الثلاثاء، 20 مايو 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 63



 حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 63

فقال سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحديث المشهور مجيباً على سؤال سيدنا جبريل عليه السلام : ((...فأخبرني عَنْ الساعة؟ قَالَ: "ما المسئول عَنْها بأعلم مِنْ السائل" قَالَ: فأخبرني عَنْ أماراتها؟ قَالَ: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان!" ثم انطلق فلبثت مليا ثم قَالَ: "يا عمر أتدري مِنْ السائل؟" قلت : اللَّه ورسوله أعلم. قَالَ: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم")) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

قال المحقّق الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه الإنسان الكامل : ((اعلم أنّ للسّاعة الصغرى علامات وأشراطا مناسبة لعلامات الساعة الكبرى وأشراطها، فكما أنّ من أمارات الساعة الكبرى أن تلد الأمة ربّتها، وأن ترى الحفاة العراة رعاء الشاة يتطاولون في البنيان، فكذلك الإنسان من علامات قيام ساعته الخاصة به ظهور ربوبيته سبحانه وتعالى في ذاته، فذات الإنسان هي الأمة، والولادة هي ظهور الأمر الخفيّ من باطنه إلى ظاهره، لأنّ الولَدَ محلّه البطن، والولادة بروز إلى ظاهر الحسّ، فكذلك الحقّ سبحانه وتعالى موجود في الإنسان بغير حلول، وهذا الوجود باطن، فإذا ظهر بأحكامه وتحقق العبد بحقيقة (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها) ظهر الحقّ تعالى في وجود هذا الإنسان، فتمكّن من التصرّف في عالم الأكوان، فذاته بمثابة الأَمَة، وظهورها بمثابة الولادة. ثمّ تجرّد العارف عن الأسماء بمثابة التحفّي عن النّعل، لأنّ الأسماء مراكِبُ العارفين، وتجرّده عن الصّفات بمثابة حال العراة، وكونه دائم الملاحظة للأنوار الأزلية بمثابة رعاء الشاء، وكون المجذوب يأخذ في الترقّي من المعارف الإلهية هو بمثابة التطاول في البنيان، فكما أنّ ظاهر هذا الحديث من أمارات الساعة الكبرى العامة في الوجود، كذلك باطنه الذي تكلّمنا عليه هو من علامات الساعة الصغرى الخاصة بكلّ فرد من أفراد الإنسان)) انتهى.

فتأمّل يرحمك الله هذا الكلام لتعلمَ أنّ ظهور الوجه الرّبوبي والمحتد الذاتي للأمّة والإنسانية والدّنيا بكليّتها هو مهديّها فهو علَمُ السّاعة، وتأمّل تارةً أخرى كيفَ أنّ التحفّي عن النّعل وتعرّي رعاء الشاءِ حالُ الحفاةِ العراةِ الذين يتطاولون في البينان هو حالُ المجذوب الأكبر المهدي عليه السلام الذي يكونُ في جذبه وتركيبه العنصريّ وقبل كماله وخروجه عن التركيب العنصريّ والاستواء الرّحمانيّ أي وهو متجرِّدٌ عن حلية الأسماء وحلية الصّفاتِ التي يلبسُهما العارفون بالله تعالى للنّهل من المعارف الإلهية ودائرة العلم والاتّصاف بالكمالات الإلهية، يصحُّ له وهو حافٍ عارٍ من ظاهر الأسماء والصّفات أن ينهلَ من المعارِف الإلهية، ويصحُّ له أن يكونَ راعياً للشاة: ملاحظاً للأنوارِ الأزلية بطبيعةِ رتبته الذاتية وولايته الأصالية فيه التي يكونُ فيها بين الشهود واللاّشهود، فهو علامة السّاعة الكبرى، لأنّه صاحبُ السّاعة ومظهرُ الذات الأقدس. فذِكْرُ الإمام الجيلي للمجذوب العارف يقصدُ به مجذوب آخر الزمان الختم صاحب الساعة المجذوب المهدي عليه السلام. فهو الظاهرُ بالمعارف الإلهية الكبرى وهو مجذوبٌ متحفٍّ عن الأسماء والصّفات بمظهرها المقدّس، لأنَّهُ ذاتيُّ المحتد، والأسماء والصّفات باطنةٌ فيه فهو أصلُها، فالمشاهدة أصيلةٌ فيه. فهو وَلِيٌّ بالأصالة وآدمُ منجدِلٌ بين الماء والطّين، والأسرارُ لا تغيبُ عنه.

وكذلك قال الشيخ الجيلي قدس الله سره في كتاب (الكهف والرقيم في شرح بسم الله الرحمن الرحيم) كلاماً يحملُ هذا المعنى ويعضِدُ هذه الإشارات، مشيراً لحقيقة هذا المجذوب الفتى العربي الأعجميّ الذي يشمّ المسك وهو في فأرته، فيستوعب حقائق ذاته كما قال. قال رضي الله عنه :
((واعلم : أنّ قولنا الحق والخلق، والرب والعبد انمّا هو ترتيب حكمي نسبي لذات واحدة كل ذلك لا يستوفي معناها ، ووقوفك مع شيء من تعدد ذلك زور وتضييع وقت في عين الحقيقة إلّا اذا كنت ممن يشمّ المسك و هو في فأرته ، فإنّ كل ذلك حينئذ ترتيب لذاتك تستحقه بالأصالة ، فحينئذ أكلت الزفر بيد غيرك ووزنت نفسك بعيار مرتبتك وما يستحقه قانونك ، فما وجدته من تلك فهو عين الحقيقة ، وما وجدته من الله على سبيل الاتصال والاتحاد فهو عين الضلال والالحاد ، ولا يذوق هذا الكلام إلا عربي أعجمي لغته غير لغة الخلق ومحله غير محلهم ، فهو يستوفي ماله كما لم يزل و يرمي بسهم مراتبه في قوس مقتضياته على هدف ذاته بيد قائم أحديته ، فلا يخطئ له مرمى ولا ينكس له سهما ، فلا سهامه تزول ، ولا عين الرامي تحول ، تعالى الله ان تنصرم ألوهيته أو تنقسم أحديته)) انتهى.

فهذا كلامٌ عن الذات الجامعة في شقّيها الخلقي والحقّي، فهي الحقّ والخلقُ، فكان استيعاب هذا الفتى العربيّ الأعجمي -المجذوب الذي لغته غير لغة الخلق ولا محلّه محلُّهم- حقائقَ ذاتِه ومراتبَ الوجود بسرّه ومشاهدته الذاتية المنطوية فيه حتّى قبل بلوغِهِ مرتبة العيان التي يبلُغُها الأولياءُ والأنبياء عليهم السلام، فهو صاحبُ الأحدية وحقيقة مرتبة الألوهية، فهو الوليّ كما أشرنا. هو مُطلَقُ الوليّ الذي استحقّ كلمة الوليّ بإطلاقها وخاتميّتها وحقيقتِها وذاتيتِها.
وفلكُ الولاية هو سرّ مرتبة الألوهية، سِرُّ الإمام المبين، سرّ الرّوح الأعظم، فمهما ظهرَ بهذه الولاية الخلفاءُ، فهي بالأصالة للوليّ الخاتم. ولكنْ ذلك لا يعني تجرّدهم من حقائقِ الولاية وامتيازاتِها الكاملة، كلاّ، بلِ الحقيقة العالية أنّ الله أكرَمُ الكرماء وأجوَدُ أهلِ الجودِ مطلقاً، فما ثمّ إلاّ هو وحده لا شريك له، ومن أجلِ ذلك فكلُّ مُتَحقّق بهذه الختمية والولاية الكبرى، هو وليٌّ متصرِّفٌ كاملٌ حرّ في مقام الحريّة والعبودية المحضة والتصريف المطلق بإذن الله تعالى. فلا إله إلاّ الله سبحانه، وكلّ تلك المظاهر وأولئك الخلفاء هم قوالبَ لهذه الحقيقة ظهرتْ فيهم بالخلافة الأرضية، وحقيقتهم هي الحقيقة الواحدية الأحدية المنزّهة عن الشرك والتعدّد. فهُم بها أحرارٌ سعداء في عوالم الحريّة والإطلاق. وإنّما كانت الأرضُ مظهرَ ظهورِ هذه المراتب وهذه الحقائق وهذه القوالب وهذه الخلافة الإنسانية المتجلية في خلفائها وأفرادها الذين تناوبوا عليها وظهروا بحقائقها وأسرارها، كلّ بما أولاهُ اللهُ من حقيقة ومرتبةٍ، ووظيفة خلِقَ لها. فكان الشفيع المطلق والبابُ الأكبر والظاهر بالكمالات هو النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، وكان صاحب مرتبة الإطلاق ومرتبة الختمية العليا، وصاحب الخلافة الأوّل الذّاتيّ التي تناوبَ عليها الخلفاءُ والأنبياءُ هو الختم الظاهرُ في آخر الزّمان، وكانتِ الحجَّةُ ظاهرةً بالختم المجذوب الذي يظهرُ بأسرارِ الختمية وحقائق الولاية وهو في جذبه، كحُجَّةٍ للجميع. وما يعلَمُها إلاّ العلماء العارفون الأمناء الأولياء قدّس الله سرّهم. يشهدون حجّية هذا الوليّ وختميّته. ولهُ في الآخرة الحُكمُ، إذ هو صاحبُ الملك والتّصريف والخلق وصاحب الذات، وصاحبُ الهيولى الذي منهُ تتخلَّقُ الأشياءُ. وإليه يرجعُ كلُّ شيءٍ.

وأشار الشيخ الجيلي إلى السرّ المكنون في كلّ عارفٍ وعبدٍ، فعند قيامِ ساعته يظهرُ سرُّهُ المكنون فيه، وهي الولادة من كلمة تلِد التي تكونُ من البطن كما قال، وهو البطون إلى الظهور والتحقّق، عند فناء العبد والسّالك فناءً كاملاً في ربّه. فتلِدُ نفسُه وهي الأمة الدّنيا ربّتها وهي بطونُه الخافي فيه وهو ربُّهُ بذهاب الفاني وبقاء الباقي سبحانه. إنّما جسّدَ الحقائقَ علانيةً وختاماً المجذوبُ لأنَّهُ الوليّ الختمُ الذي تظهرُ به الساعة الكبرى والقيامة. فهو أصلُ الأعيان والكائنات، فلذلك ينعكِسُ به عليهم حقائق السّاعة الكبرى، وإشارةً إلى تلك الحقيقة الكونية اللاّمعة الكبرى المخفية التي أشار إليها الإمام الغالب باب مدينة العلم سيدنا علي بن أبي طالب عليه السلام، لمّا قال :

دواؤك فيك وما تشعرُ ... وداؤك منك وما تُبصِرُ
وتحسب أنّك جرم صغير ... وفيك انطوى العالم الأكبرُ
وأنت الكتاب المبين الذي ... بأحرفه يظهَرُ المُضمَرُ

أي إشارةً إلى حقيقة الإنسان، الذي أودعَ الله فيه أسرار الخلق جميعاً، فخلقه على الصورة، قابلاً للتجليّاتِ جميعها، أدرك ذلك أم لم يُدرك. وعند رجوعه لربّه وفنائه فيه وبقائه به كما هو حال الأولياء، يتحقّق إذن بتلك الصورة الجامعة ليُصبح الإنسان الكبير.

وكذلك أشارَ إلى هذا المجذوب المتطاول في البنيان حال الرّعاة الحفاة العراة كمظهرٍ من مظاهر السّاعة قولُ الشيخ الأكبر في كتابه الفصوص يصِفُ هذا الخاتم المجذوب وهو في تركيبه العنصريّ قبل الانسلاخ منه إلى حلية الكمال، وحلية الأسماء والصّفات الإلهية الكمالية التي يتزيَّ بها العارفون وينهلون بها المعارف والعلم اللدنّي، فقال قدّس سرّه في فص في كلمة شيثية :
(وهذا العلم كان علم شيث عليه السلام وروحه هو الممدّ لكل من يتكلّم فيه مثل هذا من الأرواح ما عدا الخاتم فإنّه لا يأتيه المادة إلاّ من الله لا من روح من الأرواح، بل من روحه تكون المادة لجميع الأرواح وإن كان لا يعقل ذلك من نفسه في زمان تركيب جسده العنصري. فهو من حيث حقيقته ورتبته عالم بذلك كله بعينه، من حيث ما هو جاهل به من جهة تركيبه العنصري. فهو العالم الجاهل، فيقبل الاتّصاف بالاضداد كما قبِلَ الأصلُ بذلك، كالجليل والجميل، وكالظاهر والباطن والأول والآخر وهو عينه ليس غير. فيعلم ولا يعلم، ويدري ولا يدري، ويشهد ولا يشهد.) انتهى.

فالاقتباسين من الشيخين شارحان من بعض الوجوه لحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن علامات الساعة، بظهور مجذوبها الذاتيّ الذي يصِحُّ لهُ العلمُ بالمعارف الإلهية الذاتية قبل كماله التقديسيّ. لأنّه مخضرَمٌ وبرزَخٌ ذاتيّ عن الحقّ والخلْق. يظهرُ وهو في حال النَّشأة الطينية الأولى والتركيب العنصريّ بتلك المعارف التي اقتبسَها من رعيِهِِ حيث يرعى أهل الولاية والتقديس، وملاحظته للأنوار الأزلية التي لا تفارقُه، فهو أصلها وحقيقتها. لأنّه كما قلنا الذاتيّ.

وهكذا فسلوكُ المجذوبُ هو ثنائيةٌ متكاملةٌ فوق إدراكاتِ البشر، وفوق إدراكاتِ العقل الترابيّ، ولهذا تظهرُ تلك الأمارات للسّاعة جميعها، فهو مصدرُها وحقيقتُها. وطلوع الشمس من مغربِها لأنّه الشمس المغربية الذاتية، التي كانت بها تجري شموسُ سائر الخلفاء من أفراد بني آدم قبل ظهوره، وكذلك تطلعُ شمسُ مغربِ كلّ عبدٍ أدركَ لحظات ساعته وفنائه، فالساعة هي ظهورُ المحتد الذاتيّ، وانكشافِ البصيرة للعبد ليعرف نفسه، وانغلاق بابُ التوبةِ يكونُ لأنّ ظهور الوجه الذاتيّ والمحتد الربّوبيّ للعبدِ تنغلِقُ به دائرةُ التوبةِ، لأنّ العبدَ تحقّقَ بحقائقِ الرّبِّ، فالرَّبُ لا يغفِرُ لنفسِه. وكذلك عند غرغرة كلّ عبدٍ تطلعُ عليه شمسه المغربية. فقال الله تعالى {لَقَدْ كُنْت فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْك غِطَاءَك فَبَصَرُك الْيَوْم حَدِيدٌ(22)}. سورة ق. وكذا عند فناء الوليّ في ربّه فيطلعُ عليه محتده الذاتيّ الرّبوبيّ ليصبح مؤيّداً بروح القدس.

فتلازمت الساعة الكبرى مع طلوعِ الشمس المغربية، لأنّها الشمس الذاتية المكنونة في الخلائق، كما قال الشيخ الأكبر في كتابه عنقاء مغرب "لم تزلْ الشمسُ جاريةً من المشرق إلى المغرب بغيرِها، ومن المغرب إلى المشرق بنفسِها". لذلك كان طلوع شمس المغرب هو غلق لباب التوبة، لأنّها الشمس الذاتية، فلا يغفرُ الرَبّ لنفسه، وفي ذلك إشارةٌ لحقيقة خليفة آخر الزمان المهديّ الوليّ الذاتيّ والخليفة المطلق، صاحب المرتبة بالأصالة.
ولأنّ ظهور المحتد الذاتيّ، يتجلّى على الأعيان والذوات بحقائقها الأصلية، فيُغلَقُ بابُ التوبة إيذاناً، أنّ من تاب قبل ذلك فهو من أهل التوبة وحقيقته أعطت ذلك، ومن لمِ يتبْ فتلك حقيقتُهُ، مثل ساعة الموت تماماً، فهي طلوع للشمس المغربية، وحكمٌ فاصلٌ صارمٌ عادلٌ على حقيقة من مات. فيموتُ على ما عاشَ عليه، ولو باطناً. ولا يعني ما عاش عليه ظاهراً. فكثيرون من يعيشونَ على حال وقبل الموت يتغيَّرُ حالهم إمّا بالتوبة والرّجوع إلى الله سبحانه إن كانوا في الضلالة قبل ذلك، أو يالضلال والتمرّد إن كانوا في الظاهر من أهل الطاعات. فجميع الحقائق الكبرى، تشرحُها أحداثُ آخر الزمان والساعة الكبرى، المتعلّقة بالوليّ الخاتم.

وكذلك هنا إشارةٌ لحقيقةٍ، وهي أنّ الإنسانَ طرفان، وضدّان يتنازعانه، حقيقته الوجودية الأصلية العائدة به إلى ربّه وهي الخيرُ المحض والوجود الصّرف القائم بالله تعالى سبحانه مصدرُ الخيرِ المطلق والسعادة والنّعم والحياة. فالحياة الحقيقة لله تعالى سبحانه، وبه تسري الحياةُ. والحقيقة الثانية وهي العدم والذاهبة إلى الحياة العرَضية المزيّفة الخالية من روح القدس، مصدرُ الشرّ والمساوئ الإنسانية فيه. فالإنسانُ حينَ ينزِعُ إلى نفسِه وأناه المعدومة بالأصل، الموجودة بالعرَض، لأنّ وجودها قائم في الحقيقة والأصل بالله تعالى، حين ينزِعُ إلى اثباتها وتضخيمِها ودعمِ كبريائها الفارغ، ووجودَها المعدوم الخاوي، لا يأتي منها، أي من نفسه سوى المساوئ والشرّ، والأنانيات وما يُضادّ الخير والرّحمة والحياة الحقيقة، والوجود الأصليّ الإلهيّ المقدّس، أي يُضاد روح القدس. ولذلك تفهَمُ هنا معنى ظهور الدجّال في عالم الحقائق، فهو صورة هذه الأنا الفارغة والنّفس الخاوية من روح القدس، التي تنحى وتتجّه في حياتها الدّنيا نحوَ الشرّ والأنا والهوى والمفاسد، وتعمى مُطلَقاً عن جانب التقديس والرّحمة والخير والفضائل. فكانَ هنا حقيقتين متقابلتين : روح القدس والدجّال. فلا يقتلُ الدجّال حينها سوى مضاده ومقلوبه ومعكوسه ومقابلُه في الحقائق وهو روح الله المؤيّد بروح القدس ورمز روح القدس سيّدنا المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام. أمّا المهدي فهو متعالٍ عن الأضداد، مصدرُها، هو الجامع للحقائق، هو المعنى الأحديّ الذي منه تفجّرت الحقائق وتجلّت.
والإشارة هنا، هي في كونِ أنّ الإنسان لا نهاية ولا حدّ لشرّه إلاّ إذا تجلّى الله عليه بمحاسنه وفضائله وكمالاته. قال لي أحد مشايخي قدّس الله سرّه وسرّهم : "الإنسان لا نهاية لشرّه ومساوئه إلاّ إذا تجلّى عليه الله بمحاسنه وفضائله". وهذا يشرحُ في الحقيقة معنى طلوع الشمس المغربية الذاتية على غفلة. ونزول المسيح عليه السلام في ليلة على غفلة وغيبٍ، وكذا معنى إصلاح المهدي عليه السلام في ليلة. فالنَّاسُ في حالة ما، وحدّ فاصلٍ تبلغُ تلك الذّروة التي لا يكونُ فيها للعودة والرّجوع إلى الله تعالى أمل ولا بقيّة، فيفترقُ النّاس فسطاطان فسطاط إيمان ثابت على إيمانه، وفسطاط كفر وفسق ثابت على فسقه وكفره. فالتدجيل في الأرض بلغ منتهاه أو حدَّهُ من جهة حقائق كلّ عبدٍ في الأرض، فتطلعُ الشمس المغربية على النّاس، لتُعلنَ عن حقيقة كلّ عبدٍ، وفي ذاتِ الوقت هي ليلة إصلاح المهدي عليه السلام (والله أعلى وأعلم).لأنّها به تطلعُ الشمس الذاتية، فتطلعُ عليه لتطلع على النّاس. وكذلك الدجَّالُ إذا خرج في الأرض ليفسد. فلا يقتلُه ولا يوقِفُهُ سوى نزول روح الله المسيح عليه السلام. فتجلّت الحقيقة الإنسانية بين ضدّيها وطرفيها المتناقضين. وإن شئتَ هنا تفهَمُ قولَ الله تعالى {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)} سورة الفجر. فالحياة الحقيقة هي ما كان قائماً بالله تعالى، وأقصدُ ما كان مؤيّداً بروح القدس، ناحياً نحو الخير المحض والوجود الصّرف، أي وجود الله تعالى سبحانه. فهناك الحياة الحقيقية حيث تتجلّى الرحمة الرحيمية المطلقة، رحمة النّعيم والجمال، الخالية من الأكدار والعقوبات والجلال .. فيقول الإنسان يومئذ يا ليتني قدّمت لحياتي. لأنّها الحياة الحقيقية التي جرت فيها شمسه المغربية الذاتية. فيتجلّى نعيم الجنّة بهذا الاعتبار. ويُصبحُ العبدُ أنّى اشتهى شيئاً وأراده وجده، وليس يشتهي سوى النّعم والجمال والرّحمات والفضائل، لأنّ حياته قائمةً بالله تعالى على الاعتبارين : الباطن والظاهر. بخلاف الحياة الدّنيا، فالحياة فيها قائمة على المعنى الظاهر فقط. لأنّ النّفس تنزِعُ فيها إلى الطّبع والتّراب والعنصر وأناها الذي يميلُ بها ضدّ حقيقتها الأصلية التي ترجِعُها إلى ربّها.