الأحد، 30 أغسطس 2020

في معنى الخليفة ، باختصار

 12 أبريل 2020

أوّل ما انفلق الوجود انفلق على المحتد الكمالي الأعلى، فكان مظهره سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلم، ثمّ منه خلق الله الخلّق والأكوان وكلّ شيءٍ، ومن منصّته برزَ العلمُ والأقدار، وقُسِمَتْ العطايا الإلهية. فلأجل هذا المحتد الكمالي الأعلى خلق الله الوجود، لأنّه عينُ النّسبة الدّالة عليه، وعين النّسبة الموصلة إليه سبحانه، فما يُتوصّلُ إلى الله إلاّ بهذا المحتد الكمالي، ولا يُعرَفُ الله سبحانه إلاّ من خلال هذا المحتد الكمالي. 

  أمّا الخليفة فهو شأنٌ آخر، أعلى وأخفى وأعمق. الخليفة هو صاحب النقطة المصمتة التي كانت مصمتةً مطلقةً في عمائها وكنزيّتها، بعلمها وبحور أمدادها وإطلاقها، وعظيم ما توارى من صفاتها وتجليّاتها الغير المنتهية. فما برزتِ النّقطة إلاّ بمظهرٍ ينوبُ عنها ويخلُفها في وجودها، فكان ذاك المظهر هو الخليفة، ليس سوى ذاتها العليّة قد تدّثرتْ وتنزّلت في ذلك المظهر. ومن هنا كُتِمَ شأنُ الخليفة، لأنّ مرتبته تعلّقت بعين الإطلاق، وبعين الذات العليّة، والذات العليّة منزّهة عن التحديد والتقييد، متعالية عن التعيين، فظهورُ حقيقته معلنةً يُبطِلُ حقائق كثيرة، وعقائد مركّبة، يُخشى على العقول والنّاس أن يلتبِسَ عليها حقيقة هذا الخليفة، وما جاءت من أجله الشرائع والرّسل لتأسيسه، فكُتِمَ مرّة واحدةً، وشأنُه العليّ، وإمامته العليا. فكان كما قال الشيخ الأكبر "زال عن رتبته بختمه". وإنّما أدرك العارفون الأمناء والمحقّقون أنّ لهذا الكون والعالم والوجود ملكاً، وسيّداً أعلى وأنّه عينُ الخاتم والخليفة. وقضى ظهورُه البشريّ، أن يُعطي الحقائق العليا، كصورة سرّ الذات المتلبّسة بالأضداد، وأن يُعطي المنازل التي ظهرَ بها في عمائه، فهو عينُ المادة الأصلية التي ظهرتْ بها المخلوقات والعوالم. فما يُعطي في بشريّته سوى الكثرة النّازلة عن المحتد الكماليّ الأعلى. ويظهرَ في طريق تحقّقه بكمالات التجليّات، أو أطرافها العليا، فيظهرَ معه وفي زمنه وعرشه أقطاب هذه الأطراف، طرف الظلمة والوهم، وطرف روح القدس ونبيّه عليه السلام. ويكونُ ظهوره معبّرا عن نهاية رحلة الدّنيا، من كونه نهاية رحلة الأسماء المتجليّة من الذات، فرحلتها كانت لتُعطي أخيراً مُحصّلتها، وليس محصّلتها سوى الإسم الأعظم، والذات، فيظهر بذاك السرّ وبتلك المحصّلة. 

الأحد، 16 أغسطس 2020

في قوله صلّى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "


في قوله صلّى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "

20 فبراير 2020

إنّ كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأدعيته، كلّها مُحكمَةٌ غاية الإحكام، بالغةٌ غاية المرام في العرفان، معرّفةٌ بالله سبحانه والحقائق والأحكام. ولربّما ظنّناها مجرّد سلسلة أدعيةٍ جامعة للخيرِ، كما نجمعُ الخير في أدعيتنا بتناوب العبارات وطلب الزيادات والفضائل والخيرات، وهي كذلك، ولكنّها ولا ريب أكثر من ذلك. وللنّصوص المقدّسة البطون، والمعاني التي لا تنفد، بحسَبِ التلقّي والعلمِ منها، وأحاديثه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه، مقدّسة "إن هو إلاّ وحي يوحى". فهو المشرّع والمفصّل لأحكام الله سبحانه، ولذلك جاء في كثيرٍ من الأحاديث وبألفاظ متقاربة ثناءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي ينقُلُ كلامَه بلفظه وتمامه، لا بمعناه، أدّاهُ كما سمعه، ..الخ. لأنّ ألفاظ النبوّة وترتيبها مهمّ غاية الأهمية في توصيل المعاني المرادة إلى أهلها، وأهلُها ليسوا حصراً على زمنٍ واحد أو مكانٍ واحد أو مناسبة واحدة، بل المعاني فوّارةٌ مستنزلة بحسَبِ التلقّي كما ذكرنا، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم " رحم الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فربّ مبلَغ أوعى من سامع". مُبلَّغ بفتح اللام، وفي رواية "نضَّرَ اللَّهُ عبدًا سمِعَ مَقالَتي، فحفِظَها ووَعاها وأدَّاها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ مِنهُ.". فلا يزالُ الفقه والعلمُ في زيادةٍ غير نافد، والكلامُ هنا يطولُ.

والخلاصة فكلامه صلى الله عليه وسلّم، علمٌ مُحكمُ غاية الإحكام، وأعلى مرامات العلم والعرفان التي يرومُها العلماء والعارفون.

فقال صلّى الله عليه وسلّم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك". في ثنايا دعائه بين يدي ربّه وهو ساجِدٌ، وهي عبارة ثنائية وعرفانية، تحقيقية، تُعبّرُ عن معرفته صلّى الله عليه وسلّم بربّه، في عجزِ الثّناء عن تأدية الثناء، وكذلك فيما يُعبِّرُ عنه العارفون والمحقّقون عن الوصول، حيثُ الحيرةُ الكبرى، لأنّ العبدَ وإن بلغ مهامه التحقيق، فهو حينذاك لم يبلُغ سوى نقطة الزيادة والحيرة والتلقّي الذي لا ينتهي، ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)). وكما قال صلّى الله عليه وسلّم (زدني فيك تحيّرا). وهؤلاء الحشوية لا علم لهم ولا عقلا تجاوز درجات العقل الأولى، فضلاً أن يبلغَ درجات العقول الكاملة والعظيمة، فلا يزالون يفتئتون على العلم، بمخالفة هذه الطائفة كلّما أوردتْ عن المعرفة ما لا يُدركوه، ولن يدركوه بما هم فيه، وعلى رأسهم شيخهم الذي شيّخوه على الإسلام ابن تيمية، في الافتئات على العلم العالي، ودعوى الردّ، وإبطال النّصوص، وقد قال فيه العلاّمة السبكي رضي الله عنه "علمه أكبر من عقله".
وقال الجنيد رضي الله عنه "انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة". وانتهى المحقّقون إلى الحيرة في معرفة الله سبحانه، من وجه كونه غيباً، وكنه ذاته غيبٌ مطلق عنهم، "الذين يؤمنون بالغيب". ومن وجه العلم به الذي لا يتناهى وتجليّاته التي لا تتناهى، فلا أدرك المحقّقونَ ذات الله وذاته أجلُّ من أن تُدرك، ولا أدركوا صفاته من وجه عدم التناهي المطلق للتجليّات.

وهنا مثالٌ بسيطٌ جدّاً ولكنّه يؤتي المعنى لمن دقّق .. فقط لنعتبر متغيّرًا : س ، تزدادُ قيمته وينطلِقُ إلى المالانهاية +∞ ، فانظُر كيف لاينتهي به المطافُ أبداً إلى حدّ معقول أو مُدرك، فلا نهاية لنهاياته، وهو كلّما زاد وسارَ زادتْ حيرتُه وذهوله في تلقّي ما هو أكبرُ ممّا كان عليه، فلا يزالُ في اتّساعٍ وتلقٍّ وحيرة بغيرِ نهاية. ولك أن تُسقط هذا المثال على تجليّاته سبحانه العظيمة اللامتناهية. وهنا قال الصدّيق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه "العجز عن درك الإدراك إدراك". إنّه يشبُه التعبير عن الحيرة، بالقول بالعجز، لعدم نهاية التلقّي والتجلّي، وقد قال المحقّقون أمثال الشيخ الأكبر رضي الله عنه أنّ مقام التحقيق أعلى من هذا العجز بدرجة، بالقولِ بالحيرة وعدم العجز معاً، لعدم تناهي علم الله المطلق سبحانه، فهو مشهدُ الحقّ سبحانه، فلا يقولُ بالعجز تعالى عن ذلك، ولا يقولُ بالتناهي لعدم تناهي علمه في نفسه البتّة.

والعبارة أعلاه التي صدرت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الغارقة في بحار المعرفة والتعظيم لله سبحانه " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".  المنزّهة لله سبحانه من مشهدِ دون مشهده العلويّ الذاتيّ في الطّرف الأوّل من العبارة في عدمِ إحصاء الثّناء عليه.  ثمّ قوله أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك، ففيها ما يُشيرُ إلى ذوق النبي صلى الله عليه وسلّم وتحقّقه بالتحقّق الذاتيّ والمشهد الحقيّ، وجمع التحقّقين والحقيقتين  في غايةٍ من الأدبِ والعلم والتعريف لنا بالله سبحانه. فنزّه الله تعالى عن الإدراك والإحاطة من نفسه ( نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم) ومن غيره سبحانه، بقوله " لا أحصي ثناءً عليك " .. فهذا تنزيهٌ من الجانب الخلقيّ والقول بالعجز، فعرفنا  كيفَ اجتمعت العبارةُ النبويّة الشريفة في شقٍّ من شقّيها بعبارة الصدّيق عليه السّلام، بالقولِ بالعجز عن الإدراك، وبذاتِ الوقتِ بتنزيه الله سبحانه عن العجز في إدراك الثناء على نفسه بذاته سبحانه عزّ وجلّ " أنت كما أثنيت على نفسك " . هذا ولنعلَم علم وعرفان المحقّقين من أمثال الشيخ الأكبر والجيلي بالله سبحانه وبحديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم، حيث أشاروا إلى المقامين، ومقام التحقيق بعدم القول بالعجز، كما هو حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والمعرفة والحقائق موجودة في أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّها متوارية بالجهل عنها، فغالب المسلمين والعلماء يفهمون منها ما بلغته أفهامهم ودرجاتهم في العلم، فلا يقرؤون من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلّم الحقائق العالية، التي تُقراُ وتُعرفُ بالمعرفة بالله وبالشهود.

قلنا جاءت العبارة أعلاه في ثنايا دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : " اللَّهُمَّ أعُوذُ برِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبِمُعَافَاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ. ".
فاستعاذ النبيّ في مقام الصفات أوّلاً بالرّضا عن السّخط والغضب، ثمّ تنزّلَ إلى مقامِ الأفعال بالاستعاذة بالعفو من العقوبة، لأنّ العفو قد يقعُ قبلَ الرّضا، قد يعفو الله سبحانه، ولو لم يرضى، فإذا تعذّر الرّضا، فعلى الأقلّ أن يقعَ العفوُ وتُمحى وتُرفعَ العقوبة بالعفو. ولهذا خصّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة القدرِ بسؤال العفو، اختصاراً لأمّته والعباد فيما يُحقّق لهم دفع العقوبة وجلبِ الخير كلّه، فالعفو أسرعُ وأنسَبُ، "اللّهمّ إنّك عفوّ كريمٌ تحبُّ العفو فاعفُ عنّي". فإذا عفا الله جاءت بعده الملحقات ..
قال الله تعالى {... أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133]. فتدرّج الله سبحانه في درجات الإحسان، وجعل كظم الغيط قبل العفو والعفو قبل الإحسان. ولعدم الإطالة لا نريدُ إيراد تلك القصّة للجارية النبيهة التي لمّا علمت من مالكها حسن خلقه وتقواه ومعدنه الطيّب، صبّت عليه صحن الحساء ( ولعلّه كان ساخناً )، فغضب فقالت والكاظمين الغيظ فكظم غيظه وهدأ غضبُه، ثمّ قالت والعافين عن النّاس، فقال عفونا عنكِ، ثمّ قالت والله يحبُّ المحسنين فقال أعتقناك لله فاذهبي فأنت حرّة. فقلنا : أسبق النبيّ الرّضا لأنّه مانعٌ للسّخط الموجب للعقوبة، ثمّ أتبعه بالعفو المانع للعقوبة. ثمّ ختم النبي الاستعاذة بذات الله منه، أعوذ بك منك. وذلك أنّ معرفته صلّى الله عليه وسلّم بالله تدرّجت به إلى الاستعاذة الذاتية فإنّ معرفة الله تُوجِبُ الخشية منه، قال صلّى الله عليه وسلّم " أنا أعرَفُكم بالله وأشدُّكم له خشية ". فساقَ بعد ذلك وصفَ الله سبحانه بما لا يتناهى من علمه وتجليّاته، ولا يُدركُ من ذاته سبحانه، بعد الاستعاذة الذاتيّة، للمناسبة .. فهذا دعاءٌ عظيمٌ جمَعَ من العلم بالله ما جمَعَ، وفيه من الخيرِ ما فيه، كذلك في الاستعاذة في جميع المقامات ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً. تماماً كما هو التوحيد متدرّجٌ أفعالٌ وصفات وذات. ولكلّ مقامٍ ما يبعَثُ من التحقّقاتِ فيه تشهدُ عليه تلك التحقّقات، كما قال بعض العارفين من وحّد الله في الأفعال توكّل، لعلمه أنّ الأفعال كلّها من الله سبحانه، ومن وحّد الله في الصّفات رضيَ وسلّم، لمعرفته بصفاتِ الله سبحانه، ومن وحّد الله بالذات، فهذا قد غابَ في الذات فهو محقّقٌ من المحقّقين. والله أعلى وأعلم.

السبت، 15 أغسطس 2020

الحيرة واللاتناهي لعظمة الله سبحانه وتجليّاته وعطاياه


الحيرة واللاتناهي لعظمة الله سبحانه وتجليّاته وعطاياه ! كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".
هناك على المجموعات العددية والأعداد قفْ لتأخذ شيئاً من عظمة هذه اللانهايات. فبين العدد 1 و 0 ، يوجد مالانهاية ∞ من الأعداد. فليست المجموعات وحدها غير منتهية، فبين كل عدد وعدد يوجد ما لا نهاية من الأعداد.
وبين مثلاً : 0.123585 و 0.123586 يوجد ما لانهاية ∞ من الأعداد.
.
وبين العدد 001 --- ن --0.00 و العدد 002 --- ن --0.00 ( العدد ن --> ∞)
.
مهما كان العدد صغيرا إلى مالانهاية ، فيينه وبين الذي يليه يوجد مجال لانهائي من الأعداد. والعكس كذلك، مهما كان العدد كبيراً فيوجد بينه وبين الذي يليه مالانهاية من الأعداد.
ولعلّ هنا شيءٌ من العظمة المخفية عن العوالم، فنحنُ لا ندري، في مساحة ما صغيرة في الهواء قربنا هناك، يوجد عالم كامل مثلنا، بسماواته وأرضه ومجراته، وأقداره، وناس تسعى فيه. هناك حيث مساحة مهملة بالنّسبة لك، قد يكون عوالما وعوالما مثلنا.
.

سأل سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم :
- ماذا لو أنّ السموات والأرض لم تأتيا طائعين ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - لسلّط الله عليهما دابة من خلقه تبتلعهما ؟
فقال سيدنا بن عباس : - وأين توجد هذه الدّابة ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - في مرجٍ من مروج الله.
قال ابن عباس : - وأين يوجد هذا المرج ؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : - في عالم من عوالم الله. - أو كما قال -
قال ابن عباس : فاستحييت أن أسأله فوق ذلك.
.
أخبرنا بهذا الحديث أحد مشايخنا - رضي الله عنهم- ومثله مروي في كتب الحديث عن سيدنا موسى عليه السلام يسألُ الله سبحانه.
.
فهذا الحوار ترجمة لما ذكرناه عدديا وحسابيًا، فعالَمُنا الذي نعظّمه اتساعاً وكبراً، قد تبتلعه دابة ترعى في بعض المروج والحقول، تبتلعه قرب عشبةٍ هناك.

فكلّ شيءٍ يعكسُ حقائقاً ومعلوماتٍ. ولنعلَم أنّنا لسنا سوى عالمٍ بسيط صغير من عوالم غير منتهية عند الله سبحانه. وكما قال بعض العارفين بالله : في كلّ لحظة عند الله قيامة تقومُ وحسابٌ يُنصب.

الخميس، 13 أغسطس 2020

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 91


المهدي خليفة الله الظاهر بكلّ الرتب الوجودية
السبت 13 إبريل 2019

المهدي سالك على كلّ المنازل والمراتب، متحقّق بها، لكونه الخليفة الذي ظهر بها، وتلك هي حجّة الله فيه على الخلائق والملائكة، أنّه متحقّق بمراتبهم، لكونه شفّاف السرّ، فيتلوّن بجميع الأواني، يتنزّلُ في سلوكه إلى مرتبة الوهم والعدَم، دركة دركة، ليقيمَ الله به الحجّة أنّه عينُ الذي ظهرَ بالوهم وعينُ الذي أجلى معنى العدم، فبه الله خلق ما خلَق، ويقيمَ به الحجّة أنّه الوليّ الذي تولّى كلّ مرتبة، فلا تزالُ ولايته ظاهرةً في كلِّ منزلة ينزلها، فهو الوليّ بالأصالة، وسمّاهُ النبي صلى الله عليه وسلّم، المهدي، أي مهدي من الله بصفةٍ مطلقة، مجذوبٌ أمرُهُ كلّه لله تعالى، فلولا ذاك لما كان لتسمية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم معناها وخصوصيتها، فما خصّه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إلاّ باسم المهديّ، كأنّه المهدي المطلق، وإن ظهرَ في ظاهر الأمرِ بغير ظاهر الهداية، التي هي التحقّق بالشريعة المحمديّة، ولكنّه مهدي بلغة الحقيقةِ بتمامِ الهداية الإلهية، وعنه حاجج الله ملائكته لمّا قالوا مستشنعين مستغربين ((وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)) (البقرة-30). فلا يزالُ الذين على أقدام هؤلاء الملائكة الأرضيين متمسّكون باستنكارهم لجهلهم بأمر الله تعالى ومنتهى حكمته، ولا يزالون يُحاججون، حتى مع سبق الخطاب الإلهيّ الذي فنّد استنكارهم ومحاججتهم، ولكنّها الحقائق والقوابلُ حاكمة، فلا استغراب. قال سبحانه وتعالى لهم : إنّي أعلمُ ما لا تعلمون. وهل قلتُ لكم إلاّ أنّني جاعل خليفة في الأرض ؟ أرض تجليّاتي الحقيّة والخلْقية ؟ فكيف يكونُ خليفةً ولا يسعُ منّي جميع التجليّات ؟ فذلك لا يكونُ. قال سبحانه (( وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) )). فامرُ الخلافة متعلّق بالأسماء، ولا يكونُ خليفةً إلاّ بوسعه وخلافتي في جميع أسمائي وتجليّاتي. فالخليفة في التحقيق هو صاحب الكتاب المكنون، الذي تجلّى الله فيه بكلّ شيءٍ في آزاله، هو العماء حيث كان الله سبحانه قبل أن يخلق الخلْق، كما ورد في الحديث النبوي الشريف. عن أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: ((أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه)) رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، وصححه الترمذي في موضع، وحسنه في موضع، وحسنه الذهبي.

فهو حديث صحيح، واعتمده العارفون، وموافق للحقائق كذلك، فهذا العماء هو الكتاب المنزل على المهدي. فالقرآن مادته القراءة من هذا الكتاب، والكتاب مادته الكتابة، فهو الملكُ الأعظم المسمّى الرّوح والمسمّى أمرُ الله، والمسمّى كذلك الحقّ المخلوق به ، أي الكاتب لأقدار وأقضية الله تعالى في آزالها. والمهدي يسّميه أئمة أهل البيت عليهم السلام وكذلك المحقّقون من العارفين بالله عليهم السلام القائم بأمر الله. والمقصود ممّا أوردناهُ، أنّ الخليفة هو الذي يظهرُ بالأنموذج الفريد عند الله سبحانه، فتقومُ به الحجّة على ختم الولاية، أنّه الوليّ بالأصالة التي تولّى الله به كلّ شيئٍ خلْقاً وظهوراً وتصريفاً. فمنازلُه محدّدة معلومة عند الله تعالى قائمة بالله تعالى، يُعطي كلّ مرتبة خلقية حقّها، كما يُعطي كلّ مرتبة حقيّة حقّها. لسرّه الساذج المحض القائم فيه. وهي حجّة الله فيه على الخلائق والملائكة أجمعين، وهي كذلك إظهار لوظيفته التي خصّه الله بها وهي الخلافة الكاملة والكليّة.

وإليه الإشارة في قوله تعالى ((الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا)) (الكهف-1). فسورة الكهف إشارتها بالتخصيص إلى المهدي فهي سورة الولاية وسورة الحقيقة، وهو هنا نعته بالعبد الذي خصّ بنزول الكتاب عليه، ونعته بعدم العوج، فلم يجعل له عوجاً ولا الكتاب ذو عوجٍ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيراً أن يكون في كتابه العوجُ، أو عبده الذي خصّه بهذا الكتاب، وسبق الآية الحمدُ، فكأنّه العبدُ الحامد لله تعالى حقّ الحمد، لمّا تجلّى بكتابه، فأعطى كلّ شيءٍ حقّه وكلّ منزلة ومرتبة حقّها. والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل. والحمد لله ربّ العالمين.