الاثنين، 7 مارس 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 84





فقلنا من هنا حصّل الدجّال تلك القدرة الخارقة والدعوى الكبرى، التي لا يمكنُ معرفتُها إلاّ بعلمٍ من الله تعالى ومعرفة هذه الأسرار عن الخليفة، والنّاسُ لا يشهدون في الدجّال سوى رجلٍ قويّ خارقٍ شرّيرٍ مفسدٍ في الأرض يُهدّدهم ويدّعي عليهم دعاوى، ويسحرهم بسحره وعلمه الدّقيق الماديّ وسيطرته، وكشفه الظلامي، وقوّته الغير عادية، وتدجيله في المفاهيم تدجيلاً خبيثاً كبيراً، يُدلّس به الحقائق والمفاهيم والأخلاق، فيبهرهم ولذلك كان أعظم فتنةٍ في الوجود البشريّ. ويحصلُ للدجّال تلك الهيمنة والتمكّن في الأرض، والصولة والتحكّم أثناء فترة وجود هذا المجذوب، وفي فترة قطبيته خصوصا، وأكثر من ذلك في مرحلة عودة المجذوب من حال السكر والجذب إلى الصّحو، فهناك تقعُ الصولة الكبرى الأعظم، ويزدادُ وقعُ الظلم وفساد الدجّال وإبليس وأتباعهما. لأنّ السّالك بعد أن يحصلُ له الجذب، ففي جذبه، يكونُ ممتنعاً بجذبه عن صولة الشيطان عليه، وإن كان ليس بسالك فهو في جذب وسكر، ولكن بعد تمام الجذب، تبدأ رحلة السالك الى الصّحو. وهنا يعترض الشيطان طريق السّالك في ثلاث مفاصل ومحطّات أساسية. محطّة الذات ثمّ محطّة الصفات ثمّ محطّة الأفعال. فهي ثلاثة منازلات كبرى بين السّالك والشيطان، يترصّدُ له فيها الطريق أيّما ترصّد، فإن لم يرجم الشيطان فيها، قطع الشيطان عنه الطريق. ولذلك فالحجّ باطناً هو الكمال، أي الحجّ ظاهراً هو ركن من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلا بشرائعه وأركانه المعروفة ويكونُ في البقاع المقدّسة كما  هو معروف. وهو في الباطن والسلوك ركن الكمال وركن تمام الإحسان وتحقيق الحجّ لله تعالى والقصد التامّ في الباطن والصّلة الكاملة، والتخلّص من العلائق النفسية والبشرية. فهو في الباطن ركن الكمال وأهل الكمال وأهل الحضرة من السالكين، وذلك لأنّ سلوك الكمال يقضي بوجود شروط لا تتوفّرُ لجميع السّالكين، وانظرْ في قوله صلّى الله عليه وسلّم "لمن استطاع إليه سبيلا". فهو للمستطيع، ظاهراً أي الحجّ العام، بالقدرة الظاهرة مادية وصحيّة ونحو ذلك، وباطناً : أي المتحقّق فيه شروط القدرة على طيّ الحضرات والمفاوز الكبرى ليكمل، من عقل قويّ، وسرٍّ منطوٍ فيه أزليّ، كما أنّهُ باهضُ التكاليف والبلاء، شديدٌ، تئنُّ تحت وقعه النّفوس أيّما أنينٍ وتجهَدُ أيّما جَهْدٍ، فمن رحمة الله تعالى لم يكلّف به جميعَ القاصدين، لأنّ من مفاوزه أثناءه أن يطلبَ العبدُ الإقالة بكلّ ذرّة وشعرة فيه ممّا يُلاقي من جهد البلاء ووقع الشدّات والجلال، ولكنّه لا يُقالُ، إذ سبقتْ عليه جذبة الحيّ القيّوم ذي الجبروت والجلال، ومن أنتُخِبَ أُعينَ، ومنْ كُلِّفَ أُيِّدَ.
وكان من محطّات الحجّ كما هو معروف، رمي الجمرات، رجم الشيطان، ثلاث مرّات، وهي نفسها المحطّات التي ذكرناها : ذات وصفات وأفعال، أو العكس أقصد الترتيب، أفعال وصفات وذات، بحسب نوع سلوك السّالك، فالتدنّي هو النّزول من أعلى إلى أسفل فيبدأ المجذوب، من الذات لأنّه كان في حضرة الذات مجذوباً، ثمّ ينزلُ إلى الصفات، ثمّ إلى الأفعال. والترقّي هو العكس وهو الصّعود إلى أعلى وهي عموماً للسّالك الصّاحي يبدأ بالأفعال ثمّ الصفات ثمّ الذات. والله أعلم.

ففي هذه الفترة البينية بين صحوٍ من جذبٍ وانتقالٍ لسلوكٍ، يتلقّى الشيطان السّالك، وكذلك يترصّدُ إبليس والدجال المجذوب في هذا المفترق الفارق، فتحصلُ منازلاتٌ بينهم وبينه في المحطّات الثلاثة، يستعملُ فيها هؤلاء كلّ مداخل النّفس وكلّ مكائدٍ ممكنة، وهذه المرّة المكائد والمداخل ليست غيبية وحسب، بل كونُ السالك هو المهدي القطب، فيتجلّى كيدُ قرينه ظاهراً وحسيّاً وواقعاً، ويغلِقُ جميع قنوات السّلوك، وجميع أبواب اللّوذ بباب الله دون المجذوب، ويتجلّى ذلك فيما أشرنا إليه سابقاً جورٌ وظلم وعدوان تمتلئ به الأرض، وتخضعُ به أعناق العباد لهذا البلاء الجاثم والفساد، قهراً وغصباً، ويوُشكُ أن يعمّ الفساد والمهلكة جميع البلاد والعباد، حتّى تنتهي منازلات المجذوب السالك القطب مع قرينه، أي مع إبليس والدجال وكيدهما المحيط به من كلّ جانب.

ولذلك حدّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فترة بقاء الدّجال وظهوره بأربعين يوم، كما هو الحديث الصحيح لما سأل الصحابة عن مدة لبث ومكث الدجال فقال صلّى الله عليه وسلّم (أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم.) رواه مسلم.
وهي كما أشار بعض العارفين بالله أنّها منازلات المهديّ في مقام الذات والصفات والأفعال، فيوم كسنة وهو من جنس يوم الربّ، لقوله تعالى {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)} الحج. فهذا اليوم في مقام الذات. ويوم كشهر وهو من جنس يوم الصفات، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} سورة القدر.  
 ويوم كأسبوع أو كجمعة وهو يوم يقابل السموات السبع، وهي والله أعلم معبّرة عن مقامات العقل في عالم الملك، فهي رتب عقلية -والله أعلى وأعلم- فتقابل كلّ سماءٍ يوم من أياّم الأسبوع، وباقي الأيام كسائر الأيام. ولستُ أدري يقيناً وجه التخصيص بأربعين يومٍ، ولكن لعلّه نسبة لعمر الإمام المهدي قبل كماله، أو نحو ذلك، لكون الأربعين معبّرة عن الاعتدال، وفيها بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك كان ميقاتُ سيدنا موسى عليه السلام أربعين يوماً، وهو نفس هذه الأربعين، وقصّة سيّدنا موسى عليه السلام موضّحة لهذه الحقائق تمام التوضيح، إذ لمّا غاب سيّدنا موسى لميقات ربّه أربعين يوماً، أضلّ السّامريّ قومه وجعل لهم عجلاً وقال لهم هذا ربّكم، ولم يقدِر سيّدنا هاورن عليه السلام أن يمنعه أو يمنع قومه من عبادة العجل ومن الفتنة السامرية، وكذلك يحصلُ للمهدي هذا الأمر، فيجذب لحضرة الله، ويغيبُ موساه، لمّا قال الله تعالى لسيّدنا موسى {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَىَ * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ * قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ} سورة طه. أي عجِلَ المهديّ إلى الله تعالى فانجذب إلى حضرته طمعاً في رضاه وقربه، وتلك علامة جذبه، أي دخوله حضرة الله سبحانه، قبل تحقّق نفسه. فقلنا غاب موساه، ويبقى هارون عقله الذي يتدرّجُ ويتحقّقُ بالاستشرافات العقلية والعلمية الأساسية في محطّات الشهود، ولكن دون تحقّق نفسه بذلك، في غياب موساه، وحضرته القدسية، فيخرجُ سامريّ نفسه وهو قرينه، ويفتنُ قومه ورعيّته، يُفسِدُ في الأرض فساداً، ولا يقدرُ هاورن عقله واستشرافات علمه أن تمنع قرينه وسامريّه من الفتنة، ولا أن يمنع الرّعية من الافتتان بتلك الفتنة العظمى. فكلّ الحقائق مترابطة ومذكورة في القرآن الكريم.

أمّا كيف غرّ إبليس الدجّال عليهما خزي الله وخذلانه، فذلك من بداية قصّة البشرية، وهبوط سيّدنا آدم عليه السلام من الجنّة، لمّا أغواه وحوّاه عليهما السلام بشجرة خلد وملك لا يبلى، فتأمّل، ما وقعتِ الفتنة للنّفس البشريّة، إلاّ من هذا الجانب الخطير، وهو ملك وخلد لا يبلى، والسّامريّ أعطاهُ الله ذلك التحقّق الماديّ والبشريّ الخارق لمّا مثّل بشرية الخلافة وعنصريتها، فوقع في فتنة خلد وملك لا يبلى، وعدهما به إبليس، وافق ذلك ما فتنه الله به من قوى وآياتٍ مختلفة عن الغير، فالسّامريّ طالب ملك وخلد لا يبلى، في لعبة وخدعة إبليسية، بدأت بها قصّة الإنسان وصراعه مع الشيطان. فكان صاحب هذا الانخداع الأكبر، والطمع الأعظم، هو السّامريّ، فيتحالف مع إبليس وهو لا يدري أنّه يخدعه، بنفس ما خدع به أباه آدم عليه السلام، إنّما سيّدنا آدم عصى ليس استكباراً أو عناداً من وراء الله سبحانه، بل هفوة وزلّة أن يحصل له ذلك الفضل الذي وعده به إبليس، إن أكل من تلك الشجرة. وهي إرادة الله تعالى أن تبدأ خلافة آدم وبنيه في الأرض، وهم مخلوقون للأرض، فالأرض هي منزلُ الخلافة والتجليّات بأضدادها. ولكنّ السّامريّ، يعقِدُ نيته وطمعه في تحقيق ما ميّزه الله من قوى خارقة، أن ينال خلد وملكا لا يبلى، ولهذا فطموحه دعوى الرّبوبية في الأرض. إبليس بحلفه مع الدجّال، يُحصّلُ من مراده أضعاف أضعاف ما لا يحصل له من غير هذا الدجال. لكون الدجّال يمثّل الكثافة والظهور الحسّي، وكذا ما يملكه من خوارق. هذا في عالم الأسباب. وقد سبق أن وضّحنا أنّ الدجال كان انعكاس البشرية والعنصرية للخليفة، لذلك ظهر بتلك القوى الخارقة، ليجري الله عليه فتنة قرين القطب المجذوب، وتظهرَ قطبية هذا العبد الأصيلة دون غيره.

وكذا فإنّ آية الخليفة والخاتم، وعلامة تطهيره الكبرى، في قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33).} سورة الأحزاب.
علامته وآيته أنّه ينسلخُ من هذه الكثافة والعنصرية، فيتطهّرُ مطلقاً من العنصر والتراب، فيكونُ المطهّر الأكبر، الطاهر عن الأكوان، فيخرجُ عبداً محضاً في أعلى رتب التحقّق الإلهي، يمثّلُ الشطر الحقّي المنفلق عن شطره الخلْقيّ، فيكونُ هو ذاتُه الرّوح المطهّر، الإمام الأعلى، ولهذا كان ظهورُه علامةً على الساعة لأنّ ظهوره يوجبُ هذا الانفلاق والانسلاخ، ويوجبُ نهاية الشرّ الأرضي والعنصريّ في خلافة الإنسان، فتتمايز الصّفوف، فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط كفر صريح. ويظهرُ في زمنه الدجّال رمز الكثافة والعنصرية الأرضية والارتكاس لكلّ ما هو دونٍ وأرضيّ متحالفاً مع الشيطان.

ومن هنا فليلة إصلاح المهديّ هي ليلة انسلاخه من عنصره وكثافته الأرضية، وتحقّقه بالإمامة والشطر الحقّي. وهي ليلة تمايز الصّفوف، وبداية الملاحم الكبرى، التي يسقطُ فيها جميع طواغيت الأرض تباعاً، ويُبادُ فيها الظالمون أفواجاً، وآخرهم الدجال. والله أعلى وأعلم.

فانظُر في عظم هذه الحقائق، فإنّها لم تكن صدفةً، بل كانت متوافقةً مع حقائق هذا الخاتم الخليفة، ولذلك كما ذكرنا فظهوره كان ممثلا للساعة والنهاية. إذ يزولُ معه الشرّ كلّه، وتظهرُ فترة العقوبات الكبرى، ثمّ تليها الخلافة الراشدة العادلة ثمّ ملحمة نهاية الدجّال ونزول سيدنا المسيح روح الله عليه السلام.