في العالم، ومبدأٌ لرحلة الإنسان في الخلافة مع ظهورِ آثار الأسماء في الأرض، وعند كلّ اسمٍ جامعٍ يكونُ مفترقٌ ومحطّة هامّة، وعلى ذلك ظهرتِ الرسالاتُ السماوية والبعثات النبويّة، فهي مجسّدةٌ لظهورِ تلك الأسماء الجامعة بعد مسيرةٍ ونُضجٍ في الأرض، حتّى ظهرت الرسالات السماوية الكبرى. كان سيّدنا موسى عليه السلام مظهراً لاسم الربّ، أي كان خليفةً لهذا الإسم الجامع الكبير وهو من الأسماء المتقدّمة، ثمّ كان سيّدنا عيسى بن مريم عليهما السلام مظهراً لاسم الرّحيم وهو اسمٌ يقدّسُ الأشياء تقديساً أقدسياً، ولذلك كان رمزاً ومؤيّداً بروح القدس، وكانت ولادته معجزةً بذلك الشكل الذي ولد به، وكان نبياً ورسولا منذ ولادته، معبّراً عن التجريد القدسيّ عن تبعاتِ ومقتضيات البشر والطين، ولهذا فقد رُفِعَ إلى السّماء لينزل في آخر الزمان، ثمّ كانت الرسالة الخاتمة وبعثة مظهر الرحمة الكبرى، برزخ الرحمة وخليفة اسم الرحمن سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، اسمُ الرحمن الذي منه انبثق الوجودُ في بداياته أصلاً، وتجلّتِ الأسماءُ. فقال صلّى الله عليه وسلّم : ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري. فالزّمانُ استدارَ كهيئته الأولى، وتوافقَتِ التجليّاتُ مع الآثار بظهورِ اسم الرحمن في الأرضِ بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم، وتجسيد الخلافة الكبرى به صلّى الله عليه وسلّم وفتح باب الولاية الكبرى فكان هو محمد وهو أحمد صلى الله عليه وسلّم، وحاز على المقام المحمود ولواء الحمد، لأنّ جميع من يأتي من الأولياء والخلفاء من أمّته هم تابعون له وورثة له، هكذا سنّة الله سبحانه في الحياة، فلا يكون التابعُ فوق المتبوع، فافهم. والنبوّة والرّسالة لها القمّة، ثمّ يأتي الباقي تبعية. فكان اسمُ الرحمن دالٌّ على الله تعالى، وطريقٌ إليه، له وجه ذاتيّ إلى الذات أي الإسم الأعظم، واسم أحمد، وله وجه صفاتيّ جامع كما ذكرنا وهو الرحمانية وهي اسم محمد. ومنها بدأت رحلة الخلافة المحمدية والأحمدية في أمّته صلى الله عليه وسلّم، وكانوا على قدمه قمريين، فالقمرُ مقامه مكتومٌ مخفيّ، وقد عكسَ نور الشمس واستوعبه كلّه، حتّى تطلع شمس المغرب الذاتية في آخر الزّمان ويظهرَ صاحبُ الإسم الأعظم بالأصالة والخاتم لخزانة الجود الإلهيّ والخاتم للوجود الإنسانيّ، وهو علامة الساعة ومظهرها كذلك، الإمام المهدي عليه السلام. وبه ينزلُ النبيّ المؤيّد بروح القدس الذي كما ذكرنا جسّد اسم الرّحيم، ليختم اسمُ الرّحيم الوجود، وتتقدّس الأرضُ ويتجلّى فيها الإسمُ الأعظم أخيراً. فافهم، فما هذا العالم والمخلوقات والإنسان والخلافة سوى مظاهر تجليّاته سبحانه، وتجليّات أسمائه كما ذكرنا.


الأحد، 22 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 80


كتب يوم : 16/02/2015


جمالُ الخليفة ..
بسم الله الرحمن الرحيم 
 
 قال الله تعالى : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} سورة التين 1-4
   
 الإنسان هنا هو سيدنا آدم، خلقه الله على أحسن تقويمٍ. مخلوق على صورة وتقويم الخليفة (الإنسان).
 
 وخلقة الخليفة هي أحسن وأجمل خلقة إنسانية. فهو الذي لا نظير له في المظهر الخلقي والجوهر الحقيّ. طبعاً وأجملُ مخلوق هو سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
 
 وأجملُ إنسانٍ هو الخليفة عليه السلام.
 
 إنّهُ لا تعارضَ بين شهاداتِ القومِ في اعتبارِ سيّد الجمال والكمال هو سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فهو أفضل الخلق وسيّد الكمالات وهو الإنسانُ الكاملُ.  
 إلاّ أنّ الخليفة هو حالةٌ خاصّة منفردة جدّاً. لا قياسَ عليه .. لأنّ كمالَ الإنسان جاء أصلاً ليشهدَ جمال وكمال وجلال الخليفة الذي تجلّى بالأعيان وآثارها في الخلق. وهو السيّد الصّمد، وهو سيّد الجمال والجلال والكمال.
 
 وجمالُه الخلقي وحسنُ تقويمه فاقَ كلّ جمالٍ وكلّ حسنٍ .. وهو طاووسُ أهل الجنّة كما قال صلّى الله عليه وسلّم ((المهدي طاووس أهل الجنّة)). إنّما كان طاووسها ليُحاكي متعة العينِ من النّظر الى الطاووس الذي هو من أجمل الحيوانات والطيور وأبهاها. ويُحاكي كذلك كونُ الطاووسِ متعدّد الألوانِ مزركشٌ متناسقٌ له من كلّ لونٍ نصيبٌ. وكذلك الخليفة له من كلّ جمالٍ نصيبٌ لأنّ الجمال منه برز الى غيره. فلمّا قال الله تعالى "إنّي جاعل في الأرض خليفة". فهو الخليفة الإنسان الذي تعيّن في جميع الإنسان بين أنبياءٍ وأولياءٍ وجميع البشر. فهو الخليفة صاحبُ الرّتبة الشريفة. عزَّ أن يفهَمَ هذه الحقيقة الواضحة الكثيرون، لعزّة معناها وبقائها عند السادة الأمناء مأمونة مكتومة. فالخليفة لا تعني سوى أنّه النبيّ والوليّ والصديق والفاروق وجميع الرّتب إلى منتهاها. فهو الظاهرُ بها. 
 
 فلا قياسَ بينه وبين غيره، فهو الذي لا نظيرَ لهُ .. ارتفعَ عن الخلقية في حقيقته. لأنّه حملَ سرّ المستخلفَ وظهرَ به في الوجود. 
 
 فما ثمّة في الوجود سوى الوليّ والخليفة صاحبُ هذا السرّ والشهود بالذات، وسيّد الخلق والوجود رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي رأى بهذا السرّ والشهود جمال الذات وشهود آثارها. فما من وليّ أو نبيّ بعدهُ سوى محمولٍ على سيّد الخلق والوجود وبه يرى ما يرى، فمن بابه نرِدُ على الله تعالى وبه يكملُ جميع من يكملونَ إلى يوم القيامة فهو الشفيعُ المشفّعُ والحبيبُ المحبّبُ. صلى الله عليه وسلّم وبارك وكرّم وعلى آله وصحبه في كل لمحة ونفَسٍ بقدر عظمة ذات الله تعالى.
 
 وسياقُ الآية دالٌ إلى ما ذهبنا إليه لمّا قال سبحانه وتعالى {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
 
 فقوله تعالى : وهذا البلد الأمين .. إشارةٌ للكعبة الشريفة والمسجد الحرام. وهي إشارةٌ للمقام الذاتيّ الذي وُهبَهُ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصاحب المقام أب الأنبياء الخليل عليه السلام. ومن هنا كان اسمهم أهل البيت. أي أصحاب القبلة الذاتية. وإنّما صحّ هذا الشرفُ والقبلة الذاتية بخاتم الأولياء والخليفة الذي هو صاحبُ القبلة الأصليّ وقطبُ الأرواح. المهدي عليه السلام من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهو المعنيّ الأوّلُ والسيّد الأوّلُ المرتبطُ به البيت أي الكعبة الشريفة وكونها القبلة قبلةً للأشباح، لأنّ صاحبها هو قبلة الأرواح. ولهذا جاءَ بعد ذلك السيّاقُ : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ. والإنسان هنا هو الخليفة صاحبُ هذا الشرف الأوّل الذي إليه انتسبَ البلدُ الأمين والبيت والقبلة. فهو الذي في أحسنِ تقويمٍ وهو قبلةُ الأرواحِ وهو أهلُ البيتِ بالأصالة.
 
 ومن هذا المعنى قوله تعالى : {..قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..} سورة البقرة. فالقبلة التي قصدها الله تعالى "قبلةً ترضاها". هي القبلة الذاتية حيث نزول الروح في قلبه وعروجه الى سدرة المنتهى ورأى من آيات ربّه الكبرى، وحمله للإسم الأعظم. فقال سبحانه وتعالى في سورة الفتح : {نَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} وقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}. وكذلك كان ذلك لأهلِ البيتِ الذين تحقّقوا بالوراثة بهذا السرّ، وكانَ المشارُ إليه بالأصالة والحقيقة هو الخليفة صاحبُ البيت الذي هو من ذريته صلّى الله عليه وسلّم. فقال صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة البتول عليها السلام ((أبشري يا فاطمة المهدي من ولدك)). وهي القبلة االمرتضاة التي شرّفَ الله بها نبيّه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فبشّر بها ابنته البتول الزهراء عليها السلام أبشري واستبشري. 

قال الشيخ الأكبر قدّس سره في كتاب "عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب"  في فصل : (لؤلؤة التحام اليواقيت وانتظام المواقيت)

((فإنّ القصد في هذا الكتاب هو معرفة الخليفة والختم وتنزّل الأمر الحَتم فنقول فرجع عَودُهُ على بدئه في ليله وأدرك صلاة الصبح مع أهله، فتسوّد ذلك الجسدُ على أمثاله ممّن تقدّم أو تأخّر من أشكاله ، لمّا كانت مادة الحقيقة الأصلية والنّشأة البدائية إليه اسمه من ذاتها وإلى غيره من صفاتها) انتهى.


 فتسوّد جسدُ الخليفة الخاتم على أمثاله من الأجساد والأجسام، لمّا كان اسمُه معبّراً عن الحقيقة الأصلية بذاتها كما أشار الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه. فمهدُ الجمالِ والكمالِ والجلالِ، وسرّهُ الأوّل ومنبعُه وأصلُه وفاطرُهُ، لا جرَمَ أن يكونَ السيّدُ والأجملُ والأبهى إذا عبّرَ ظهورُهُ عن ذلك السرّ، فلمّا كان هو صاحبُ ذلك السرّ الذاتيّ، فقد انعكستْ الملامِحُ على الوجه والخلقة لتُعطي التفرّد والسيادة والكمال المطلق كما هو الأصلُ.

وممّا أوردَهُ الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه  في الفتوحات المكيّة عن الختم، قوله في قصيدة :

إنْ قيلَ من هذا ومن تعني به ... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراءِ
 شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها ... سرُّ العِباد وعالِمُ العلماءِ
 عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ ... نورُ البصائرِ خاتِمُ الخلفاءِ
 سهلُ الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى ... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماءِ
 جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراءِ


فقد جلّت صفات جماله وجلاله ظاهراً وباطناً، شمائلاً وأخلاقاً عن المناظرة والمماثلة، فهو حامل لواء الحقيقة المطلقة وجمالها وكمالها وسرّها فهو خليفتُها المطلق الأوّل.

واليهود هم من روّجَ أنّ أجمل إنسانٍ هو سيّدنا يوسف عليه السلام، بينما الحقيقة فسيّدنا آدم أجمل من سيّدنا يوسف عليهما السلام، فهو الخليفة الآدميّ الأوّل، وإن كان ليوسف نصيب من الجمال عظيم جدا، ولكنّ أبانا آدم أجمل منه. وأجملُ منهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليهما وعلى جميع الأنبياء فهو مظهر الكمالات الإلهية وجمالِها. وأجملُ إنسانٍ مطلقاً هو الخليفة المهدي عليه السلام.

أقنى الأنف أعلى الجبهة برّاق الثنايا وجهه كالكوكب الدريّ، إسرائيليّ الجسم عربيّ اللّون، لونه آدميّ وجماله أعجميّ، وخلقته أجمل الخلْقاتِ وأحسنها .. 

__________________________

بعضُ هذه الآيات التي أوردتها هنا وإشاراتها أشارَ لها مشايخنا -رضي الله عنهم- من بابِ الإشارة والتلميح، ونحنُ متوسّعونَ.




الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

"ال" تعريف الشمس والقمر



كتب يوم : 18/03/2015

الشمس والقمر. بهما تعلّق مثال الحروف الشمسية والحروف القمرية. نسبةً لنطق لام ال التعريف في الكلمات وعدم نطقها بإدغامها.

ولكن هل يتوقّفُ الأمرُ على اللغة والنطق فقط ؟
بل الأمرُ يتجاوزُ إلى مثال الشمس والقمر في الحقائق لمن تأمّل.
فالشمس هي الرّوح والقمر هو القلبُ الذي تنزلُ فيه الرّوح.
فالشمس ذاتية النّور والاشتعال، والقمرُ عاكِسٌ لنورِ الشمس في ليلِ الأرضِ.

فكان حرف الألف وحرف اللام في " أل " .. راجعاً لمعاني الحروف التي جاءت في فواتح السور، ومن معانيهما التي ذكر بعضها العارفون المحققون، أنّ ألف هي ألف الذات واللام هي الأعيان العلمية، لذلك كانت اللام (ل) ألف (أ) تتبعها تعريقة (ن)، والتعريقة كما قال بعض العارفين هي تعريقة الخلق. أي الأعيان العلمية فمردّها الى الذات في الأصلِ، وفي عالم الوحدة الأسمائية تميّز كلّ عينٍ علميّ بتعريقته وتميزّه واختلافه عن غيره. مع أنّهم في المرجع مردّهم إلى الذات لذلك كانت لام العلم (ل) رسمُها بين ألف الذات وتعريقة خلقية. جمعت الخلق فيها.

أمّا وضعُهما في ال الشمس والقمر، فذلك أنّ الشمس كانت رمز الرّوح ورمز الذات، لأنّ الرّوح هي مرآة الذات، فصارت لامُها الشمسية مختفيةً مدغمة فما ينطقُ إلاّ ألِفُها، ذلك أنّ الخلق لا وجود لهم حقيقياً إلاّ اعتباراً، فزالوا في حضرة الروح والذات. وكذلك زال واختفي جميع الكواكب والنّجوم في حضرة الشمس. فتأمّل.
بخلافِ القمر فقد ظهرَ حرف اللّام وتميّز في ال التعريف، لأنّ الخلق بالقمرِ ظهروا في ليل أقدارِهم. واختفوا في نهارِ شمسهم. فالنّهارُ حضرة القدم وما تميّز العلوّ من السّفل، فالكلّ مشرِقٌ راجعٌ لأصله وألِفه. وفي اللّيل ليل الأقدار والحدوث تمايز الخلْقُ. وظهرتِ الكواكب والنّجوم.

فالقمرُ هو حضرة الرّحمانية التي بها رحِمَ الله الخلق فظهروا، وظهرتْ أقدارهم. وهو القلبُ الذي جمع نورَ الروح وعكَسَهُ.
والشمسُ هي حضرة الله تعالى التي رجع فيها كلّ شيءٍ إلى أصلِه فما ثمّ إلاّ الوحدة الذاتية والحضرة الجبروتية. والله أعلم.

ثمّ إنّ لام ال الشمسية أدغمَتْ في الشمس واختفتْ للدّلالة على الاتّصال والذاتية. فكأنّ الخلق لا قيام لهم ولا وجود ما ثمّ إلاّ الألف.
وظهرَت اللامُ واستقلّتْ في القمر للدّلالة على الصفة لا الذاتية. فتميّزَت في القمر ألف الذات عن لام الأعيان العلمية. فتأمّل.



الاثنين، 16 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 79

كتب يوم : 02/11/2015

أردتُ أن أتكلّم عن القرين، عن حقيقة القرين، لا باعتباره جنّ أو شيطان يوسوس وحسب، بل حقيقة القرين بكونه جزءًا من ذاتنا، بكونه نفوسنا التي بين أجنابنا. وقد وقعَ في بالي أنّ القرين الذي لم نصنّفه إلى الآن تصنيفاً علميا ودينيا وحقيقياً، ويجهله أغلبُنا، ولا يعتبرونه سوى الشيطان الموسوس، أنّ هذا القرين هو لاوعينا. نعم العقل اللاواعي هو القرين. هكذا وقع في بالي، لعلمي أنّ القرين تحقيقاً هو النّفس، النّفس التي نسمّيها النّفس الأمّارة بالسوء. والنّفس التي تشتغلُ لحسابِها الشخصيّ وأناها مطلقاً. بصفة لاواعية. بصفة باطنية فينا وتلقائية.

وألقيتُ نظرة اطّلاعية وتفقّدية على معنى العقل الواعي واللاّواعي، لمزيد تحقيق معنى العقل الواعي واللاواعي. والنّظر في مطابقة ما توصّلتُ إليه، مع مفاهيم تلك الاصطلاحات النفسية. فوجدتُ تعاريفاً تخدُمُ فكرتي. وأنّ العقل اللّاواعي فينا هو عينُ ما يُسمّى القرين. قد ينقدُ هذا التعريف المتديّنون السطحيون وعلماؤهم الذين انتشروا في زماننا. رغم كون زماننا هو زمان المعلوماتية والعمق والفكر والنّضج العقليّ زمان العلم، إلاّ عندنا نحنُ العرب للأسف، فالزمان هو زمان السطحية والتعتيم والصنمية. وخصوصاً تديّننا المشاع في أغلب دوائره البعيدة عن المحققين والعلماء العاملين. الذين هم أصلاً مفقودون في البوصلة العامّة، مفقودون من حيث علاماتهم وصفاتهم. ولا عجب !! .. ورغمَ أنّ القرين عند أهل التحقيق والتربية هو النّفس والأنا، ولذلك كان طريق الأحسان هو طريق الفناء عن النّفس. لأنّك لا تشهدُ الحقيقة بمنظار الحقيقة العليا إلاّ بتخلّي الوهم الذي يغشاك، وهذا الوهمُ هو وهمُ وجودك، واعتبار نفسك قائمةً بنفسها وذاتها، وهي يقيناً قائمةً بغيرها، قائمةً بخالقها الذي جعلها على صورته، ليحصُلَ لها العرفان والرجوع إلى الأصل إذا اخترقتْ حجاب الوهم. وذلك واردٌ في الحديث الصحيح المشهور لمّا قال سيدنا جبريل عليه السلام "الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". فقال فإن لم تكن، فإنّك ستراه. أي إذا فنيتَ عن نفسك ولم تكن ستراه سبحانه، وترى الحقيقة العليا، ويزولُ الوهمُ عنك. وأكبرُ وهمٍ هو نفوسنا وإثبات وجودنا مع وجوده سبحانه.
 
فالخلاصة ليس القرين سوى نفوسنا التي بين أجنابنا، أو بالتحقيق هو اللّاوعي فينا، العقل اللاّواعي المهمل، الذي يقتاتُ من التراكمات النفسية والسلوكية والانطباعات السابقة والمشاعر المخزّنة ومجمل ما تلقّاهُ ويتلقّاهُ من الواقع، خصوصاً منها طفولتنا.

 العقل اللاواعي عبارة عن كمبيوتر ضخم جدا، وله قدرات ضخمة، يصدّرُ لنا بلا توقّف، آلاف الصور والخيارات والانطباعات والخواطر من صنعه هو، صنعَها صنعاً ذاتياً وفقاً لما يملكُه من تراكمات وسلوكيات مخزّنة ومشاعر وذاكرة وانطباعات، فيصنعُها بصورته المجملة التي هو عليها، أي بما هو عليه الآن، أي أنّه عقل عظيمٌ جدا (هذا العقل اللاواعي) يفوقُ قدرة العقل الواعي في ضخّ المعلومات والتحكّم فيك، وقد اكتشفَ العلماء أنّ سرعة تدفّق معلومات العقل الواعي ومعالجته لها هي 40 بت في الثانية، وأمّا العقل اللاواعي فوجدوا أنّ سرعته 40 مليون بت في الثانية، فالفرق في سرعتهما مليون مرة، العقل اللاواعي سرعته أكبر من العقل الواعي مليون مرة. هذا ما اكتشفه العلماء مؤخّراً. فتخيّل معي، أيّ وحشٍ نصنعُ بداخلنا ونحنُ غافلون عنه، لا يستجيبُ للعقل الواعي، ولا ندركُهُ نحن، فهو عقلٌ باطنٌ فينا، يتشكّلُ من الترسّبات والتراكمات السّابقة، ويشكّلُ خصوصيته وعقله الخاصّ به وبرنامج اشتغاله وفق تلك التراكمات والانطباعات والترسّبات السلوكية والشعورية والتخيّلية السابقة، منفصِلاً تماماً عن عقلنا الواعي وعن وعينا وحريّتنا. وهو الذي يُديرُ قراراتنا ويديرُ مشاعرنا وسلوكنا ويشكّلُ الجانب الأكبر أو الحقيقيّ، أو الواقعيّ، أو العميق من شخصيتنا، مهما اعتقدنا أنّنا غير تلك الشخصية المخفية فينا. إنّه قريننا الذي صنعناهُ بأنفسنا، أو صنعته الأيامُ فينا، وبيده لوحة التحكّم والقرارات والسلوكيات في شخصيتنا. والاختيارات والقرارات التي نتّخذها في موقف ما وجدَ العلماء أنّ العقل اللّاواعي يتّخذها قبل وصولها لوعينا وإدراكنا، بـ 7 ثواني.
إنّهُ يشتغلُ لحسابه الخاص، أو برنامجه لا يأخذُ قراراته من عقلك الواعي، بل يستمدّ استقلاليته من جملة ما ترسّب فيه وتراكم معه من سلوكيات وانطباعات ومشاعر وخيالات. .. ولكنّه قابلٌ للاختراق بالإيحاء والتدريب والتعوّد والتكرار. لأنّك حينها، سوف تلقنّه عبر ترسّبات جديدة، وتلقينات جديدة، لكنّها تحتاجُ إلى قوّة التعوّد والتكرار، لجعل الجديد مألوف وعادي وتلقائي وعفوي، وبذلك يمحي المألوفات السابقة والترسّبات السابقة، وهكذا.

 

قد يعتقدُ البعض كلامنا عن العقل الواعي واللاواعي وتصنيف القرين أنّه العقل اللاواعي يعتبر شطحةً أو تخليطاً في المفاهيم. كلاّ .. القرين هو نفسك، هو جزؤك الغير المتحقّق بالإسلام لله تعالى. جزؤك المنحرف عن الفطرة والمفاهيم السويّة والإسلام النقيّ، سواء سلوكاً أو مشاعراً وأحاسيساً أو أفكاراً وانطباعات وخواطر. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) الصحيحين. فالمولود يولد على الفطرة نقيّاً، جديداً، عقله اللاواعي نظيف من التحويرات والتعديلات. ثمّ تبدأ رحلة الإنسان ليتلقّى من بيئته وأسرته بحواسه الخمس ما يركّبُ ويشكّلُ فيه العقل اللاواعي، تراكمات وترسّبات وانطباعات وسلوكيات وأخلاق وانحرافات وممارسات ومعاملات مختلفة تترى عليه يومياً يتلقّاها، يتغذى منها عقله الواعي واللاواعي على السواء. عقله الواعي هو العقل المنطقي الحسابي البديهي المراقب، ويتشكّلُ من التربية والاحتكاك والتعليم والمخالطة، تتشكّلُ قوّته ومدى اتساعه وفعاليته، العقل الواعي عقل واقعي منطقي تحليلي تعاقبي. والعقل اللاواعي هو العقل الباطن الذي يشتغلُ بالتراكمات والسلوكيات والانطباعات والمشاعر والعواطف المخزّنة مع الأيام. خصوصا السنوات الأولى لأنّها تعتبرُ قاعدته التي يبني عليها ما يأتي بعدها من تراكمات وانطباعات غالباً. فهو عقل معقّد مركبٌّ خياليّ لا يعتمِدُ على المنطق والبداهة والمعقول بقدرِ ما يعتمدُ على مجمل ما خزّنه من أفكار ومشاعر وخواطر وسلوك وعواطف وصدمات ومنعرجات شعورية ومحطّات سلوكية هامّة شكّلتْ جوهره، وشكّلت حقيقته وطريقة فعله وردّات فعله. وهو الذي يشكّلُ فينا الشخصية العميقة والحقيقية. لأنّه يمثّلُ أكثر من تسعين بالمائة من معاملاتنا وقراراتنا وأفعالنا وردّات فعلنا.
وعليه نفهمُ لماذا، كانت وسيلة إبليس والدجال لغزو النّاس هو قنوات الاتّصال الصورية والمرئية والصوتية، ومدى رسوخ تعليماتهم في الأجيال التي نشأت على هذه القنوات، نشوءاً كبيراً نافذا نفوذا عظيماً. فكمّ التعليمات والانحرافات والسلوكيات التي غزتنا عبر الأفلام والمسلسلات والقنوات الاعلامية والاخبار ثمّ الأنترنت وكذا الصّحف والمقالات والثقافات المنتشرة المدجّلة و المفخّخة بالتدجيل والشيطنة والانحراف. صنع بها هذا العدوّ الخبير بالإنسان، وكينونته، وقدرته على رؤية دواخلنا بوضوح، وقراءة أفكارنا والتجسّس علينا، وتلقين العقل اللاواعي فينا، ومخاطبته بطريقة خبيرة ذكية، فصنعَ من الأجيال ما يريدُه من قابلياتٍ، لتمرير خططه وبرامجه مرحلة بعد مرحلة، طبقة فوق طبقة. ويرى نتائج أعماله من خلال مشاهدة عقولنا اللاواعية ومدى تفاعلها في الواقع.
في حينٍ كان المسلمون في أكبرِ الغفلات والجهالات بهذه الصناعات النّفسية، والتحصين السّلوكي العميق، والغفلة عن بناء شخصيات سويّة رصينة متينة البناء والسلوك، سليمة الفكر والفلسفة الحياتية.
في ظلّ تلك الغفلة مرّرَ العدوّ مخطّطاته، وبرمجَ ما برمج في الأجيال، حتى أنشأ أجيالاً على مراده، عقلها اللاواعي قابلٌ لمخطاطاته وبرامجه ومراداته. فاخترقنا اختراقاً عظيماً، ودمّرنا من الداخل. نحثُّ العقول الواعية في الأجيال، نذكّرُها لكنّها لا تستجيب، فعقولها اللاواعية مشكّلة لتستجيبَ لما تراكمَ عندها وترسّب فيها وما تشكّلت به.
طبعاً المسألة أخذت عقوداً وعشرات السّنين حتّى تمّ لهذا العدوّ ما يريدُ، وهي هذه التنشئة العرجاء لأجيال المسلمين والعرب خصوصا. والآن التدمير ذاتيّ وعن بُعد، والاختراق سهلٌ، بتحريك بعض الخيوط فقط، يحرّك ما يريدُه في الشعوب والأجيال، وينشئ من هذه الأجيال بحسبِ أطيافها، ما يريدُ. تشويهاتٌ في كلّ صنف وطيف. ما من فرقة إلاّ وشكّلَ فيها ثغراتٍ وانحرافات ضخمة، فضلاً عن التعتيم عن المفاهيم السليمة وتدجيل أغلب المفاهيم، فضلاً عن تدجيل العناوين الكبيرة والتعتيم عليها.

إنّ ما نعانيه اليوم من انحرافات، لهو أعظمُ من الجاهلية القديمة، كانت قديماً الجاهلية صنماً واحداً، وإن كان صنماً فاصلاً بين الكفر والإيمان، لكنّه فاصلٌ كذلك بين قبول برنامج الإيمان ورفضه، فاصلٌ واحد في أغلب الأحيان والنماذج عهدَ النبي صلّى الله عليه وسلّم. بيدَ أنّنا اليوم نعاني جاهليةً بها ما لا يعدّ من الأصنام، ليست صنمَ الكفر والإيمان في غالب الأحوال، ولكنّها أصنامٌ كثيرةٌ لا تعدّ، في المفاهيم والسلوكيات والخواطر والأفكار والأخلاق .. أصنام معقدّة مركّبة. فكيف السّبيل إلى تكسير تلك الأصنام ؟
كان في العهد السّابق يكسِرُ النبيّ عليه صلاة الله وسلامه أو الدّاعي صنماً فاصِلاً حاسماً واحداً، ليُلغي مشروع الشيطان، وهو الكفر، فيقبلُ الرّجلُ على برنامج الإيمان يتخلّله في أعماقه ويسري في وجدانه وحياته، ويغدو مؤمنا نقياً طيّباً في غالب الأحيان. ولذلك كان جيلُ الصحابة متفرّداً، فهو جيلٌ على الفطرة، كانت جاهليته غالباً في صنم الكفر والشرك بالله تعالى، وبعض الأصنام القليلة في بعض المعاملات والمفاهيم. ولكنّ الفطرة نقيّة والشخصية سويّة عموماً، خامٌ طريٌّ. مع وجودِ معلّمٍ عظيمٍ، هو منبعُ النّور، ومصدرُ الورد والمدد، فكان برنامج الإيمان ينفذ نفوذا عظيماً، ويعودُ الرجل منهم والشخص منهم إلى برنامج الإيمان الصحيح، وتتشكّلُ شخصيته، ويتصحّحُ ما بعقله اللاواعي الذي لم يكن يحمِلُ الكثير والعديد من الانحرافات والعُقَد السلوكية والفكرية والوهمية. بخلافنا نحن وفي زماننا، فقد تربّتِ الأجيال ونشأت تقتاتُ على إرسالات الشيطان والدجّال عبر تلك القنوات الإعلامية والأثيرية، مرئية وصوتية وكتابية وصحفية، كلّها تحمِلُ الكثير من الثغرات المدروسة، والكثير من الفيروسات المدسوسة التي هي مقصودة لتشكيل العقل اللاواعي في النّاس، بقدرِ توجّه كلّ طيف منهم وكلّ صنفٍ منهم إلى تخصّصه أو ميوله أو فرعه الذي يميلُ إليه، في كلّ ميلٍ وتخصّص وفرع وطيف وصنف هناك واجهات مدسوسة لدسّ التدجيل والانحرافات والثغرات السلوكية والفكرية والشعورية، مع التكثيف العظيم الذي اكتسح أغلب البيوت والأفراد، وبالأبعاد الكاملة مرئية وصوتية وكتابية وفكرية وتعليمية ومجتمعية .. فهناك وصلنا إلى ذروة التدجيل والتعتيم. وصارت جاهليتنا أضعاف أضعاف أضعاف بما لا يُقاسُ بالجاهلية الأولى، في مدى الانحراف الشخصي والسلوكي والفكري والشعوريّ والمعاملاتي .. وإن كان العنوان مختلفا. وإن كان الظاهر هو الإسلام. ولكن أيّ إسلامٍ هذا الذي يقبلُ ما نعيشُه اليوم، وما تعيشُه أجيالنا، إلى درجة بيع الدين بعرض من الدّنيا قليل ؟؟!! .. بل صناعة أجيال الوَهَن، تكره الموت وتحبّ الدّنيا، ومستعدّة للتنازل عن دينها بشيءٍ من الرّهبة أو شيءٍ من الرّغبة. لقد حدّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم داء آخر الزمان في أمّته في الحديث الصحيح عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟! قال: «بَلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ المَهَابَةَ مِنكُمْ، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ». فقال قائل: يا رسول الله! وما الوَهَن؟ قال: «حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ».
حبّ الدنيا وكراهية الموت، هذه هي خلاصة غزو ومخططات إبليس والدجال وأجنادهما على الأمّة المسلمة، عقول لاواعية منحرفة عن الفطرة، مدجّلة .. فضلاً عن العقول الواعية المنحرفة المغالطة.
إنّك تُعلنُ ولاءك لله تعالى، وترغبُ في التوبة .. فتجدُ أمامك نفساً مشوّهةً تشويهاً عظيماً، أصناماً كبرى وعديدة وغير محدودة، يجبُ عليك إزالتُها، وتسويتها، بعضها يبدو لك، وأغلبُها مخفيّ عنك في عقلك اللاواعي، في شخصيتك العميقة التي شكّلتها التراكمات والترسّبات عبر الأيام والسنوات وعبر المجتمع حولك والناس الذين أغلبهم شخصيات غير سويّة، مادية، مجالاتها بعيدة عن مجالات الروح والتزكية والصحة النفسية والعقلية .. مع ركاماتك الشخصية من العواطف والانفعالات والصدمات والانحرافات والانطباعات والسلوكيات والأمزجة المتراكم بعضها فوق بعض، المركّبة تركيباً معقّداً فيك. وفوق ذلك أنتَ لا تملِكُ العلمَ أنّ حقيقتك وشخصيتك معجونة بتلك الانحرافات والتراكمات مع السنوات، بل أغلبُ المتديّنين، يصحو على تديّنٍ ظاهرٍ، ويتماشى مع جوّ عامٍ ساحبٍ يسحبه، إلى بيئة جديدة من الصحبة والتديّن الجماعي أحيانا مسيّساً وأحيانا غير مسيّس، لكنّه تديّن يقومُ على الظاهر والمظاهر، ويحسِبُ العبدُ أنّه صار من المتّقين والطائعين والشخصيات السوية. أغلب التديّن عنوانه ظاهر ومظاهر فقط، ويلغي العمق والتزكية النفسية. فضلاً عن التديّن المشهور بزماننا يُحارِبُ السّلوك وركن السّلوك، وركن الروحانيات، ويقومُ فقط على الظاهر والمظاهر ؟؟!!! .. عجيب. ويغفلُ عن تلك الهوّة السّحيقة والركامات العظيمة والترسّبات العميقة في كيانه ووجدانه وشخصيته، وعقله اللاواعي غير ظاهرة له. متماشياُ فقط مع الجوّ العام الجديد والبيئة التي انتمى إليها مؤخراً، فصار يحسبُ نفسه قد استوى وصحّ وسلم قلبُه. فضلاً عن كونِ التديّن المشهور اليوم لا يزيدُ العبدَ إلاّ انتكاساً، في المعاملات والجفاء الروحيّ والانشغال ربّما بالسياسة على حساب تزكية النّفس، أو بالجانب الظاهري وإقامة الحياة على نمط ظاهر شنيع، يعطّلُ العقل والحرية الشخصية ويحاربُ الحيوية الإنسانية مع جفاءٍ وبُعدٍ عن الرّوح مع معاداة أهل الحقّ وأهل الرّوح، وهو الذي يعني معاداة الحق والرّوح ؟ فماذا يمكننا أن نتوقّع من هذه المعضلة المقفلة، وهذه المتاهة والدوّامة، التي لا تدري أيّ جاهليتها أخفّ ضرراً ؟ أن يبقى المرء في ماديته وحياته غافلاً لاهياً ؟ أم ينوي التوبة والقرب من الله فيتديّنُ فيزيدُ انتكاسه وتزيدُ جاهليته تعقيدا وتركيباً ؟ وفي الأخير .. فهي كما ذكرنا تفخيخات في كلّ جانب تقريباً مقصودة.


يتبع ..



هنا شريط وثائقيّ مختصر رائع (8 دقائق و9 ثواني) ، وجدته على اليوتيوب يشرح باختصار دور العقل اللاواعي فينا ويحدّد كذلك أنّه القرين ..

https://www.youtube.com/watch?v=fIXdTQYd_Wo

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 78

كتب يوم : 13/11/2015




في الكون جمال محيّر، أنا أتحدّثُ عن جمال الإنسان، فهذا ما نشهدُه في السعة والإبداع والألوان والتنوّع، وما زال الإنسان يبدعُ في كلّ مجالِ يتجدّد، ويجدّد في كلّ مجال، وما زالت تتوالد العلوم والفنون والمجالات. فالإنسان محطّة مركزية لشهود إبداع الخالق سبحانه، كلّ ذلك التجدّد والتنوّع والجمال الجاري على أفراد الخلق والنّاس، ليست سوى مسرح جميل قدرته وبديع صنعه وجماله سبحانه المعجز المحيّر.

وبمناسبة الحديث عن الجمال فإنّ هذه الموسيقى الصوت الطبيعي الصّادر من أوتار مصنوعة ومعازف مبدعة كيف حرّمها من حرّمها وهي مسرحٌ من مسارح الجمال الصّوتي العظيم ؟ بل حرّمها أهل الرّسوخ عند اقترانها بالفسوق ومظاهره. وإنّه من يقتل ويفسد في الأرض باسم الكتاب والسنّة فهو أقبحُ عند الله تعالى ممّن يفسق في أوكار الغناء والمعازف. فهل يُحرّمُ اتباع الكتاب والسّنة ؟ بل يُحرّمُ الفهم المنحرف والمذهب المعوجّ.

ومن الحُمْق أن يَنسبَ الإنسانُ لنفسه شيئاً، وهو مخلوقٌ من العدم، فمتى كان لك شيءٌ ؟ إنّما الله خلق سبحانه ما خلقَ من أعمالٍ وإبداعاتٍ وأجراها ونسبها لخلقه، وليست سوى شواهِدٍ على كماله وجماله وقدرته وبديع صنعه، ومن أجلِ ذلك بعث الله الرّسل إلى النّاس أن يشهدوا في النّعم التي لا تُحصى المُنعمَ سبحانه، ويوحّدوه ولا يكفروه، ولا يشركوا به، وكيف يشركون به أو يكفروا به وهم والعدمُ سواء ؟
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " كان الله ولم يكن شيء معه" وفي رواية "ولم يكن شيء غيره"، وفي رواية "ولم يكن شيء قبله". كلّها روايات صحيحة. 

وهذا الحديث الشريف وحده يقيمُ الأدلّة على وحدانيته سبحانه، وعلى عدمية ما سواه، كان وحده سبحانه فخلق المكان، فالمكان مخلوق وموجود، وهذا يعطينا تنزّهه سبحانه عن المكان ولا شكّ، فقد كان سبحانه قبل المكان. وخلق الزّمان، وهذا يعطينا تنزّهه عن الزمان سبحانه ولا شكّ، فقد كان سبحانه وحده فخلق الزمان كما خلق المكان فالزمان مخلوق مثله مثل المكان. وأوجدَ الأشياء والمخلوقات والكائنات، فأين كانت قبل وجودها؟ كانت في العدم. فهي مخلوقة من العدم، ومن كان العدمُ قبله فهو قائمٌ بغيره، وسيظلّ قائماً بغيره، فتلك حقيقته لأنّه موجود من العدم. وهو كذلك أقربُ للوهم، بل هو عينُ الوهم، وكيف لا يكون وهماً إذا كان هذا الموجود وهذا المخلوق قائماً في حيّز مكانيّ وزمانيّ مخلوقين من العدم ؟ فهما حيّزان معدومان وهميان. وبالتالي فكلّ ما فيهما وهميّ.
كلّ موجودٍ من عدم فهو قائمٌ في حيّز اعتباريّ يُسمّى وجود، فالعدم حيّز اعتباريّ، نشأ ليدلّ على عدمية المعدومات وعدم وجودها، وبالتّالي الذي يقابلِهُ إذا صدرَ عنه ولا شكّ هو وجود اعتباريّ، فكلّ ناشئٍ من العدم فوجوده اعتباريّ وهميّ وليس حقيقيّ. فهل وُجِدت هذه الموجودات وزاحمت وجود الله سبحانه ؟ تعالى الله عن ذلك. بل وجوده سبحانه قائمٌ بذاته منزّه عن كلّ شيءٍ، منزّه عن المكان والزّمان والمقاييس التي نشأت عنهما. 


فالأينُ والمتى والكيف كلّها مقاييس وضوابط تعلّقت بالأشياء بعد وجودها من العدم. في حيّز المكان والزمان. والله سبحانه ليس كمثله شيء قال الله تعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". فالأشياء كلّها والموجودات تنزّه عنها سبحانه وعن مماثلتها وعن مقاييسها. وهنا وقفَ العقلُ عاجزاً عن إدراك الله وذاته، فالعقلُ مسرحه الموجودات. لا ذات الخالق البارئ سبحانه. فوقف هذا العقلُ ببديهياته وأبجدياته وأساسياته عند حدود التنزيه، فنزّه الخالق سبحانه وأعلن العجز عمّا هو فوق ذلك.
والوجودُ الأحديّ هو لله سبحانه، وهذا الوجود الأحديّ ما تولّد منه وجودٌ يُزاحمه في طبيعة الوجود، فسبحانه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحدٌ. فأحديّته سبحانه ثابتة بينما أحديات الغيرِ وهمية، وأحدية وجوده ثابتة ومنزّهة عن سائر الموجودات، فلم يلد وجوده وجوداً غيره، ولم يولد سبحانه من وجود غيره. فما موجودٌ قائمٌ بذاته وحقيقيّ سواه. كذا حكمت السورة الصّريحة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ).
وهو صمد سبحانه صمدت إليه الموجودات والمخلوقات والكائنات جميعها، وهو الحيّ القيوم قامت الأشياء بقيوميته، واستمدّت حياتها من حياته. فقد صارتِ الأشياءُ والموجودات ليست سوى أصداءِ تجليّاته وآثارٍ أسمائه وصفاته كالظّلال. وضرب الله لنا الأمثال. وما زالت تتغيّرُ أعراضُها بتغيّر أحوالها وانفعالها بتجلّي الأسماء عليها. والأسماءُ ترجِعُ لمسمّاها سبحانه الواحد الأحد. ومن هنا قال الله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. فما من شيءٍ إلاّ وخلفه وجه الله سبحانه، فهو ظلٌّ وطيفٌ وأثرٌ لتجليّات أسمائه وصفاته سبحانه. فجميعُ هذه المخلوقات والمشهودات وجودُها وهميّ اعتباريّ وحسب. غيرُ قائم بذاته.


وإذا كانت حقائق المخلوقات وهمية فكيف يصحّ أن تنسبَ لنفسها شيئاً من عملٍ أو إبداع أو تفكير أو نعمة أو إيجاد ؟؟؟ بل قيامها وحياتها ووجودها وإبداعها وأعمالها وكلّ شيءٍ متعلّق بها قائمٌ بموجدها وخالقها. قياماً ذاتياً كليّاً، فهي وهمٌ، وهي موجودة اعتبارياً في قفص الخلقية. أوهامٌ تترى بعضها فوق بعض، كذلك خلق الأكوان والوجود والحياة سبحانه، وجعلها مسرح جماله وصفاته وتجليّاته وصنعته. وجعل الإنسان خليفةً في هذه الأكوان والمخلوقات، وجعله آخر مخلوق في عالم الكثافة والإيجاد، وأوّل مخلوقٍ في عالم اللّطافة والسرّ. فالإنسانُ مختصر العالم. وجعله بذلك على صورة الخالق سبحانه، ليعودَ إلى نقطة الانفلاق، ومركز الإشعاع والتدفّق، فيشهد بالله سبحانه تلك البدائع والخلائق والأكوان من صنع الله سبحانه ويوحّده ويفرّده في مسارح التفريد والتوحيد. وجعل الحقائق أزواجاً، كما جعل الخلائق أزواجاً، كذا اقتضتِ حقيقة الانشطار والخلقية، فالخلقية صورة التجليّات، وآثار الأسماء المقدّسة. فالأثرُ يتبعُ المؤثّر، والإسمُ يتبعُ المسمّى، والصفة اقتضتِ محلاّ لجريان أثرها. فما ظهرَ اسمُهُ الخالق لولا مخلوقات، وما ظهر اسمه الرزّاق لولا المرزوقين، وما ظهر اسمه النافع لولا منتفعين، ولا ضاراً ولا محيياً ولا مميتاً، ولا مصوّراً ولا موجداً لولا محلاًّ لهذه الأسماء والصفات يتجلّى فيه أثرها، فظهور أسماء الله وصفاته كان مسرحهُ الخلقُ. فتشكّلتِ النّسب، بحقيقة الزوجية، وظهرَ السّفلُ والعلوّ، والكمال والنّقص، والعدم والوجود، والضعف والقوّة، ..الخ. فكانت الزوجية قائمةً على ثنائية الفعل والانفعال، كما قامتِ الحياة ونشأتِ ابتداءً وانتهاءً على هذه الثنائية فعل وانفعال، مؤثّر وأثر، حقّ وخلق. وكانتِ ثنائية الروح والجسم هي ثنائية العلوّ والسّفل، ثنائية الكمال والنّقص وهي ثنائية الحقيقة والوهم. فالسرّ بدأ بنفخة الرّوح الإلهي، والجسم انتهى باحتواء الموجودات على اختلافها في العالم، فركنَ الجسمُ بكثافته إلى الموجودات الحسيّة وإلى الوجود الوهميّ الفاني وركنتِ الرّوح إلى حقيقتها ونافخها سبحانه. فدارت رحى صراع النّفس الإنسانية بين الرّوح واللّطافة والجسم والكثافة، وما دارتِ هذه الحربُ إلاّ لمّا صادرتِ النّفس باعتبارها نفساً جزئية ناقصة ركونها للجسم ومتطلّباته ورغباته، صادرتِ المدارك والفهوم والمشاعر والأحاسيس لنفسها، وعلّقتها بها وأغفلت أن تًعلّقَ النّعم والمدارك والمشاعر والأحاسيس بخالقها وحقيقتها الأصلية التي منها جاءت، وشهود المنعم سبحانه، فأشركتْ وصادرت مشاعر التعظيم والتمجيد والحبّ والتعلّق والتقرّب والطاعة التي أشرقتْ في القلبِ بسببِ نزول الرّوح فيه، صادرت النّفس ذلك لنفسها وحوّلتِ وجهة تلك المشاعر والأحاسيس القلبية من أصلِها التي كانت متوجّهة إليه وهو المنعم الموجد الخالق سبحانه، حوّلتها لنفسها ولمتعلقاتِها ورغباتها وكفرتِ المنعم سبحانه، وصادرت المدارك والمفاهيم والفكر التي أشرقتْ في العقل لمّا نزل الرّوح فيها، فهي متوجّهة أوّلا وأصلاً للأصل سبحانه والمنعم، فكفرته وأشركت به ووجّهتها لنفسها ومتطلّباتها ومصالحها كذا قال بعض الصالحين يشرحُ مصادرة النّفس الترابية لحقيقة المشاعر والمدارك لنفسها بدل أن ترجعها للأصل. ومن هنا نشأ الصّراع الإنساني، ونشأ الخير والشرّ في الإنسان، والحقّ والباطل في حياته، فكانتِ النّفسُ بركونها للدّنيا ورغباتها ومتطلّباتها هو ركونٌ للجانب المظلم البعيد عن نقطة النّور ونقطة الشهود ونقطة التوحيد لله سبحانه، وإرجاع الأشياء والحقائق لأصلها، وكانت النّفس بركونها للرّوح وأنوارها وعرفانها وأسرارها هو ركونٌ لله سبحانه الخالق المنعم وشهوده وحده لا شريك له أنّه الموجد والموجود والقائم بذاته وما سواه قائم به. 

ولذلك قال سيدنا جبريل عليه السلام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)). في شرح الإحسان أن يعبد العبدُ الله على طريقة الفناء محاولاً شهود الله سبحانه في كلّ شيءٍ من غير أن يغيب عنه (كأنّك تراه)، فإذا فنى عن نفسه (فإن لم تكن) رآهُ سبحانه في الأشياء رؤية عين وحقّ يقين، ورأى بعين اليقين أنّ الأشياء قائمة به سبحانه، فهو بذلك رجع لأصله رجع للرّوح العارفة بالله الشاهدة له، فالفناء عن النّفس يعني الفناء عن ذلك الوجود الجزئيّ الترابيّ والماديّ المتعلّق بالمادة والتراب ومتطلّبات الجسد وشهواته ورغباته، فهو لم يكن ولم يعد وفنى عن نفسه، فإن لم تكن : تراه، فستراه. لأنّك حينها ترى الله بالله سبحانه، كما رأى سيّد الخلق سيّدنا محمد ربّه عند عروجه لسدرة المنتهى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. وعلى قدمه صلى الله عليه وسلم يسيرُ الورثة والمتحقّقون. قال الله تعالى ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) آل عمران-31 . وطريقُ الحبيّة من الله تنتهي بذلك الفناء والبقاء به سبحانه جاء في الحديث القدسيّ الصحيح ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه)).