الأحد، 29 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 81






ذكرتُ في مقال لي سابق أنّه "لولا المرزوقين ما كان سبحانه رزاقا ولا المخلوقين ما كان خالقا ..الخ." والعبارة بهذا التركيب تبدو خطأ، تعالى الله عن ذلك سبحانه، إنّما أردتُ ظهورَ أسمائه وصفاته، فما ظهرت لنا إلاّ بالآثار والتجليّات. وإلاّ فالله سبحانه لم يزل رازقا خالقا نافعا ضارا مغيثا محييا .. فقد كان الله ولا شيء غيره وهو الآن على ما عليه كان. ولهذا فما خلْقُه ومخلوقاتُه سوى مسرح آثار أسمائه وصفاته، أي ما عند الله زمانٌ، فهو فوق الزّمان سبحانه وفوق المكان، والخلْق وجودهم اعتباري مجازيّ، لأنّهم مسرح تجليات أسمائه الحسنى. فالعالم ظلّ لأسماء الله وصفاته، والظلّ لا يقومُ بنفسه، ويزولُ الظلّ إذا ارتفعت الكثرة الأسمائية وظهرت الأحدية. وكلّها حضراتٌ تتدرّجُ. ولا موجود سواه وحده لا شريك له سبحانه. وعقيدة السادات إثبات الصفات والأسماء قبل وجود الخلق. فلا نُخالفهم لأنّ التراتبية توجبُ ذلك. ودفعاً أن تختلطُ عقائدُ النّاس بعقولهم الترابية وقياسهم العقليّ النّظريّ. وإلاّ فما ثمّة قبلٌ عند الله سبحانه، والقبلُ اعتباريّ، والزّمانُ مخلوق منه سبحانه. والأحدية ثابتة لله تعالى، وأحديته لم ولن تتغيّر، وما زاد فوقها وعليها شيءٌ، فبقيَ أنّ الخلْقَ والعالَم حضرةٌ من حضراته سبحانه، تُجلي آثار أسمائه وصفاته. والأسماء مشهدُها الحضرات، فكلّ إسمٍ لهُ واجهةٌ في العالمَ وأثرٌ، والأسماء تجلّتْ من إسم الله الجامع لها، بواسطة اسمه الرّحمن الذي رحمها فأعطتْ آثارها وظلالها وتجليّاتها. فلمّا تجلّت هذه الأسماءُ اللاّمتناهية له سبحانه وإن جمعتها أسماء جامعة معدودة، فهي أمّهاتٌ للأسماء الغير متناهية، فلمّا تجلّت الأسماءُ أعطتْ صورة هذا العالم بهذا القدرِ المُحكم وهذا الجبروت الأعظم وهذا الكمال الأمثل. معبّرةً عن عظمته سبحانه وعظمة أسمائه وصفاته المقدّسة. فأعلمتنا - عن عظمته سبحانه وعن أسمائه وصفاته - هذه المخلوقات وهذا العالمُ الذي لا يزالُ الإنسانُ يكتشفُ ارتباطاته وجمالياته وتناسقه المذهل المحكم العظيم جدا، وعوالم فوق الحصر، وأشياء مركبّة فوق بعضها بعضٍ بإحكامٍ مذهل لا يتناهى، ولا ينفصِمُ، وليس فيها خللٌ أو خطأ، بل كلّ شيءٍ مرتبطُ ببعضه وبالعالم، ارتباطاً عظيماً، في حياة عظيمة مذهلة متناسقة مركّبة، قامت على الأسباب والإحكام والحكمة الثابتة. مستمرّةً في ارتباطها وحكمتها وحياتها، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} سورة الملك (3-4). تأمّل وتأمّل في خلق الله سبحانه حيثما ولّيتَ وجهك وتأمُلَكَ، فلا تزالُ مع مزيدِ التأمّل والنّظرِ إلاّ مكتشِفاً لمزيد الأسباب والحِكَمِ والارتباطات والتركيب العجيب المذهل، والتناسق الباهر المعجز. إنّ هذه العوالم والمخلوقات مسرحُ تجليّاتِه سبحانه، تجليّاتِ أسمائه الحسنى الغير المتناهية التي برزتْ من برزخ الرّحمة، من اسمه الرّحمن. فقد خلق الله تعالى الخلق والعالَم بعبارة بسم الله الرحمن الرحيم. ولذلك كانت عبارةً جامعة لما في كتاب الله تعالى جميعا. اسمُ الله الأعظم الدّال على ذاته وعلى جميع الحضرات. واسمُ الرحمن الدّالُ على الأسماء والصفات، الذي به رحِمَ الله أسماءهُ فظهرت آثارَها في الأكوان، ثمّ اسمه الرّحيم الذي هو الرّحمة الأقدسية التي تُرجِعُ كلّ شيءٍ إليه سبحانه في منتهى رحلة الخلْق إلى ربّهم "وأنّ إلى ربّك المنتهى". فقامَ عالم الإمكان بين الأزل والأبد، والأزلُ والأبدُ عند الله يلتقيان، فما ثمّة عند الله زمان فافهم، وبينهما أي بين الأزل والأبد وُجِدَ عالَمُ الإمكان، وحضرة العوالم والمخلوقات. لذلك كان تعبيرنا الذي ذكرناه على تلك الشاكلة موهماً، ولكنّه مع ذلك فهو موهِمٌ في نظرِ أهلِ العلم، وبمنطق التراتبية التي قامَ عليها العالَم، وإلاّ فأحدية الله سبحانه، ووجوده الثابت لا يُبقي معه شيئاً متوهّماً. كما قال الجنيد رضي الله عنه للذي قال الحمد لله وسكت عن قول ربّ العالمين يريدُ القائلُ إثبات الحمد لله قبل وجود خلقه، فقال له الجنيد : قلها يا أخي فإنّ الحادث إذا قرن بالقديم تلاشي الحادث وبقيَ القديم.

وقال الله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة. فما خلف تلك الظّلال إلاّ وجه الله سبحانه، وماخلف هذه الأكوان وهذه العوالم وهذه المخلوقات إلاّ وجهه سبحانه، والوجه هو الذات. إنّ الله واسعٌ عليمٌ، إنّ الله واسِعٌ لم يزلِ متجليّاً وخالقاً متعالياً عن الحدّ والحصرِ في صورةٍ أو حيّز، بل وسِعَ كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، عليمٌ سبحانه، لأنَّ الأكوان والخلْقَ مظهرٌ لاسمه العليم، فاسمُ العليم اسمٌ محيطٌ جامعٌ، علمه سبحانه فوق الحصر والإحاطة، غير متناهٍ. فجمعت هذه الآية حقيقة العقيدة في الله تعالى، ولكن لا يشهدُ ذلك إلاّ أهلُ الذوقِ والشهود، ونزّهته سبحانه عن كلّ صورةٍ ومظهرٍ وتشبيهٍ، كما أنّها ما فصلت تلك الصور المتجليّة في العالم في المشارق والمغارب عنه، بل أرجعتْ قيامها ووجودها له سبحانه، فثمّ وجه الله، أي قامت به سبحانه. وهكذا قامتِ الدّنيا ملايين السنين، بل مليارات السّنين تُجلي عن آثار أسمائه وصفاته، ورحلتها في التجلّي والظهور حتّى خُلِقَ آدمُ عليه السلام مختصرُ العالم، وآخر مخلوقٍ جامعٍ لجميع ما في العالم، ومبدأٌ لرحلة الإنسان في الخلافة مع ظهورِ آثار الأسماء في الأرض، وعند كلّ اسمٍ جامعٍ يكونُ مفترقٌ ومحطّة هامّة، وعلى ذلك ظهرتِ الرسالاتُ السماوية والبعثات النبويّة، فهي مجسّدةٌ لظهورِ تلك الأسماء الجامعة بعد مسيرةٍ ونُضجٍ في الأرض، حتّى ظهرت الرسالات السماوية الكبرى. كان سيّدنا موسى عليه السلام مظهراً لاسم الربّ، أي كان خليفةً لهذا الإسم الجامع الكبير وهو من الأسماء المتقدّمة، ثمّ كان سيّدنا عيسى بن مريم عليهما السلام مظهراً لاسم الرّحيم وهو اسمٌ يقدّسُ الأشياء تقديساً أقدسياً، ولذلك كان رمزاً ومؤيّداً بروح القدس، وكانت ولادته معجزةً بذلك الشكل الذي ولد به، وكان نبياً ورسولا منذ ولادته، معبّراً عن التجريد القدسيّ عن تبعاتِ ومقتضيات البشر والطين، ولهذا فقد رُفِعَ إلى السّماء لينزل في آخر الزمان، ثمّ كانت الرسالة الخاتمة وبعثة مظهر الرحمة الكبرى، برزخ الرحمة وخليفة اسم الرحمن سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، اسمُ الرحمن الذي منه انبثق الوجودُ في بداياته أصلاً، وتجلّتِ الأسماءُ. فقال صلّى الله عليه وسلّم : ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري. فالزّمانُ استدارَ كهيئته الأولى، وتوافقَتِ التجليّاتُ مع الآثار بظهورِ اسم الرحمن في الأرضِ بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم، وتجسيد الخلافة الكبرى به صلّى الله عليه وسلّم وفتح باب الولاية الكبرى فكان هو محمد وهو أحمد صلى الله عليه وسلّم، وحاز على المقام المحمود ولواء الحمد، لأنّ جميع من يأتي من الأولياء والخلفاء من أمّته هم تابعون له وورثة له، هكذا سنّة الله سبحانه في الحياة، فلا يكون التابعُ فوق المتبوع، فافهم. والنبوّة والرّسالة لها القمّة، ثمّ يأتي الباقي تبعية. فكان اسمُ الرحمن دالٌّ على الله تعالى، وطريقٌ إليه، له وجه ذاتيّ إلى الذات أي الإسم الأعظم، واسم أحمد، وله وجه صفاتيّ جامع كما ذكرنا وهو الرحمانية وهي اسم محمد. ومنها بدأت رحلة الخلافة المحمدية والأحمدية في أمّته صلى الله عليه وسلّم، وكانوا على قدمه قمريين، فالقمرُ مقامه مكتومٌ مخفيّ، وقد عكسَ نور الشمس واستوعبه كلّه، حتّى تطلع شمس المغرب الذاتية في آخر الزّمان ويظهرَ صاحبُ الإسم الأعظم بالأصالة والخاتم لخزانة الجود الإلهيّ والخاتم للوجود الإنسانيّ، وهو علامة الساعة ومظهرها كذلك، الإمام المهدي عليه السلام. وبه ينزلُ النبيّ المؤيّد بروح القدس الذي كما ذكرنا جسّد اسم الرّحيم، ليختم اسمُ الرّحيم الوجود، وتتقدّس الأرضُ ويتجلّى فيها الإسمُ الأعظم أخيراً. فافهم، فما هذا العالم والمخلوقات والإنسان والخلافة سوى مظاهر تجليّاته سبحانه، وتجليّات أسمائه كما ذكرنا.


الأحد، 22 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 80


كتب يوم : 16/02/2015


جمالُ الخليفة ..
بسم الله الرحمن الرحيم 
 
 قال الله تعالى : {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} سورة التين 1-4
   
 الإنسان هنا هو سيدنا آدم، خلقه الله على أحسن تقويمٍ. مخلوق على صورة وتقويم الخليفة (الإنسان).
 
 وخلقة الخليفة هي أحسن وأجمل خلقة إنسانية. فهو الذي لا نظير له في المظهر الخلقي والجوهر الحقيّ. طبعاً وأجملُ مخلوق هو سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
 
 وأجملُ إنسانٍ هو الخليفة عليه السلام.
 
 إنّهُ لا تعارضَ بين شهاداتِ القومِ في اعتبارِ سيّد الجمال والكمال هو سيدنا رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. فهو أفضل الخلق وسيّد الكمالات وهو الإنسانُ الكاملُ.  
 إلاّ أنّ الخليفة هو حالةٌ خاصّة منفردة جدّاً. لا قياسَ عليه .. لأنّ كمالَ الإنسان جاء أصلاً ليشهدَ جمال وكمال وجلال الخليفة الذي تجلّى بالأعيان وآثارها في الخلق. وهو السيّد الصّمد، وهو سيّد الجمال والجلال والكمال.
 
 وجمالُه الخلقي وحسنُ تقويمه فاقَ كلّ جمالٍ وكلّ حسنٍ .. وهو طاووسُ أهل الجنّة كما قال صلّى الله عليه وسلّم ((المهدي طاووس أهل الجنّة)). إنّما كان طاووسها ليُحاكي متعة العينِ من النّظر الى الطاووس الذي هو من أجمل الحيوانات والطيور وأبهاها. ويُحاكي كذلك كونُ الطاووسِ متعدّد الألوانِ مزركشٌ متناسقٌ له من كلّ لونٍ نصيبٌ. وكذلك الخليفة له من كلّ جمالٍ نصيبٌ لأنّ الجمال منه برز الى غيره. فلمّا قال الله تعالى "إنّي جاعل في الأرض خليفة". فهو الخليفة الإنسان الذي تعيّن في جميع الإنسان بين أنبياءٍ وأولياءٍ وجميع البشر. فهو الخليفة صاحبُ الرّتبة الشريفة. عزَّ أن يفهَمَ هذه الحقيقة الواضحة الكثيرون، لعزّة معناها وبقائها عند السادة الأمناء مأمونة مكتومة. فالخليفة لا تعني سوى أنّه النبيّ والوليّ والصديق والفاروق وجميع الرّتب إلى منتهاها. فهو الظاهرُ بها. 
 
 فلا قياسَ بينه وبين غيره، فهو الذي لا نظيرَ لهُ .. ارتفعَ عن الخلقية في حقيقته. لأنّه حملَ سرّ المستخلفَ وظهرَ به في الوجود. 
 
 فما ثمّة في الوجود سوى الوليّ والخليفة صاحبُ هذا السرّ والشهود بالذات، وسيّد الخلق والوجود رسول الله صلى الله عليه وسلّم الذي رأى بهذا السرّ والشهود جمال الذات وشهود آثارها. فما من وليّ أو نبيّ بعدهُ سوى محمولٍ على سيّد الخلق والوجود وبه يرى ما يرى، فمن بابه نرِدُ على الله تعالى وبه يكملُ جميع من يكملونَ إلى يوم القيامة فهو الشفيعُ المشفّعُ والحبيبُ المحبّبُ. صلى الله عليه وسلّم وبارك وكرّم وعلى آله وصحبه في كل لمحة ونفَسٍ بقدر عظمة ذات الله تعالى.
 
 وسياقُ الآية دالٌ إلى ما ذهبنا إليه لمّا قال سبحانه وتعالى {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}.
 
 فقوله تعالى : وهذا البلد الأمين .. إشارةٌ للكعبة الشريفة والمسجد الحرام. وهي إشارةٌ للمقام الذاتيّ الذي وُهبَهُ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وصاحب المقام أب الأنبياء الخليل عليه السلام. ومن هنا كان اسمهم أهل البيت. أي أصحاب القبلة الذاتية. وإنّما صحّ هذا الشرفُ والقبلة الذاتية بخاتم الأولياء والخليفة الذي هو صاحبُ القبلة الأصليّ وقطبُ الأرواح. المهدي عليه السلام من أهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فهو المعنيّ الأوّلُ والسيّد الأوّلُ المرتبطُ به البيت أي الكعبة الشريفة وكونها القبلة قبلةً للأشباح، لأنّ صاحبها هو قبلة الأرواح. ولهذا جاءَ بعد ذلك السيّاقُ : لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويمٍ. والإنسان هنا هو الخليفة صاحبُ هذا الشرف الأوّل الذي إليه انتسبَ البلدُ الأمين والبيت والقبلة. فهو الذي في أحسنِ تقويمٍ وهو قبلةُ الأرواحِ وهو أهلُ البيتِ بالأصالة.
 
 ومن هذا المعنى قوله تعالى : {..قَدْ نَرَىٰ تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ ۖ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ۚ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ..} سورة البقرة. فالقبلة التي قصدها الله تعالى "قبلةً ترضاها". هي القبلة الذاتية حيث نزول الروح في قلبه وعروجه الى سدرة المنتهى ورأى من آيات ربّه الكبرى، وحمله للإسم الأعظم. فقال سبحانه وتعالى في سورة الفتح : {نَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} وقال : {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}. وكذلك كان ذلك لأهلِ البيتِ الذين تحقّقوا بالوراثة بهذا السرّ، وكانَ المشارُ إليه بالأصالة والحقيقة هو الخليفة صاحبُ البيت الذي هو من ذريته صلّى الله عليه وسلّم. فقال صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة البتول عليها السلام ((أبشري يا فاطمة المهدي من ولدك)). وهي القبلة االمرتضاة التي شرّفَ الله بها نبيّه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فبشّر بها ابنته البتول الزهراء عليها السلام أبشري واستبشري. 

قال الشيخ الأكبر قدّس سره في كتاب "عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس المغرب"  في فصل : (لؤلؤة التحام اليواقيت وانتظام المواقيت)

((فإنّ القصد في هذا الكتاب هو معرفة الخليفة والختم وتنزّل الأمر الحَتم فنقول فرجع عَودُهُ على بدئه في ليله وأدرك صلاة الصبح مع أهله، فتسوّد ذلك الجسدُ على أمثاله ممّن تقدّم أو تأخّر من أشكاله ، لمّا كانت مادة الحقيقة الأصلية والنّشأة البدائية إليه اسمه من ذاتها وإلى غيره من صفاتها) انتهى.


 فتسوّد جسدُ الخليفة الخاتم على أمثاله من الأجساد والأجسام، لمّا كان اسمُه معبّراً عن الحقيقة الأصلية بذاتها كما أشار الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه. فمهدُ الجمالِ والكمالِ والجلالِ، وسرّهُ الأوّل ومنبعُه وأصلُه وفاطرُهُ، لا جرَمَ أن يكونَ السيّدُ والأجملُ والأبهى إذا عبّرَ ظهورُهُ عن ذلك السرّ، فلمّا كان هو صاحبُ ذلك السرّ الذاتيّ، فقد انعكستْ الملامِحُ على الوجه والخلقة لتُعطي التفرّد والسيادة والكمال المطلق كما هو الأصلُ.

وممّا أوردَهُ الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه  في الفتوحات المكيّة عن الختم، قوله في قصيدة :

إنْ قيلَ من هذا ومن تعني به ... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراءِ
 شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها ... سرُّ العِباد وعالِمُ العلماءِ
 عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ ... نورُ البصائرِ خاتِمُ الخلفاءِ
 سهلُ الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى ... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماءِ
 جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراءِ


فقد جلّت صفات جماله وجلاله ظاهراً وباطناً، شمائلاً وأخلاقاً عن المناظرة والمماثلة، فهو حامل لواء الحقيقة المطلقة وجمالها وكمالها وسرّها فهو خليفتُها المطلق الأوّل.

واليهود هم من روّجَ أنّ أجمل إنسانٍ هو سيّدنا يوسف عليه السلام، بينما الحقيقة فسيّدنا آدم أجمل من سيّدنا يوسف عليهما السلام، فهو الخليفة الآدميّ الأوّل، وإن كان ليوسف نصيب من الجمال عظيم جدا، ولكنّ أبانا آدم أجمل منه. وأجملُ منهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليهما وعلى جميع الأنبياء فهو مظهر الكمالات الإلهية وجمالِها. وأجملُ إنسانٍ مطلقاً هو الخليفة المهدي عليه السلام.

أقنى الأنف أعلى الجبهة برّاق الثنايا وجهه كالكوكب الدريّ، إسرائيليّ الجسم عربيّ اللّون، لونه آدميّ وجماله أعجميّ، وخلقته أجمل الخلْقاتِ وأحسنها .. 

__________________________

بعضُ هذه الآيات التي أوردتها هنا وإشاراتها أشارَ لها مشايخنا -رضي الله عنهم- من بابِ الإشارة والتلميح، ونحنُ متوسّعونَ.




الأربعاء، 18 نوفمبر 2015

"ال" تعريف الشمس والقمر



كتب يوم : 18/03/2015

الشمس والقمر. بهما تعلّق مثال الحروف الشمسية والحروف القمرية. نسبةً لنطق لام ال التعريف في الكلمات وعدم نطقها بإدغامها.

ولكن هل يتوقّفُ الأمرُ على اللغة والنطق فقط ؟
بل الأمرُ يتجاوزُ إلى مثال الشمس والقمر في الحقائق لمن تأمّل.
فالشمس هي الرّوح والقمر هو القلبُ الذي تنزلُ فيه الرّوح.
فالشمس ذاتية النّور والاشتعال، والقمرُ عاكِسٌ لنورِ الشمس في ليلِ الأرضِ.

فكان حرف الألف وحرف اللام في " أل " .. راجعاً لمعاني الحروف التي جاءت في فواتح السور، ومن معانيهما التي ذكر بعضها العارفون المحققون، أنّ ألف هي ألف الذات واللام هي الأعيان العلمية، لذلك كانت اللام (ل) ألف (أ) تتبعها تعريقة (ن)، والتعريقة كما قال بعض العارفين هي تعريقة الخلق. أي الأعيان العلمية فمردّها الى الذات في الأصلِ، وفي عالم الوحدة الأسمائية تميّز كلّ عينٍ علميّ بتعريقته وتميزّه واختلافه عن غيره. مع أنّهم في المرجع مردّهم إلى الذات لذلك كانت لام العلم (ل) رسمُها بين ألف الذات وتعريقة خلقية. جمعت الخلق فيها.

أمّا وضعُهما في ال الشمس والقمر، فذلك أنّ الشمس كانت رمز الرّوح ورمز الذات، لأنّ الرّوح هي مرآة الذات، فصارت لامُها الشمسية مختفيةً مدغمة فما ينطقُ إلاّ ألِفُها، ذلك أنّ الخلق لا وجود لهم حقيقياً إلاّ اعتباراً، فزالوا في حضرة الروح والذات. وكذلك زال واختفي جميع الكواكب والنّجوم في حضرة الشمس. فتأمّل.
بخلافِ القمر فقد ظهرَ حرف اللّام وتميّز في ال التعريف، لأنّ الخلق بالقمرِ ظهروا في ليل أقدارِهم. واختفوا في نهارِ شمسهم. فالنّهارُ حضرة القدم وما تميّز العلوّ من السّفل، فالكلّ مشرِقٌ راجعٌ لأصله وألِفه. وفي اللّيل ليل الأقدار والحدوث تمايز الخلْقُ. وظهرتِ الكواكب والنّجوم.

فالقمرُ هو حضرة الرّحمانية التي بها رحِمَ الله الخلق فظهروا، وظهرتْ أقدارهم. وهو القلبُ الذي جمع نورَ الروح وعكَسَهُ.
والشمسُ هي حضرة الله تعالى التي رجع فيها كلّ شيءٍ إلى أصلِه فما ثمّ إلاّ الوحدة الذاتية والحضرة الجبروتية. والله أعلم.

ثمّ إنّ لام ال الشمسية أدغمَتْ في الشمس واختفتْ للدّلالة على الاتّصال والذاتية. فكأنّ الخلق لا قيام لهم ولا وجود ما ثمّ إلاّ الألف.
وظهرَت اللامُ واستقلّتْ في القمر للدّلالة على الصفة لا الذاتية. فتميّزَت في القمر ألف الذات عن لام الأعيان العلمية. فتأمّل.



الاثنين، 16 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 79

كتب يوم : 02/11/2015

أردتُ أن أتكلّم عن القرين، عن حقيقة القرين، لا باعتباره جنّ أو شيطان يوسوس وحسب، بل حقيقة القرين بكونه جزءًا من ذاتنا، بكونه نفوسنا التي بين أجنابنا. وقد وقعَ في بالي أنّ القرين الذي لم نصنّفه إلى الآن تصنيفاً علميا ودينيا وحقيقياً، ويجهله أغلبُنا، ولا يعتبرونه سوى الشيطان الموسوس، أنّ هذا القرين هو لاوعينا. نعم العقل اللاواعي هو القرين. هكذا وقع في بالي، لعلمي أنّ القرين تحقيقاً هو النّفس، النّفس التي نسمّيها النّفس الأمّارة بالسوء. والنّفس التي تشتغلُ لحسابِها الشخصيّ وأناها مطلقاً. بصفة لاواعية. بصفة باطنية فينا وتلقائية.

وألقيتُ نظرة اطّلاعية وتفقّدية على معنى العقل الواعي واللاّواعي، لمزيد تحقيق معنى العقل الواعي واللاواعي. والنّظر في مطابقة ما توصّلتُ إليه، مع مفاهيم تلك الاصطلاحات النفسية. فوجدتُ تعاريفاً تخدُمُ فكرتي. وأنّ العقل اللّاواعي فينا هو عينُ ما يُسمّى القرين. قد ينقدُ هذا التعريف المتديّنون السطحيون وعلماؤهم الذين انتشروا في زماننا. رغم كون زماننا هو زمان المعلوماتية والعمق والفكر والنّضج العقليّ زمان العلم، إلاّ عندنا نحنُ العرب للأسف، فالزمان هو زمان السطحية والتعتيم والصنمية. وخصوصاً تديّننا المشاع في أغلب دوائره البعيدة عن المحققين والعلماء العاملين. الذين هم أصلاً مفقودون في البوصلة العامّة، مفقودون من حيث علاماتهم وصفاتهم. ولا عجب !! .. ورغمَ أنّ القرين عند أهل التحقيق والتربية هو النّفس والأنا، ولذلك كان طريق الأحسان هو طريق الفناء عن النّفس. لأنّك لا تشهدُ الحقيقة بمنظار الحقيقة العليا إلاّ بتخلّي الوهم الذي يغشاك، وهذا الوهمُ هو وهمُ وجودك، واعتبار نفسك قائمةً بنفسها وذاتها، وهي يقيناً قائمةً بغيرها، قائمةً بخالقها الذي جعلها على صورته، ليحصُلَ لها العرفان والرجوع إلى الأصل إذا اخترقتْ حجاب الوهم. وذلك واردٌ في الحديث الصحيح المشهور لمّا قال سيدنا جبريل عليه السلام "الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك". فقال فإن لم تكن، فإنّك ستراه. أي إذا فنيتَ عن نفسك ولم تكن ستراه سبحانه، وترى الحقيقة العليا، ويزولُ الوهمُ عنك. وأكبرُ وهمٍ هو نفوسنا وإثبات وجودنا مع وجوده سبحانه.
 
فالخلاصة ليس القرين سوى نفوسنا التي بين أجنابنا، أو بالتحقيق هو اللّاوعي فينا، العقل اللاّواعي المهمل، الذي يقتاتُ من التراكمات النفسية والسلوكية والانطباعات السابقة والمشاعر المخزّنة ومجمل ما تلقّاهُ ويتلقّاهُ من الواقع، خصوصاً منها طفولتنا.

 العقل اللاواعي عبارة عن كمبيوتر ضخم جدا، وله قدرات ضخمة، يصدّرُ لنا بلا توقّف، آلاف الصور والخيارات والانطباعات والخواطر من صنعه هو، صنعَها صنعاً ذاتياً وفقاً لما يملكُه من تراكمات وسلوكيات مخزّنة ومشاعر وذاكرة وانطباعات، فيصنعُها بصورته المجملة التي هو عليها، أي بما هو عليه الآن، أي أنّه عقل عظيمٌ جدا (هذا العقل اللاواعي) يفوقُ قدرة العقل الواعي في ضخّ المعلومات والتحكّم فيك، وقد اكتشفَ العلماء أنّ سرعة تدفّق معلومات العقل الواعي ومعالجته لها هي 40 بت في الثانية، وأمّا العقل اللاواعي فوجدوا أنّ سرعته 40 مليون بت في الثانية، فالفرق في سرعتهما مليون مرة، العقل اللاواعي سرعته أكبر من العقل الواعي مليون مرة. هذا ما اكتشفه العلماء مؤخّراً. فتخيّل معي، أيّ وحشٍ نصنعُ بداخلنا ونحنُ غافلون عنه، لا يستجيبُ للعقل الواعي، ولا ندركُهُ نحن، فهو عقلٌ باطنٌ فينا، يتشكّلُ من الترسّبات والتراكمات السّابقة، ويشكّلُ خصوصيته وعقله الخاصّ به وبرنامج اشتغاله وفق تلك التراكمات والانطباعات والترسّبات السلوكية والشعورية والتخيّلية السابقة، منفصِلاً تماماً عن عقلنا الواعي وعن وعينا وحريّتنا. وهو الذي يُديرُ قراراتنا ويديرُ مشاعرنا وسلوكنا ويشكّلُ الجانب الأكبر أو الحقيقيّ، أو الواقعيّ، أو العميق من شخصيتنا، مهما اعتقدنا أنّنا غير تلك الشخصية المخفية فينا. إنّه قريننا الذي صنعناهُ بأنفسنا، أو صنعته الأيامُ فينا، وبيده لوحة التحكّم والقرارات والسلوكيات في شخصيتنا. والاختيارات والقرارات التي نتّخذها في موقف ما وجدَ العلماء أنّ العقل اللّاواعي يتّخذها قبل وصولها لوعينا وإدراكنا، بـ 7 ثواني.
إنّهُ يشتغلُ لحسابه الخاص، أو برنامجه لا يأخذُ قراراته من عقلك الواعي، بل يستمدّ استقلاليته من جملة ما ترسّب فيه وتراكم معه من سلوكيات وانطباعات ومشاعر وخيالات. .. ولكنّه قابلٌ للاختراق بالإيحاء والتدريب والتعوّد والتكرار. لأنّك حينها، سوف تلقنّه عبر ترسّبات جديدة، وتلقينات جديدة، لكنّها تحتاجُ إلى قوّة التعوّد والتكرار، لجعل الجديد مألوف وعادي وتلقائي وعفوي، وبذلك يمحي المألوفات السابقة والترسّبات السابقة، وهكذا.

 

قد يعتقدُ البعض كلامنا عن العقل الواعي واللاواعي وتصنيف القرين أنّه العقل اللاواعي يعتبر شطحةً أو تخليطاً في المفاهيم. كلاّ .. القرين هو نفسك، هو جزؤك الغير المتحقّق بالإسلام لله تعالى. جزؤك المنحرف عن الفطرة والمفاهيم السويّة والإسلام النقيّ، سواء سلوكاً أو مشاعراً وأحاسيساً أو أفكاراً وانطباعات وخواطر. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ) الصحيحين. فالمولود يولد على الفطرة نقيّاً، جديداً، عقله اللاواعي نظيف من التحويرات والتعديلات. ثمّ تبدأ رحلة الإنسان ليتلقّى من بيئته وأسرته بحواسه الخمس ما يركّبُ ويشكّلُ فيه العقل اللاواعي، تراكمات وترسّبات وانطباعات وسلوكيات وأخلاق وانحرافات وممارسات ومعاملات مختلفة تترى عليه يومياً يتلقّاها، يتغذى منها عقله الواعي واللاواعي على السواء. عقله الواعي هو العقل المنطقي الحسابي البديهي المراقب، ويتشكّلُ من التربية والاحتكاك والتعليم والمخالطة، تتشكّلُ قوّته ومدى اتساعه وفعاليته، العقل الواعي عقل واقعي منطقي تحليلي تعاقبي. والعقل اللاواعي هو العقل الباطن الذي يشتغلُ بالتراكمات والسلوكيات والانطباعات والمشاعر والعواطف المخزّنة مع الأيام. خصوصا السنوات الأولى لأنّها تعتبرُ قاعدته التي يبني عليها ما يأتي بعدها من تراكمات وانطباعات غالباً. فهو عقل معقّد مركبٌّ خياليّ لا يعتمِدُ على المنطق والبداهة والمعقول بقدرِ ما يعتمدُ على مجمل ما خزّنه من أفكار ومشاعر وخواطر وسلوك وعواطف وصدمات ومنعرجات شعورية ومحطّات سلوكية هامّة شكّلتْ جوهره، وشكّلت حقيقته وطريقة فعله وردّات فعله. وهو الذي يشكّلُ فينا الشخصية العميقة والحقيقية. لأنّه يمثّلُ أكثر من تسعين بالمائة من معاملاتنا وقراراتنا وأفعالنا وردّات فعلنا.
وعليه نفهمُ لماذا، كانت وسيلة إبليس والدجال لغزو النّاس هو قنوات الاتّصال الصورية والمرئية والصوتية، ومدى رسوخ تعليماتهم في الأجيال التي نشأت على هذه القنوات، نشوءاً كبيراً نافذا نفوذا عظيماً. فكمّ التعليمات والانحرافات والسلوكيات التي غزتنا عبر الأفلام والمسلسلات والقنوات الاعلامية والاخبار ثمّ الأنترنت وكذا الصّحف والمقالات والثقافات المنتشرة المدجّلة و المفخّخة بالتدجيل والشيطنة والانحراف. صنع بها هذا العدوّ الخبير بالإنسان، وكينونته، وقدرته على رؤية دواخلنا بوضوح، وقراءة أفكارنا والتجسّس علينا، وتلقين العقل اللاواعي فينا، ومخاطبته بطريقة خبيرة ذكية، فصنعَ من الأجيال ما يريدُه من قابلياتٍ، لتمرير خططه وبرامجه مرحلة بعد مرحلة، طبقة فوق طبقة. ويرى نتائج أعماله من خلال مشاهدة عقولنا اللاواعية ومدى تفاعلها في الواقع.
في حينٍ كان المسلمون في أكبرِ الغفلات والجهالات بهذه الصناعات النّفسية، والتحصين السّلوكي العميق، والغفلة عن بناء شخصيات سويّة رصينة متينة البناء والسلوك، سليمة الفكر والفلسفة الحياتية.
في ظلّ تلك الغفلة مرّرَ العدوّ مخطّطاته، وبرمجَ ما برمج في الأجيال، حتى أنشأ أجيالاً على مراده، عقلها اللاواعي قابلٌ لمخطاطاته وبرامجه ومراداته. فاخترقنا اختراقاً عظيماً، ودمّرنا من الداخل. نحثُّ العقول الواعية في الأجيال، نذكّرُها لكنّها لا تستجيب، فعقولها اللاواعية مشكّلة لتستجيبَ لما تراكمَ عندها وترسّب فيها وما تشكّلت به.
طبعاً المسألة أخذت عقوداً وعشرات السّنين حتّى تمّ لهذا العدوّ ما يريدُ، وهي هذه التنشئة العرجاء لأجيال المسلمين والعرب خصوصا. والآن التدمير ذاتيّ وعن بُعد، والاختراق سهلٌ، بتحريك بعض الخيوط فقط، يحرّك ما يريدُه في الشعوب والأجيال، وينشئ من هذه الأجيال بحسبِ أطيافها، ما يريدُ. تشويهاتٌ في كلّ صنف وطيف. ما من فرقة إلاّ وشكّلَ فيها ثغراتٍ وانحرافات ضخمة، فضلاً عن التعتيم عن المفاهيم السليمة وتدجيل أغلب المفاهيم، فضلاً عن تدجيل العناوين الكبيرة والتعتيم عليها.

إنّ ما نعانيه اليوم من انحرافات، لهو أعظمُ من الجاهلية القديمة، كانت قديماً الجاهلية صنماً واحداً، وإن كان صنماً فاصلاً بين الكفر والإيمان، لكنّه فاصلٌ كذلك بين قبول برنامج الإيمان ورفضه، فاصلٌ واحد في أغلب الأحيان والنماذج عهدَ النبي صلّى الله عليه وسلّم. بيدَ أنّنا اليوم نعاني جاهليةً بها ما لا يعدّ من الأصنام، ليست صنمَ الكفر والإيمان في غالب الأحوال، ولكنّها أصنامٌ كثيرةٌ لا تعدّ، في المفاهيم والسلوكيات والخواطر والأفكار والأخلاق .. أصنام معقدّة مركّبة. فكيف السّبيل إلى تكسير تلك الأصنام ؟
كان في العهد السّابق يكسِرُ النبيّ عليه صلاة الله وسلامه أو الدّاعي صنماً فاصِلاً حاسماً واحداً، ليُلغي مشروع الشيطان، وهو الكفر، فيقبلُ الرّجلُ على برنامج الإيمان يتخلّله في أعماقه ويسري في وجدانه وحياته، ويغدو مؤمنا نقياً طيّباً في غالب الأحيان. ولذلك كان جيلُ الصحابة متفرّداً، فهو جيلٌ على الفطرة، كانت جاهليته غالباً في صنم الكفر والشرك بالله تعالى، وبعض الأصنام القليلة في بعض المعاملات والمفاهيم. ولكنّ الفطرة نقيّة والشخصية سويّة عموماً، خامٌ طريٌّ. مع وجودِ معلّمٍ عظيمٍ، هو منبعُ النّور، ومصدرُ الورد والمدد، فكان برنامج الإيمان ينفذ نفوذا عظيماً، ويعودُ الرجل منهم والشخص منهم إلى برنامج الإيمان الصحيح، وتتشكّلُ شخصيته، ويتصحّحُ ما بعقله اللاواعي الذي لم يكن يحمِلُ الكثير والعديد من الانحرافات والعُقَد السلوكية والفكرية والوهمية. بخلافنا نحن وفي زماننا، فقد تربّتِ الأجيال ونشأت تقتاتُ على إرسالات الشيطان والدجّال عبر تلك القنوات الإعلامية والأثيرية، مرئية وصوتية وكتابية وصحفية، كلّها تحمِلُ الكثير من الثغرات المدروسة، والكثير من الفيروسات المدسوسة التي هي مقصودة لتشكيل العقل اللاواعي في النّاس، بقدرِ توجّه كلّ طيف منهم وكلّ صنفٍ منهم إلى تخصّصه أو ميوله أو فرعه الذي يميلُ إليه، في كلّ ميلٍ وتخصّص وفرع وطيف وصنف هناك واجهات مدسوسة لدسّ التدجيل والانحرافات والثغرات السلوكية والفكرية والشعورية، مع التكثيف العظيم الذي اكتسح أغلب البيوت والأفراد، وبالأبعاد الكاملة مرئية وصوتية وكتابية وفكرية وتعليمية ومجتمعية .. فهناك وصلنا إلى ذروة التدجيل والتعتيم. وصارت جاهليتنا أضعاف أضعاف أضعاف بما لا يُقاسُ بالجاهلية الأولى، في مدى الانحراف الشخصي والسلوكي والفكري والشعوريّ والمعاملاتي .. وإن كان العنوان مختلفا. وإن كان الظاهر هو الإسلام. ولكن أيّ إسلامٍ هذا الذي يقبلُ ما نعيشُه اليوم، وما تعيشُه أجيالنا، إلى درجة بيع الدين بعرض من الدّنيا قليل ؟؟!! .. بل صناعة أجيال الوَهَن، تكره الموت وتحبّ الدّنيا، ومستعدّة للتنازل عن دينها بشيءٍ من الرّهبة أو شيءٍ من الرّغبة. لقد حدّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم داء آخر الزمان في أمّته في الحديث الصحيح عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: «يُوشِكُ الأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا». فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذٍ؟! قال: «بَلْ أَنتُمْ يَومَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزِعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ المَهَابَةَ مِنكُمْ، وَلَيَقذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمُ الوَهَنَ». فقال قائل: يا رسول الله! وما الوَهَن؟ قال: «حُبُّ الدُّنيَا وَكَرَاهِيَةُ المَوتِ».
حبّ الدنيا وكراهية الموت، هذه هي خلاصة غزو ومخططات إبليس والدجال وأجنادهما على الأمّة المسلمة، عقول لاواعية منحرفة عن الفطرة، مدجّلة .. فضلاً عن العقول الواعية المنحرفة المغالطة.
إنّك تُعلنُ ولاءك لله تعالى، وترغبُ في التوبة .. فتجدُ أمامك نفساً مشوّهةً تشويهاً عظيماً، أصناماً كبرى وعديدة وغير محدودة، يجبُ عليك إزالتُها، وتسويتها، بعضها يبدو لك، وأغلبُها مخفيّ عنك في عقلك اللاواعي، في شخصيتك العميقة التي شكّلتها التراكمات والترسّبات عبر الأيام والسنوات وعبر المجتمع حولك والناس الذين أغلبهم شخصيات غير سويّة، مادية، مجالاتها بعيدة عن مجالات الروح والتزكية والصحة النفسية والعقلية .. مع ركاماتك الشخصية من العواطف والانفعالات والصدمات والانحرافات والانطباعات والسلوكيات والأمزجة المتراكم بعضها فوق بعض، المركّبة تركيباً معقّداً فيك. وفوق ذلك أنتَ لا تملِكُ العلمَ أنّ حقيقتك وشخصيتك معجونة بتلك الانحرافات والتراكمات مع السنوات، بل أغلبُ المتديّنين، يصحو على تديّنٍ ظاهرٍ، ويتماشى مع جوّ عامٍ ساحبٍ يسحبه، إلى بيئة جديدة من الصحبة والتديّن الجماعي أحيانا مسيّساً وأحيانا غير مسيّس، لكنّه تديّن يقومُ على الظاهر والمظاهر، ويحسِبُ العبدُ أنّه صار من المتّقين والطائعين والشخصيات السوية. أغلب التديّن عنوانه ظاهر ومظاهر فقط، ويلغي العمق والتزكية النفسية. فضلاً عن التديّن المشهور بزماننا يُحارِبُ السّلوك وركن السّلوك، وركن الروحانيات، ويقومُ فقط على الظاهر والمظاهر ؟؟!!! .. عجيب. ويغفلُ عن تلك الهوّة السّحيقة والركامات العظيمة والترسّبات العميقة في كيانه ووجدانه وشخصيته، وعقله اللاواعي غير ظاهرة له. متماشياُ فقط مع الجوّ العام الجديد والبيئة التي انتمى إليها مؤخراً، فصار يحسبُ نفسه قد استوى وصحّ وسلم قلبُه. فضلاً عن كونِ التديّن المشهور اليوم لا يزيدُ العبدَ إلاّ انتكاساً، في المعاملات والجفاء الروحيّ والانشغال ربّما بالسياسة على حساب تزكية النّفس، أو بالجانب الظاهري وإقامة الحياة على نمط ظاهر شنيع، يعطّلُ العقل والحرية الشخصية ويحاربُ الحيوية الإنسانية مع جفاءٍ وبُعدٍ عن الرّوح مع معاداة أهل الحقّ وأهل الرّوح، وهو الذي يعني معاداة الحق والرّوح ؟ فماذا يمكننا أن نتوقّع من هذه المعضلة المقفلة، وهذه المتاهة والدوّامة، التي لا تدري أيّ جاهليتها أخفّ ضرراً ؟ أن يبقى المرء في ماديته وحياته غافلاً لاهياً ؟ أم ينوي التوبة والقرب من الله فيتديّنُ فيزيدُ انتكاسه وتزيدُ جاهليته تعقيدا وتركيباً ؟ وفي الأخير .. فهي كما ذكرنا تفخيخات في كلّ جانب تقريباً مقصودة.


يتبع ..



هنا شريط وثائقيّ مختصر رائع (8 دقائق و9 ثواني) ، وجدته على اليوتيوب يشرح باختصار دور العقل اللاواعي فينا ويحدّد كذلك أنّه القرين ..

https://www.youtube.com/watch?v=fIXdTQYd_Wo

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 78

كتب يوم : 13/11/2015




في الكون جمال محيّر، أنا أتحدّثُ عن جمال الإنسان، فهذا ما نشهدُه في السعة والإبداع والألوان والتنوّع، وما زال الإنسان يبدعُ في كلّ مجالِ يتجدّد، ويجدّد في كلّ مجال، وما زالت تتوالد العلوم والفنون والمجالات. فالإنسان محطّة مركزية لشهود إبداع الخالق سبحانه، كلّ ذلك التجدّد والتنوّع والجمال الجاري على أفراد الخلق والنّاس، ليست سوى مسرح جميل قدرته وبديع صنعه وجماله سبحانه المعجز المحيّر.

وبمناسبة الحديث عن الجمال فإنّ هذه الموسيقى الصوت الطبيعي الصّادر من أوتار مصنوعة ومعازف مبدعة كيف حرّمها من حرّمها وهي مسرحٌ من مسارح الجمال الصّوتي العظيم ؟ بل حرّمها أهل الرّسوخ عند اقترانها بالفسوق ومظاهره. وإنّه من يقتل ويفسد في الأرض باسم الكتاب والسنّة فهو أقبحُ عند الله تعالى ممّن يفسق في أوكار الغناء والمعازف. فهل يُحرّمُ اتباع الكتاب والسّنة ؟ بل يُحرّمُ الفهم المنحرف والمذهب المعوجّ.

ومن الحُمْق أن يَنسبَ الإنسانُ لنفسه شيئاً، وهو مخلوقٌ من العدم، فمتى كان لك شيءٌ ؟ إنّما الله خلق سبحانه ما خلقَ من أعمالٍ وإبداعاتٍ وأجراها ونسبها لخلقه، وليست سوى شواهِدٍ على كماله وجماله وقدرته وبديع صنعه، ومن أجلِ ذلك بعث الله الرّسل إلى النّاس أن يشهدوا في النّعم التي لا تُحصى المُنعمَ سبحانه، ويوحّدوه ولا يكفروه، ولا يشركوا به، وكيف يشركون به أو يكفروا به وهم والعدمُ سواء ؟
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " كان الله ولم يكن شيء معه" وفي رواية "ولم يكن شيء غيره"، وفي رواية "ولم يكن شيء قبله". كلّها روايات صحيحة. 

وهذا الحديث الشريف وحده يقيمُ الأدلّة على وحدانيته سبحانه، وعلى عدمية ما سواه، كان وحده سبحانه فخلق المكان، فالمكان مخلوق وموجود، وهذا يعطينا تنزّهه سبحانه عن المكان ولا شكّ، فقد كان سبحانه قبل المكان. وخلق الزّمان، وهذا يعطينا تنزّهه عن الزمان سبحانه ولا شكّ، فقد كان سبحانه وحده فخلق الزمان كما خلق المكان فالزمان مخلوق مثله مثل المكان. وأوجدَ الأشياء والمخلوقات والكائنات، فأين كانت قبل وجودها؟ كانت في العدم. فهي مخلوقة من العدم، ومن كان العدمُ قبله فهو قائمٌ بغيره، وسيظلّ قائماً بغيره، فتلك حقيقته لأنّه موجود من العدم. وهو كذلك أقربُ للوهم، بل هو عينُ الوهم، وكيف لا يكون وهماً إذا كان هذا الموجود وهذا المخلوق قائماً في حيّز مكانيّ وزمانيّ مخلوقين من العدم ؟ فهما حيّزان معدومان وهميان. وبالتالي فكلّ ما فيهما وهميّ.
كلّ موجودٍ من عدم فهو قائمٌ في حيّز اعتباريّ يُسمّى وجود، فالعدم حيّز اعتباريّ، نشأ ليدلّ على عدمية المعدومات وعدم وجودها، وبالتّالي الذي يقابلِهُ إذا صدرَ عنه ولا شكّ هو وجود اعتباريّ، فكلّ ناشئٍ من العدم فوجوده اعتباريّ وهميّ وليس حقيقيّ. فهل وُجِدت هذه الموجودات وزاحمت وجود الله سبحانه ؟ تعالى الله عن ذلك. بل وجوده سبحانه قائمٌ بذاته منزّه عن كلّ شيءٍ، منزّه عن المكان والزّمان والمقاييس التي نشأت عنهما. 


فالأينُ والمتى والكيف كلّها مقاييس وضوابط تعلّقت بالأشياء بعد وجودها من العدم. في حيّز المكان والزمان. والله سبحانه ليس كمثله شيء قال الله تعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". فالأشياء كلّها والموجودات تنزّه عنها سبحانه وعن مماثلتها وعن مقاييسها. وهنا وقفَ العقلُ عاجزاً عن إدراك الله وذاته، فالعقلُ مسرحه الموجودات. لا ذات الخالق البارئ سبحانه. فوقف هذا العقلُ ببديهياته وأبجدياته وأساسياته عند حدود التنزيه، فنزّه الخالق سبحانه وأعلن العجز عمّا هو فوق ذلك.
والوجودُ الأحديّ هو لله سبحانه، وهذا الوجود الأحديّ ما تولّد منه وجودٌ يُزاحمه في طبيعة الوجود، فسبحانه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحدٌ. فأحديّته سبحانه ثابتة بينما أحديات الغيرِ وهمية، وأحدية وجوده ثابتة ومنزّهة عن سائر الموجودات، فلم يلد وجوده وجوداً غيره، ولم يولد سبحانه من وجود غيره. فما موجودٌ قائمٌ بذاته وحقيقيّ سواه. كذا حكمت السورة الصّريحة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ).
وهو صمد سبحانه صمدت إليه الموجودات والمخلوقات والكائنات جميعها، وهو الحيّ القيوم قامت الأشياء بقيوميته، واستمدّت حياتها من حياته. فقد صارتِ الأشياءُ والموجودات ليست سوى أصداءِ تجليّاته وآثارٍ أسمائه وصفاته كالظّلال. وضرب الله لنا الأمثال. وما زالت تتغيّرُ أعراضُها بتغيّر أحوالها وانفعالها بتجلّي الأسماء عليها. والأسماءُ ترجِعُ لمسمّاها سبحانه الواحد الأحد. ومن هنا قال الله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. فما من شيءٍ إلاّ وخلفه وجه الله سبحانه، فهو ظلٌّ وطيفٌ وأثرٌ لتجليّات أسمائه وصفاته سبحانه. فجميعُ هذه المخلوقات والمشهودات وجودُها وهميّ اعتباريّ وحسب. غيرُ قائم بذاته.


وإذا كانت حقائق المخلوقات وهمية فكيف يصحّ أن تنسبَ لنفسها شيئاً من عملٍ أو إبداع أو تفكير أو نعمة أو إيجاد ؟؟؟ بل قيامها وحياتها ووجودها وإبداعها وأعمالها وكلّ شيءٍ متعلّق بها قائمٌ بموجدها وخالقها. قياماً ذاتياً كليّاً، فهي وهمٌ، وهي موجودة اعتبارياً في قفص الخلقية. أوهامٌ تترى بعضها فوق بعض، كذلك خلق الأكوان والوجود والحياة سبحانه، وجعلها مسرح جماله وصفاته وتجليّاته وصنعته. وجعل الإنسان خليفةً في هذه الأكوان والمخلوقات، وجعله آخر مخلوق في عالم الكثافة والإيجاد، وأوّل مخلوقٍ في عالم اللّطافة والسرّ. فالإنسانُ مختصر العالم. وجعله بذلك على صورة الخالق سبحانه، ليعودَ إلى نقطة الانفلاق، ومركز الإشعاع والتدفّق، فيشهد بالله سبحانه تلك البدائع والخلائق والأكوان من صنع الله سبحانه ويوحّده ويفرّده في مسارح التفريد والتوحيد. وجعل الحقائق أزواجاً، كما جعل الخلائق أزواجاً، كذا اقتضتِ حقيقة الانشطار والخلقية، فالخلقية صورة التجليّات، وآثار الأسماء المقدّسة. فالأثرُ يتبعُ المؤثّر، والإسمُ يتبعُ المسمّى، والصفة اقتضتِ محلاّ لجريان أثرها. فما ظهرَ اسمُهُ الخالق لولا مخلوقات، وما ظهر اسمه الرزّاق لولا المرزوقين، وما ظهر اسمه النافع لولا منتفعين، ولا ضاراً ولا محيياً ولا مميتاً، ولا مصوّراً ولا موجداً لولا محلاًّ لهذه الأسماء والصفات يتجلّى فيه أثرها، فظهور أسماء الله وصفاته كان مسرحهُ الخلقُ. فتشكّلتِ النّسب، بحقيقة الزوجية، وظهرَ السّفلُ والعلوّ، والكمال والنّقص، والعدم والوجود، والضعف والقوّة، ..الخ. فكانت الزوجية قائمةً على ثنائية الفعل والانفعال، كما قامتِ الحياة ونشأتِ ابتداءً وانتهاءً على هذه الثنائية فعل وانفعال، مؤثّر وأثر، حقّ وخلق. وكانتِ ثنائية الروح والجسم هي ثنائية العلوّ والسّفل، ثنائية الكمال والنّقص وهي ثنائية الحقيقة والوهم. فالسرّ بدأ بنفخة الرّوح الإلهي، والجسم انتهى باحتواء الموجودات على اختلافها في العالم، فركنَ الجسمُ بكثافته إلى الموجودات الحسيّة وإلى الوجود الوهميّ الفاني وركنتِ الرّوح إلى حقيقتها ونافخها سبحانه. فدارت رحى صراع النّفس الإنسانية بين الرّوح واللّطافة والجسم والكثافة، وما دارتِ هذه الحربُ إلاّ لمّا صادرتِ النّفس باعتبارها نفساً جزئية ناقصة ركونها للجسم ومتطلّباته ورغباته، صادرتِ المدارك والفهوم والمشاعر والأحاسيس لنفسها، وعلّقتها بها وأغفلت أن تًعلّقَ النّعم والمدارك والمشاعر والأحاسيس بخالقها وحقيقتها الأصلية التي منها جاءت، وشهود المنعم سبحانه، فأشركتْ وصادرت مشاعر التعظيم والتمجيد والحبّ والتعلّق والتقرّب والطاعة التي أشرقتْ في القلبِ بسببِ نزول الرّوح فيه، صادرت النّفس ذلك لنفسها وحوّلتِ وجهة تلك المشاعر والأحاسيس القلبية من أصلِها التي كانت متوجّهة إليه وهو المنعم الموجد الخالق سبحانه، حوّلتها لنفسها ولمتعلقاتِها ورغباتها وكفرتِ المنعم سبحانه، وصادرت المدارك والمفاهيم والفكر التي أشرقتْ في العقل لمّا نزل الرّوح فيها، فهي متوجّهة أوّلا وأصلاً للأصل سبحانه والمنعم، فكفرته وأشركت به ووجّهتها لنفسها ومتطلّباتها ومصالحها كذا قال بعض الصالحين يشرحُ مصادرة النّفس الترابية لحقيقة المشاعر والمدارك لنفسها بدل أن ترجعها للأصل. ومن هنا نشأ الصّراع الإنساني، ونشأ الخير والشرّ في الإنسان، والحقّ والباطل في حياته، فكانتِ النّفسُ بركونها للدّنيا ورغباتها ومتطلّباتها هو ركونٌ للجانب المظلم البعيد عن نقطة النّور ونقطة الشهود ونقطة التوحيد لله سبحانه، وإرجاع الأشياء والحقائق لأصلها، وكانت النّفس بركونها للرّوح وأنوارها وعرفانها وأسرارها هو ركونٌ لله سبحانه الخالق المنعم وشهوده وحده لا شريك له أنّه الموجد والموجود والقائم بذاته وما سواه قائم به. 

ولذلك قال سيدنا جبريل عليه السلام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)). في شرح الإحسان أن يعبد العبدُ الله على طريقة الفناء محاولاً شهود الله سبحانه في كلّ شيءٍ من غير أن يغيب عنه (كأنّك تراه)، فإذا فنى عن نفسه (فإن لم تكن) رآهُ سبحانه في الأشياء رؤية عين وحقّ يقين، ورأى بعين اليقين أنّ الأشياء قائمة به سبحانه، فهو بذلك رجع لأصله رجع للرّوح العارفة بالله الشاهدة له، فالفناء عن النّفس يعني الفناء عن ذلك الوجود الجزئيّ الترابيّ والماديّ المتعلّق بالمادة والتراب ومتطلّبات الجسد وشهواته ورغباته، فهو لم يكن ولم يعد وفنى عن نفسه، فإن لم تكن : تراه، فستراه. لأنّك حينها ترى الله بالله سبحانه، كما رأى سيّد الخلق سيّدنا محمد ربّه عند عروجه لسدرة المنتهى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. وعلى قدمه صلى الله عليه وسلم يسيرُ الورثة والمتحقّقون. قال الله تعالى ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) آل عمران-31 . وطريقُ الحبيّة من الله تنتهي بذلك الفناء والبقاء به سبحانه جاء في الحديث القدسيّ الصحيح ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه)).



الثلاثاء، 20 أكتوبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 77




تُعرَفُ الأشياء بأضدادها..
لو أنّ النّاسَ عرفوا قائمة أولويات إبليس والدجال وأجنادهما لعرفوا الحقّ مباشرةً.

إبليس والدجال حربهما الكبرى على الخليفة المجذوب، وعلى حمَلَةِ الإسم الأعظم أهل الله.

وذلك عبر هذه العولمة والهيمنة الكبرى، والتدجيل الرّهيب الذي يبسطُ سلطانه في الأرض كسرطان خبيث في جسم إنسان. وكلّ تحرّكات بيادقهما الشطرنجية فهي من أجل صناعة الأجواء التي تمكّنهما من النّيل من أهل الحقّ. ثمّ لضمان - وهو الأولى والأهمّ - قطع الطريق على المجذوب. ولو امتنعت الأجواء من التوفّر، بالوسائل المتوفرة والأسباب العادية، فالفوضى من أهمّ وأكبرِ وسائلهما لتحقيق أهدافهما.

حرب إبليس والدجال حربٌ على النّور ونقاطه ومنابعه في الأرض، وتعميم الظلمة فيها،  وما يحدثُ في الأرض اليوم ممّا هو من تخطيطهما فهو من أجلِ الانتصار على المجذوب الخليفة. وبذاتِ الوقت محاولة قطع السلاسل التربوية الباقية التي تحملُ مشعل الخلافة. خلافة الله سبحانه.

حربُ إبليس والدجال على الخلافة في الأرض، وذلك عنوانٌ واضحٌ في القرآن الكريم، وبه بدأ الصّراع بين الشيطان والإنسان، وهو حقيقة وواقع كذلك في الأرض، إبليس الحاسد الغرور والدجال الحاقد المغرور يحاربان الله سبحانه، بجهلٍ منهما، يحاربان الله في عالم الخلافة الأرضية. وإلاّ لما تجرّءا مطلقاً. وحربهما قامت بجهلٍ منهما وعدم فهمٍ عن الله سبحانه. وإلاّ لو فهِمَ إبليس حقيقة الخلافة وسرّها، لما قامتْ له أسبابٌ منطقية لهذه الحرب، وهذا التمرّد الأرعن الأحمق. ومعه حليفه الدجّال السّامريّ اليهوديّ الأعور، الذي وهبه الله آياتٍ وامتيازاتٍ فنكب على عقبيه وتردّى، وانسلخ منها. فإبليس والدجال يقيسانِ الأمور بعالم المادة والأكوان، وعالم الأسباب والزمان والمكان، وهذا منتهى الجهل والحمق في عالم الحقائق، وفي منطق العقل الرّصين، ووفق المبادئ الثابتة التي لا تتزحزح. وإنّما اقتضتِ الحقائق ذلك، أي اقتضت جهلهما وتمرّدهما، ليقوما بدورِ الحجاب على الله تعالى، والحائل الذي يحولُ بين الصّادقين وغيرهم في طلبِ وجه الله سبحانه، ليقوما بدورِ الظلمة ودورِ المادة والتراب، ودورِ الآدمية المنسلخة عن الرّوح، فهي أضلّ حينذاك وأسفل من البهيمية، فهي أقصى درجات الظلمة والبهيمية والأخلاق المترديّة التي تقدّس الأنا النّفسية القاصرة، وتتخذ في سبيل إثبات تلك الأنا جميع الوسائل المتاحة وجميع القدرة الممكنة. وتلك هي حكمة الله سبحانه، وذلك هو وسعهما، وكذلك فهو الإمهال من الله سبحانه، والإمداد لهما بالقوّة والقدرة السببية والأجناد، والهيمنة والتخطيط الكبير المتوسّع .. أعماهما ذلك عن رؤية الحقيقة، فإذا كان حاكم على كرسيّ ببشريّته العادية ومقاييسه المحدودة المضبوطة بميزان لا يميل ولم يتبدّل عبر التاريخ، أثبتَ هذا الحاكم العليلُ بتلك الأنا المتجبّرة أنّه لا يتنازل عن حكمه ولو أدّى ذلك لإبادة شعبٍ بالكامل. فما بالك بما فتن به الله سبحانه إبليس والدجال ؟ وقد أعطاهما قدرات خارقة وتعمير طويل في الأرض، واستحواذ ظاهر ونفوذ عظيم ؟ فذلك هو مكر الله سبحانه .. ولا يأتي مكرُ الله سبحانه، إلاّ من الممكورِ به، أي بواسطته هو، ليمكرَ بنفسه من حيث يريدُ الله له ذلك. وهذا منتهى المكر والعظمة في التدبير منه سبحانه، فلا يزالُ الماكرُ المتمرّدُ يحفرُ قبره بيديه، ويقتربُ من نهايته وخاتمته برجليه، من حيث هو يسعى ويقتربُ من هدفه المنشود وطموحه المطلوب. حتى يجدَ الله عند محطّ شربه وهدفه الأخير، ولا يجدُ هناك إلاّ السّراب، ويدَ العزيز المهيمن المنتقم سبحانه، فلا يفلتُه الله سبحانه، وبئس المصير، والله خير الماكرين. { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ } [سورة الأنفال : آية 30].  { وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}.

كما هو فرعون، ما ربّى عدوّه الذي يطلبُهُ، والذي قنّن من أجله القوانين، وقتل وسفك وثار، ما ربّاهُ إلاّ في حجره وقصره، ليكبرَ عدوّه ويشتدّ عوده. ويهلكَ ويغرقَ، فما نفعه تدبيره ولا قوّته، ولا محاولته سبق القدر وتكييف الظروف والواقع. وكذلك يفعلُ الله بكلّ طاغٍ ماكر متمرّدٍ جهولٍ ظلومٍ .. فلا يَنالُ منه إلاّ من حيث سعيه هو وتدبيره بنفسه. وذلك منتهى الإعجاز منه سبحانه.

الدجال وإبليس وهيمنتهما الغير عادية في زماننا التي فاقت الخيال والتصوّر فيما مضى، ولا عقل بشريّ، في الماضي، كان يمكنُ أن يتخيّلَ هذه القدرة والهيمنة التي يحصّلها هؤلاء الدجاجلة والشياطين في الأرض اليوم، ومع ذلك، فالخوف الذي يتسلّطُ عليهما، ليس بأقلّ من الخوف من لاجئٍ مطاردٍ شريدٍ في الأرض يريدُ الفرار من أعدائه المتمكّنين. ذلك أنّ التهديد لا يزالُ قائماً وبقوّة، رغم التقدّم الحاصل في أجندتهما، تقدّم رهيب، ومع ذلك فالتهديد قائم، والعدوّ ما زالَ يأخذ المواقع التي يحاربانِ ويخطّطان من أجل منعه أن ينالها ويأخذها!!!!

ذلك أنّ العدوّ الحقيقيّ هو الله سبحانه، إنّهما في أعماق أعماقهما لا يركنانِ لليقين، ولا يقِرُّ لهما إيمانٌ ثابت، وكامل، مهما بلغتْ هيمنتهما وقوّتهما وكيدهما ومكرهما، والواقعُ يؤيّدُ ذلك، فهما برغم التقدّم كما ذكرنا، فالتهديد قائمٌ وقادم .. والعدوّ موجود.

الغريب أنّ تقدّمهما لا يزيدُ إلاّ من نيلِ المواقع التي يسعونَ لمنع هذا العدوّ عنها، فكأنّهما هما من يحرّكانِ خيوطَ عدوّهما نحو تمكينه، وهذا إعجازٌ عظيم من الله سبحانه.

وفي الحقائق فما الشيطان والدجال، سوى حجابٍ للعبدِ دون الله سبحانه، وتسليط منه على العبد، ليظهرَ معدنه الأصيل. فيتجاوز الاختبار وينتصر، أو ينتكس ويرجع القهقريّ، بحسب صدقه وهمّته في طلبِ وجه الله سبحانه. ولا بدّ أن يطوي العبدُ السّالكُ الجلالَ والجمالَ في أجلى تجليّاتهما، ليصلَ إلى كنه هذا الجلال والجمال، ويحظى بالمنبع والأصل، فتلك سنّة الله سبحانه في السّالكين هذا الدّرب العظيم. ومن مظاهر الجلال، إبليس والدجّال. وكونهما رأس الشرّ وأقصى هيمنته السّببية الأرضية، ذلك أنّ الزمان هو زمان الخليفة الخاتم.

إنّ ما نقوله ليس كلاماً يُلقى على عواهنه، بل هو الحقيقة والعنوان الأكبرُ للصّراع في الأرض. وإن شئتَ صدّقنا كلامنا بالحديث الصحيح الذي رواه الحاكم عن الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه :

روى الحاكم في مستدركه ( 4 / 596 برقم 8659 طبعة دار الكتب العلمية - بيروت الطبعة الأولى ، 1411 - 1990، بتحقيق مصطفى عبد القادر عطا ) : حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا الحسن بن علي بن عفان العامري ثنا عمرو بن محمد العنقزي ثنا يونس بن أبي إسحاق أخبرني عمار الدهني عن أبي الطفيل عن محمد بن الحنفية قال : كنا عند علي رضي الله عنه فسأله رجل عن المهدي فقال علي رضي الله عنه : هيهات، ثم عقد بيده سبعا، فقال : ذاك يخرج في آخر الزمان، إذا قال الرجل الله الله قتل، فيجمع الله تعالى له قوما، قزع كقزع السحاب، يؤلف الله بين قلوبهم، لا يستوحشون إلى أحد، ولا يفرحون بأحد يدخل فيهم، على عدة أصحاب بدر، لم يسبقهم الأولون ولا يدركهم الآخرون، وعلى عدد أصحاب طالوت الذين جاوزا معه النهر. ) .

 قال أبو الطفيل : قال ابن الحنفية : ( أتريده ؟ قلت : نعم ، قال : إنه يخرج من بين هذين الخشبتين ، قلت : لا جرم و الله لا أريهما حتى أموت ، فمات بها يعني مكة حرسها الله تعالى )


 قال الحاكم :  (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه)
ووافقه الذهبي في التلخيص ، فقال :  (على شرط البخاري ومسلم)  


الخلاصة هنا في الحديث الشريف قول الإمام علي عليه السلام  :
"ذاك يخرج في آخر الزمان إذا قال الرجل الله الله قُتِل". 

أصحاب الإسم الأعظم وحملته، هم صلةُ الأرضِ بالسماء، وصلةُ المادة بالرّوح، وصلة النّاسِ بربّهم، بقيّةُ الله في أرضه، هم هؤلاء الحملة الورثة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، الذين ليس لإبليس والدجال سلطان عليهم. وهم المؤهّلون لتوريث النّور للطالبين، وهم منابعُ النّور في الأرض. منهم المأذون لهم بالظهور والتربية، ومنهم الأخفياء الملامتية.

إبليس والدجال، متحالفان، الأوّل حاسد يريدُ أن يجعل البشرية كافرة جميعها، وعْدَه الذي توعدّه لمّا لم ينل الخلافة. وهو يعلمُ سرّ تلك الخلافة في الأرض، نقصِدُ أنّه يعلمُ تشريف الإنسان بنيله الخلافة الإلهية. لأنّهُ لم يرَ منها سوى الجانب الإطلاقي التشريفيّ ، وغفل عن الجانب العبوديّ التكليفيّ. فما حاكى في مسيرته ووجوده في الأرض سوى أناهُ المتربّبة، وأقامَ عرشاً على البحر، وجعل نظاماً لأتباعه، يشابه نظام السماء في الملائكة، يريدُ أن يعوّضَ على نفسه فَقْد الخلافة، فعوضّ ذلك بجعل عرشه على الماء!! إنّه يحاربُ الله سبحانه، ويزعمُ (إبليس) أنّه إله في الأرض وعرشه فوق الماء، وله أتباعٌ (شياطين) برتبهم الكثيرة المختلفة. نعم .. مثل مجانين العظمة تماماً. مع قدرة وعلم أهّله الله بهما، يقومَ بدورِ الخبير بالنّفس ورسول المادة والتراب. وسلطان الظلام والشرّ. الثاني بشرٌ، أو نصف بشرٍ هجينٍ، لخبرٍ يقولُ أنّ السامريّ نصفه بشر ونصفه جان، فصحّت له تلك القدرة الخارقة، مع اعتبارِ أنّ من رعاه في طفولته حينما كان يقتلُ فرعونُ أطفالَ بني إسرائيل، من رعاهُ هو سيدنا جبريل عليه السلام في كهفٍ، وذلك ليُجريَ الله عليه هذه الفتنة والدّور في الأرض. فهو استثنائيّ القدرات، ابتدأه الله بالعناية، فأبى إلاّ الكفرَ والتمرّد والجناية. فهو سامريّ النّفس، دجّال الأرض والبشرية. أمهله الله تعالى فقال له موسى عليه السلام :   {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ ۖ}. سورة طه. فقال إن لك، ولم يقل إنّ عليك. فهي ميزة له وامتياز ليُجري الله على يديه تلك الفتنة الكبرى. 
واسمُه الحقيقي : موسى، مثل سيّدنا موسى عليه السلام، موسى عليه السلام رمز النّفس المسلمة المؤمنة بالله الصادقة الطاهرة، والسامريّ عليه خزي الله رمز النّفس الدجّالة الدنيّة المتعلّقة بكلّ هوى دونيّ ونفسيّ. وفي اسم موسى رمزٌ للنّفس.

وبعد كلّ تلك المساعي والحروب والفتن، وفي الأخير لا يصنعانِ إلاّ ظروف نهايتهما. طبعاً في بلاءٍ عظيمٍ تتجلّى فيه حقائق التجليّات، وعدلُ الحضرات. ويظهرُ في آخر الزّمان من الشرّ والظلم والتدجيل ما لا يظهرُ في غيره، وينتهي عهدُ الظلام والشرّ والتدجيل، وتتقدّسُ الأرضُ ويتجلّى فيها السلام والخير والبركة والرّحمة.

يُزالُ ويُبادُ الظالمون مراحلاً مراحلاً، فوجاً بعد فوجٍ حتى يكونُ آخرهم الدجال. ثمّ يليه ياجوج وماجوج، وهم (أي ياجوج وماجوج) من حقائق الإنسان حين تغلبه الخواطر النّفسية القرينية، في طريق سلوكه لربّ العالمين. فآخر الزّمان علاماته الكبرى علاماتٌ خارقة، غير اعتيادية، لأنّها ترسُمُ حقيقة الإنسان الكبرى ورحلته نحو الإسم الأعظم، وكان الأنموذج هنا هو الخليفة الخاتم، المهدي أصدقُ سالكٍ إلى الله تعالى. والله أعلى وأعلم.




الأربعاء، 30 سبتمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 76

أضيف 11/اكتوبر/2015


قد تجدون التكرار في ثنايا بعض هذه المقالات، ذلك أنّ هذه المقالات، تصدُرُ بحالها، ونفَسِها، بينها فترات، تعبِّرُ عن نوع تبريرٍ، أو صيحةً في عالم الحقائق والغربة. والله أعلم.

لبسم الله الرحمن الرحيم
إنّ كثيرين نقدوا كتاب الفصوص، وحتى بعض ساداتنا سمعته يتحفّظُ من كتاب الفصوص للشيخ ابن عربي قدس الله سره، وسبق لي أن قرأتُ بعضا من سطور وفصول الفصوص، وما يحضرني من معانيه، أجدُها عين الحقيقة معبّر عنها بلغة وأسلوب الشيخ الأكبر. الشيخ الأكبر من أجرأ من كتب في الحقيقة وبسطها في الكتب والصّحف، وإنّ للحقيقة مذاقاً مختلفاً، يتراوحُ بين الاستنكار وبين الدهشة العظمى، بحسبِ وقوف الحقيقة من الواقف عليها، أو بحسب طلب هذا الواقف عليها لها.
إنّها حقيقة مطلقة، حينما تصِلُ لسواحلها، تجدُها عين النقائض، قد تتوهّمُها بلا سيّد ولا حاكم، مشرعةً بلا حارسٍ ولا مالك، مطلقة هكذا، هي الإطلاق، ذلك التوهّمُ يأتي من الفكرة المستشرفة لمن لا يصلُ إلى تلك السواحل ذوقاً وعيناً، وقد تحسِبُها حقيقة أنانية لا تعتدُّ بسواها، ولا تأبه لغيرِها. هي عينُ النقيضين.
من هنا تقرأ ما جاء عن بعض الأكابر، قولهم شطحاً، وإن شئتَ تمكيناً، فكلا الوصفين جائزين، أنّه وجد عرشاً بلا ملِك، فجلس على العرش وصارَ هو الملك. نعم، هي الحقيقة المطلقة ما جعلتْ الطريقَ إليها إلاّ من هذا الوجه، وجه الإطلاق والتنزيه أن تتجسّدَ وتتحيّز وتتعيّن، إنّما جعلتِ الإنسانَ خليفةً لها، والقالب الذي يحتوي سرّها، ولا يصِلُ إلى ذلك المهمه المُصمت الأخير، إلا أمينٌ صفيّ صفا حقّاً من كلّ الأغيار، وصارَ قالباً لذلك الإطلاق، وقابلاً لذلك التجلّي الساذج. فلا تقبَلُ غيرَها، وإن كانَ عبداً، فقد صارَ عينها، إذ وصلَ إليها، وساذجاً قابلاً لسذاجتها، هي لا تقبلُ غيراً، ولهذا فعرشُها لا محالةَ فارغٌ لكلّ واصل، فما ثمّ اثنينية يا مغبون. فلا تستغرب هذه الحقائق. فهي بسيطةٌ وإن تعالت عن العقول. وهي سرّ السرّ. ومن هذه السذاجة تجلّت كل العظمة والوجود واللانهايات.
وأوّل من تجلّى منها، هو قالبُ الكمال ومحورُ الجمال، سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه صاحب المقام المحمود ولواء الحمد سيدنا محمد النبيّ الأمي، فهو حامِلُ كمالات تلك الحقيقة المطلقة المتعالية، وحامل حقيقة ذلك العماء الساذج، بحرُ التجلّي والهيولى. معنى المعاني، وحقيقة الحقائق. لأنّ صفاءها وعماءها هو عينُ الفوقية والتعالي عن سائرِ التجليّات، فمنه بدأ الكمال والجمال والرّحمة، وهي أي هذه الكمالات هي المسمّاة بالرّحمة، فالرّحمة كانت برزخاً بين الحقيقة المطلقة وافتتاح الوجود بالصفات، وأوّل الصّفات هي كمالاتُها، لأنّها معبّرةً عن تنزّه العماء والحقيقة عن النّقص والتأثّر بالتجلّي، فهي المحتد الكمالي للصفات، فكان هو الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وهو المسمّى الإنسانُ الكامل، فهو مجلى الكمالات والصفات بإطلاقها ومنتهى كمالها وجمالها. وسائر الأفراد الخلفاء على قدمه ورثة له. وبعد المحتد الكمالي تبداُ سائرُ التجليات بمراتبها ونقصها وتفاوتها. بلا نهاية ... فالحقيقة المطلقة غير قابلة للحدّ والتناهي، وتلك هي كمالاتُه سبحانه فوق الحدّ والحصر والتناهي. ومن هنا قال صلّى الله عليه وسلّم "زدني فيك تحيّراً"، وقال الله تعالى :"وقل ربي زدني علما". فلا نهاية لعلم الله تعالى وتجلياته، ولا حصر ولا إحاطة، فما يعلمُ بالله إلاّ الله سبحانه، ولا تصحّ كلمة عالم بالله إلاّ تجوّزاً، بل كلمة عارف بالله هي التي تداولها الساداتُ، وهي تعني المعرفة بالله على قدرِ ما تقبلُ القابليات بمعرفته سبحانه، فهو فوق الإحاطة والمعرفة والعلم سبحانه عزّ وجلّ.
وعليه فتلك الحقيقة، انبثقت منها حقائق الأعيان والخلْق، واستوعبَ كلّ مخلوقٍ وكلّ عينٍ من الأعيان حقيقته وتجليّاته ورحلته في ليلة أقداره، فما يمكنُ أن يستوعبَ فوق الحقيقة التي عليها فُطِرَ، فهي في الحقيقة معبّرةً عن عالم جبريّ أوّلي هو المعبّرُ عنه بإرادة الله التي سبقتْ كلّ إرادة، فلا يُمكنُ أن تخرجَ إرادة مخلوق وكائن عن إرادة الله تعالى، هذا معروف. ثمّ نسّق الله تراتبية الوهم والحجب، حتى ظهرتْ الإراداتُ والاختيار، وهي من جانبٍ آخر إرادة حرّةٌ منبثقةٌ من إرادة الله سبحانه، لأنّ الإنسان ما كلّفَ إلاّ لأنّهُ خلِقَ على الصورة، وتلك المخلوقية على الصورة وهبته الحرية والإرادة والاختيار، وفي الحقيقة ما ثمّ إلاّ حقيقته التي فُطِرَ عليها في الأزلْ، هي التي جعلته يختارُ ما يختارُ في حياته، ويتجلّى عليه ما يتجلّى من أقدار، فكلّ إنسانٍ هو قطبٌ في وجوده علِمَ ذلك أم لم يعلم، فوجودُهُ انبثقَ من حقيقته، وتجلّيه تجلّى من سرّه المكنون فيه، وهي الصورة التي خلِقَ عليه والسرّ المكنون في قلبه الذي انطبع به أوّل ما خلقه الله تعالى، ذلك السرّ هو الذي يجلِبُ جنسَ التجليّات التي تتنزّلُ عليه. وهنا بحرٌ غرقَ فيه من غرقَ، إنّه بحرُ القدر والقضاء والجبرية والاختيار. وخلفه يتجلّى سرّ الإنسان واصطفاؤه دون سائر المخلوقات، هذا الاصطفاء ضمّ الخصوصية الإنسانية بإطلاق، وإن كان أغلبُ من انتسبوا لهذا المخلوق شقوا بحقائقهم، لعظمِ الحقيقة المطلقة وثقلِها وعزّتها التي احتجبتْ، وحملها هذا الإنسان، إنّه كان ظلوماً جهولا، حين أشفقت منها السمواتُ والأرضُ.
لا يُمكِنُ أن تُجلى تلك النّصاعةُ للحقيقة حتّى لو أشارَ لها وكشف عنها الشاطحون أو العارفون، لأنّها محميةٌ بالقابلية، القابلية هي مستودَعُ القبول والعرفان والعلم، كما الدّوالُ الناطقة مجالاتُ تعريفها يتفاوت، ولا يمكنُ أن تقبلَ ما خرجَ عن مجال تعريفها. وكذلك هذه الحقائق، مستوى القبول فيها يرجِعُ للقلبِ لا العقل. لأنّ العقل في التحقيق واحدٌ، هو عقلٌ كلّي، والعقلُ الجزئيّ الذي يتفاوتُ بين النّاس مردُّه للقلب. ولذلك قال الله تعالى "أفلا يتدبّرون القرآن أم على قلوبٍ أقفالها". فنسبَ التدبّر والأقفال للقلوب لا العقول. ومن أجل ذلك قال العارف بالله الحكيم الإسكندري "وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به" لأنّ العلم لا يقعُ إلاّ بزوالِ الحجب وارتفاعها، وتوافق القلب مع العقل، فيحدثُ التجلّي الكلّي والوصول.

مزيداً من الحقائق المتعالية التي تبدو في نظر البعض أو الكثيرين شاطحة، فالنبوّة هي مقام إفتتاح الوجود وبرزخ الرّحمة ومقام الصّفات، فذلك واضح فالنبوّة هي الإنباء، وهي الواسطة والنّسبة إلى الخلق، وهذا هو برزخ الرّحمة ومقام إفتتاح الوجود وتجلّي التجليّات وظهور الصّفات، وهو مقام سيّد الوجود صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى "وما أرسلناك إلاّ رحمةً للعالمين". للعالمين أي لجميع العوالم. فهو الذي إفتتح الوجود وكان صاحبَ مقامَ الإنباء، والنّسبة والواسطة إلى الحقيقة المطلقة. وجاء في الحديث : كنت نبيا وآدم منجدل في طينته، وفي حديث : كنت خاتم النبيين في أمّ الكتاب. نعم لأنّه ما تجلّى العلم ولا ظهرتْ الصفات إلاّ به صلّى الله عليه وسلّم. فهو الحجاب الأعظم والباب الأوحد إلى الله تعالى.
أمّا الولاية فهي سرّ النبوّة، فهي مقام الذات بل سرّ الذات، وباطن الصّفات، هي ذلك المجلى العمائي الساذج، والمعنى الذي تنزّه عن المعاني. هي الحقيقة المطلقة. حتى لو ناحَ النّائحون، فهذه هي الحقائق والعلم. فالله سبحانه في قرآنه تسمّى بالوليّ وما تسمّى بالنبيّ، وهذا دقيق ومرادٌ. ومن أجلِ هذا فإنّ المسمّى بخاتم الولاية، وهو الخليفة المذكور في كتاب الله تعالى حامل سرّ الخلافة الإنسانية، هو صاحبُ ذلك السرّ العمائي والسذاجة الذاتية بالأصالة. وهو صاحب الذات بالأصالة فيه انطوى السرّ المكنون.
ولذلك كتب الشيخ ابن عربي قدس الله سره عن ختم الأولياء، كتابه المسمّى بعنقاء مغرب، وأشار إليه كأنّه شيءٌ معجز أسطوري، وأخفى مقامه حتى لا يفتن الناس أكثر ممّا فتنت سطوره التي أشاعها في كتبه وصحفه، وكذلك كتماً للحقيقة عن غير أهلها، وأوّلهم الخاتم قبل بلوغه تلك الحقائق عرفاناً وقابليةً ... بل وكتمَ الخاتم، وما عيّنه، حتى نسب كثيرون تلك الختمية لأنفسهم. والولاية والختمية مرتبة من وجه، وهي سرّ الإنسان كما سبقَ أن ذكرنا، ولكنّها بالأصالة لواحدٍ هو خاتم الخلفاء وشمس المغرب. الذي يظهر بالاضداد والنقائض، ويُعبّرُ عن تلك الحقيقة المطلقة التي تقبلُ النّقائض والأضداد. ويعرفُهُ أهلُ الوصول الأمناء، ويعرفُه أهلم العرفان الحقيقي، ويشهدونَ تلك الحقيقة فيه سيرةً ووجها بملامح وجهه وخلقته، لأنّ الخلقات والشمائل الخلْقية والملامح معبّرة عن حقائق النّاس. كما هي الأخلاق تماماً، وهو يجمعُ الحقيقة المطلقة بخلقته وأخلاقه، في جمعه بين الأضداد كما هي الحقيقة المطلقة لا تتحيّزُ بمعنى أو معانٍ محدودة، بل هي مطلقة لها الإطلاق بإطلاقه ولانهاياته. وكتب كذلك الحكيم الترمذي رضي الله عنه عن ختم الأولياء وكتب عن مجذوب وحسب، وهو هذا المجذوب الذي يجمعُ بين الأضداد قبل كماله وخروجه إلى الإطلاق. وكتب عنها كذلك أو عنه بفقرات متفرّقة وأشعار منثورة متفرّقة في كتبه الشيخ الفرد الجيلي قدس الله سره. وعيّنه تعييناً أنّه هو المهدي، وهو خليفة الله. كما جاء في الحديث الصحيح في تعيين المهدي أنّه خليفة الله.
وإسم المهدي فيه تلك الدّلالة وذلك المعنى، فهو مهدي بسرّه الذي منه تجلّت سائر الأسرار، وهو مهدي إلى الإسم الأعظم بعفوية وتلقائية دلّت على سرّه، لمّا أعطى في مسيرته جميع المحاتد التي تجلّت في الوجود، وبذاتِ الوقت سلك نحو الذات، وما شاركته في ذلك السلوك نفسٌ، فهو سالكٌ بغيرِ نفس. ويأتي بالولاية كاملةً، بسرّها المكنون وحقيقتها. واسمُه دلّ على ما جاء في كتاب الله تعالى : المهدي : أي ألم هدى، المراد في قوله تعالى في افتتاح سورة البقرة : "ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين". فهو ألف الذات ولام العلم والأسماء وميم الصفات والحكمة والتعيين. فهو شطرٌ في حقّه وشطرٌ في خلقه. لأنّه عين المادة التي تجلّت منها الأعيان والخلق. فهو السيّد والخليفة ومالك الملك والإمام الأوّل. حقيقته التي أشار لها ودلّ عليها فرضتْ عليه مقام الكتم، لأنّ ختمه لم يدلّ إلاّ على الحقيقة المطلقة التي أشرنا إليها وهي عدم التحيّز والتعيّن وهي التجرّد من كلّ معنى وشيء.
فقد أعطى محتد السّائر بسعيه ونفسه إلى الله تعالى وهي زمن الخلافة الراشدة التي تُشرِقُ فيها الشمس من جهة واحدة، ثمّ أعطى محتد الذي زالَ عن عزّه وسعيه لمّا خرّب ظاهره وتنازلَ عن كلّ شيءٍ وهو زمن ظهور الدجّال، فهو دالٌّ على زوال هذا الختم من كلّ ما اكتسبه، فلمّا وجد ما اكتسبه فيه مشاركة نفس، وغير مقدّسٍ منها والنّفس مشاركة له، زالَ عنه وأسلمَ كلّه لله تعالى، وظهرَ دجّاله ظاهراً وفي الباطن هو خرابُ ظاهره وتخلّيه عمّا شاركت فيه النّفس، ثمّ أعطى أخيراً محتد نزول روح القدس وقبول الله له، وتجلّي ولايته العظمى ونزول الإسم الأعظم، وإشراق شمس الحقيقة عليه من كلّ الجهات.



الأحد، 14 يونيو 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 75

 لن تهلك أمة أنا في أولها وعيسى ابن مريم في آخرها والمهدي في وسطها
 أضيف للمدونة بتاريخ : 07 أكتوبر 2015
كتب بتاريخ : 14 يونيو 2015
______________________

عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " لن تهلك أمة أنا في أولها وعيسى ابن مريم في آخرها والمهدي في وسطها " حديث حسن. رواه النسائي وأبو نعيم والحاكم وابن عساكر.


__________________

إنّ هذا الحديث الشريف النبوي العظيم يبيّنُ عن عظمة هذه الأمّة في كونِها تجمعُ تلك الأسماء الثلاثة في وجودها وفي حقائقها، "لن تهلك أمّة أنا في أوّلها ". فرسولها هو المبعوث رحمة للعالمين نبيّ الأنبياء عليه وعليهم السلام ورسول ربّ العالمين إلى الناس أجمعين، وخير خلق الله وصفوتهم المصطفى أحمد الأمين، الذي جاء بأعظم شريعة وختمَ الدين وكمّله وختم الرسالات السماوية، وفتح باب الأحمدية بكونه صلوات الله وسلامه عليه الحجاب الأعظم والدّليل الأوحد الهادي إلى الله تعالى سبحانه.

فهو أوّل هذه الأمّة وقائدها ودليلها وقدوتها، فكيف تهلك ؟ وقد جاء في رواية أخرى نصّ الحديث "كيف تهلك أمّة ..؟" بصيغة كيف الاستفهامية الدّالة على معنى لن النافية. أي تعجّباً واستنكاراً كيف تهلكُ أمّة هو أوّلها صلى الله عليه وسلّم. وعيسى ابن مريم آخرها. أي ختامُها مختومٌ من ربّ العالمين بكلمته وروحه المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام، الذي هو نبيّ روح القدس، فكيف يُعقلُ أنْ تنفلِتَ وتبيدَ وتضلّ ضلالاً لا رجعة فيه ولا أوبة، وختامُها المسيح روح الله الذي نزولُه هو نزول روح القدس إلى الأرض التي تقدّسُ كلّ شيءٍ وترجِعُهُ إلى أصلِهِ وحقيقته، فلا يبقى إلاّ ولاءُ الأشياء إلى ربّها ولا يبقى إلاّ المعنى المقدّس في كلّ شيءٍ، وتزولُ نفثات الشيطان وصولات الدجّال وأوهامه التي دجّلها عبر القرون والأحقاب، فختامُ هذه الأمّة هو نزول روح القدس، أو نبيّ روح القدس، لأنّ المسيح عيسى بن مريم مثّل روح القدس نبوّةً، وصفةً. لا ذاتاً. ولذلك جاء في الحديث الشريف قوله صلّى الله عليه وسلّم والمهدي في وسطها.

وجملة المهدي في وسطها، عجيبة، ودالّة على كثيرٍ من المعاني والدّلالات في عالم الحقائق، التي تفوقُ تفسيرَ من يأخذونَ الأحداث والأمور بظاهرية وتاريخية ظهورية.

أوّلاً فمعناها هو ما يُوافِقُ ما يتبادرُ إلى الأذهان، ويقعُ في الظاهر، وهو ظهورُ المهدي عليه السلام قبل المسيح ابن مريم عليهما السلام، المهدي الذي يقيمُ العدل والخلافة الراشدة على منهاج النبوّة، ويحرّرُ الأمصار ويفتحُ القسطنطينية ورومية. فيعزُّ الإسلامُ في وقته أيّما عزّ ويقامُ العدلُ غاية العدل. ولكنّ المهدي كما هو معلومُ يخرجُ في زمنه الدجّال بعد فتح روما. فيفسدُ في الأرض وتظلمُ به ظلمةً كبرى، حتّى ينزلَ روح الله المسيح ابن مريم عليهما السلام عند منارة دمشق، ويصلّي خلف المهدي ثمّ يقتل الدجال ويقضي عليه عند باب لدّ. وهذا معنى الحديث الشريف.

وقولنا مثّل المسيح روح القدس صفةً ونبوّة لا ذاتاً، هو سببُ ورودِ ذكر المهدي عليه السلام في وسطها من جهةٍ، ليُعلمَ أنّ روح القدس ما كان لينزل لولا وجودُ المهدي عليه السلام، لأنّه صاحبُ روح القدس بالأصالة، فتقديسُ الإمام المهدي لا يعكِسُهُ سوى نزول روح الله المسيح ابن مريم ولكن نزولاً لتقديس الأرض كلّها والقضاء على دجّالها وشرّها وكسر صليبها وتجديد أرضها وزرعها وخيرها، فتتجدّدُ الأرضُ وتخضرُّ وتتقدّسُ وتذهبُ الصفاتُ السبعية والوحشية ويرتفعُ الشّنآنُ بين العباد ويزولُ الأذى ولا يبقى إلاّ السلام والخير في زمن المسيح عليه السلام بعد زوال ياجوج وماجوج. وهو معنى تجلّي الإسم الأعظم على الأرض. وذلك لا يكونُ تحقيقاً إلاّ بصاحب الإسم الأعظم المهدي عليه السلام، فهو سبب نزول روح الله المسيح. لأنّ المهدي يُبعثُ رجلاً من آل البيت، وهذه النّسبة الطينية يجتمعُ له فيها معها نسبته المكنونة في الولاية، فيظهرُ بالأضدادِ هذا الوليّ، ويُعطي معنى الولاية بالأصالة، فالولاية فيه مكنونة، وله التصريف قبل تحقيق شرائط القطبية والتصريف والولاية التي كان يتحقّقُ بها سائرُ الأقطابِ ليعطوا تلك الولاية وتلك القطبية وذلك التصريف، أمّا المهدي في نسبته الطينية ابتداءً وفي تركيبه العنصريّ، يكونُ وليّاً، إليهِ ترجعُ التجليّاتُ، وبه ينعكِسُ ما في العالَم من أحداث وحقائق. ولذلك كان هو الوارثُ للأرض الوحيدُ، والمؤهّلُ أن يُصلحَها وهو صاحبُ الأمانة وصاحبُ الأمرِ، لا يملكُ الجميعُ ما يملِكُهُ من كونِهِ صاحب الذاتِ الذي إليه ترجعُ حقائق الموجودات وأعيانُها، وبولايته وملكيّته وقطبيته الأصيلة المكنونة فيه، يرِثُ عرش الموجودات ويعيدُهُ إلى التقديس والصّلاح الأعظم بعد صلاحه هو. وهذا يعكِسُ قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمهدي في وسطها، أي لولا وجود المهدي ما نزل المسيح عيسى ابن مريم ذلك النّزول الأخير ليقدّس الأرض ويقتل دجّالها ويكسر صليبها ويقتل خنزيرها ويُذهِبَ شرورها ويبعث سلامها وخيرها. وهذا معنى قوله تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَرِث الْأَرْض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} سورة مريم-40. ومعنى قولهم إلى أن يرِث الله الأرض ومن عليها. فبعثة المهدي وظهوره هو علامة قيام الساعة ويوم القيامة ووراثة الأرض لصاحب الأمر.

وكذلك قال الإمام الجيلي قدّس الله سرّه في قوله تعالى : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}. الأنبياء-105. قال هو خليفة الله المهدي الصالح للوراثة الإلهية، الذي يستأثِرُ بالخلافة الإلهية الذاتية لخصوصية ليست في غيره. قلت ليست في غيره ولا ينبغي أن تكونَ في غيره. لأنّه صاحبُ الملك والذاتية والوليّ بالأصالة كان وليّاً وآدم بين الماء والطين.

ولعبارة : والمهدي في وسطها، دلالة أخرى، ومعنى ثانٍ، دلّت عليه لفظة في وسطها. والوسط هنا كما احتملَ البينية بين الأوّل والآخر وهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسيح عليه السلام، فهو يحتمِلُ معناه الظاهر في كونِ المهدي في وسط الأمّة، وليسَ في أواخرها وحسب، والمعلومُ أنّ ظهورَ المهدي هو علامة الساعة وفي آخر الزمان، فكيف جاء التعبيرُ في وسطها ؟

وقد دلّت العبارة على ما أسلفنا ذكرَهُ من كونِ المعنى يتجاوزُ المفهوم الظاهر الذي ذكرناه ويتبادرُ إلى الأذهانِ، أي والمهدي في وسطها، فالمقصودُ به والله أعلى وأعلم هو الأحمدية التي فتحها النبي صلّى الله عليه وسلّم بقدومه، بابُ الولاية الذي انفتحَ لهذه الأمّة المحمدية المرحومة الجتباة، فالولاية والخلافة والأحمدية نالَها أولياء الأمّة المحمدية وتوارثوها بموجبِ وراثتهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولكن ورثوا عنه الولاية لا النبوّة، فالنبوّة ختمها وسدّ بابُها، والولاية هي للوليّ الخاتم بالأصالة وهو المهدي، فقد صارَ ظهورُ الأولياء والخلفاء بثوبِ الخلافة والولاية العظمى هو معنى وجود المهدي في وسط الأمّة، فكلّ خليفة ووليّ كامل وقطبٍ هو نائبٌ عن الوليّ والقطب الأعظم، سواء كان الوليّ في مقام القطبية أو كان في مقام الفردانية والأحمدية، فهو نائبٌ عن القطب الأعظم والوليّ الخاتم المهدي عليه السلام. فهذا معنى وارِدٌ جداً وتدلُّ عليه اللفظة في وسطها دلالة كبيرةً، كون المهدي لا يظهرُ في التحقيقِ إلاّ في آخر الزمان وعند أوان الساعة ويوم القيامة كما ذكرنا آنفاً.

فأحمد هو إسمُ الولاية والخلافة، والأولياءُ خلفاء وورثة للرسول صلّى الله عليه وسلّم لأنّه أوّل عبدٍ حاز على المحمدية والأحمدية، فهو الذي اسمُه محمد وأحمد صلى الله عليه وسلّم، والورثة خلفاءٌ له، ولكنّه صلّى الله عليه وسلّم حاز على الأحمدية منّة إلهية ونيابة عن الله تعالى في مقامِ الإسم الأعظم، وصاحبُ هذه الأحمدية بالأصالة وصاحبُ الولاية الخاتمُ هو الخليفة الإمامُ المهدي عليه السلام. فهذا علمٌ محقّق ثابتٌ لا مريةَ فيه. فالمهدي هو صاحبُ أخلاق الله تعالى بالأصالة، هو روحُ القدس ذاتاً، ولذلك ذكرنا في البداية أنّ المسيح مثّل روح الله نبوّة وصفاتٍ. لأنّ عرش الخليفة عند تقديسه، لا يحكمُه سوى روحِ القدُس، الذي مثّل القدسية في الأرض، أمّا الخليفة الإمام الأعلى فيطلعُ شمساً مغربيىةً في عرش المجذوب الذي تقومُ فيه الصراعات الكبرى، وتقومُ فيه الخلافة الراشدة على منهاج النبوّة ويقعُ فيه الجهاد، فافهم. فعرشُ المجذوب لم يتقدّس بعد، لذلك يقومُ فيه الجهاد وتقعُ فيه الملاحمُ الكبرى والفتوح الكبرى التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم:

عن جابر بن سمرة عن نافع بن عتبة قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة . قال فأتى النبي صلى الله عليه وسلم قوم من قبل المغرب . عليهم ثياب الصوف . فوافقوه عند أكمة . فإنهم لقيام ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد . قال فقالت لي نفسي : ائتهم فقم بينهم وبينه . لا يغتالونه . قال : ثم قلت : لعله نجي معهم . فأتيتهم فقمت بينهم وبينه . قال فحفظت منه أربع كلمات . أعدهن في يدي . قال " تغزون جزيرة العرب ، فيفتحها الله . ثم فارس ، فيفتحها الله . ثم تغزون الروم ، فيفتحها الله . ثم تغزون الدجال ، فيفتحه الله " . قال فقال نافع : يا جابر ! لا نرى الدجال يخرج حتى تفتح الروم .

أي فنصّ الحديث الشريف : " تغزون جزيرة العرب ، فيفتحها الله . ثم فارس ، فيفتحها الله . ثم تغزون الروم ، فيفتحها الله . ثم تغزون الدجال ، فيفتحه الله ".

فالغزو في الحقيقة يقعُ من المؤمنين وعلى رأسهم المهدي عليه السلام، وآخر الجبابرة والمفسدين هو الدجال، يغزوه المؤمنون ويفتحه الله تعالى. بخلافِ ما يبدو للنّاس وفي الظاهر أنّ الدجّال هو الغازي.

وفي عالم الحقائق المهدي هو الذي يتسبّبُ في ظهور الدجال العلنيّ وغزوه والقضاء عليه أخيراً، بتقديس عرشه ونزول روح الله المسيح ابن مريم عليهما السلام.

فهذه حقائق كبرى عزّت على كثيرٍ من الأفهام.

والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل.

السبت، 30 مايو 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 74



إنّ محبّة الله سبحانه، لا تُعارض محبّة رسوله صلى الله عليه وسلّم.
والله سبحانه جعل الطريق لمحبّته عبر طريق محبّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم والفناء فيه. فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو روح الوجود وروح الطريق إلى الله وروح الخلق، لأنّه المعنى الذين منه خلقوا والنور الذاتي الذين منه انبثقوا، فلا يُعرفُ الله سبحانه إلاّ بذلك المعنى والمحطّ الرحماني، فحين تفنى في العبد الذي جعله الله معنى العبودية وحقيقتها فإنّك حينها ستمضي على قدمه لتعرف الله وتحبّ الله سبحانه. والرسول صلى الله عليه وسلم هو العبد الوحيد الذي أهّله الله لهذا الفضل وهذه الميزة، العبدُ الذي رأى الله سبحانه، وعرج إلى سدرة المنتهى. فلن تعرف الله وترى الله وتحبّ الله حقّ المحبّة إلاّ إذا كنتَ على قدم العبد الخالص الأوّل المحبوب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، فحين تتحقّق بمحمّدك ستشهدُ أحمدك. محمّديتك باب أحمديتك، عبوديتك باب خصوصيتك. كلّ الطرق منقطعة إلا طريق الحبيب المحبوب صلى الله عليه وسلّم. فمعراج القرب هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم.
هذا مبدأ ثابت، لا يُعارض ولا يُزاحَم. والشيوخ المربّون إنّما صحّ لهم ذلك، بتلك المحمدية فقد صاروا رسلاً لمعرفة الله تعالى والدلالة عليه. وقد اجتمع فيهم في الأصلِ، المحمدية والأحمدية معاً، فهم بابُها والأدلاّء عليها. ففنى المريدون في شيوخهم ثمّ فنوا في النبي صلى الله عليه وسلّم بشهود شيوخهم حاملي أنوار الحبيب صلى الله عليه وسلّم، ثمّ فنوا في الله تعالى لأنّ أنوار الحبيب صلى الله عليه وسلم قائدة لله تعالى. هذا هو الطريق. قلنا في الأصل، لأنّ الحقيقة ليس جميع من اشتغل منصب التربية والارشاد عبر الأزمان والأحقاب في هذه الأمّة تحقّق بتلك المحمدية والاحمدية ونال درجة القرب. بل ما أقلّ المقرّبين والأفراد المتحققين، شيوخ الارشاد والتربية بحقّ وتحقيق. قلّة نادرة وليس كلّ من اشتهروا وظهروا في الأكوان على ألسنة الخلق نالوا تلك الدرجة المقرّبة، فهذا حقّ. نادرون وقلّة وآحاد أهل التربية الأمجاد وكذا الأفراد.

وذكرتُ هذه المقدّمة والاستطراد، لأقول أنّ غربة آخر الزمان وصعوبته المتفرّدة ما كانت إلاّ مجلًى لطريق الله سبحانه، وطريق الإسم الأعظم. فإنّ إرادة وجه الله سبحانه دونها خرط القتاد، ولا يثبتُ لها إلاّ الآحادُ والأفرادُ. ولذلك جاء آخر الزّمان صورةً لهذا الطريق، فهو طريق صاحب الإسم الأعظم. وحضرته، وهو صورة الذين سلكوا هذا الطريق المظلم الغريب العظيم الذي تسقطُ دونَهُ دعاوى الأدعياء، وهمم الكثيرين وان كانوا نجباء، ولا يصمدُ ولا يبقى إلاّ الخلَّصُ القلّة الآحادُ.

فالذكرُ بالإسم الأعظم من أشدّ الأذكار على النفس، فهو قرينُ الجهاد، لا يعدله ذكرٌ، لأنّ النّفسَ تنفرُ منه نفوراً ويثقلُ عليها ثقلاً عظيماً، لأنّه يُبيّنَ عين هذا الطريق الخالص القائد لوجه الله سبحانه.

بين التحقّق بالإسم الأعظم وبين المريد حضرات ومنها حضرة الدجال، دجال نفسه وسامري نفسه وقرينه، وذلك شيءٌ يغرقُ فيه الغارقون، ويهلكُ الهالكون إلاّ من ثبّته الله واجتباه وأراد له الوصول، والوصول يُحصي شروطاً عظمى، الهمّة والإرادة الخالصة والثباتُ والعقل القويّ. الوصول إلى تلك المهامه يحتاجُ عقلاً عظيماً، على خلافِ ما يظنّ الكثير من المتصوّفة أنّ الطريق يُقادُ بغير عقلٍ. ولكن هناك عقلٌ للفهمِ عن الله سبحانه، وهناك عقل ترابيّ مذمومٌ هو المنهيّ عنه، وتشغيله يمنعُ السالك الى الله تعالى. فهناك التسليم والتفويض، وهناك العقلُ والفهمُ عن الله تعالى. ركنان متوازيان يصحّ بهما السّيرُ إلى الله تعالى.

صفوة الصفوة هم اصحابُ الإسم الأعظم، والملامية الأقدسيون، فنوا في الله تعالى، وخلصوا لوجه الله سبحانه، فهم أهلُ الله وخاصّته. فنوا عن النّفوس. وما أدراك ما النّفوس.

كم من مظهرٍ فخمٍ يُظنّ به الوصولُ، وهو في الحقيقة لم يطوِ نفسه، ولم يبلغ حضرة قدسه. ما أقلّ أهلَ حضرة الله تعالى. وطريقُ آخر الزّمان تتجلّى فيه الفتن التي تعرِضُ لخاصة المقرّبين، ولكن تتجلّى عامّة بحُكمِ ظهورِ الرجل الذاتيّ صاحبِ الإسم الأعظم ورجل الساعة والقيامة. فهو زمانٌ مختلفٌ عنيدٌ مريدٌ.

فالإسمُ الأعظم وطريق الله لا يقنعُ من السالك بشيءٍ، حتى يذهبَ بكلّ محبوباته ونديّاته وأهويته من حوله، ولايبقى له إلاّ وجهُ الله تعالى في طريقٍ عظيم شديدٍ، أساسُ السّيرِ فيه الاضطرار، ومن يقدِرُ على تلك الأهوال والمفاوز ؟ سوى صادقٍ ألجأهُ اضطرارُه لربّه، فانتشله الله من غرقه وعوزه وهلكته، ونجّاه به سبحانه. فهذا هو طريقُ الأحرار.

وفي هذا المقام، مقام الإسم الأعظم جاء عن حذيفة قال : جئت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والعباس -رضي الله عنه- جالس عن يمينه ، وفاطمة - رضي الله عنها - عن يساره ، فقال : " يا فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اعملي لله خيرا ; فإني لا أغني عنك من الله شيئا يوم القيامة " . قال - يعني ذلك - ثلاث مرات.
ثمّ التفتَ إلى العباس وقال نفس ما قاله لفاطمة.

سمعنا سادتنا رضي الله عنهم بما هو معناه عن هذا الحديث ، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لفاطمة عليها السلام بنت وقرّة عين ابيها رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أغني عنك من الله شيئاً، أي مقام اسم الله يطلبُ اجتهاداً خاصاً وإرادة وسعياً لا يغني فيه سائرُ الوجاهات والشفاعات، بل يطلبُ طريقاً خاصاً شاقاً لنيل تلك الخصوصية والتجرّد للوصال وطلب ذات الله سبحانه ووجهه خالصاً. وهنا ارتفعت النّسبة الربّانية عن النّسبة الطينية. فشرفُ النّسبة لله تعالى أعلى من شرف النّسبة الطينية. ولا يبلغُ بك مقام النّسبة الطينية مقام النّسبة الربّانية إلاّ بالتحقّق. وإنّما خُصَّ آلُ البيتِ عليهم السلام بنقاء طينتهم ونور النبوّة فيهم فكانوا إذا تحقّقوا بالنّسبة الإلهية فاقوا غيرهم وصارَ في وسعهم ما ليس في وسع غيرهم. لكن بشرطِ التحقّق الخالص وتحقيق النّسبة العالية.

ومن هنا، فإنّ محبّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي غايةٌ لأنّها وسيلةٌ لمحبة الله سبحانه، فما تحقّق بحبّ الله الأعظم الخالص سوى قلبِ عبده النبيّ صلى الله عليه وسلّم. والغاية والأصلُ هي محبّة الله سبحانه. ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) ﴾. ( سورة آل عمران ). وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: (أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه، وأحبوني لحبّ الله، وأحبوا أهل بيتي لحبي). رواه الترمذي.

وقال صلى الله عليه وسلّم "أهل القرآن أهل الله وخاصته"، لأنّهم تحقّقوا على قدم الحبيب صلى الله عليه وسلّم، القلب الجامع القارئ. قال الله تعالى "الرحمن علم القرآن". فلمّا نزل القرآن قلوبهم أيُدوا بروح القدس وصاروا في جملة المطهّرين وأهل حضرة الله تعالى سبحانه. هؤلاء هم أهلُ الحضرة، وهناك الفقراء الأقدسيون، مريدو هؤلاء الاساتيذ.

والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.