الخميس، 25 ديسمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 70



                            النقطة المُصمتة (.) والنقطة المجوّفة ( o )
                                   نقطة الذات ونقطة الصّفة

النّقطة ( . ) كانت في كنزيّتها تُخفي أسرارها وعلومها وبحارها وكلماتها وحروفها ومعانيها، فشاءت أن تتجلّى، فما تجلّت إلاّ من ذاتها لذاتها في ذاتها، ولكنّها تجلّت بحكمة وعلم وتقدير قدّرت تجلياتها ببعدين زمان ومكان، مقداران متجليّان من حكمتها وقدرتها وإرادتها في تجليّاتها، فأنشأتْ نقطةً مرآةً لها مجوَّفةً ( o ) . تكونُ هذه النّقطة المجوّفة مرآة التجليّات وبها تخرجُ الأسرار والعلوم والموجودات من عماء النقطة المصمتة الأولى، فكانت النّقطة الثانية هي نقطة التعيّن بها برزت جميع الحروف والكلمات والمعاني والدلالات وسائر التجليّات من عماء النقطة وكنزيّتها. وجعلتها مجوَّفةً تحملُ صورتها في الدائرة حول التجويف، ألف دائرٌ الذي هو من جنس النّقطة، أوّل حرف ظهر من النّقطة وأوّل حرف له اقترب من النّقطة بعدا واحداً. فكان الألف هو حامل سرّ النقطة وعلمها وعماءها بالذات والتّمام، لأنّ النّقطة ما برزت إلاّ حروفا في عالم الأبعاد والتجلّي فجعلت الألف خليفة لها، وبه تشكّلت المرآة التي هي النّقطة المجوّفة أي بالألف، فحصّلت النّقطة المجوّفة البرزخية بين عماء النّقطة المصمتة وبين عالم التعيّن والتجلّي والتجويف، وذلك بواسطة الخليفة الألف لأنّه عينُ النّقطة ولكنّه كان كتاب النّقطة في كنزيّتها. لأنّه نقطتين، نقطة الكنه الغير المدرك ونقطة العماء والمادة المتجليّة، وجاءت النقطة المجوّفة أوّل مرآةً للنّقطة المصمتة أي مرآةً للألف، ولكن منها اي بالنقّطة المجوّفة بدأ بُعد الزمان والمكان والتجلّي. فسمّيت نقطة الصّفة لأنّها أظهرتْ صفات النّقطة المصمتة من الكنزية الى الظهور بالآثار في عالم التجلّي والخلْق. فجمعتْ نقطة الصّفة بين العماء والكنزية وبين الظهور الصفاتي والتعيّن في عالم الصفات والخلْق.
وسائر من جاء من حروف عالياتٍ من أخذوا الصورة الألفية، أخذوا تلك الصورة بواسطة النقطة المجوّفة نقطة الصّفة التي هي ألف بالصورة ومرآة هذا الألف الأصليّ الذي خلَفَ ومثّل النقطة بذاتها.
فلمّا برزت الحروف والكلمات والتجليّات من عماء النقطة المصمتة برزوا بالواسطة نقطة الصّفة والتعيّن والتجويف مرآة الشهود والنقطة القاسمة من بحر العماء والكنزية، فكانت السّابقة والفاتحة للوجود والقاسمة من عطاء النقطة الأحدية.


غير أنّ الحروف والكلمات لم تكن في الأخير والحقيقة سوى النّقطة الأولى الأحدية التي أخذت ما أرادت ممّا شاءت من صور وحروف وكلمات بواسطة خليفتها الألف الذي خطّ الحروف والكلمات وحبرها. فكان وجهُ النّقطة يلوحُ في كلّ حرف وكلّ كلمة وكلّ لمسة لأنّها أصل كلّ شيء،ولأنّه في التحقيق ما ثمّة سوى تلك النّقطة المصمتة وما تجلّى شيءٌ إلاّ في ذاتِها ولكنّها قدّرت وشاءت أن تتجلّى لمخلوقاتها وموجوداتها وحروفها وتُشهدَهَم وجودها وخلْقها وإبداعها وكمالاتها الغير منتهية وصفاتها العليّة. فأبرزَتهم من مرآة شهودها نقطة الصّفة. فكانت نقطة الصّفة هي أوّل حامل لسرّ النّقطة المصمتة وما جاء من بعدها من حروفٍ عاليات أخذوا صورة الشهود كانوا على قدمها وبواسطتها. فكانت أقربهم للسرّ الذاتيّ المصمت في كنزيته الغير المدرك.
وقالت بلسان حضرتها العلية النقطة الأولية "إنّي جاعل في الأرض خليفة"، أرض تجلياّتي وصفحات سطوري وكلماتي، به تظهرُ الحروف والكلمات والمعاني والاعتبارات بين مداليلها المختلفة وتمايز معانيها. مهما برز في هذه الأرض فبحقيقة هذا الألف الذي رسم وكتب وأظهر الحروف والكلمات وكان مادتها من نقطتي. فسمّته إنسان، وأخذ هذا الإنسان جميع مكنونات الحروف والكلمات والمخلوقات في عالم الأرض والتجلّي. لأنّه خُلِقَ على صورة الألف الأوّل الأصليّ الذي رسمَ الحروف والكلمات والتجليّات. وجعلت هذا الإنسان مطلق الإنسان مركّب بتركيب حقائق الموجودات فيه التي ترجِعُ إليه، فيأخذ تأثيرها عليه بتمايز معانيها فيه واختلاف دلالاتها عليه، بين علوّ وسفلٍ، ومن هنا برز الابتلاء والتكليف، وتمايز الإنسانُ بين نازلٍ إلى حضيض الدّلالات والمعاني والكلمات، وبين متعالٍ إلى علوّ الدّلالات وإطلاقها وكمالاتها التي فاضت بها من نقطتها وكنزيّتها الأولى، وجعلتِ النّقطة المصمتة رسولها إلى عالم الأرض والتجليّات إلى هذا الإنسان المخلوق على صورة الألف الأصليّ، هي النّقطة المجوّفة نقطة الصّفة التي بها ومن أجلها خلقت هذا العالم بين علوّه وسفله، وأظهرتهُ ليشهد خلقُها وعبيدها بتلك المرآة ما صنعتْ. فكانت نقطة التجويف ونقطة الصفة لها مظهر في الحروف شابه الألف، هو أقرب الحروف إلى الألف، له وجهة للألف ووجهة أخرى للحروف الأخرى، هو حرف الباء. له نفس شكل الألف، إلاّ احدوداب عند الطرفين، ونقطة تحته. لأنّ الألف كان لا يمثّل إلاّ المادة الأولية في عمائها، بكونه كان مستقلاًّ ما قام بحرف آخر، حرف الألف ا ، فكان حرف الألف هو رمز الهوية التي تتوجّه إليها سائر الحروف والمخلوقات، مستقلّ منفصل حامل سرّ النّقطة المصمتة. إذ الحروف كلّها هي نقطة في الأوّل والأخير. فكانت الباء حرف الصفة وواسطة الإنسان إلى حرف الألف، لها شكل الألف كأنّ جميع الحروف تشكّلوا من باء عند الكتابة والرّسم، لأنّها أعطتهم البُعد الزماني والمكاني خلاف الألف الذي بُعدُه هو بُعد العماء. ولذلك جاء رسمُ الباء كأنّها ألف نائم، ظلّ للألف، فابتعدت قدر نقطتين عن النّقطة، ابتعدت نقطةً في رسمها كما ابتعد الألف، ثمّ ابتعدت عن النقطة التي تحتها بانفصال اعتباريّ، بعداً آخراً، فكان بعدُها الأوّل عن الألف وكان بُعدها المنفصل الاعتباريّ عن نقطة الكنه الغير المدرك. الذي هو مدركٌ للألف الأصلي وحسب، الذي ابتعد بُعداً واحداً عن النقطة، لأنّه عينُ النّقطة مُدرك لكلّ حقائقها وأسرارها وكنهها وكان خليفتها في الأرض وعالم التجليّات، فافهم.

فلمّا قالت النّقطة المصمتة بلسان حضرتها العلية "إنّي جاعل في الأرض خليفة". قصدت أنّ عالم الأرض وحيّزه وحيّز تجلياتها فيه سيكونُ قائماً ما قامَ بألفٍ هو خليفتها، هو حامل سرّها وحامل سرّ النّقطة، وصاحب المادة العمائية الذاتية، الذي به تتشكَّلُ المخلوقات والتجليّات وهو حاملُ الوجه الذاتيّ  لمّا قالت بلسان حضرتها العليّة :
﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. فالوجه ما كان إلاّ بالخليفة والألف الأصليّ الأوّل حامل سرّ الذات. ثمّ جعلت النّقطة العليّة الإنسان  خليفةً بالاعتبار الذي ذكرناه بكونه على صورة الألف، حاملاً لجميع ما برز للوجود فيه، وكان المقصود من سائر الإنسان الخليفة الذي يكونُ حاملاً لسرّ الخليفة الأوّل، أي ألفاً ظاهراً موجوداً في كلّ زمانٍ، يكونُ هو الخليفة والألف الذي به تقومُ الحروف والمخلوقات، ويكونُ على صورة المرآة مرآة الشهود والنقطة المجوّفة نقطة الصّفة التي حملت صفة النقطة وكمالاتها وإطلاقاتها في عالم التجلّي، أي على صورة الباء من وجهٍ وارثاً للباء وخليفةً لها، وفي نفس الوقت على صورة الألف خليفةً ونائباً للخليفة الأصليّ الألف الأصليّ الذاتيّ. فافهم.
على هذا النّسق تجلّت النقطة من كنزيتها وعمائها، وجعلت خلائف على مدار الأزمنة يقومُ بهم في كلّ وقتٍ ما برزَ، يحملون سرّ الألف الأصليّ الذاتيّ.

ثمّ لمّا نضجت مسيرة الوجود إلى ذروتها وتأهّلت للشهود العليّ ظهرت الباء الأصلية التي بها برز هذا الوجود وظهرت النّقطة المجوّفة التي بها برز جميع التجلّي من عماء النّقطة المصمتة، فدلّت هذه الباء على الألف الأصليّ وكانت له واسطةً. وهي السّبب التي من أجلها خلقت النقطة العلية الخلْق ليشهدوا بواسطة هذه النقطة المجوّفة (نقطة التعيّن والصفة) خلْقها (أي خلْق النقطة المصمتة) وتجلياتها وإبداعاتها وجمالها وكمالاتها.


ثمّ لمّا حان موعدُ الساعة والعودة إلى عالم الجزاء واليوم الآخر، ظهر الخليفة الأصليّ، الألف الأصليّ حامل سرّ النقطة المصمتة والذي هو مادة جميع المخلوقات والموجودات. فظهرَ أوّلاً بنسبته العادية مركّباً بتأثيرات الدّلالات والمعاني والحروف والكلمات المختلفة في الوجود، في زمنٍ كانت قد أخذتِ الطبيعة الظاهرة الكافرة بغيب الوجود وحقيقته وبنقطته وبألِفه الذي به ظهر، أخذت سيطرتها على الموجودات بتدجيل المعاني وقتل المعاني والدّلالات العلوية وتثبيت المعاني والدّلالات السّفلية، بتدجيل وشرّ عظيمين لم يعرفهما زمان قبل ذلك. ففسدت الأرضُ وعمّها الظلمُ العظيم والفساد الكبير، والخليفة متأثّرٌ بتلك المعاني الموجودة والدلالات السّفلية لأنّهُ عينُها وروحها في الأصل فهو يأخذُ ما هو موجود قبل رجوعه إلى أصله الأوّل، وإطلاقه، لأنّه في دائرة التقييد. وهنا يظهرُ سرّهُُ فيقودُه سرّه الذاتي فيه المكنون فيه أن يعود بالوجود إلى أصله إلى إطلاق معانيه وجمالها الأعلى، عند تحرّره من قيده وتركيبه العنصريّ فتكونُ حينئذٍ الساعة ويوم القيامة، لأنَّهُ قد ظهرَتْ شمسُ المغرب والألف الأصليّ العائد بالوجود إلى أسمه الأعظم ووجوده الأصليّ وحقيقته المقدّسة من الدّلالات السفلية والحضيض. فيظهَرُ إماماً مجاهداً قائماً بالعدل حقّ قيامه ليُعطي كلّ حقيقة موجودة في وقته قيمتها التي تليقُ بها، فهو الذي ظهر بها، وهو حقيقة كلّ شيءٍ، فيعدلُ ويُبيدُ الظلم والظالمين، وآخرهم الدجّال. ولا يكونُ هو من يقتلُ الدجّال، لأنَّهُ هو الألف الأصليّ وهو الذي تحمّل ظهور هذا الدجّال فهو حقيقته، فإذا حان موعد تحرّر وجوده من الدجل والشرّ والحضيض والسّفل ينزلُ روح الله النبي المؤيّد بروح القدس ليقدّس الموجودات فتظهرُ بتمايزها لكن تمايزها الجميل والعلوي المقدّس ويقتل روح الله الدجّال. ويحكمُ روح الله الذي هو روح الألف هذا الوجود الألفيّ المقدّس. وتنتهي قصّة الدّنيا. وتبقى التفاصيل الختامية لزوال هذا الوجود الدّنيويّ الذي قام بهذا الألف، فإذا ذهب هذا الألف ذهب هذا الوجود الدّنيويّ، ثمّ يُعطي هذا الألف ذاتُه الوجود الأخروي الأبديّ الخالد. وفيه يُجازى كلّ مخلوق جزاءه.


السبت، 13 ديسمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 69



وما أردتُ تبيينه في المقال السابق أنّ كلّ عبدٍ وكلّ إنسانٍ هو في الحقيقة مخلوق على الصورة في حقيقته، هذا هو الإنسان وهذه هي إرادة العناية الربانية في آدم وبنيه، ولذلك فإنّ كلّ عبدٍ له مجرّة خاصة به إن شئنا قول ذلك، أو أنّه يجمعُ السموات والأرض جميعها فيه، نسخةً منها. نعم نسخةً منها كما النسخة الأصلية للعالم. وهذا العالم الذي ينطوي في كلّ واحدٍ منّا هو منطوٍ بالمادة من كونِ كلّ جزءٍ فينا يعكِسُ ما هو موجود خارجنا وفي العالم الكبير، وهو منطوٍ فينا بالرّوح التي يتجلّى بها جميع الأشياء والعالم. وعلى هذا النّمط والصورة خلق الله الإنسان، وكلّفه.

فقال له عبدي وهبتُك هذا الوجود وهذا العالم وخلقتُك على الصورة، وأنعمتُ عليك بجميع ما في السموات والأرض وسخّرتهم لك، وأرسلتُ لك الرّسل ليعرّفوك حقيقتك وحقيقة ما أنت فيه، ووهبتُك العقل لتسمع وترى وتعقل وتفهم والقلبَ ليقودَ خطاك إليّ إن أطعتني من خلال رسلي ورسالاتي.

وجعلتُ فيك فطرةً تولدُ عليها وهي حقيقتُك وأصلُك، فطرةٌ تقودُ قلبكَ إليّ، ولكنّني خلقتُك لتعبدني وتعرفني، وتعرِفَ نعمي عليك وحقيقة وجودك، وأنّك بالإرادة المودعة فيك تملك سلاحاً ذو حدّين، إمّا أن تختارَ حقيقتك وأصلَك وترجعَ إليّ بالشكر والعبودية فأحرّرَك منكَ وأتفضَّلُ عليك بجميع ما وهبتك في العوالم، وبجميع ما تحمله روحك ممّا تعلمه وممّا لا تعلمه وممّا تراهُ وما لا تراهُ، ولديّ مزيد وعطائي لا نهاية له ولا حدّ فأنا الخالق العظيم جلّ شأني، أو تختارَ الوهمَ على الحقيقة، والنّعيم العاجل المتوهّم بإرجاع الأمر إليك ولو على حساب القيم وما شرعتُه لك من خلال شرائعي التي جاء بها الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي شرائعٌ ما جاءت إلاّ لتوجيه حياتك وحياة من حولك للأفضل وللمصلحة العليا والفضلى وللخلاص من أسرِ وهمِك والكفر بالمنعم الذي تفضلّ عليك، والكفر بوجوده الذي هو الوجود الحقيقيّ، وجميع ما تراهُ من خيرٍ ونعم وعجيب المخلوقات هم مخلوقاتي وهم تجليّاتي وهم آثار أسمائيّ وصفاتيّ وآثار أفعالي في هذا الوجود. فلا شيء حولك له القيومية بنفسه، إلاّ بقيامه بي وحدي أنا سبحاني فأنا الحيّ القيّوم المطلق. فلا تكفرْ بي وبوجودي وبالحقيقة التي أقمتُك عليها وبالصّورة التي بها أنت تملكُ هذا الاختيار المطلق، الذي وهبتُه إيّاك، ولكنّه اختيارٌ كسلاحٍ ذو حدّين، فإمّا أن تخترقَ الوهْم وتؤمن بي وتنعم في الأخير بالخلود في النّعيم والرحمة المطلقة، وتحيا حياةً طيّبة في الدّنيا والآخرة. أو تبقى حبيس الوهم وتختار الظلم والأنانية والكفر ومصدر الشرّ والنّقص في حياتك وفي الأخير ستعودُ إليّ لأجازيك جزاء كفرك بوجودي وجزاء شرّك وبغيك في الأرض وظلمك لعبادي وخلْقي.

هكذا خيّرَ اللهُ سبحانه كلّ عبدٍ، سواء عرف أو يعرف هذا الاختيار، وأنَّهُ في الحقيقة لا موجود حولك سوى تجليّات نفسك عليك، فافهم.

فمجرّتك وعالمك والعالم من حولك كلّه هو تجليّات الصورة عليك، ولكنّها تمرُّ عبرك، عبر قلبِك وعبر نفسك، فتنعكِسَ تجليّات الصورة المنعكسة من الإسم الأعظم، لأنّ الإنسان مخلوق على الصّورة، ولكن بوجودِ نفسه وفرقِه، فإنّ ذلك يُعطي وجودُهُ الذي هو فيه، وجميع ما في الحياة هي حصادُ لزرعِك بطريقةٍ ما. فإنّ جملة الأسماء التي تعلمُها والتي لا تعلمُها التي أظهرتْ هذا العالم هي تتأثّرُ بك أنتَ في ما يدورُ حولك، وقد ذكرتُ هذا في مقالٍ سابق عن الإنسان وعلم الأسماء والتّصريف. ومن هنا فإنّ جميع ما يتعرَّضُ له المرءُ والعبدُ مصدرُه الله سبحانه، ولكن هو نتيجة قلبِه واعتقاداته وأخلاقه الباطنة فيه، وصورة نفسه في الحقيقة. وكان مصدرَ الشرّ والنّقص والأذى هو نفسُك، وكان مصدرَ الخير هو الله سبحانه. ونقصِدُ هنا أنّ مصدرَ الخيرَ يأتي من حيثُ الهوية المتجرّدة المطلقة المنسوبة لله سبحانه، ومصدرَ الشرّ هو نفسُكَ. ولا يظهَرُ هذا الأمرَ للنّاس والعبيد إلاّ في مرحلةٍ متقدّمة من السّلوك وعند اقتراب العبدِ من الحقيقة ليخرجَ من قيده إلى إطلاقه، ويخرج من وهم نفسه إلى صورته المخلوق عليها بأصليتها وحقيقتها أي إلى وجود الله سبحانه.

وهكذا خلَقَ الله الإنسانَ وكلّفَه في الدّنيا، وذلك بجعله مزيج روحٍ خالصة عارفة بالله هي أصلُه وحقيقته وصورته المقصودة من الوجود، وهي العاكسة لما هو فيه من حياةٍ، وجسد ترابيّ وطيني وتركيب عنصريّ يشكّل بصيغة ما وجودَهُ المقيّد ونفسَه العنصرية .. فإذا هو ركَنَ لهذا الوجود المقيّد أعطاهُ ما هو من جنسِه، وهو التقييد والألم الحسّي واللّذة الحسية في دائرة العنصر، والوهم الذي قام به الحياة. وأعطاهُ هذا الوجود المقيّد والوهم الذي هو فيه آثارَ الموجودين معه في العالم، ويعيشُ على تلك البهيمية والطبيعة الحيوانية فيه، لا يأخذ من دنياه سوى ما عاشَ من أجله وله. أمّا إذا آمن بالله سبحانه وبالغيب، والتجليّات الأسمائية المتصرّفة في حياته بالله سبحانه، فإنّ آثارَ هذه التجليّات تتعدّى ذلك الوجود المقيّد، ويقودُهُ ذلك للنّور، ولا نور في الحقيقة إلاّ نور الله سبحانه الذي أنار بنوره السموات والأرض وجميع المخلوقات بتجلّيه سبحانه، وجميع الموجودات والكائنات وهمٌ وآثار تجليّاته وحسب.
لذلك قال الله تعالى سبحانه
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ  أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} سورة البقرة.
فالله وليّ المؤمن به يخرجه من ظلمات الوهم إلى نور الوجود الحقيقيّ إلى نور الله سبحانه. والذين كفروا بالله وبوجوده وبالغيب الذي يديرُ حيواتهم ويقيمُها، تولّاهم الطواغيت وهي جميع الطّبائع والأوهام المتجليّة في وجودهم غير الله سبحانه فتسقيهم طواغيتهم الظلمة ومزيدا من الرّكون الى الطبيعة الترابية والوهم، وليس ثمّة سوى الوهم ما يُضادّ مصدر النّعم جميعها والخير جميعه والوجود جميعه فينعكِس ذلك عليهم شقاءً وحرماناً وعذاباً في الدّنيا وفي الآخرة أجلى وأمرّ. أمّا المؤمن وإن تعرّضَ للمعوّقات في طريقه وطريق خروجه من الظلمة فهو منقادٌ إلى النّور الحقيقيّ، والوجود الحقيقيّ ومصدر الخير والإطلاق والنّعم جميعها. فينعمَ بذلك في مرحلةٍ ما في الدّنيا بحياةٍ طيّبة حتّى لو كانت في النكّبات والمعوّقات والابتلاءات التي هي من طبيعة الرحلة الى الوجود الحقيقيّ وطبيعة الدّنيا، ويذوق تلك النّعم والهناء والسّكينة من الله سبحانه تغمرُ قلبُه، ولكن آثارُ الحياة الطيّبة وذوقُها لا يظهرُ إلاّ في مرحلة ما من تجاوز الظلمة والقرب من الله سبحانه. هذا لعموم المؤمنين، وفي الآخرة نعيم يتجلّى خالد، ورضا من الله سبحانه الذي به آمن المؤمن.

فقلتُ لا تظهَرُ هذه الحقيقة بجلاءٍ ووضوحٍ إلاّ لسالك طريق الله للتحرّر من قيده إلى إطلاقه، ووهم نفسه إلى حقيقة وجوده، فإنَّهُ حينئذٍ يتجلّى عليه وهمُ وجوده ووهم الطّبائع فيه أي من حوله، بالحربِ عليه، ولمّا كان العالم هو صورته ونسخته ومنطوٍ فيه، فإنّ الذي يقودُ الحرب عليه هو قرينه وهو نفسُه ووجوده الوهميّ والعنصر فيه الملتصق به الذي يغذّي الحسّ والعقل التّرابي، وحينها يجدُ شيطاناً عليماً بالعالم والعيوب والمداخل النّفسية، يتجسّسُ على نفسه ويعلمُ عنه كلّ صغيرة وكبيرة منذ ولادته، وهو لا يقدرُ على دفع هذه الجوسسة لأنّه أسير النّفس ولم يخرج ولم يتحرّر من الأكوان ولم يخرج إلى الإطلاق والفناء عن نفسه. وتقوى هذه الحرب وتأخذ أبعاداً أكبر كما ذكرنا عند من يكونُ سلوكه جادّاً فيحصلُ بسلوكه اتِّساعُه في الإسراء والعالم ليخرج من القيد والوهم، فيأخذ بذلك عقلُه التّرابيّ ونفسُه وقرينُه حجماً أكبر وقوّةَ أقدر في التصريف في عالمه يُعاني من شيطانه ومن يوالون الطواغيت على حساب الوجود الحقّ والنّور. فيُبتلى أشدّ البلاء.

ومن هنا كان أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أي بقدرِ اتّساعك وجديّتك وصدقك في طيّ الطريق تتجلّى عليك العداوة من القرين والطّباع والطواغيت حولك. وكان الأنبياءُ القدوة فكانوا أشدّ النّاس بلاءً. ثمّ يحصلُ البلاء بحسبِ هذا الصّلاح والصّدق في طلبِ وجه الحقّ سبحانه.

وهذا الذي كنّا نشرحُه عن العقل التّرابيّ والقرين والمهديّ وما يحصلُ له، وينعكِسُ ذلك عليه دجّالاً في عرشه هو عقلُه التّرابيّ المنعكِس من وجوده الوهميّ والترابيّ والطّبعيّ العنصريّ. ولأنّ المهدي كان الوليّ الذاتيّ الذي كان مصدرَ التجلّيات وصاحب الذات الساذج، فقد أعطى الصّراع النّفسيّ والعقل الترابي كما ذكرنا دجّالاً عليماً بعيوب النّفس عليما بالمادّة، يدجّلُ على النّاس بالأوهام ليجعلهم يؤمنوا بوهمِ حياةٍ قائمة على المادّة والأسباب من غيرِ مسبّبٍ وموجدٍ سبحانه، ومن غيرِ غيبٍ يحكمُ هذا العالم الشهادي الظاهر.
فالحقائق إذن أعطتْ ظهورَ هذا الدجّالَ، ورافق ظهورُه وإفساده قرونا طوالاً بدأ من زمان سيّدنا موسى عليه السلام وبعثته، وقد شرحنا ذلك في مقالات سابقة أنّ بعثات الرّسل عليهم السلام، كانت مراحل في الوعي والنّضج الإنسانيّ وحقائق الخلافة الإنسانية الكبرى، وكانت بعثة سيّدنا موسى عروجاً ونقلة نوعية للإنسان. ومنه بدأت الرسالات السماوية الكبرى. فتأمّل. والتي وجودها الى يومنا قائم. وهذا يضاهي تماماً ما ذكرناهُ في حياة المجذوب أنّ دجّاله يظهر بعد فتح دائرة القلب وبداية العروج في الحقائق السماوية. أي بعد فتح روما يخرج الدجّال.

فالحقائق أعطتْ ظهور هذا الدجّال اللّعين لأنّ الله جعله رسول المادّة والوهم والحدّ المتطرّف من العقل التّرابيّ، وما كان ظهورُه وخطرُه يشتدُّ إلاّ في زمن الخليفة الذّاتيّ، الذي ظهر به العالم، ليُعطي الجزء الماديّ والعنصريّ والوهم المنفصل عن حقيقته الذي يُغذّي وجود كلّ نفسٍ بكلّ شرّ وكلّ وهم وكفر وأنانية. ولهذا كان أعوراً ليُجسَّد هذه الحقيقة أنّه أعورُ العين، ليس له سوى عين المادة والظاهر والشهادة وهو طافي العين الرّوحية كافرٌ بالغيب، وأنّه وهمٌ ليس إلاّ يتجلّى بقوّته  وظهوره الجسديّ في زمن الخليفة أو المجذوب، لأنّ المجذوب هو الذي ظهر بالشّطر الخلقيّ كما سبق ان أشرنا.

وإبليس وشياطينه هي الجزء النّفسيّ المغذي لكلّ نفسٍ وشرّها وكفرها ووهمها. فالحقيقة أنّ إبليس والدجّال مؤتمرون بالقرين نفسه، وهو نفسُ العبد. لأنّهما من سطوات الوهم والعقل التّرابي على النّفس.

ومن هنا كان ظهور الخاتم والخليفة هو إرجاعُ الحقائق لما هي عليه، والقضاء على هذا الوهم وعلى هذا الشرّ في العالم، فيتقدّس المجذوب، وينعكِسُ ذلك بقتل الدجّال والقضاء على ياجوج وماجوج. وياجوج وماجوج هم من آثار الانسلاخ من التركيب العنصريّ للمجذوب، وتغيير عرشه. فالله يمنّ عليه بعرش جديد وجسدٍ جديد يليقُ بالأمير والخاتم والخليفة الذي يظهر ويحكمُ بالعدل. وجهه كالكوكب الدريّ من أحسنِ النّاس وجهاً. ويتجلّى ذلك -أي أثرُ التقديس- في عهد المسيح عليه السلام حيث يُقتلُ الخنزير وهو رمز الخنزيرية ويُكسرُ الصّليب وهو رمز الشرّك ويعمّ السلامُ الأرض في عهد روح الله، وتنبتُ الأرض أشجاراً وفواكه من أحسن ما يكونُ طعما وحجماً وبركةً وخيراً، وتخضرُّ الأرض، ليُعطي تجلّي أثر الإسم الأعظم على الحياة. يحكمُها روحُ الله المسيح. فافهم هذه الحقائق الكبرى.

وإنّ الخاتم والخليفة جوهرُه وحقيقتُه ليس من أفراد بني آدم، وإن كان على الصورة الإنسانية، ولذلك لم يدخلْ ابداً في اعتبار التفضيل. فهو ذاتُ الباري سبحانه متجلّ بمظهرٍ إنسانيّ. الإمام الأعلى للوجود. أعلمُ الخلْق بالله تعالى.

هو الجوهرة المصونة والياقوتة التي لا قياس لفردِ بها، فهو فوق القياس فافهم. فهو السيِّدُ الصّمد. وهو حقيقة قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". أي أنّ الصورة الإنسانية التي وُهبها الإنسان هي صورة ما تجلّى به الله على الإنسان وخصّه به من فضلٍ عظيم ورجوعٍ إليه. ولكن هذه الصّورة الإنسانية محدودة بحدّها، فاعلم. أمّا الخاتم فهو ظاهرٌ بالصورة الإنسانية، وهو فوقها وخارجٌ عنها لأنّه هو حقيقتها، وهو خالقُها. فلا مجالَ للمقارنة بين أفراد بني آدم جميعاً وبين الخاتم. وذلك أشارَ إليه جهبد العارفين بالله في كلامٍ نفيس عظيم دالٌّ على علم هذا العارف بالله وأدبه ومقامه الرّفيع وهو الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي قدّس الله سرّه العزيز لمّا قال في الفتوحات المكيّة : 


(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. ) انتهى.


  فافهم، فهذا فهمٌ عزيزٌ نفيسٌ، لا يعرفُه سوى الأفراد الغرباء الأمجاد قدّس الله سرّهم العزيز، فظهورُ الختم في الصورة الإنسانية لا يجعله محدوداً بحدّها وصورتها ومقتضيات ما جادَ به الله سبحانه على الإنسان وصورة العلم به. فهو فوق ذلك الحدّ، وليس داخلاُ في الاعتبار أنّه فرد من أفراد بني آدم. لأنّه المظهر الذاتيّ في الصورة الإنسانية، ظهرَ ليُرجع العالم لنصابه، ولم يشتهرْ في الأكوان، لأنّه فوق ذلك الحدّ من التشهير والرّتبة. ولهذا قال الشيخ الأكبر واصفا إياه "فقد زال بختمه عن رتبته".
وكذا وصفه الشيخ الجيلي وعرّفه تعاريف واضحة أنّ "لغته ليست لغة الخلق ولا محلّه محلّهم". وغير ذلك من التعريف به في مواطن مختلفة، والكتمُ الضاربُ عليه وعلى رتبته الشريفة. ولهذا أشارَ الشيخ الأكبر في قصيدته :

وحيدُ الوقتِ ليس له نظيرٌ ... فريدُ الذاتِ من بيتٍ فريدِ
لقدْ أبصرتهُ ختماً كريماً ... بمشهدِه على رغمِ الحَسُودِ
فقال : "أبصرته ختما كريما بمشهده على رغم الحسود."  

فلو كان كغيرِه ورتبته كغيرها من الرّتب، لما أشارَ إلى حسّاده والمنكرين عليه، فإنّما وقعَ الحسدُ والإنكارُ لرتبته العزيزة جداّ. وكذلك نعته في خاتمة كتابه عنقاء مغرب : بوصف السيّد الصّمد. ولعمري فإنّه لا صمد إلاّ صاحب الوجود الأحد سبحانه.

يتبع ..

الثلاثاء، 9 ديسمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 68



 الخليفة 

إنّ مدارَ ولاية الخاتم المجذوب في آخر الزمان، تدورُ حولَ طبيعة الخلافة في هذه الدّنيا، فلمّا كان مشروع الخليفة أو كان هو الخليفة، فقد اختارته العناية لتجسيد حقيقة الصراع الدائر بين النّفس وهواها والروح وقدسيتها، والصراع بين المادة والكثافة وما له معنى الفناء والزوال وبين الروح واللّطافة وما له معنى للبقاء.

فلمّا خلق الله الخلْقَ من أجلِ أن يعرفُوه بالنّسبة المحمدية، وكان صلّى الله عليه وسلم هو الأنموذج الأمثل والكامل والمعنى الذي من أجله خلق الله الخلْق وظهر وتجلّى من عمائه سبحانه، فكان رسول الحقّ سبحانه وصاحب الإنباء والمسمّى الإنسان الكامل والأنموذج الحقّي الذي اقتفى أثره الخلْقُ.

فاحتاجَتِ الدّنيا في آخر زمانها أن يظهرَ الخليفة الذي به دارت الصراعات وتجلّت التجليّات والذي مثّل حقيقة التجلّي في جميع مظاهره ومختلف محاتده بين الأطراف المتناقضة، فظهرَ هذا المجذوبُ من نسل وذرية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلّم وفي ذلك إشارةٌ لقول الله تعالى في محكم كتابه [إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا ] [الأَحْزَاب:33]. أي أنّه يُمثِّلُ حقيقة التطهير المطلق، فكان العبد المطهّر عن الأكوان في حقيقته، وإن كانت الآية تنطبق على آل البيت في العموم، ولكن لها هذا الوجه المخصوص في الإشارة الى المطهّر عن الأكوان المهدي. فقلنا ظهر هذا المجذوب من آل البيت، إنساناً ليُجسّدََ حقيقة الخلافة في أنموذج صراعها الذي قامت عليه وصراع الأسماء في ظهور آثارها عليه، فهو السرّ الباطن الذي توجّه بتجليّات الأسماء والاتّصاف بها، فانعكستْ عليه آثارُها وهو بشَرٌ قبل خروجه من التركيب العنصريّ. ليحملَ على عاتقِه حقيقة ما تعرّض له بنو آدم جميعاً، وما عانوه من حقيقة التجلّي الإلهيّ والإنسانية في معناها الواسع والكبير الشامل بين الإنسانية في أوجها الإنساني حينما تؤيِّدُ بالرّوح الإنساني أو الروح الإلهي. لأنّهما في الأخير -أي المصطلحان: الروح الإلهيّ أو الروح الإنسانيّ- نفس المعنى ونفس الشيء من كون الإنسان هو الذي اصطفته العناية لهذا التجلّي الإلهي وهذه الخلافة الكبرى. فافهم. فقلنا بين الإنسانية في أوجها الروحي وبين الإنسانية في حضيضها البشريّ التّرابيّ، فأعطى هذا الخليفة المجذوب جميع الحقائق حقّها وتحمّلها في مسيرته، وعانى أوج الصّراع الدّائر بين المادة والنّفس المنجذبة للأرض والفناء والتلاشيّ وبين الرّوح المحلّقة في سماء التقديس، وبه أي بهذا المجذوب ظهرت الحضرات المختلفة للإنسان حضرة الإيمان والإسلام وحضرة التدجيل وحضرة البهيمية وحضرة الشيطنة ثمّ حضرة التقديس.

وليستِ تلك الصورة الدائرة للصّراع الأعظم الدّائر في زمانه سوى انعكاسٍ لما كان يمورُ في نفسه وشخصه، فأعطى صورة الإنسان وملاحمه الباطنية وانعكاسها على الأرض، ولكن أعطى ذلك بصورتها الكاملة والعليا بين الأوج والحضيض، لأنّه الخليفة وحقيقة جميع التجليّات ولأنّه سرّها وخزانة الجود والتجلّي، فكان لزاماً أن يظهرَ الصّراع محتدماً بذلك الشكل العظيم المهول الخارق. فهو زمانٌ استثنائيّ جدّاً بين فتنه الكبرى وشرّه العظيم وبين عطاء الله فيه ومضاعفة الأجر والفضل فيه للمحسن والثابت على الحقّ كما أخبرت بذلك النّصوص النبويّة الشريفة كون الفضل والأجر في عمل يمتدّ إلى خمسين من عمل الصحابة وإلى سبعين في رواية أخرى. وهو زمنٌ كذلك شملَ فترة العدل المطلق والعظيم والرّخاء الذي يحمله الخليفة عند بيعته ويقيمُ العدل في الأرض ويملأُ الأرضُ قسطا وعدلا بعدما كانت ملئت ظلما وجورا قبله.

فكان المهديّ بما يبدو ظاهراً من أفراد بني آدم، وهوكذلك في الاعتبار قبل خروجه من تركيب العنصر والمادة. ولكنّهُ في الباطن والحقيقة هو معنى خلق الله آدم على صورته، معنى الصورة حينما تتنَزَّلُ على الإنسان بذاتيتها، هو الرّوح الأعظم في مظهر الإنسانيّ فافهم، فهنا توصيفٌ يدقُّ ويجلُّ عن الفهم إذا لم يقف عليه الواقف وقفته المرادة.

فالمهديّ حتّى وهو في جذبه وتحت تأثير التركيب العنصريّ، فهو صاحب السرّ الأوّل الذاتيّ، لذلك تنعكِسُ عليه آثارُ الصورة الإلهية وآثارُ الإسم الأعظم، بتجلّي الأسماء وآثارها عليه، فهو حين جذبه مجذوبٌ من العناية كامل الجذب، ليس له اختيارٌ ولا إرادة نفسية، فأعطى التجلّي عليه الخلافة الظاهرة الرّاشدة العادلة، بقيادة الخليفة والإمام الأعلى المهدي عند بيعته وهو الرّوح الأعظم فافهم، كأنّ إمامة المهدي والخليفة في مظهره الكامل بعد البيعة والظهور هو صورة قلب المهدي المجذوب، الذي قادَ الصّراع في عرشه وهو مجذوب، وأعطى عدل الخلْق والتجليّات حقّها بالعدل والقسطاس المستقيم. خلافة عادلة منتهى العدل والخلافة الراشدة على منهاج النبوّة بما لم يدع أيّ صورة نقصٍ في أصول هذه الخلافة واركان الإمامة العليا. حتّى فتح الأمصار وفتح روما. وهي كنيسة القلب. ثمّ خروج الدجّال، وذلك صورة من صور الصّراع النّفسي عند السالك، بعد فتح دائرة القلب وكنيسة النّفس، فإنّ حقائق السّلوك تتغيّر من أرضية ظاهرية، إلى سماوية. ولأنّ المجذوب سلوكه وسيره بدأ من دائرة التركيب العنصريّ، ولأنّ جميع السلوك قام على وجود النّفس، وجميع الشرائع جاءت من أجل النّفس. جاءت لتُخرجَ الإنسان من حُكمِ نفسِه إلى دائرة قدسه، وهذا هو حقيقة التديّن. والذي أغفله التديّن المعاصر وغفل عن الحقيقة مطلقاً، في جهلٍ وتسطيح عظيمٍ عن الحقائق، وعن سرّ وجود الشرائع النبوية والرسالات السماوية. فظهر لدينا تديّن معكوس يدينُ بالمظاهر والطّقوس ومفرغ من روحه وحقيقته، والتي هي أي حقيقة التديّن هي الخروج من قيد واسر النّفس الترابية والهوى الشيطانيّ، ومخالفة الهوى والقرين بالانكسار لله سبحانه والاضطرار وتحقيق معنى وسرّ العبودية، والمظاهر قد تقومُ ولكنّها في كثيرٍ من الأحيان قد لا تقيمُ معنى العبودية المراد والخضوع الحقيقيّ لله سبحانه، الخضوع القلبيّ، وعزل النّفس الأمّارة بالسّوء.

فقلنا أنّ المجذوب، حينما وقع عليه التجلّي الأسمائيّ في جذبه، أعطى في البداية صورة الانقياد الأوّليّ وطاعة الجوارح فعدلَ وقامَ بحقّها، ثمّ عند ترقّيه بفتح دائرة القلب، فهو ما زال تحت تأثير النّفس والتركيب العنصريّ، فشاركه إذ ذاك في العروج السّماويّ وجودُ النّفس. فتأخّرََ القلبُ عن قيادِ عرشِهِ، لئلاّ تشاركَهُ النَّفسُ في قيادها وهي موجودة. فخرج حينها دجّاله، وهو النّفس الدجّالة تسعى في الأرض فساداً، وكان انعكاسها هو خروج الدجال في مرحلة حكم الخليفة العادل، لأنّ المرحلة هنا هي مرحلة عروج سماويّ بعد فتح دائرة القلب. وكان آخر معاقل الأرض والجوارح هي روما. وكونُ تجسّدتْ النَّفسُ دجّالاً يخرجُ ويفسد في الأرض ويزعُمُ الرّبوبية، ذلك أنّ الإسراء والعروج السّماوي في حقائق النّفس يأخذ منحًى أكبر، واتّساعاً في العقل والكشف.

وهذا يُعطينا صورة الإنسان، أيّ إنسان، أنَّهُ بين تأثيرين، تأثير روحه والذي يقوده نحو الرّوح والقيم السماوية والنّور والى حقيقة وجوده الأصليّ، وهو وجود الواحد الأحد لله سبحانه وتعالى، ومن جهة أخرى تحت تأثير العقل الترابيّ والنّفس. فعليك أن تفهمَ أنّ القرين ليس سوى هو أنت، نعم أنتَ في دائرة نفسك وتحت عقلك الترابيّ. لأنّك بين وعيين، الوعي الأصليّ والرّوح والضمير والوازع الديني فيك والفطرة، وعقلك المحكوم بالقلب والروح. ومن جهة أخرى وعي آخر ثانٍ نسمّيه العقل الترابيّ أو هو النّفس، نفسُك الأمّارة بالسوء. أو يُمكنُ القولُ هو أناكَ النّفسية المتشّبّتة بوجودها ووهمها الوجوديّ.

العقل الترابيّ هو العقل الذي يديرُ مصالح النّفس المجرّدة عن قيمها، يلتفتُ للمحسوس والماديّ والعاجل فقط، للهوى .. هو عقلٌ له إيجابياته لأنّه عقلٌ، يدير المعاش البشريّ، ولكنّ خطرُهُ أنّه يحكمُ بما هو محسوس وماديّ ووهمٌ وينقادُ للأنا النفسية والترابية، فسُميّ العقل الترابيّ، فهذه محاولة تحرير لهذا الاصطلاح. ولكنّنا نريدُ أن نوضّح لك معنى القرين، فهو ليس سوى نفسك، وليس سوى أنت تحت عقلك الترابيّ ووهمك الوجوديّ أو وجودك الوهميّ. لذلك كان القرينُ هو وجودك النّفسيّ والوهميّ الذي يمنعُك أن تتحرّرَ منه، لأنّه مرتبطُ بالمادة والتراب والمحسوس والظاهر، بل العاجل. وهو يُضاد حكم الرّوح وحكم القلب، والله تعالى لمّا وصف الكفّار قال في محكم كتابه :
{أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآن أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالهَا}. فنسب الأقفال وحقيقة التدبّر للقلب وليس للعقل. لأنّ القلب هو الحاكم والآمر، ولأنّ القلب هو الذي له نافذة إلى الرّوح وعالم الملكوت. فهو البرزخ بين عالم الملك والشهادة وبين عالم الملكوت والغيب. فوصف الله هؤلاء الذين لا يتدبّرون القرآن أنّهم على قلوبهم أقفالها، فهم لا يلتفتون إلى النافذة الملكوتية، حيث تطلُّ الرّوحُ عليهم بأنوارها وأمدادها. وحيث يتنزَّلُ عليهم نداءُ الفطرة المودعة فيهم، وحيث يدعوهم العقلُ الثابتُ للإيمان بوجود الواحد الأحد سبحانه الذي منه صدَرَ كلّ شيءٍ وكلّ موجودٍ. فكأنّهم أقفلوا قلوبهم، أو أقفلت نفوسهم قلوبهم. فعجزت العقول أن تتدبّرَ، فصارت عقولهم ترابية محضة، لا تستمع لحقائق الفطرة والروح، وتتمسَّكُ بالوهم. فيخدعُها وهمُ وجودها وتُنكرُ الحقيقة المطلقة.

ومن أجل ذلك قال سيّد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه
((أَلا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ, أَلا وَهِيَ الْقَلْبُ)). [أخرجه البخاري في الصحيح]. فمدارُ الصّلاح على القلبِ فتأمّل. لأنّ العقلَ وظيفتُه التحليل والتفكيك، ولكنّه يشتغلُ في الدوائر التي يفتحها له القلب، ويأمرُهُ أن يعمل فيها. فإذا كان القلبُ مقفلاَ غير صالحٍ، فإنّه حينها لا يشتغلُ العقلُ إلاّ في الدوائر الترابية والمادية والوهمية المتجلّية التي يوجّهها إليه القلبُ، بل يصبحُ القلبُ حينئذٍ في دائرة الحجرِ والإقفال. لأنّ العقل الترابيّ الذي يحكمُه الوهمُ يستلِمُ الحكم، ويتواطَأ مع النّفس فإذا بالغ العبدُ واستمرّ تحت دائرة الإقفال وإنكار الفطرة والرّوح. والسّعي إلى النّقيض المقابل للحقيقة ومصدر الخير والفطرة في أفعاله وأعماله وسيرته فذلك يقودُهُ في الأخير لموتِ قلبه أو إقفال قلبه بصفة نهائية، نسألُ الله العفو والعافية والسلامة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ)). متفق عليه.



فيتجسَّدُ هذا الصّرَاعُ العظيم بين الوهم والحقيقة، بين العقل التّرابيّ الموهوم وبين القلب والرّوح في الإنسان، ويتجلّى في عرش الخليفة، وفي نفس المجذوب، ولمّا كانَ قد وقع له فتح دائرة القلبِ هذا المجذوب التي تناظرُها في الأرض فتح روما أو القسطنطينية الكبرى، فإنّ النّفس قلنا تأخذ في سلوكها وعقلها ووعيها منحًى أكبر للحقائق والاتّساع الباطنيّ، فيتجلّى ذلك قوّةً مقابلةً في العقل التّرابيّ وتدبيره وقوّة الأوهام، مع زيادةً في تحرير الحقائق والمعارف عند المجذوب، فيحصُلُ عند ذاك فترة الدجّال، وهي النّفس التي تستلِمُ الجوارح والأرض، لأنّ قلبَ المجذوب قلبٌ أمينٌ لا يسلكُ إلاّ بالله تعالى في صدقٍ متفرِّدٍ من غيرِ مزاحمة للنّفس في مسعاه وسلوكه، فيحصلُ أنّ المجذوب يبقى تحت صراع العقل التّرابيّ من جهة وأوهامه القائدة للنّفس، وتحت حكمِ قلبِه الصّادق وعقله المتين في تحرير الحقائق وإدراكها. وليس هو أي المجذوب سوى رمز وحقيقة القلب الصادق الأمين، وسرّه المكنون المطهّر عن الأكوان، فيُعطي بمسيرته جميع الحضرات البشرية الإنسانية، فكان أسمُه الخليفة هو الدَّالُ على سرّه، أنّه هو الخليفة الذي به ظهرت جميع الحضرات والمحاتد، حتّى ينتهي في الأخير للعروج الأكبر، بين قوّة عقلية ترابية كبرى ونفس دجّالة، وقوّة عقلية روحية تخترقُ الحقائق إلى مثواها الأخير. وهناك يتجلّى عليه الروح القدسيّ، أي في عرشه، وهو نزول روحُ الله المسيح بن مريم في الأرض ليقتل الدجّال عند باب لدّ. وهو في السيرة الذاتية للمجذوب لقاؤه بالرّوح وعروس الحضرة. وتأييده بروح القدس أخيراً. والدجَّالُ يتجسَّدُ ظهورُه وقوّته وهيمنته في زمن الخليفة لأنّه يُمثلُ العقل التّرابيّ في الإنسان، وهو يمثل الحدّ الأعلى المتطرّف للعقل التّرابي والوهم ولا يكونُ ذلك إلاّ في حكم وقطبية المجذوب الخليفة الإنسان الذي أعطى الوجود جميعه، فافهم. ويكونُ لهذا العقل التّرابيّ ظهوراً لأنّه وقع في عرش المجذوب وجسده الترابيّ، فالمادّة والظهور كان بسببِ ذلك، ولذلك فإنّ أخطرَ زمان وأقواهُ هو فترة ما قبل ظهور المهدي الخليفة العادل، في الفساد الذي يغزو الأرض وهمينة قوى الشرّ وتحالف البغي واليهود والصّليب الحاقد والكفر المتمرّد، يقودُهم الدجَّالُ ومن خلفه إبليس وشياطينه. ثمّ يتجسَّدُ هذا الظهور صريحاً بعد حكم الخليفة العادل وفتح روما كما شرحنا انعكاساً لسيرة المجذوب، أربعين يوماً كما جاء في الحديث الشريف الصّحيح. ثمّ ينزلُ المسيح روح الله ليقدّس الأرض ويقتل الدجّال. لأنّه هو مقلوب الدجّال ومعكوسه، من كونِ الدجّال كما قلنا يُمثّل حضرة الوهم والعقل التّرابيّ فروح القُدس تمثّل إبطالَ هذا الوهم وإرجاع الأمر لله سبحانه وتعالى، ولهذا فإنّ الدجّال يذوبُ بمجرّد اقتراب المسيح روح الله منه، كما يذوبُ الوهمُ عند ظهور الحقيقة، وكما يختفي الظلام عند ظهور النّور، ولكنّ المسيح عيسى عليه السلام يقتله بحربةٍ عند باب لدّ ليطمئنَ النّاس بمشهد قتله ويزيلَ عنهم روع ما فعله هذا الدجّال من إفسادٍ في الأرض طوال تلك القرون الغابرة.



يتبع ...

الأحد، 30 نوفمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 67




لبسم الله ..

هناك حقائق عجيبة، لا تُدرك، لأنّ التعبير عنها يجعلها منقوصة وربّما تُسبّب ثلماً وخللا عند المتلقّي الغير مستعد لها والذي لا يملك الخلفيات التي تجعلها مقبولة عنده.

من أعظمها حقيقة الولاية، فالولاية مرتبتين. مرتبة الولاية العامة لسائر المؤمنين بالله.
ومرتبة الولاية الخاصة : وهي الولاية الكبرى ومرتبة الخلافة.

الأولى مرتبة الولاية العامة : مصداقها قول الله تعالى : {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}. (البقرة-257).

المرتبة الثانية : الولاية الخاصة مصداقها قول الله تعالى : {
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴿٦٢﴾ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ﴿٦٣﴾ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ۚ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّـهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿٦٤﴾} (يونس).

والفرق بينهما فرقٌ عظيمٌ، كما الفرق بين التقييد والإطلاق. الأولى ولاية للعناية وإخراج المؤمن من الظلمة إلى النور فهو في طريق التحقّق والتنوير والإثبات.
الثانية هي مقام الولاية والتصريف والخلافة والحرية الكبرى.

لا شيء صدفة وعبثاً في التعبير القرآني. وللقرآن حقيقة إحصاء جميع حقائق الخلق ابد الآبدين. أحصى كلّ شيء وكلّ الحقائق وأجملها. فالقرآن هو العلم. هو كلّ العلم.
وهو علمٌ غير منتهٍ وغير نافد، بل مطلق ولانهائي .. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يأتي القرآن الكريم يوم القيامة بكرا كأن لم يمس". وهو ذاتُ التعبير الوارد في كلام الخضر عليه السلام لمّا قال لسيدنا موسى عليه السلام "ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من البحر".

فما أردناهُ هنا أنّ لفظة الوليّ هي صفة الله تعالى سبحانه، وهي التصريف والتدبير والملك. وتسمية الخلفاء بمسمّى الأولياء والوليّ في القرآن الكريم، هو ذاتُ المعنى المراد في قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". فبالولاية صحّت للإنسان هذه المرتبة وهذه الصورة. فافهم. وهي أي الصورة مقرونة بالولاية بمعناها الخاصّ المراد في المرتبة الخاصة الثانية فنقول فلان "وليّ الله". فهو المتحقّق بالصورة الإلهية المعنوية. وهو ذات المعنى المراد في الحديث القدسي الصحيح "من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب ..". والحديث القدسي وضع أوصاف الوليّ بدقّة وهي مرتبة الفناء في الله سبحانه والبقاء به : "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، وإن سألني لأعطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ".

فإذا فهمتَ ذلك، فهماً عاما على الأقلّ، فهمتَ لماذا كان خاتم الولاية هو صاحبُ مسمّى الوليّ بالأصالة. كان وليا وآدم منجدل بين الماء والطين.

فجميع الأولياء والعباد ما صحّت لهم الولاية التصريفية إلاّ بتحقيق شروط الولاية والاتّصاف بحقائقها، بالخروج عن دائرة الأكوان، والتحرّر من رقّ العنصر والطين، ليعودوا الى مقام الروح الخالص، هناك يصبحوا في مقام الولاية. إلاّ الخاتم الوليّ فولايته متحقّقة حتّى وهو في دائرة الأكوان وتحت التركيب العنصري.وذلك يحتاجُ ربّما الى توضيح يُقرِّبُ المعنى والفهم.

وهذا الذي لا يُدركُ إلاّ لعارفٍ بالله يعرف معنى الولاية ومقامها وفلكها، وهو أعلى فلك وأعلى دائرة. فهي فوق النبوّة. عند تجريد الدوائر. ولا نقصِدُ أنّ الأولياء أفضل من الأنبياء عليهم السلام، بل نحن نتحدّث أنّ الولاية هي آخر الدوائر التحققية وهي التي تعطي التحقّق بالصورة الإلهية التي أهّل الله لها الإنسان. وإلاّ فالأنبياء وقفوا على سواحل بحر الولاية بما عصمهم به الله تعالى وعلّمهم العلم الثابت وكانوا المعلّمين وكانوا القدوات في برور التخلّق والتحقّق الصفاتي. لذلك كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو سيّد المتحقّقين وسيّد الأوّلين والآخرين. فكان الوليّ المقرّب وكان النبيّ الخاتم. لأنَّهُ أوَّلُ مخلوقٍ حصّلََ الكمالات والصفات الإلهية فكان الواسطة بين الحقّ سبحانه والخلق، بل كانَ المقصودَ من الخلْق وكان الأنموذج الذي به الله ظهر سبحانه.
فقلنا لا نعني بعلوّ وفوقية فلك الولاية الأفضلية، بل في التحقيق أفضلية الأنبياء محقّقة في الأكوان، إلاّ أنّ آخر وأعلى الشرف الإنساني هو الولاية في التحقيق. لأنّها مقام الحرية والإطلاق والصورة الإلهية المقصودة، ومقام المعرفة التي خلق الله لها الإنسان.

ونُضيفُ أنّ الله سبحانه لم يخلق الإنسان للمنافسة والتفضيل والحساسية بين أفراده، بل لا موجود سبحانه سواه، وكان الوصول إليه هو ارتفاع تلك الحساسيات التي ليس لها معنى في بحر الإطلاق. فليس ثمّة سوى الحرية. ومن هنا كان الأولياء والأنبياء هم الأصفياء، أي أهل الصفاء والنقاء من تلك الحساسيات. ليس هناك عند الله تعالى إلاّ الرحمة والحرية والصفاء والإطلاق.
فخلق الله الخلْق ليذوقوا تلك النّعم وتلك الرحمة ويشهدوا ما خلق وأبدع وما سوّى وقدّر سبحانه وصوّر. فخلَق الإنسان واصطفاهُ بالصورة والخلافة.

وعودةً لتحرير معنى كونِ الوليّ الخاتم كان وليا وآدم بين الماء والطين كما هي نبوّة خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو النبيّ الأصاليّ والخاتم الذي استحقّ لفظة ومسمّى النبيّ بالأصالة، فهو صاحبُ مقامُ الإنباء ومقام التعريف بالله سبحانه والواسطة إليه والنسبة بين الخلق والحقّ، فكان النبيّ بالأصالة وما سواه من الأنبياء نبوّتهم مشتقّة ومقتبسة من نبوّة خاتم الأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام. كان الله في عمائه وليس معه شيء. كما جاء في الحديث الشريف الحسن عن
أبي رزين العقيلي رضي الله عنه قال: ((أين كان ربنا تبارك وتعالى قبل أن يخلق السماوات والأرض؟ قال: كان في عماء، ما فوقه هواء وما تحته هواء، ثم خلق العرش ثم استوى عليه)) رواه الترمذي وابن ماجه والبيهقي، وصححه الترمذي في موضع، وحسنه في موضع، وحسنه الذهبي.
فلمّا أراد التجلّي سبحانه خلق نسبة وبرزخاً هو برزخُ الإنباء والرّحمة، به رحم الخلْق بظهورهم من العماء إلى الوجود، وفي الحديث ثمّ خلق العرش ثمّ استوى عليه، أي خلق العرش عرش الموجودات واستوى عليه بالنسبة الرحمانية، أي أنّ الخلقية والحوادث بدأت بالنسبة الرحمانية والبرزخ الرحماني المحمدي لذلك قال الله تعالى {الرّحمن على العرش استوى}. وصاحبُ هذا المقام والنسبة هو نبيّ الأنبياء عليه الصلاة والسلام. فكان برزخاً بين بحر القدم وبحر الحدوث، وكانَ النّسبة الذي به بدأت الحياة الخلقية والزمان والمكان. فهذا هو معنى النبوّة تحقيقاً، وهو مختصّ بالنبي الخاتم صلى الله عليه وسلّم الذي منه بدأ الخلق. وسائر الخلْق به ظهروا فهو القاسم لما أعطى الله تعالى. كما قال صلى الله عليه وسلم "إنّما أنا القاسم والله هو المعطي". أي هو القاسم لما كان في عماء الله سبحانه. أمّا الولاية فهي أعلى من النبوّة، لأنّها تختصُّ بمقام التّصريف والعطاء من بحر العماء. فافهم.
الولاية وجهتها للحقّ سبحانه، مقامُها سرّ الألوهية، والنبوّة وجهتها للخلق، فهي القاسمة من بحر العماء والحقّ سبحانه إلى كون الخلق والحوادث.
وهنا أشكلَ العلم والعرفان على الكثيرين، في التفريق بين المحمدية والأحمدية، فالمحمدية هي النبوّة ووجهتها الى الخلق والحوادث، والأحمدية هي الولاية ووجهتها الى الحقّ سبحانه وبحر القدم. والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم كان العبد البرزخ بين النبوّة والولاية، والجامع بين المحمدية والأحمدية، لأنّه العبد القاسم والفاتح للوجود. فهو محمّد النبيّ وهو أحمد الوليّ. وبالأحمدية والولاية نال صلى الله عليه وسلّم المقام المحمود. كونه أوّل عبد ومخلوق وسائر الأولياء والأنبياء ساروا على قدمه. إلاّ أنّ الوليّ بالأصالة وأحمد بالأصالة هو خاتم الولاية. وهذا معنى قولنا كان وليا وآدم بين الماء والطين. فأحمد هو المهدي. وليس هو سوى الحقّ سبحانه. فافهم. لأنّ صاحب العماء هو الوليّ المتصرّف ذو الملك سبحانه. هو الوليّ بالأصالة هو الله سبحانه

{وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى28). {أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحي الموتى وهو على كل شيء قدير} (الشورى الآية 9).
وقولنا كان وليا بالأصالة وآدم بين الماء والطين، أي أنّ ولايته متحقّقة وهو في تركيبه العنصريّ وقبل خروجه الى الإطلاق. أي أنّه متصرِّفٌ في الكون بطبيعة رتبته حتى وهو في دائرة التركيب العنصريّ. لذلك كان الحديث عن الختم المجذوب. حينما تكلّمنا عن الختم المجذوب وحينما تكلّم عنه الشيخ الأكبر والشيخ الترمذي في كتابه ختم الأولياء، وهو لم يتكلّم سوى عن المجذوب.

لأنّ الجذب والتركيب العنصريّ هو آية وحجّة الختم، كونُه صاحب الرتبة الذاتية والولاية الأصالية، فسرُّهُ جعله كذلك. وهو الذي جعله وأهّله أن يعودَ بالأكوان من ظلمتها وتدجيلها وفسادها وانحرافها عن الفطرة إلى روحها وصلاحها وقدسيتها. سرّهُ الذاتيّ.

فجميعُ الأولياء يتصرّفون بشرط تحقيق شرائط الولاية، وذلك بعد خروجهم عن الأكوان، وهناك كان الأقطاب يتصرّفون بالنيابة عن الله سبحانه فهم خلفاؤه. إلاّ الختم المجذوب في آخر الزمان، يأتي ويستلم القطبية قبل خروجه عن الأكوان برتبته ومن غير قصدٍ منه، لأنَّهُ عينُ الروح الأعظم الذي كان في العماء ربّاً، وظهرت به الأعيان العلمية والمخلوقات. فيكونُ عرشُه وجسمه هو العرش الكلّي للمخلوقات، لأنّه الروح الأعظم، ولكن من غير إدراك لحقيقته في البداية وهناك يبدأ إسراؤه من دائره نفسه إلى حضرة قدسه، بسذاجته الذاتية وعفويته ورتبته الطبيعية المنطوية فيه وسرّه المكنون. فهو ليس بظلّ بينما سائرُ العباد عروشهم ظلالية، فحين فنائهم تهوي عروشهم الترابية وينالون الخلافة على العرش الكلّي وتصحُّ لهم رتبة الوليّ والمتصرّف، بينما الختم المجذوب، فهو صاحبُ العرش والأكوان ..فإذا جاءَ انعكست سلوكياته ونفسه على الكون، وهو في طريق التحقيق قبل الخروج من الترابية والعنصرية والأكوان. لأنَّهُ في جذبه وفي طور تركيبه العنصريّ، يكونُ عاكساً للظاهر والخلق، والقوالب الخلقية. طبعاً يكونُ عاكساً للدائرة الخلقية والعنصرية في الأكوان ممثّلاً لها، وفي نفس الوقتِ إسراؤه يمنحه الشهود والعلم والذوق في حقائق الذات من غير شهود منه وعلم كما هو العلم الكشفيّ المحيط والتفصيليّ والشهود العياني، فهو المشاهد والغير المشاهد والعالم والغير العالم والذائق بحكم سرّه الذاتيّ. فيرتقي في العلم على حسبِ إسرائه في الحقائق وتكشّفها له.

ومن هنا ربّما نفهمُ لماذا كانت حربُ إبليس وحليفه الدجّال وأعوانهم على الخليفة، على المجذوب، طمعاً أن يستولوا على الدّنيا من خلاله، لأنّ نفسه هي مرآة العرش. ولهذا في عقود قليلة جدا تحدثُ تلك القفزات العلمية والتواصلية والتكنولوجية والمادية والحضارية الكبرى، لأنّها فترة الختم المجذوب قبل كماله وخروجه من تركيبه العنصري ومادته. فيحدثُ أن تتواصل المادة تواصلاً لم يسبق له مثيل من قبل، لأنّها فترة الخليفة. فافهم. أي لأنّ العرش صارَ تحت حكم جسد المجذوب، جسد واحدٍ. والمجذوب يحكمُ عرشه كغيره بالروح والعنصر، لم ينسلخ من ترابيته وتركيبه العنصري وتأثير النّفس فيه. فتقوى المادة وحكمُها في زمنه في آخر الزمان قبل فنائه وخروجه من دائرة الأكوان. أي ما يقارب نحو أربعين سنة.

ويستغلُّ هذا المتاح إبليس والدجّال الكذاب. ويُجنُّ جنونهما ويطيشُ لبّهما أن يريا طموحهما يتجسّد منه شيئاً من السيطرة على الأكوان من خلال المادة، عبر نفس المجذوب. ويزدادُ الحسدُ والحقد المنفوث فيهما، وإبليس حاسد حاقد كما جاء في القرآن الكريم، لمّا تكبّر واستعلى وقال أنا خيرٌ منه خلقته من طين وخلقتني من نار. يقصدُ آدم، ويريدُ الخليفة الإنسان. وتلك إرادةُ الله تعالى سبحانه في الأكوان. قضتْ أن يحدث الصّراع بين المادة والنّفس المسجونة في سجون المادة والتراب، وبين الروح التي إليها الأمرُ والمبدأ. وكان إبليس هو روحُ المادّة وروح الشرّ وروح الأنا القاصرة في الأكوان، لأنّ الله خلق الإنسان على الصورة، وهذه الخلقية والنّفس هي في الحقيقة مخلوقة من الرّبوبة والكبرياء، فهي الباعثة لكلّ إنسان على أناهُ أن يتشبّثَ بكبريائه وأناهُ وما هو متاح لديه، فهي الهوى في النّفس الدّاعي لكلّ حظّ دنيوي ونفسيّ وماديّ وشهوة قريبة متاحة وما يقيمُ الأنا ويثبِّتُه، وفي المقابل هناك الرّوح والصورة التي أهّل الله لها الإنسان، أن يعودَ إليها بإسقاطه التراب والهوى النّفسيّ ودعوى الكبر والرّبوبة. ويعودَ إلى صورته المطلقة التي أرادها الله له وهي الصورة المحمدية الكاملة، والروح الخالص والحرية الكبرى.

فقلنا المادة تطلبُ الأنا والرّبوبة من خلال النّفس البشرية والترابية المعجونة بالطين والمادة المنفوخ فيها ربوبة الربّ سبحانه. وتتجسَّدُ هذه الأنا والظلمة والوهم في إبليس كشيطان وجان حاسد وذريّته التي تسعى في الأرض فساداً وإغواءً وتضليلاً، وتتجسَّدُ في الدجّال الأعور في عالم الكثافة والمادة، وهو بشر مغبونٌ مستدرجٌ مخدوعٌ من إبليس يخدعه أن ينالَ بتلك الخوارق والمادة ودائرتها ما يتوّهمه قدرةً. وهي قدرة وخوارق مدجّلة مادية مبنية على الأسباب وقوانين المادة التي خلقها الله سبحانه وقدّرها تقديراً سبحانه، فيُدجِّلُ بها على النّاس ويزعُمُ الرّبوبية بالتدجيل. لأنّ الله ضربَ على قلبه وأقفله فهو لا يرى ولا يعقل، في غفلة كبرى وحماقة عظمى وفتنة قصوى تدعمُها المادة وأسبابها التي أقامها الخالق سبحانه. استوجبَت هذا الأمرَ حكمتُه سبحانه في خلقه وما ذكرناهُ عن طبيعة النفس البشرية المخلوقة من الرّبوبة والصّراع المقضيّ في هذه الدنيا وهذه الدار الفانية بين النّور والظلمة، والروح والمادة. لذلك قال الله تعالى في الحديث القدسيّ ((الكبرياء ردائي، والعظمة إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته ولا أبالي)). وقال صلى الله عليه وسلم ((لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ)). لأنّ الكبر هو المانع للعبودية التي هي حقيقة العبد والمخلوق ومنتهاه. فالكبر لايليقُ بمن حقيقته العدم، والصورة الإلهية ما كان ليتحقّق بها العبد إلاّ بعودته لحقيقته الأولى وهي وجود الواحد الأحد المعبود سبحانه، وهناك يشهدُ بالله سبحانه. ومن هنا نفهمُ أنّ الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم نالَ منتهى الكمالات الإلهية بالعبودية الخالصة والعبدية المحضة فقال الله تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ}. الإسراء-1. قال : عبده. وكذلك وصفه في سورة الكهف بتلك العبدية فقال {الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب}. وهي نفس صفة المهدي لأنّ الآيتين في الإسراء والكهف تنطبقان على المهدي، بعبديته وإسرائه ونزول الكتاب عليه. فهو صاحب الكتاب. نزل عليه الكتاب، فهو الرّوح الأعظم، أي كتاب العماء وبحر الهيولى الذي منه تتخلَّقُ الخلائق والأشياء، فهو الكاتب والرَّاقمُ بمادته الذاتية جميع الحقائق الخلقية والحقية. وعبدية المهدي لأنّه الذي أظهر هذه المرتبة ورقمها وفطرها ليتحقّق بها العباد، فافهم فهو العبدُ المحض في مقام العبدية والعبودية وهو الربّ في مقام الربوبية. فمنه ظهر كلّ شيء، وهو صاحبُ الأضداد. ولذلك وصفَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين السؤال أين كان ربنا قبل الخلق، فقال : كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء. أي ما كان هناك تمايزٌ في الحقائق والأشياء، ما ثمّة هناك علوّ وسفل، لأنّها كلّها ترجع إلى الواحد الأحد سبحانه، وفي العماء مثاله كدواة الحبر، اجتمعت فيها كل المعاني والكلمات والحروف ولكنّها لم تتمايز فهي حبرٌ واحد، لا يقالُ حبرٌ أفضل من حبر في الدواة، فكلّ المعاني فيه واحدة ومادتها واحدة، فلمّا برزت الحروف والكلمات في القرطاس، ظهرت المعاني بها، فتمايزت هناك الكلمات والحروف بمعانيها ومداليلها، فبروزها في القرطاس حروفا وكلمات هو عالم الكون والحدوث، وعدم تمايزها في الدواة قبل بروزها هو عالم العماء. فافهم. فهذا مثال توضيحيّ لمعنى العماء، الذي وصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. ومن هنا كان المجذوب جامعاً للأضداد ليدلَّ على تلك الوحدة الجامعة كما هو الأصل، وهو الأصلُ بسرّه.

فقلنا كان المهدي عبداً محضاً لأنّه هو حقيقة الربّ والعبد كما سبق أن اقتبسنا من أكابر العارفين بالله كالجيلي الذي قال
(واعلم : أنّ قولنا الحق والخلق، والرب والعبد انمّا هو ترتيب حكمي نسبي لذات واحدة كل ذلك لا يستوفي معناها) اه. وهذه الذات هي المهدي الوليّ الخاتم. فكان هو صاحب الكتاب هو الروح الأعظم الذي منه تتخلّقُ الاشياء.  والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم نزل عليه القرآن، أي هو القارئ لذلك الكتاب، والقاسمُ لما فيه على الخلق. وكذلك كلّ وليّ كاملٍ تحصلُ له الوراثة بنزول القرآن. إذ قال الله تعالى {الرّحمن علّم القرآن}. فبالقرآن والطهارة من الأكوان يحصلُ للعبد ثمرة مسّ الكتاب والإنفاق من رزقه والتصرّف فيه. فالخلاصة أنّ مقام العبدية هو آخر التحقّقات التي بها ينالُ العبدُ مقام الختمية والولاية والحمد، لأنّها إعلان الفناء في الخالق سبحانه. ولهذا كان اسمُ الختم المهدي عبد الله. وهو إسم جميع عباد الله المتحقّقين بالإسم الأعظم. من كونِ الألوهية تقتضي تلك الثنائية والشطرية بين الحقّ والخلق. فالخلق نتاج تجليّات الحقّ سبحانه وآثار أسمائه وصفاته. والخليفة هو خليفة الحقّ سبحانه، وراقمُ ما به ظهروا فهو الأَولى برقمِ الحقيقة الأولى التي خلق الله لها الخلق، فكان اسمُه عبد الله، فهو العبد المحض وهو الربّ المطلق. هو الرّوح الأعظم. سمّي الخليفة، لأنّ الله فوق القوالب التشبيهية والمظاهر التحيّزية، فكان الخليفة والوليّ خليفة الإطلاق والحقّ سبحانه والمظهر الذاتيّ.

فاحتدام الصّراع بين المادة والروح، يتجسَّدُ أكثر ما يتجسّد في زمن الخليفة، وفي عرش الخليفة وهو مجذوب، فأجرى الله ما أجراهُ عليه، ليُشهِدَ أولياءه وملائكته وخلقه حجّة هذا الخليفة وسرّه، فبسرّ هذا المجذوب الذاتيّ، المكنون فيه، يطوي ذلك الصّراع العظيم الذي لا يقدِرُ عليه أحدٌ، حينما يستولي الشيطان والدجال على مجموع الأرض، وغزو النّفس بكلّ ما يملكانه ويقدران عليه، فتتلاشى خدعهما وحيلهما أمام هذا المجذوب، ويظهرُ الفرقُ بين الدجل والباطل والوهم وبين الحقيقة والحقّ والثابت. ليزولُ وهم الدجّال وحمقُهُ وحسد الشيطان ونفثُه وهو يرى العبد الذاتيّ في عزّ عجزه وضعفه يتولّى أمر العرش والكون فينعكِسُ به على الدّنيا من غير قصدٍ منه ولا طلب، بل اصطفاءٌ من الله سبحانه، وسرّ مكنونٌ فيه أنّه هو الذي بمادته الذاتية وسرّه المكنون رقَمَ تلك الحقائق والخلائق، فتنعكِسَ مراحلُه على الكون والأرض، ويجمعُ المجذوبُ كما سبق الإشارة بين الأضداد فهو في دائرة النّفس والتركيب العنصريّ وتأثيره من جهة وهو من جهةٍ أخرى سارٍ بالعلم والعقل والنّفوذ والذوق في أسرار الكون والوجود وحقائقه وأسرار المكوّن، وهي أسرار غيبية لا تحصُلُ إلاّ لمن لهُ قدَمٌ هناك في تلك المراتب والغيوب، فدلّ على قدمِه الرّاسخ وسرّه الجامع. فهو الوليّ صاحب الذات الساذج ومادته هي مادة الكون والخلائق والحقائق، وكان قلبُ النبيّ صلى الله عليه وسلّم أمّياً بهذا الاعتبار، ليكونَ قابلاً لشهود الذات الساذج فيشهد بالصورة الإلهية بالله تعالى، وكذلك كلّ قلبٍ أمّي هو قلبُ وليّ من أولياء الله تعالى، {
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } (الجمعة-2). فللآية هذا الوجه الباطن كما لها وجهها الظاهر في المعنى، من كون الأميين هم العرب في زمنه صلّى الله عليه وسلّم، وهم في الوجه الباطن أهل الولاية والاجتباء الذين تمّ لهم الرّجوع إلى الصورة المحمدية بتلك الأمّية التي أهلتهم لشهود الذات الساذج والتحقّق بالختمية. والوليّ الخليفة قلبُهُ هو السرّ الأول والذات الساذج الذي منه تجلّت مادة الكون ومادة التجلّي. فهو السرّ الأحديّ والذاتيّ. هو فوق الاعتبار الخلقيّ هو الرّوح الأعظم.

يتبع ..



الأحد، 7 سبتمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 66

                       

 - 66 -

لبسم الله الرحمن الرحيم

سألني بعضهم عن معنى تجلّي الله في النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم بالصفات، وتجلّيه في المهدي بالذات.

أقولُ هي مراتب ومسمّيات فقط، إذ لا موجود سواهُ وحده لا شريك له لا إله إلاّ هو الحيّ القيّوم الذي قام به الوجود جميعاً. فتجلّى سبحانه في الوجود والموجودات والكائنات وتسمّى بها اعتباراً فظهرت أسماؤها ومراتبها، وقضى ظهوره وتجلّيه في خلقه، فالله سبحانه متعالٍ عن إدراكنا في أحديّته، فهو الواحدُ الأحدُ لا غير معه ولا شيء سواه موجوداً.

فلولا الحقّ ما كان خلق، ولولا الخلق ما ظهر الحقّ سبحانه، وما عرفه العارفون ولا تعرّف إليه خلقُه سبحانه. فهذا هو التوحيد والتفريد.

الله سبحانه تعرّف إلينا بمظاهر وقوالب تشبيهية ونورانية وتجلّى لنا فيها، فغطس الغاطسون أولو العلم وأربابُ التحقيق في بحر عرفانه وبحر وجوده وبحر توحيده سبحانه فلمّا بلغوا منتهيات العلم والتفريد والتقديس عادوا وليس معهم سوى ما كان معهم، عادوا بالجهل والعجز والحيرة، رغم منتهى العلم الذي توّجهم به الله سبحانه، فشهدوهُ في خلقه، وعرفوا آثار أسمائه وصفاته في خلقه.

فقولنا كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو مظهر الأسماء والصفات، هي رتبةٌ أظهرها اللهُ تدلُّ على تجلّيه من عمائه إلى خلقه وعالم حكمته، رتبةٌ أقامَ عليها أنموذج توحيده وحقيقة شهوده، ليتعرّفَ بها عليه الإنسان الذي جعله الله سرّ هذا الوجود، ووهبه الخلافة فيشهدَ بالله هذا الوجود وهذا الجمال وهذا الكمال وهذه العظمة الغير المتناهية له سبحانه.

نعم .. الله اصطفى الإنسان اصطفاءاً عظيماً، ووهبه الخلافة، والخلافة هي كون الإنسان مخلوق على الصورة، أي ليشهد بالله ويسمع بالله ويرى بالله ما صنع الله وما أبدعه الله وما خلق الله من عجائب وكائنات، ومخلوقات لا تتناهى تدلُّ على عظمته سبحانه.

فلمّا خلق اللهُ الإنسانَ لهذا السرّ العظيم المعظّم، قدّرَ له مراتبَ يترقّى بها الى تلك الرّتبة وتلك المعرفة وتلك الصورة. فجعل رتبة سيّد الوجود ومفتاح باب الشهود سيدنا محمد صلى الله عليه وسلّم هي بابُ هذه الصورة الأوّلية "خلق الله آدم على صورته". كان اللهُ في غياهب غيبه، فخلق روح النبيّ صلّى الله عليه سلّم ونوره، من نور ذاته، وجعله الصورة الكمالية الصفاتية، التي رحم الله بها الوجود والكائنات، فإنّ رتبته صلّى الله عليه وسلّم هي أسعد السّعادات وأكبر البشارات وغاية الحفاوات، فعرّفتنا بالله تعالى أنّه سبحانه ما خلق الخلق إلاّ برحمته، فيالها من بشارة عظمى، فقرَنَ رتبة الصفات التي منها تجلّى الخلقُ، باسمه الرّحمن، وسمّى محلّ الولادة حيث يتخلَّقُ المولود والمخلوق رحِماً، فمن ذلك الرحِمِ يولد المولود للحياة ويرى نور الوجود، فجعله أشرفَ أسمائه بعد اسمه ذاته "الله"، اسمه الرّحمن وقد تشكّل من الرحم : ن. قال سبحانه على لسان ملائكته بل المقرّبين من ملائكته حملة العرش ومن حولهم :
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ.} غافر-7.
فقالوا ربنا وسعت كلّ شيء رحمة وعلما. فقدّموا الرحمة على العلم، دلالةً على كونِ الخلق بدأ من الرحمة، وحيثُ الخلْقُ يقتضي معه مسير المخلوق ومصيره بالأقدار المقدّرة عليه في الآزال. فتفهمُ حينها أنّ العلمَ يتلو الرّحمة، فالعلمُ رافقَ الرّحمة في أقدار المخلوقات جميعاً، كما قال الشيخ الاكبر ابن عربي في الفتوحات ما ثمّة بابٌ يفتحُ إلاّ بالرّحمة. فجميعُ الأقضية والأقدار تجلّتْ على مسارِ الرّحمة. فالخلْقُ مبدؤهم الرّحمة ونهايتُهم الرّحمة في نهاية الآباد. فثمّة رحمة رحيمية ظهرتْ ظاهراً، وهناك رحمة تأديبية بطنتْ. ومن هنا تفهم الفرق بين اسم الرّحمن الذي وسع الخلق جميعاً رحمةً ظاهرةً وباطنةً، فتقدّرتْ به الأقدارُ ورافقها العلمُ، حيثُ العلمُ يصحبُ الأقدار والتجليّات مهما تنوّعت. وبين اسم الرّحيم الذي كان رحمةً خالصة. وتفهَمُ معنى قوله تعالى : بسم الله الرحمن الرحيم. فباسم الله تجلّت البداية بشهودِ الأحدية والواحدية، ثمّ باسم الرحمن تفرّعت الموجودات وظهرت الدائرة الوجودية المفصولة بوترها الوهميّ بين الشقّ الحقّي والشقّ الخلقيّ، ثمّ باسمه الرّحيم عادتْ الموجودات من دائرة الخلق وشهود الشّقاء الوهميّ إلى دائرة المُنعم الموجد سبحانه. وعادت الى شهود صورتها التي خلقت عليها. وهي صورة الخالق سبحانه الواحد الأحد.

إنّ الله سبحانه خلق الخلق فأبدعهم وخلَق العالم وصوَّرهُ ونسجه، ونسج أقدارهُ وتطوّرَهُ، ثمّ جعل على هذا العالم سيّداً، يعودُ العالمُ إليهِ، وجعل هذا السيّد والمخلوق اختصاراً يعودُ إليه جميعُ ما في العالمَ، روحاً ومادةً، فكان هذا المخلوق هو الإنسان، فأنشأهُ الله سبحانه مخلوقاً يختصِرُ العالم فيه جميعه بجميع عوالمه، وتلك هي حقيقة الصورة المعنية في قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". وهي الصورة الروحية الشهودية التي بها يشهدُ الإنسانُ جميع ما في العالم، ويتصرَّفُ فيه بإذن الله تعالى. بل يتصرّف في العالم بالله تعالى حين عودته الى شهود صورته التي يرجعُ إليها، فتنمحق الهوية المقيّدة للإنسان، وتتجلّى الهوية المطلقة، التي هي هوية الله تعالى. فلا يُصبِحُ العبدُ إلاّ عبد الله الباقي بالله، المقدّسة ذاته وسرّه. وهذه هي حقيقة الخلافة والصورة.

وجعل الله العوالم برازخ ومسمّيات ومراتب. فكانت رتبة الهوّ حيث التعالي عن التجليّات والتشبيه وهو الذات الساذج، ثمّ رتبة الرّوح الذي تجلّى الله فيه بذاته وهو الكتاب الذي أحصى الله فيه كلّ شيء، وهي مرتبة الألوهية. فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو رتبة الإنسان الكامل الذي تحقّق بالرّوح  وعبّر عن صفات الله الكمالية وأسمائه المقدّسة، بصفته المخلوق الأوّل، وبصفته محلّ التجلّي الأقدَس، وبصفته الرّوح والنور الأوّل الذي خلق الله منه كلّ شيءٍ. وهو المسمّى الحقيقة المحمديّة، لأنّها حقيقتُه صلّى الله عليه وسلّم. فكان العبد الأكمل الكامل المثاليّ، جمّله الله سبحانه بالكمال الخلُقيّ الصفاتيّ والكمال الخلْقيّ الشمائليّ، فهو أجمل مخلوقٍ، أجملُ إنسانٍ في شمائله وخلقته صلّى الله عليه وسلّم. وكلّ خلّة وخلقة لها تناسبٌ وارتباطٌ بالخلُق المقابل لها. فكانت شمائله معتدلة غاية الاعتدال، متناسقة غاية التناسق صلوات الله وسلامه عليه. فرتبته الوجودية هي سيّد الوجود، والإنسان الكامل، والعبد الكامل المُسّمى عبد الله وأحمد. محمّد في توجّهه الخلْقي وأحمد في تحقّقه الحقّي. وخصّه الله سبحانه بالصلاة عليه، فهو العبدُ الذي يتلقّى تجليّات الله سبحانه، ومنه تًُقسَمُ تلك التجلّيات والعطايا الإلهية على الخلق والعباد جميعاً، فهو كما قال "
وَاللَّهُ الْمُعْطِي، وَأَنَا الْقَاسِمُ" متفق عليه. فهو القاسم لما أعطى الله، وهو المفيض لما فاض به عليه الله سبحانه، فهو العبد الأوّل. في مقامِ العبودية والكمال الإنسانيّ. فمن مشكاته صلّى الله عليه وسلّم يقعُ مقامُ الإنباء، فالأنبياء والرسل جميعا عليه وعليهم الصلاة والسلام منه يقتبسون، وبه يشهدون. ومن دونهم من الأولياء كذلك.
ولكن من مشكاة النبوّة والرّحمانية حيث الرّوح والتوجّه الخلقيّ، أمّا مشكاة الولاية والتصرّف والتنزّه عن التجلّي، فيقعُ الشهودُ من مشكاة خاتم الولاية، الذي إليه يرجعُ كلّ شيءٍ. فقوله صلّى الله عليه وسلّم " خلق الله آدم على صورته". فهنا الصورة والمشكاة هي الإسم الله سبحانه، ولا يقعُ التحقّق بهذه الصّورة والمشكاة إلاّ بختمها ختم الولاية، فبه يشهدون ما يشهدون بالصورة. أمّا المشكاة الأولى التي تكونُ من ختم النبوّة فهي مشكاة النبوّة والرّحمانية حيث قال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورة الرحمن". فتلك هي مشكاة النبيّ الخاتم، وهي مشكاة النبوّة والتوجّه الخلقيّ، أمّا مشكاة الإسم الأعظم والولاية الكبرى فهي مشكاة الخاتم الوليّ.
وعليه فجميع الأولياء، وأخصّ هنا الأفراد منهم ومن خرج  عن دائرة الأكوان، وتحقّق برتبة الختمية فيشهدُ ما يشهدُه على صورة الله سبحانه بمشكاة الختمية، ختمية الخاتم.
إذ لا موجود على التحقيق سواه، فكانت تلك مراتبٌ شهودية تحقّقية، ونماذج، فكانت المشكاة الأولى التي يكونُ بها العبدُ متحقّقا بالإسم الأعظم هي صورة الختم، خلق الله آدم على صورته. وهي صورة الخليفة. وقد قال سبحانه وتعالى " ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". فنزّه المثل، وهو الإنسان المخلوق على الصورة حين يعودُ إلى حقيقته وصورته الأولى، يُصبحُ منزّهاً عن التجلّي، أمّياً فوق القوالب التشبيهية والتمثيلية، قابلاً لجميع التجليّات الإلهية الغير المتناهية. فقال ليس كمثله شيء. وذلك يوافق الحديث القدسيّ القائل
(( عبدي أطعني تكن مثلي ، تقل للشيء كن فيكون ))

فتفهمُ أنّه لا موجود سواه، والعبدُ حين يرجِعُ إلى مولاه وحقيقته الأولى، وهي العدمُ، فلا يبقى إلاّ الموجود الواحد المعبود. قال الله سبحانه وتعالى "إنّا لله وإنّا إليه راجعون". وأنّ إلى ربّك المنتهى". فرجوعنا إلى الله سبحانه، وهذا الرّجوع هو في الحقيقة تحقّق بمشكاة خاتم الولاية. فكما كانت رتبة الرحمانية ورسالة الرحمة الى الوجود ورتبة الكمال الصفاتي والأسمائي متمثّلةً في سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، فكذلك رتبة الإسم الأعظم الله ترجع إلى العبد المحض والوليّ المحض المهدي عليه السلام خاتم الولاية. هو المسمّى الحقّ سبحانه، هو المظهر الإنسانيّ الذاتيّ الأصاليّ لله سبحانه. وسائرُ الخلفاء والأولياء الأفراد الأختام هم ليسو سوى هذا الخاتم في مظاهرهم الإنسانية وصورهم وأشكالهم. بما فيهم النبيّ الخاتم صلّى الله عليه وسلّم.ولكنّهم أختام، إذ لا موجود إلاّ هو .. فقد صاروا الى رتبة الهوية حيث التنزيه عن كلّ شيء. فافهم.
فكما كان لرتبة البقاء الذاتي والإنباء مظهر هو خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. فكذلك رتبة الهو والذات، حيث الرّوح الذي يظهرُ فيه الله بذاته، هو هذا الرّوح وهذا الخليفة المهدي إليه يرجعُ كلّ شيءٍ. وهو المظهر الأصاليّ والذاتي وصورته هي الصورة الختمية لخاتم الولاية. فكانت شمائله الخلْقية التي وصفته بها النبوّة دقيقةً في تحديد أوصافه وما يعكسِه هذا الختم الوليّ، وقد شرحناها في مقال سابق، من كونه أعلى الجبهة وأقنى الأنف وعلى خدّه الأيمن شامة، فكلّها دالَّةٌ على كبرياء هذا الخاتم وعزّته وعلوّه علوّ الجبهة وقنى الأنف، وأمّا الشامة في خدّه الأيمن فهي محلّ الهوية المطلقة، كما كانت النّقطة معبِّرةً عن الإطلاق وعن الحقيقة وعن العلم كلّه المفاض من غياهبها. وكذا هي رمز الحجر الأسود الذي يبايع كدلالة على بيعة الميثاق الأوّل والعهد الذي أخذه الله من بني آدم. فالمهدي هو الختم المطلق والمظهر الذاتيّ. وذلك لا يعني وجود الغيرية كما أشرنا. فهي رتبٌ، ولذلك جاز للأولياء والخلفاء التحقّق بها، ويشهدون ما يشهدونه على الصورة من مشكاته. فافهم.

وهنا أمورٌ كبرى وبشارات عظمى، في الاصطفاء الإنسانيّ الأكبر، أنّ العبد له التحقّق بمشكاة النبيّ الخاتم وله التحقّق بمشكاة  الوليّ الخاتم. وهما الصورتين اللتين أشرنا إليهما.
وأنّ المقام المحمود الذي خصّ به صلّى الله عليه وسلّم، هو مقام ختم الولاية حيث الحمدُ يصحُّ للعبد بالتحقّق بجميع التحقّقات والتجليّات ورجوعها إليه من كونه على الصورة. ولمّا كان سيّدنا محمد صلى الله عليه وسلّم هو الرّسول الخاتم والكامل والأوّل والقاسم والفاتح للوجود فقد كان التحقّق على قدمه لا محالة يُعطي الإنسان المخلوق لواء الختمية والتحقّق بالإسم الأعظم والعروج الى سدرة المنتهى. فكانت البشارة هنا أنّ جميع المتحقّقين بهذه الختمية لهم المقام المحمود. ويجدون ذلك ذوقاً وشهوداً.

ولو شئتَ لرجعتَ إلى بعض تصريحات المشايخ أنّ مقام الوسيلة الذي خصّ به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والذي لا ينبغي إلاّ لرجل واحد، يجدونه، ويجدُ كلّ واحدٍ منهم أنّه الرجل الواحد. لأنّهم حينها يكونون على قلب ذلك الرجل الواحد وهو النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلم الذي تأهّلَ للواء المقام المحمود. إذ لا موجود إلاّ الله سبحانه وتعالى، فهم يرجعون إليه بشهود الأحدية والواحدية، ويجدون ذوق اللواء المحمود  والتحقّق بجميع ما تجلّى عليهم، وكيف وهُم على مقام "عبدي أطعني تكن مثلي تقول للشيء كن فيكون". ولا تعدّد هناك إذ لا موجود إلاَّهُ سبحانه. وهو المحمود وحده لا شريك له. فيجدون ذوق المقام المحمود.

لا تستغرب كلامنا هذا، لأنّ الله ما خلق الأنموذج الكامل سيّد الوجود صلى الله عليه وسلم إلاّ ليعودَ إليه العائدون في مقام شهوده، فكان على ربّك حتماَ مقضياً، قضاهُ على نفسه فضلاً وتفضّلاً على خلقه وعلى عبده الإنسان، أن يهبَ المقام المحمود لسيّد الوجود، لأنّه المخلوق الأوّل والعبد الأوّل، وإذا صحّ له ذلك، فتلك هي البشارة الكبرى أنّ جميع السّائرين على قدمه المتحقّقين بحقائقه سيشهدون ما يشهد ويعودون للواحد الأحد، حيث هو وحده الموجود . فافهم.

ولهذا قال الله في الحديث القدسيّ "لولاك ما خلقتُ الأفلاك". فهو الأنموذج الذي تظهرُ به كمالات الله وتجليّاته من غيبها ونقطة هويّتها الى وجودها وتجليّها فخلق الوجود من أجله، ليرجع كلّ شيءٍ إليه. فما ثمّ سواه وحده سبحانه موجوداً، وكلّ شيءٍ مراتب وهمية ومسمّيات، فهو الوليّ وهو النبيّ وهو الصديق وهو الشهيد وهو الصالح وهو المؤمن وهو العبد وهو الخلق في جميع المظاهر، فما ثمّة إلاّ هو، هُوّ مطلق وهُوّ مقيّد. هُوٌّ مطلق هو الله سبحانه وخليفة هذا الهو وحامل سرّه بمظهره الذاتيّ هو الخليفة الختم المهدي عليه السلام. وهناك الهوّ المقيّد الذي هم جميع المخلوقات باختلاف مراتبها ومسمياتها.

يتبع ..

الخميس، 5 يونيو 2014

الحبّ والعشق سرّ التحقّق ..



أعرِفُ عارفاً بالله قال أنّ أهل العشق الدّنيوي هم أقربُ النّاس للإيمان بالله وأقرَبُهم من ملامسة مشاعر القرب من الله، هكذا قال بالمعنى أو نحو هذا الكلام، ولستُ أذكرُ الصياغة ودقيق المعنى من كلامه. وهذا المعنى قالَ مثله الشيخ ابن تيمية رحمه الله وسمَّاهُم عشّاق الصّور، وقال أنّهم إذا حسن إيمانهم وتوجّهوا نحو الله تحوّل حبّهم إلى الله تعالى بحُكمِ ذوقهم السّابق للعشق. وإن كانت تسميته عشّاق الصّور تحتاجُ إلى تحرير، لأنّ العاشق لا يقعُ في قلبِه العشق نحو معشوقه إلاّ بسرٍّ باطنٍ فوق الصورة الظاهرة مُطلقاً، وهذا معروفٌ عن العُشّاق أنّهم يرون محبوبهم أجمل وأحسن وأقرب إليهم من سائر الأشخاص مهما بلغ جمال وفضائل الغير مقارنةً بمحبوبهم، فهو سرٌّ فوق الظاهر والصور، يأخذُ بألبابِهم فلا يلتفتون إلى غير محبوبيهم.
ولكنّا نُثمِّنُ ما قاله الشيخ ابن تيمية على أنّ أهل العشق أكثر قابليةً لمحبّة الله تعالى والقربِ منه إذا توجّهتْ قلوبُهم إليه سبحانه، أو وجدتْ من يدلُّها على الطريق إليه. وأنَّهُم يملكونَ الفرصة أكثر من غيرِهم للإيمان بالله تعالى والإسلام لوجهه سبحانه. إيماناً يضربُ في العمقِ نحوَ المحبّة والتعلّق القلبيّ القائد نحو فضائل الرّوح وحقيقة الهداية التي جاء من أجلِها الدّين.

وأعتقِدُ أنّ من أسبابِ اندثار غراس الدين في النّاس في زماننا هو ابتعاد النّاس عن التديّن القلبيّ النّابع من سرّ المحبّة والعشق، وصارَ التديّنُ أقربَ للإنتماء لحزبٍ سياسيّ أو نادٍ من النّوادي أو مذهبٍ فكري أكاديميّ . بينما سرّ هذه القلوب هو الحبّ، ولغتها المُثلى هي الحبّ، وأرقى وأسمى وأفضلُ ما يرتقي إليه العبدُ في منازل القربِ من الله تعالى هو الحبّ، فإذا تحقّق له الحبّ من الله والحبّ لله سبحانه، فقد فاز لا شكّ في ذلك. فالقربُ قرينُ الحبّ، فالأحبُّ هو الأقربُ والأفضلُ .. وكذلك ميزانُ الحبّ عند الجميع.
وفي الحديث القدسيّ الصحيح : ((...حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر فيه ، ويده التي يبطش بها ،. ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه)). وهذه أعلى درجة يصلُ إليها الإنسان في القربِ من ربّه. والحديث صريحٌ فثمرةُ تلك المنزلة هي المحبوبية من الله تعالى ((حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ ..)). وكذلك في الحديث الصحيح ((إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ )).
وهذا الاندثار حصلَ حينما دخل هؤلاء المتفلسفين تناولُ صفاتِ الله تعالى بحيادية عجيبة بعيدة عن روحها، وتنزيهٍ أقربَ للتّعطيل، لتعطيلِ روح المعاني وسرّها وعفويتها وسريانِها في حياة النّاس بسجيّتهم وطبيعتهم ومعاملاتهم، ومثلهم السّطحيون الواقفون على الألفاظ بظاهرها، فلم تشفع لهم ظاهريتهم أن يأخذوا بالمعنى الذي يُوحيه الظاهر. عجباً !!! عجبٌ لا ينقضي فلا هؤلاء ولا أولئك أخذوا بالأريحية والبساطة والإنسانية في المعاني والمفاهيم، مع تناقضهم وتجاذبهم النّقيضين في تحرير الألفاظ والمعاملات المتعلّقة بذاتِ الله سبحانه. وهذا الدّين جاء للإنسان يخاطبُهُ بما فيه بما أودعَ الله فيه من مواهب ومعاملات ومشاعر وفضائل، فالحبّ هو الحبّ .. والعشقُ هو العشق. كيفَ صارَ هذا العشقُ هو أشدُّ الارتباطات وأوثقها وأعلاها بين الإنسان ومثيله الإنسان، حتّى فنى فيه شوقاً وعِشقاً وتيماً وقرباً وألهمَهُ ذلك أن يُضحّي بنفسه من أجل محبوبه ويفديه بكلّ ما يملكُ. فقبِلناهُ واقعاً وشهدناهُ معنى وظاهرةً ترويها الحياة حاضراً وماضياً. ثمّ نرفضُ أن يكونَ هذا الرِّباطُ الشديد والعلاقة المتينة موجودةً بين العبدِ وربّه، الذي هو أولى بالمحبّة والعشقِ والفناء فيه والتضحية من أجله، مع وجودِ الفارقِ العظيم بين محبّةِ مخلوقٍ ونتيجتها، وبين محبّة خالقِ إليه يرجعُ أمرُ كلّ شيءٍ ونتائجها؟!.

وعليه فتديُّنٌ من غيرِ حُبٍّ هو تديُّنٌ مغشوشٌ، أو -على الأقلّ- تديّن ناقِصٌ، من غير حبٍّ يقودُ العبدَ نحو ربّهِ، حُبٌّ فوق الخوف وفوق العطاء، الخوفُ قد يتزحزحُ عند ظروفٍ تُبسَطُ فيها الدّنيا ويطولُ فيها الأملُ وتتبهرجُ الدّنيا بزينتها ووجهها الفاتن ظاهراً، فيتسَّلَّلُ الخوفُ من القلبِ ويضعُفُ، وكذا العطاء والرّجاء قد يبهَتُ في ظلّ ظروفٍ مماثلة من العطاء العاجل وفتنة الدّنيا أو في ظلّ ظروفٍ فيها الخوفُ والترهيب والتهديدُ فيسبِقُ الخوفُ العاجلُ الرّجاءَ المؤجَّلَ. بيدَ أنّ المُحِبَّ يتجاوز الخوف والرّجاء، عاشقاً نحو محبوبه، يقدِّمُ أعزّ ما يملكُ فداءً لمحبوبه وهو فرحانٌ نشوانٌ.

قال الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} البقرة(165). فما ميّزَ اللهُ سبحانه هنا بين النّاس إلاّ بالحبّ، كأنَّهُ لا قائِدَ ولا سائِقَ نحو الوجهات المختلفة سوى الحبِّ. فهناك منهم من اتَّخذ أنداداً يحبّونهم كحبّ الله تعالى، أنداداً من حبّ الدّنيا وحبّ النّفس وحبّ الحظوظ المختلفة أو حبٌّ مخلوق من العباد، حبٌّ ذاتيّ كامِلٌ تألّهََ عند هؤلاء المتخذين أنداداً. وهناك المؤمنون الذي كان حبُّهم أشدُّ لله تعالى، وهؤلاء هُم الذين استحقّوا درجة الإيمان فوصفهم الله تعالى "الذين آمنوا". فكان الله أحبَّ إليهم من محبوباتهم الأخرى، فهُم في الحقيقة لم يتخلّصوا بَعْدُ من الأغيار جميعها ولكنّ الله مدحَهُم: أنّهم آثروا الله تعالى وكان حبُّهم له أشدّ وأقوى من رغائبِهم الأخرى. وهناك فريقٌ آخر وهم القليل الذين ليس عندهم رغائبٌ سوى الله تعالى، مُنتهى العشق والحبّ، حبٌّ لدرجة الفناء وتلاشي باقي المحبوبات الأخرى والأشياء وبقاء محبوبهم الأوحد. هؤلاء هم السّابقون فحبّهُم كلُّهُ لله تعالى ليس فيه مشاركة مهما قلّت. والخلاصة أنّ الأمرَ قامَ على الحبّ في سائرِ التوجّهات، صحيحة كانت أو خاطئة.

وقال الله تعالى تأكيداً على هذا المعنى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} الفرقان(43). فالهوى أصلاً سُمّيَ هوى من الهوى والميل والانحطاط إليه، لأنَّهُ أقربُ للنَّفسِ من الرّوح العارفة بالله، الهوى ممتزِجٌ بالنّفس وحاضِرٌ برغباته الحسّية العاجلة وعطاياهُ الحاضرة، بينما الرّوح تحتاجُ توجّهُاً ونُضجاً وعقلاً يرى العواقب وصبراً كي تظهر نتائج العلاقة بالرّوح البعيد نسبياً في عطاياه وذوقه وثماره. فوصف الله أنّ هناك من يتَّخذُ إلهه هواه، وهو ذاتُ الوصف في الآية السّابقة أنداداً يحبّونهم كحبّ الله. فهو هوىً وحبٌّ للأنداد والأهواء النّفسية هوىً غالباً كاملاً سائقاً العبدَ مالكاً عليه أمرَهُ فهو لا يأتمِرُ بغيرِهِ من ضميرٍ أو إيمانٍ .. فهنا الهوى صارَ كالإله الذي لا يستحقّ هذا الائتمار والاتّباع والطاعة سوى من كان إلهاً. فغلَبَ حبُّ الهوى النّفسيّ على هؤلاء حبَّ الله تعالى.
فها نحنُ نشهدُ أنّ توجّهات العباد قامت على هذه المحبوبية والهوى والميل، إمّا إلى رغائبِ النّفس، أو إلى ربّها .

وهنا سيقولُ القائلٌ كيفَ صارَ أهل العشق الدنيويّ أقربَ من غيرهم من أهلِ الأهواء والكفر إلى الله تعالى والإيمان به؟ والله ذمّهم في معرَضِ محبّة الأنداد، وهؤلاء اتّخذوا من محبوبيهم أنداداً يحبّونهم كحبّ الله تعالى ؟

فنقولُ والله أعلم، أنّ هؤلاء تميّزوا عن أهل الهوى وتأليه هواهم بصفة عامّة، بمحبّة إنسان وعشقه، وصارَ هواهُم مجموعاً في هذا الإنسان. وعليه فهذا محسوبٌ لهم.
ومحسوبٌ لهم باعتباراتٍ كثيرة، تجعَلُ منهم فعلاً مؤهّلين أكثرَ من غيرهم لذوق المحبّة الإلهية والإيمان. لأنّهم أوّلاً كما قلنا ما تفرّقت أهواؤهُم أوزاعاً بين الأنداد والمحبوبات النّفسية والرّغائب الدنيوية، فصار عندهم حبٌّ متوحِّدٌ مجموعٌ في شخصٍ، فغلَبَ حبّهُ جميع أهواءهم الدنيوية وحظوظهم الأخرى، وهذا يجعلُ تأهيلهم واضِحاً في اجتماع توجّههم نحو وجهة واحدةٍ، وإن كانت وجهةً خاطئة، ولكنّها وجهةٌ مجتمعة مركّزة وليست مشتّتة في مُطلَقِ الرّغبات والأهواء والحظوظ العاجلة.

ثانياً نقولُ أنّ توجَّهُهم نحو إنسانٍ بالمحبّة والعشق فيه سرّ عظيمٌ، لأنّ الإنسان سرُّهُ في الحقيقة سرٌّ جامعٌ للمحبوباتِ والأهواء الأخرى، فالإنسان مخلوقٌ على الصورة. وعليه فهنا قياسٌ خفيٌّ متوارٍ يُبدي عن حقيقة هذا العشق الإنسانيّ، فهو أقربُ عشقٍ في نوعيّته من محبّة الله سبحانه، لسرّ الإنسان الجامع. فحصلَتْ لَهُم تلك التجربة الشعورية والقلبية بينهم وبين محبوبيهم، وشهدوا عشقَهم يتلوَّنُ في ملامح وانفعالات معشوقيهم حتّى لو كان حبّاً وعشقاً من طرفٍ واحد، فذاقُوا تلك الإرسالاتِ التي يرسلُونَها مشاعراً وتعلّقاً وتعودُ لهُمْ نشوةً روحيةً وسمواً ولذَّةً تفوقُ أيّ لذّة. وهذا يجعلُ منهم قد حصَّلُوا  امتيازاً على غيرِهِم في ذوقِ اللَّذاتِ، فقد ذاقُوا لذَّةً أعلى من سائرِ اللّذاتِ الحسيّة المعتادة المستهلكة.

ثالثاً أنّهم وجَّهُوا حبَّهم لحيّزٍ خارج أناهم ونفوسهم، في حبّ شخصٍ غيرهم، وذاتٍ غيرَ ذواتِهم، بخلافِ المحبوبات الدّنيوية المختلفة والرغبات النّفسية ففيها نزعة نفسية أنانية ومصلحية وحظوظية، وهؤلاء بمحبّة هذا الغير أثبتوا أنّهم مستعدّون للتضحية بنفوسهم وذاتِهم وما يملكون من مصالح وحظوظ ورغبات في سبيل إسعاد ومحبّة هذا الغير. فهي محبّة مختلفة تقترِبُ في مماثلتِها محبّة الله تعالى التي من تجعل محبّ الله تعالى مؤثراً ربّه على جميع الحظوظ والرّغبات والمصالح ومستعدّاً للتضحية في سبيله، فهؤلاء العشّاق ذاقوا تلك المحبّة، وسرّها وإنْ لم تكن محبّة أصلية كما هي المحبّة أصليةٌ نحو الله سبحانه. ولكنَّهُم فازوا بهذا الذوق وتلك القابلية وتلك الحريّة، نعم تلك الحرية التي أطلقت فيهم المحبّة والعشق، فازوا بالاقترابِ خطوةً من ذوق معنى الحريّة والتضحية والحبّ في جوهره.

فضلاً أنّنا نقولُ بلغة الحقيقة، أنَّ العشّاق حينما وقعوا في العشق، ما أحبّوا وما عشقوا سوى الله سبحانه، عشقوا شيئاً من جمال الله تجلّى في محبوبهم، فهوى على قلوبِهم فخطفَها وأخذ بمجامعها. وذلك هو سِرُّ العشق.

وبهذا الاعتبار فقد كانوا أقربَ للإيمان بالله تعالى، وأقربَ للحريّة والتحرّر من نفوسهم وأنواتِهم وذواتِهم الترابية.

وإنّنا لو وقفنا على الطرائق السّلوكية، لوجدناها تقومُ على الشيخ، والشيخ ليس ينفعُ إلاّ إذا كان أوَّلاً شيخاً واصلاً وصلَ إلى المنبع فهو قادِرٌ أن يسقي غيره من المنبع. وليس شيخاً منقطعاً. ثمّ السرّ الأكبر والأوّل للفلاح في الطريق هو اجتماع قلب المريد على شيخه، به ينقِطِعُ عن سائرِ الأنداد والوجهات، فلا يلتفتُ عن شيخه، ويُسلّمُه يده وقيادَهُ ليقودَهُ بعد ذلك الشيخُ القيادة الحكيمة الصحيحة نحو المنبع. وهنا يبدو التماثل والتشابه بين حال علاقة الشيخ بمريده وتسليمه له ومحبّته له وفنائه فيه، وبين حالِ عشّاق أهل الدّنيا الذين يفنون ويهيمون في محبوبيهم. فقد صاروا بتلك القابلية للفناء والهيام والعشق قريبين من هذا السرّ الذي هو سرّ الفلاح والقرب من الله تعالى. قرباً خاصّاً.

ثمّ إنّ محبّة الشيخ واتّباعه والتسليم له والانقياد له هو في الحقيقة دورةٌ تدريبية للقاء الله تعالى والانقياد له والتسليم له سبحانه في أقداره وتجليّاته، والرّضا بقضائه وقدره والصبر على المحن والابتلاء وعلى مفاتن الدّنيا حتّى يصلَ العبدُ إلى ربّه. بل نقولُ أنّه لا يتحقَّقُ الوصولُ والتحقّق إلاّ بالعشق الإلهيّ والفناء في الرّوح الإلهيّ. وسرُّ الوصول وسرّ الطريق هو العشق والحبّ. ولهذا نقرأُ للصوفية الأوائل ومن لحقهم بإحسانٍ تلك الأشعار العاشقة الهائمة العذبة المنقطعة النّظير في المحبّة والعشق، فإنّ الله يجمعهم بالرّوح، لتتمثّل لهم فيهيمون عشقاً فيها وفي سرّها وهي الرّوح التي بها يتقدَّسُ هؤلاء السّالكون طريق الله تعالى.

وعليه فسِرُّ وحقيقة هذا الطريق كلّه هو العشق والحبّ، وليس يكونُ ديناً عميقاً متيناً فيه معاني الذّوق والتحقيق والقرب إلاّ بهذا العشق والحبّ. ذلكَ أنّ أعظمَ المشاعر وأعلاها وأقواها وأشدّها هو الحبّ والعشق، لا شيء فوقه. به تذوبُ المخاوفُ وتضمحِلُّ المساوئ وتقوى الهِمَمُ وتتحرَّرُ النّفوس من قيودِها، فيغدُو الجبانُ مقداماً شجاعاً، والبخيلُ سخيّاً كريماً، والضعيفُ قويّاً، والمهزومُ صامِداً، والذَّليلُ عزيزاً، والأسيرُ حرّاً، والخسيسُ شهماً نبيلاً، به بهذا الحبّ والعشق تنطلِقُ فضائلُ العبد المكنونة فيه، وتستعلي الإنسانيةُ والجمالُ والذَّوقُ والفطرةُ .. وسبيلُ السّلوك في الطّريق في الحقيقة هو الكشفُ عن هذه المحبوبية في قلب السّالك والمريد نحو ربّه، لينطلِقَ حرّاً يتجاوزُ المخاوف والمهالك والمفاوز، تتقلَّبُ عليه الأقدارُ بين منحِها ومحنِها وقلبُهُ غيرَ مبالٍ بها ، قلبُهُ معلَّقٌ بربّه فقط، عاشِقٌ كأقوى ما يكونُ العاشقُ، عاشقٌ عشقاً كليّاً، ليس لهُ وقتٌ لفضول الكلامِ والأعمالِ، أو وقتٌ للانشغالِ بغير محبوبه. إنَّهُ العشقُ والحبّ والتيمُ والهيامُ خيرُ قائدٍ نحو الله سبحانه، حتى يصلَ إلى المنبع وقد تحقّقَ، فلا يزالُ إلى الله اضطرارُهُ يزدادُ وتمكينُهُ يقوى، ووصالُهُ يتقدَّمُ.


الأربعاء، 4 يونيو 2014

رسالة مختصرة إلى صديق متابع (مرفوعة للفائدة)


 كتبنا هذا الموضوع بتاريخ :
الاثنين، 23 سبتمبر، 2013
ونرفعه اليوم للفائدة والتوجيه النافع المفيد :
____________________________

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله حمدا يليقُ بعظمته وجلاله لا نُحصي عليه ثناءً هو كما أثنى على نفسه سبحانه، وصلّى الله على خير خلقه وصفوتهم سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وأتباعه وسلّم كثيرا. أمّا بعد :

فهذه رسالة مختصرة إلى صديق متابع، كتبتُ بعض سطورها كتعليق، ثمّ أردتُ تعميمها هنا للفائدة :

أخي الكريم .. ، هذه المقالات والكتابات هي خصوصيات وكماليات لا ضروريات، أمّا الطريق فهو الطريق الى الله سبحانه من طريق سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المهدي مكتوم المقام حتى عند الصوفية لا يعرف مقامه إلّا الاكابر، واذا كان مقامه مكتوم فليس واجبا عليك الإيمانُ بما نكتبه. ولا حتى بالضرورة أن تقتنع به. ومن حقّك أن تنكرهُ إذا لم تقتنع به ولا لوم عليك ولا تثريب، لأنّها حقائق ذوقية وعلمية تقَعُ بعد معرفة الله سبحانه. ولو كانت من المعارف السّلوكية الضرورية لكتب فيها أهلُ الله تعالى، كما كتب العارف بالله ابن عطاء الله السكندري الحكم العطائية، فمثل تلك الحكم العطائية هي خلاصة الطريق وزادُ القوم ومعالم السّلوك، أمّا مقالاتنا فهي خصوصيات وكماليات فقط.
ما خطّهُ - في مثل هذه الحقائق والأسرار الخاصّة بالمهدي - بعضُ الأكابر من الأقدمين إلاّ بإذنٍ من الحضرة العليّة لإظهار المرتبة لصاحبها إذا جاء وقتُه وزمانُه، فيعثُرَ على كنزه فيبلغَ يتِيمَا خلْقِه وحقِّه رُشدَهما ويُسقطاَ الجدار ويستخرجا كنزهما، وحينها يظهرُ العزّ صاحبُ الكنز، أي المهديّ. فهذه المقالات خاصّة جدّاً. لا بأس بقراءتها لفهم بعض المشاهد والأطوار، وزيادة بعض المعارف والتثقيف، ولكنّها ليست مقالات سلوكية ضرورية.

فالله سبحانه تعبّدنا من طريق الشريعة ومحبّة الصالحين وأمرنا أن نتّقيه ونكون مع الصّادقين
قال سبحانه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة/119)، والصّادقون هنا هم أهل السّند الروحي الى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحقّقوا بمقام المشاهدة وركن الإحسان فلا يغيبُ عنهم ذكرُ الله سبحانه طرفة عين. لذلك فهم صادقون، يدلّون على الله تعالى ولا يدلّون على غيره.

أخي الكريم طريق الله واضح بسيط مختصر لا يمرّ من باب المعارف النظرية والفلسفات، ولكن يمرّ من باب الشيخ العارف الصادق. واحذر المشايخ الادعياء فَهُم كثير في زماننا، وخصوصا من يدخلون السياسة ويوالون الظلمة وينافسون أهل الدّنيا في دنياهم فهؤلاء قطّاع طرق وليسوا أهل دلالة على الله تعالى، فالمشايخ الصادقون يدلّون القاصد على الله تعالى من أقرب الطرق إليه. فإذا أردت أن تعرف الله سبحانه محبّة في الله سبحانه لا لغرض أو مصلحة أو معارف تناظر بها الناس، فعليك أوّلا أن تصحّح نيتك في طلب الله وحده، ثمّ تلزم الإستغفار الكثير وكثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وتستخير الله سبحانه صادقاً أن يدلّك على من يُعينك في الوصول اليه ، وصولاً فيه الصّفاء والمحبوبية والصدق وزكاة النّفس وطهارة القلب بعيداً عن الأغراض والهوى والحظوظ الدونية وبعيداً عن مقاضاة النّاس ومحاكمتهم، فالمؤمن رحيم متغافل عن النّاس وأخطائهم متسامحٌ
كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الرَّاحمُونَ يَرحمُهُم الرَّحمنُ ارْحَموا مَنْ في الأرض يرحمْكُم من في السَّماءِ).

فافهم ما ذكرته لك. واقصد اللبّ والخلاصة، وهي محبّة الله سبحانه. وبارك الله فيك وفي الجميع.


وأسألُ الله أن يُسهّل لك طريقا إليه خالصاً صافياً صادقاً ولجميع الأحباب والأصدقاء والمتابعين ويغفر لنا ذنوبنا ويطهّرنا من عيوبنا ويخلصنا له بالمحبّة والصدق. آمين.

وصلّى الله على خير الخلق وأشرفهم سيّد الأوّلين والآخرين المبعوث رحمة للعالمين مولانا وسيّدنا محمّد النبيّ الأميّ الأمين وعلى آله وصحبه الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلّم تسليما في كلّ لمحة ونفَس بعدد كلّ معلوم لله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

__________________________
رابط الموضوع : http://miskhom.blogspot.com/2013/09/blog-post_23.html

الثلاثاء، 3 يونيو 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 65



 - 65 -

إنّ كلامنا عن صاحبِ لواء الذَّاتِ المهدي، لا نعني بذلك أنَّهُ الذات بهيئته ومظهره وتشبيهه، تعالى الله عن التشبيه والحلول والاتِّحاد. فجميعُ مقالاتنا من بداياتِها قامتْ على تأسيس التنزيه لله تعالى سبحانه، وكرّرنا مراراً أنّ كنه ذاتِ الله تعالى غيبٌ غير مدركٌ، وليس يُدرِكُهُ لا نبيٌّ ولا وليٌّ لا في الدّنيا ولا في الآخرة، فغاية إدراك الخلقِ وعلى رأسِهم سيّد الكمال والخلق وصفوتهم وسيّد الأوّلين والآخرين رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، غايةُ إدراكِهم هو إدراكُ التجليّاتِ المنزّلة من غياهبِ التنزيه إلى قوالبِ التشبيه، وهناك وقفَ الجميعُ بالحيرة والعجز عن الإدراك سبحانه، فما تعرَّفَ الله سبحانه لخلقِهِ إلاّ بالتجليّات والهوية الغير المدركة، فجاء في سورة الإخلاص المخصوصة بالتعريف بالله سبحانه وتعالى قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فجاء التعريف بدايةً بهاء الهوية وضمير الغائب "هو" وإن شئتَ فهو في حقّ الله تعالى إسم أي الضمير "هو" هو إسمٌ لله تعالى. أي أنّ الله تعالى كنهُهُ غير مُدرَك البتّة. فما تعرّفَ لخلقه إلاّ بالتجليّات التي ظهرَ بها الرّوحُُ الأعظم. فقد ظهر سبحانه بذاته في الرّوح، أي الرّوح الأعظم هو مرآةٌ ذات الله تعالى، أمّا كنهُ ذاتِه فهو غيبٌ مطلق غير مدرك البتّة. قلنا ذلك وكرَّرناهُ مِراراً. وكذلك قال سبحانه {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. فبدأ بـ "هو" وختمَ بـ "هو". ليغلِقَ بابَ إدراك هويّته وكنه ذاته مطلقاً، فلا يزالُ معروفاً عند أربابِ التحقيق والولاية والمقرّبين من عباده بـ "هو". وهو إسمٌ يعودُ إلى غائبٍ، حتّى يُعلمَ أنّه غيبٌ سبحانه. وهو غيبٌ تعالى عن إدراك كنهِهِ. قال الله تعالى {الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)} سورة البقرة. فعرّفََ في آياته هنا عن عباده المتّقين المفرّدين السّابقين الذين يقيمون الصّلاة وهي الصّلة بالله تعالى التامّة، فهم قائمون بالله تعالى باقون به سبحانه، وينفقونَ من ثمرة ما رزقهم من الكتاب الذي يمسّونه بطهارتهم الذاتية {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ*}. لأنّهم حصّلوا مقام نزول الرّوح إلى قلوبهم وعرجوا إلى سرّ الرّوح، فأمكنَهُم الله سبحانه من التصرّف بإذنه، بذلك السرّ، أن صارتْ قلوبُهُم معاينةً للأحدية، والأحدية مظهرُ الذات السّاذج الذي هو سرّ الرّوح، وإن شئتَ سرّ مرتبة الألوهية. والأحدية طلسَمٌ وغيبٌ لأنّها مرتفعة عن التعيين والتعريف، فلا إسم فيها ولا صفة ولا نعت. إنّها الأحدية التي لا تقبل الغيرية مطلقاً، فهذا غاية شهود المحقّقين والفانين في الذات، وليس لهم وراء ذلك إدراك لكنه الذات وحقيقتها. فقلنا عرّف الله سبحانه عن العباد السّابقين المحقّقين المفرّدين المطهّرين أصحاب التفريد بإقامة الصلة بالله التامّة، والإنفاق من رزق التجليّات بمسّ الكتاب (الذي أنزله على عبده الذاتيّ). ولكنَّهُ سبحانه عرّفَهُم قبلَ ذلك بقوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. فجعلَ إيمانَهم به سبحانه غيباً، فتأمّل يرحمك الله، فَهُم بالرَّغمِ من تحقُّقاتِهم التي لا فوقها، إذ هم الأختامُ المحقّقون المطهّرون عن الأكوان الذين تحقّقوا بالفردانية وطبع عليهم بخاتم الولاية وورثوا الوراثة الكاملة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، بالرَّغمِ من علمهم بالله تعالى المنزَّلِ عليهم من إسم العليم وتحقّقاتهم الختامية وكمالِهم، فقد عرَّفَ بهم أنّهم يؤمنون بالغيب، وهذا الإيمان بالغيبِ هو في حقّ ذات الله تعالى وكُنهِهَا الغير المدرك. فهم عالمون بالله باقون به يقيمون الصّلة الكاملة به سبحانه من غير حلولٍ ولا اتّحاد، ويتصرّفون في الأكوان بإذن الله تعالى بختم الولاية الذي تُوِّجُوا به، ومع ذلك فكُنْهُ ذاته سبحانه غيبٌ بالنّسبة لهم، لذلك عرّفهم بالإيمان بالغيبِ. والإيمان يكونُ دائماً للغيب، لأنّكَ عندما تكونُ مشاهداً معايناً فأنتَ تجاوزتَ مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشهود والمعاينة. ثمّ ليتأكّد هذا المعنى، قال الله تعالى بعد ذلك : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فعطفَ "والذين يؤمنون بما أنزل إليك..". كما ذكر ذلك الشيخ الجيلي فعطفَ الفئة المؤمنة أصحاب اليمين -من غير السّابقين- الفئة المؤمنة التي تؤمنُ بباقي أركان الإيمان غيباً، لأنّ سائر الأركان عندها غيباً، فكان العطفُ بين السّابقين وأصحاب اليمين. لأنّ السّابقين ليس عندهم غيبٌ من أركانِ الإيمانِ سوى كنهِ ذات الله تعالى عن الإدراك، فهم مؤمنون به غيباً، وأمّا باقي أركان الإيمان من القدَرِ والملائكة والرّسل والكتب فهم مشاهدون لهم، معاينون لهم. يشهدون القدر في لوح القدر، ويعاينون الملائكة، بل هم معاينون للرّوح الأعظم. وبقيّة المؤمنين إيمانُهم بأركان الإيمان التي جاءت في الحديث الشريف الصحيح، إيمانُهم بها غيب. فالغيبُ موجودٌ لكلا الفريقين، ولكن عند أهل التّحقيق والسّابقين هو كنه الذات الغير مدرك أبداً لهم لا في الدّنيا ولا في الآخرة، وعند أصحاب اليمين الغيب هو باقي الأركان الواردة في باب أركان الإيمان.

وعليه فيجبُ الانتباه لما نذكرُهُ في التعريف بحامل لواء الذات والقائم بحقّ حمد الله المهدي عليه السلام، فهو المظهر الذي يظهرُ فيه الله بذاته. أي أنّ سرَّهُ هو السرّ الذاتيّ، وعلمُه هو العلمُ الكليّ الكامل بالله تعالى، هو الوليّ المتصرّف، هو الرّوح الأعظم الذي ظهر الله فيه بذاتِه. وليس يظهرُ الله تعالى إلاّ في هذا الرّوح، فهو حاملُ السرّ الذاتيّ والكنه الغير مدرك. فتعالى عن النّظير والشّبيه والمثيل مطلقاً، كما تعالى سبحانه عن الإدراك.

واسمُ الله هو إسمُ مرتبة من وجه، أي نعم، ذكرنا ذلك فقلنا اسمُ الله هو الإسم الجامع لمراتب الوجود جميعها، وبه يتحقَّقُ الحاملون للإسم الأعظم القرآنيون المطهّرون. وتحقّقُهُم به يُصطلحُ عليه : الفناء في الذات والبقاء بالذات. فهم ذاتيون اصطلاحاً، لا حقيقةً. فالذاتُ غير مدركة أصلاً كما أشرنا، ونريدُ كنه الذات وهويّتها هي الغير مدركة. لذلك ذكرَ الشيخ الأكبر في الفتوحات المكيّة أنّ الله أغير الغيورين وغيرتُه تجلّتْ أكثر ما تجلّت سبحانه عزّ وجلّ، في كونِ ختْمِ أسمائه هو : الإسم "هُو". كما سُقنا الآية الكريمة
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }. فبدأ بـ "هو" وختمَ بـ "هو". غيرةً منهُ سبحانه فتعالى عن المشاركة والإدراك والنّظراء. وكانَ الختم العزيز المهدي هو صاحب هذا الهو والكنه بسرّه ولطيفته، ولهذا كانَ هو سرّ الوصلِ والفصلِ. وإلاّ لما قامتِ أصلاً حقيقة التوحيد. ولانفصلَتِ التجليَّاتُ والصِّفاتُ عن الذات، وذلك لا يكونُ فافهم. فحتّى قولنا أنّ اسم الله إسمَ مرتبة، فهذا لا يعني عدم وجود صاحب هذه المرتبة بالأصالة والسرّ الذاتيّ. وإلاّ لوقعَ الفصلُ ولما قامت حقيقة التوحيد كما ذكرنا. ولكونِها مرتبة يتحقَّقُ بها المتحقّقون الأفراد الأختام الورثة، فقد صارَ لها ختمٌ ليختِمَها وتعود إليه بالأصالة والذات فلا تقعُ المُشاركة والمزاحمة ولا التعدّد. فهو الأصلُ وغيرُهُ ظلٌّ له فقط. فافهم. والولاية ذكرنا أنّها سرُّ مرتبة الألوهية ولكنّ الوليّ الخاتم هو الوليّ بالأصالة المتصرّف المالك صاحبُ الملك، خاتِمُ تلك المرتبة، وحامل سرّ الكنه وسرّ الذات، وبهِ صار الإسمُ "الله" إسمُ ذات. وإنّما كانت مرتبةً -أي مرتبة الإسم الأعظم الله- لأنَّهُ لا وجودَ إلاّ له وحده، فهل معه أحدٌ في التّحقيق؟ لا. ولكن التعدّد والحدوث اقتضى أن يتميّزَ الأصلُ والظلُّ، ولولا الأصلُ لما وجِدُ الظلُّ، فافهم. ولولا أنَّ الظلَّ يرجِعُ للأصلِ لما سمّيَ ظلاًّ، ولما قامَ بأصلِه إذن، فهو تابعٌ ملحقٌ لحوقاً إمكانياً لا حقيقياً، فلهذا سمّي ظلاًّ. فما دخلَ في المخلوقية فهو من عالمِ الحدوث وهو من عالم الظلال، وكان الخليفة هو الرّوحُ الذي تجلّى الله فيه وظهر به بذاته، فهو الأصلُ الذي به تجلّى الله تعالى في عالمِ الظّلال، فمهما كان من ظلٍّ فلهُ أصلٌ يعودُ إليه، فكان الخليفةُ هو أصلُ تلك الظّلال، فالخليفة الأصلُ حامل سرّ الذات، وغيرُهُ بما فيهم سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه هم من عالم الحدوث والظّلال. وإلاّ لوقعَ الفصلُ بين الذات والتجليّات والصفات. وذلك لا يكونُ فما في الوجود والتحقيق سواهُ وحده لا شريك له. فالله اسمُ مرتبة وأسمُ ذات. فهو إسم مرتبة باعتبارِ التحقّق وعودة المخلوق إلى خالقِه، وعودةِ الظلّ إلى أصله، وهو إسم ذات باعتبارِ أنَّهُ لا إله إلاّ الله، ولا موجود سواهُ، فعادتِ التجليَّاتُ والصِّفاتُ إلى المظهر الذي تجلّى الله فيه بذاته، فهو صاحبُ الذات بهذا الاعتبار. قال الله تعالى {الله لا إله إلاّ هو} .. { قل هو الله أحد}. فالهو والكنه الغير مدرك هو الله جلّ جلاله، أحد في أحديته وليس له كفؤاً أحد. فالله إسمُ ذات، بردِّ ورجوعِ الإسم لحامل سرّ الذات. وهو المظهرُ الذي يظهرُ فيه الله بذاته. وهو إسمُ مرتبةٍ كما قلنا لسائر المحقّقين الخلفاء الأختام، فهُم ظلالٌ للأصلِ، وهي مرتبة البقاء بالله. ولهذا كان سيّد الخلق والكمال وقدوتهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانت رتبته تُسمى رتبة البقاء الذاتيّ، فقد خلَقَ من أجله الأكوان والإنسان، فنصبَهُ لَهُم قدوةً وغايةً ونهاية الكمال والتحقّقات، وهو ظلٌّ لصاحبِ الذات الأصل، فنزلَ عليه القرآن بالرّوح الأمين على قلبِه، ليكونَ من القارئين لكتاب الوجود، الكتاب الذي أنزلَ على العبد الذاتيّ المهدي الخليفة. فالمهدي الخليفة أنزل عليه الكتاب، فهو الكاتب بسرّ ذاته ولطيفته الذاتية الأصلية، وغيرُه نزل عليه القرآن، فهو قارئ لهذا الكتاب فقامَ الحقّ سبحانه لطيفة ذاتية في المهدي الخليفة، وقامَ في غيره لطيفة صفاتية، أو ظلالية. فافهم هذا الذي نقولُه فهو من أنفس التحقيقات.

فقد صارَ صاحب لواء الذات واللّطيفة الذاتية بهذا الاعتبار سفير وخليفة الحقّ سبحانه، لأنّه لا سبيل إلى ظهور الحقّ سبحانه إلاّ بمظهرٍ في عالم الكثرة والحدوث، حيثُ ما في التّحقيق سواهُ موجوداً، فكان مظهرُ الحقّ سبحانه بذاته هو الخليفة. ففي سماء الربّوبية والقدِم هل موجودٌ غير الواحد الأحد؟
وإقرأ بدايات سورة النّجم، حيث ورد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اخترقَ إلى سرّ الرّوح ورأى من آياته الكبرى، وجاء في أخبارٍ صحيحة أنّه رأى ربّه عند عروجه في ليلة الإسراء والمعراج، وهو رأى الرّوح الأعظم حينما اخترقَ لسرّه. عند سدرة المنتهى. فرأى ربّه، والله بذاته وكُنه ذاته وأحديّته مُتعالٍ عن الإدراك فضلاً عن الرؤية، فافهم. وإنّما رأى المظهر الذي يظهرُ فيه الله بذاته، وهو الرّوح. وما استنكفَ السَّلفُ والرّاوي أن يقولَ رأى ربَّهُ. وكذلك جاء في الأحاديث الصّحيحة أنّه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه في رؤيا على هيئة شابٍّ أمرد. فالمرادُ هنا هو الرّوح حامل لواء الذات والمُسمّى : الحقّ المخلوق به. وهو ليس سوى الخليفة المهدي عليه السلام.
فلا حرجَ في إطلاق لفظة الربّ عليه، لأنّ سرّهُ هو السرّ الذاتيّ، ولطيفته ذاتية فهو ليس بظلٍّ. ولإقامة كلامنا على التأسيس فسننقلُ بعض اقتباسات الأكابر المحقّقين في توصيفهم للخليفة المهدي. وإطلاقُ لفظة الربّ لا تليقُ إلاّ به سبحانه هو صاحب الذات والهُو والكنه الغير مدرك، فتعالى الله عمّا يُشركون.

قال الشيخ الأكبر قدّس سره في الفتوحات المكيّة في وصفِ الخليفة :
(("إني جاعل في الأرض خليفة" يُؤمن به من كل خيفة، أعطاه التقليد، ومكّنه من الإقليد، فتحكّم به في القريب والبعيد، وجعله عينَ الوجود، وأكرمه بالسجود، فهو الرّوح المطهّر والإمام المدبِّر، شفّعَ الواحدَ عينه، وحكم بالكثرة كونَه، وإن كان كل جزء من العالم مثله في الدلالة ولكنّه ليس بظلّ فلهذا انفرد بالخلافة وتميز بالرسالة فشرّع ما شرع، وأتبَع واتّبع فهو واسطة العقد وحامل الأمانة والعهد)). انتهى.
فنعته هنا أنّه ليس بظلّ فانفرد بالخلافة وكان واسطة العقد وحامل الأمانة والعهد. أي حامل سرّ الذات حيث تجلّت تجليَّاتُها، وإلاّ لما قام معنى قوله تعالى
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }. فوجهُ الله هنا هو وجههُ سبحانه. وإلاّ لوقع الشرك والانفصال. ثمّ عرّفه أنّه شفع الواحد عينُه، وحكمَ بالكثرة كونَه، فنسبَ إليه الكون، ونسبَ إليه التشفيع والكثرة، ونسبَ إليه مقاليد الأمور والتصرّف. فهو الربُّ والذي استحقّ السّجود، لأنَّهُ حامل سرّ الذات والكنه الغير المدرك وصاحب العلم الكلّي الكامل بالله تعالى، وصاحب التّصريف المطلق.
وقال الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه "الإنسان الكامل"

ذاتٌ لها في نفسها وجْهَـانِ ... للسّفل وجهٌ والعُلا للثانـي
ولكلّ وجهٍ في العبـارة والأدا .... ذاتٌ وأوصافٌ وفعلُ بَيَانِ
إن قلت واحدة صدقْتَ وإنْ تقُلْ ... اثـنانِ حـقّ إنّـه اثنـانِ
أو قلتَ لا بل إنّهُ لمثلّثٌ ... فصدقت ذاك حقيقة الإنسانِ
أنظر إلى أحدية هي ذاته ... قل واحدٌ أحدٌ فريدُ الشانِ
ولئن ترى الذاتين قلت لكِوْنِهِ ... عبدا وربا إنّه اثنانِ
وإذا تصّفحتَ الحقيقة والتي ... جمَعَتْهُ ممّا حكمُه ضدّانِ
تحتارُ فيهِ فلا تقولُ لسُفلِه ... علو ولا لعلوّه داني
بل ثمّ ذلك ثالثاً لحقيقة ... لحقت حقائق ذاتها وصْفانِ
فهي المسمّى أحمد من كون ذا ... ومحمّد لحقيقة الأكوانِ
وهو المعرّف بالعزيز وبالهدى ... من كونه ربّاً فداهُ جناني

فوصفه الشيخ الجيلي بالذات الأحدية، فهذا محقّق عالم بالله يصِفُ صاحب الذات المُسمّى أحمد، والمعرّف بالعزيز والهدى : المهدي {ألم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين}، وعرَّفهُ أنّه ربٌّ. وأنّه الظاهرُ بالمحمدية في الأكوان فكان هو الظاهر بمحمّد لحقيقة الأكوان. وهو أحمدٌ الذي قامَ بحقّ الحمد، وما قامَ بحقّ الحمدِ سواهُ على التّحقيق، والحمدُ هو إعطاء كلّ مرتبةٍ حقّها، وما ظهرتِ المراتبُ ولا ظهرَ التعدّدُُ إلاّ بالتجلّيات الحقيّة والخلقية، وما ثمّ في التَّحقيقِ حامِدٌ ومحمودٌ وحمدٌ سوى الواحد الأحد المعبود سبحانه، فهو عينُ الحمد والحامد والمحمود، فهذا معنى القيامِ بحقّ الحمدِ، فمن هو سرّ الحمد والحامدين؟ هو المحمود سبحانه، الذي تجلّى بخلقه، فأعطى كلّ مرتبةٍ حقّها، وليس ذلك سوى أحمد بالأصالة وهو الخليفة المهدي، فكان العبد الذي قام بحقّ حمد الله تعالى على التّحقيق دون سواه. وكان سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم عند تحقّقه بالإسم الأعظم، التحقّق الظلاليّ الشهوديّ العبد الذي استحقّ لواء الحمد دون غيرِه من الخلق، فهو صاحبُ لواء الحمد والمقام المحمود، والخليفة أصلٌ لا مزاحمة بينه وبين الخلق. وإنّما كان صاحب لواء الحمد هو القدوة والأنموذج الذي جعله الله مكمّلاً وقدوةً سيّداً لسائر المتحقّقين والعباد والمخلوقات، وجامعاً لجميع التجليّات خاتِماً لها متحقّقا بها، وهو سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجميعُ العباد سائرون على قدمه متحقّقون من بعده.


وقال الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه في الفتوحات المكيّة :

(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. ) انتهى.
فهنا كلامٌ واضحٌ، في التفريق بين المتحقّقين وبين صاحب الأحدية والذات. فهيهات أن يتماثل الأصلُ والظلُّ. فتحقّق المحقّقين والأولياء والأنبياء هو تحقّق بالعلم والصفات، لا بالذات. وذكرَ أنّ هناك ياقوتة يتيمة لا نظير لها. وهي ياقوتة الخليفة والرّوح صاحب الذات وصاحب الأحدية وصاحب الكنه، فشتّان بين الخالق والمخلوق. فافهم. أن ينخدَعَ من لم يتحقّق بين المرتبة وبين الأصل وصاحبها الذي به ظهرت. فأمرَ سبحانه بإقامة الميزان.

وكثيرٌ من الاقتباسات ذكرناها في ثنايا مقالاتنا تتكلَّمُ عن حقيقة هذا الوليّ الخاتم. فليس له نظير ولا مثيلٌ، فمهما وقع التماثل في المظهر والإنسانية الظاهرة، فالختمُ سرّهُ وعلمُه هو فوق الإدراك وفوق التناظر والمثلية.


وقال الشيخ الأكبر في كتاب عنقاء مغرب تلميحاً لهذا المقام : ((فرأيتُ ختم الأولياء الله الحقّ، في مقعد الإمامة الإحاطية والصدق، فكشف لي عن سرّ محتده وأمرت بتقبيل يده، ورأيتُه متدليّاً على الصدّيق و الفاروق متدانياً من الصّادق المصدوق، محاذياً له من جهة الإذن، قد ألقى السمع لتلقّي الإذن ولو تقدّمه منشور ، وخاتماه نور على نور ، فكان له في ذلك الجمع الظهور وما عداه فيه كلابس ثوبي زور))انتهى. فما عداهُ كلابس ثوبي زور، لأنّه الأصلُ وغيرهُ ظلٌّ لهُ. فهو صاحب لواء الذات.

ووصفه الشيخ الأكبر
في عنقاء مغرب بقوله مقسماً : ((وأقسم لك بهذا البلد إنّه للسيّد الصّمد)). انتهى. ولا صمد إلاّ الله المعرّف في سورة الإخلاص بقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ }. ولا صمد سواهُ "هو" وحده لا شريك له، الذي استغنى وغيرُهُ إليه افتقر.

وقال الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل في باب : "في الزبور" :
((.. فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه، وإليه الإشارة في قوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} يعني الصالحين للوراثة الإلهية..)) انتهى.

وقال الشيخ الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل"، يصِفُ حقيقة المهديّ الخاتم الوليّ:

(فقد سبق أن قلنا أن الحقّ إذا تجلّى على عبده وأفناه عن نفسه قام فيه لطيفة إلهية، فتلك اللّطيفة قد تكونُ ذاتية وقد تكونُ صفاتية، فإذا كانت ذاتية كان ذلك الهيكل الإنسانيّ هو الفرد الكامل والغوث الجامع، عليه يدورُ الوجود، وله يكون الركوع والسجود، وبه يحفظ الله العالم، وهو المعبّر عنه بالمهدي والخاتم وهو الخليفة، وأشار إليه في قصة آدم، تنجذبُ حقائق الموجودات إلى امتثال أمره انجذاب الحديد إلى المغناطيس، ويقهر الكون بعظمته ويفعل ما يشاء بقدرته، فلا يُحجبُ عنه شيء، وذلك أنّه لمّا كانت هذه اللطيفة الإلهية في هذا الوليّ ذاتاً ساذجاً غير مقيّد برتبة لا حقيقة إلهية ولا خلقيّة عبديّة، أعطى كلّ رتبة من رتبة الموجودات الإلهية الخلقية حقّها، ...) انتهى.

فعيَّنهُ أنَّهُ صاحب اللّطيفة الذاتية وغيرُه قام فيهم الحقّ لطيفة صفاتية.

وقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في مقدّمة الفتوحات :

إنْ قيل من هذا ومن تعني به... قلنا المحقِّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمُ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

وهنا نزّهه الشيخ الأكبر عن النّظراء والمشابهة مطلقاً، وجعله سرّ العباد ووصفه بأوصاف الإله. حتّى قال على لسان المندهشين:
قالوا لقد ألحقتَهُ بإلهَنِاَ... في الذات والأوصاف والأسماء
وأجابهم :
فبأيّ معنى تعرفُ الحقّ الذي... سوّاك خلْقًا في دُجَى الأحشاء
أجابَهم أنّ معرفة الحقّ تقضي بوجود سرّه في خلقه، فوجبَ وجود صاحبِ هذه المرتبة الذي ظهرتْ به المخلوقات، فهو هذا الخليفة خاتم الخلفاء. هو سرُّ الوصلِ والفصلِ. وإليه ترجِعُ الظّلالُ والمراتب والتجليّات.

كثيرة هي الاقتباسات الصّريحة والملمّحة. ولكنّنا أردنا التنبيه لحقيقة التنزيه لكُنْه الذات العليّة المتعالية عن الإدراك، التي لا تُدركُ لا دنيا ولا آخرة، فهو سبحانه في أحديته وعلاه، وحقيقة الخلافة بين الأصل والظلّ. والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل.