الثلاثاء، 23 فبراير 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 83





وذكرتُ قصّة إبليس ومذهبه المتقلّب المخذول، في المقال السّابق، لأعرِضَ في الطريق إلى الدجّال كيفَ خدعَهُ إبليس وغرّهُ، وأقنعهُ بالوهمِ المحقّق، في خُدعة انطلَتْ عليه، وكذلك تنطلي الخُدَعُ على كلّ عابدٍ لهواه متألٍ على الله تعالى. ذلك السّامريّ الذي هو الدجّالُ، لمّا ترعرعَ في صغره، وجدَ نفسَهُ غير عاديّ النّشأة ويختلِفُ عن غيره، إذ بدأ يكتشفُ في نفسه قوّةً خارقةً، وحواساً تتجدّدُ، واستشفاءً يتجدّدُ، وتحكّماً خارقاً في تجديد قوّته، وفي خرق العوائد بالنظر الحديد الذي يطوي المسافات ويخترق الجدران والطبقات الأرضية والسحاب، وغير ذلك من الخوارق الظاهرة، كما هي أفلام الأبطال الخارقين التي ملأت بهم هوليود مسامعنا وأبصارنا، لأنّ الرّاوي هو الدجّال، يبثُّ ويروّجُ لنفسه ولأفكاره ويمهّد لظهوره. أمّا لماذا كانت له هذه النّشأة دون غيره ؟ فذلك لما ذكرناه سابقاً أنّه كان في سابق مشيئة الله تعالى يمثّلُ النّفس الكثيفة وميلها للعنصر والمادّة،  واستحكامِ الهوى فيها وجريان الشيطان في دمِ جسمها وعروقها يغذي وجوده فيها، بطلبِ ما تميلُ إليه من شهواتٍ مختلفة ورغباتٍ لا تتناهى، تلك الرّغبات والشهوات والطّباع على قدرِ الأخلاقِ البشرية التي كانت متقابلةً بين العلوّ والسّفل، وبين الفضيلة والرّذيلة، وهي أخلاق كثيرة لها أمّهاتٌ معدودة، ولكنّها كفروع كثيرة، فما يُقابلُ الإنسان بكماله وفضائله الإنسانية هي أخلاق الحيوانات وطباعها أي ما يُقابل علوّ الكمالات هو سفل الطباع الحيوانية، والإنسانُ مخلوقٌ جامعُ كما هو معلوم، فكان جامعاً لجميع طباع وأخلاق الحيوانات؛ جامعاً، نريدُ أنّ النّاس طباعها اختلفت بقدرِ تفاوت طباع الحيوانات الكثيرة العدد في الأرض. ووجود تلك الطّباع الحيوانية في الأرض هو وجود القابلية في البشر للتخلّق والانطباع بتلك الطّباع. فهذا تحقيق، ولذلك قد يصدِفُ أن تقرأ  كلمة الإنسان الحيوان في أثبات وكتب الشيخ الأكبر أو غيره من بعض العارفين الأمجاد. أو تجدُ مقابلةً بين الإنسان الكامل والإنسان الحيوان. لأنّ الإنسان الكامل هو الذي رجع إلى صورته الأصلية التي خلق عليها، وهي الخلافة والأخلاق الإلهية، أخلاق الأنبياء عليهم السلام وورثتهم الأولياء رضوان الله عليهم. والإنسان الحيوان هو الإنسان النّازلُ عن مرتبة الكمال والصورة التي خلقه عليها ابتداءً؛ ولا تعني لفظة إنسان حيوان "اصطلاحاً" مذمّةً بإطلاق، بل بحسبِ أخلاقه، ففي أخلاق الحيوان ما هو محمود ومطلوب كشجاعة الأسد، ووفاء الخيل وحنين الحمام، وصبر الجمل واجتهاد النّمل ونظام النّحل ونباهة الهدهد، وهكذا. وفيه أخلاق حيوانية هابطة بهيمية وشهوانية وسبعية وانحطاطية وغيرها، كالخنزير الذي مثّل عدم الغيرة ومثّل الميل للشهوات بصفة عامّة. فقلنا مثّل السامريّ النّفس الميّالة للهوى، وهي الجسم المؤتمِرُ بشهواته وحظوظه وأناهُ ينفثُ في روعه الشيطانُ، وعليه العقل الترابيّ قائدٌ. والعقلُ التّرابيّ هو عينه هذه النّفس الكثيفة المائلة للهوى المنقطعة عن النّظرِ إلى العواقب، وإلى الغيب، وإلى حقيقة الإنسان في هذا الوجود. فصار هذا العقلُ الترابيّ أسيرَ وجوده الحاضر، دهريّ الاعتقاد أنانيّ التفكير أرضيّ الارتباط ماديّ النّزعة، وكان للساّمري الدجّال تلك القدرة الخارقة والتعمير في الأرض منذ عهد سيّدنا موسى عليه السلام، لأنّ الله جعلهُ ظلاًّ للخليفة في المادّة والجسم الكثيف والعقل الترابيّ المحكوم بطباع الجسد والعناصر فيه، من حيث كونِ الخليفة جامعٌ لكلّ القوالب فهو الظاهرُ بها، وتوالي الأدوار والنشآت الإنسانية عبر الحقاب كانت صور تجليّات الخليفة في تلك الأدوار والنّشآت، من أوّلها لآخرها، فكان العقل الترابيّ المنقاد للعالم الأرضيّ والأكوان والرغبات العنصرية والمحكوم بطباع الجسد للخليفة وهو في تركيبه العنصريّ والبشريّ أي جسد المجذوب وعقله الترابيّ، كان قد مثّله الدجّال، كذا قضى الله تعالى، لأنّ الخليفة أنشأه الله في آخر الزمان مجذوباً ليُقيمَ به الحجّة على الخلائق والملائك أي ولياًّ وليس نبيّاً معصوماً، فالنبوّة بابٌ آخر، ومختومةٌ من خير الخلق وصفوتهم روح الوجود وسيّده صلّى الله عليه وسلّم، وهذا المجذوب وليّ مكتومٌ، ولايته مكنونة في سرّه، قبل أن يخرج من تركيبه العنصري، إلى مرتبته الكاملة المطلقة. ليجمع هذا المجذوبُ صور الأضداد كما ذكرنا، وليجتمع فيه جميع أقدار البشر والعالم، فهو الإنسانُ الكبير وهو القطبُ الأعظم. فمثّلَ الدجّالُ قرين المجذوب، قرينه أو عقله التّرابيّ ولاوعيه المغزول بعالم الوهم والأكوان والذي لم يخرج من أسرِها وظلالِها.

والقرين هو جسم المرءِ الكثيف المنقاد للهوى بخيوط الشياطين التي تجري في عروقه ودمه، تطالبُهُ أن يروي حاجاتها المادية وأهويتها وشهواتها، وهي تسري في دمه وعروقه كما أشرنا كالجراثيم الدّقيقة، كظاهرة إدمان، يُغذّيها ليل نهار، من شهواته ورغباته، وفضول طعامه وطبائع عنصره وهو لا يدري، ولا تزالُ تطالبُ وتُطالبُ حتّى تهوي به في قعرٍ سحيق، من الدّونية والبهيمية. كذلك ركّبَ الله سبحانه في الإنسان هذه الحقائق، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم  ‏(إنّ الشيطان يجري من ابن ‏ ‏آدم ‏‏ مجرى الدم) صحيح البخاري ومسلم. فالدجّالُ هو الصورة الجامعة لأهل الشمال والكفر، أي القرين الكلّي الجاذب للأرض والطبائع الدّونية المخالف لكلّ نورٍ وروحٍ قدسيّ، فهو ظلّ الكثافة ووجهها الرديّ الهابط السّفليّ، وهو المادّةُ مفصومةً عن روح القدُسِ وحقيقتها النّورية، لأنّهُ (أي القرين في كلّ شخص) يُصادِرُ ما يأتي من الله سبحانه بواسطة الرّوح وينسبُهُ لنفسه وأناهُ، وفي كلّ شخصٍ وفي كلّ بشرٍ قرينُه، هو هذا التركيب الثنائي بين جريان الشيطان في دمه، وبين أوهامه المتراكمة في عقله الترابيّ اللاّواعيّ النّازعة للأرض والتراب والماديات وما سوى الله سبحانه، النّازعة لمحسوساتها وأكوانها. ولذلك لو رجعت لمشايخ التزكية والسلوك كمثل الإمام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه في كتابه المجيد : إحياء علوم الدين، لوجدتَ مذهبه في تفكيك الأخلاق والعيوب، يذهبُ إلى شقّين: شقّ العلم، وشقّ العمل والمجاهدة. فالعلمُ هو تصحيح المفهوم وتوضيح النّظرة إلى خطر هذا العيب وضرره أو ذاك الخلق وأثرهُ وثمره، ثمّ المجاهدة التي لها أركانها ووصفتها الخاصّة بكلّ خُلُقٍ، وكان الذكرُ أحد أعمدة العلاج، لأنّه يَجلُبُ النّور، ويُذهِبُ ظلمة العروق في الجسم، ويحرِقُ وجود الشياطين فيها. فتخفّ كثافة النّفوس وترقُّ لاستقبال وارداتِ الحقّ، وتتهيّاُ للتخلّق بالأخلاق الحميدة الفاضلة والزكيّة.
إنّ ما ابتُلِيَت به الأمّة في القرون الأخيرة من محاربة ركن السّلوك والتصوّف والمشايخ العلماء العاملين وتضليل مسلكهم، لهو مُرادٌ من الأعداء، بدقّة وقصدٍ عظيم، ليرتعَ العدوّ بلا مقاومة ولا دفاع ولا ثغورٍ تحرُسُ الأفراد والمجتمعات. ويذهبَ روحُ الدين، ونورُه المُقِيمُ في القلوب، ويبقى التديّن المغشوشُ القائم على المظاهر والطّقوس، الحافظ للمتون والحروف، تغشّهُ طقوسُه ومظاهرُهُ التي تُشبُهُ عبادات السّابقين وشكلَ إقبالِهم على الله تعالى، ومنطقهم في الكلام المنظوم المنثور، وهي مفرغةٌ من كلّ رُوحٍ ونورٍ وتزكية وعلْمٍ بمداخل الشيطان، ومكائده التي تهوي بالنّفوس في مهاوي الرّدى والهوى والهلاك. فالإنسانُ لهُ ظاهرٌ وله باطن، فظاهره الأفعال والأعمال والطاعات  الظاهرة، وباطنُه الأحوالُ والصّفاء والإخلاص والأنوار والأسرارُ والتحرّر من العيوب الباطنة المهلكة التي لا تظهرُ في الظاهر، ولكن تُرى بعين البصيرة الحديدة التي يملكُها ورثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيرونَ أمامهم كلّ مُريدٍ مقبِلٍ عليهم، وكلّ شخصٍ وعروقه الأساسية والفرعية، المُضاءُ منها بالنّور والمصفّى من الظلمة، والمظلِمِ منها والمُدنّس بالعيب. ويُقدّمون لكلّ مريدٍ وصفتَهُ الخاصّة، بطريقتهم الخاصّة، ولذلك كان التسليم والتعظيم للشيخ المربّي (حينما يَثْبُتُ بعلاماتٍ أنّه شيخ حقّ ومسلسل بالسّند المتصّل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم) كان التسليم والتعظيم للشيخ هو شعارُ هذه المدارس الصوفية المنوّرة، فهو الطّبيب المحمديّ الشهاديُّ على قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واسطةٌ في عالم الملك والشهادة بين المريد وربّه، بين عالم القدس وعالم النّفس، ولا بدَّ أن يكونَ واصلاً لعالَمِ القُدس ليسلك بأصحابِ النّفوسِ الدّربَ إلى ذلك العالم، وإلاّ فكيف يدلُّ القاصدين مقطوعٌ ؟! وكذلك قلنا المحمديّ "الشّهاديّ" أي حيُّ موجودٌ في عالم الشهادة، وهذا مهمّ وأساسيٌّ، وشرطٌ لإقامة جسر الواسطة والمدد، وجسر التسليك والتربية، ومن هنا جاء مفهوم الوراثة والاستخلاف الذين أقامهم الله تعالى في هذه الدّنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فلمّا غابَ هذا الفهمُ، وهذا العلمُ، وهذا الاستشراف عن هؤلاء المتأخرين، أو غيرهم من المنكرين الظاهريين، أنكروا واعترضوا وضلّوا وأضلّوا، وفتحوا الثغور والأبواب للعدوّ، وقد صارت الشياهُ بلا راعٍ يحرسُها، ولا حائلٍ يحولُ بينها وبينه، فهجمَ العدوُّ، وبانَ عوارُ وجهل وخيبةُ هؤلاء، وفضحهم الله تعالى. وعرفوا عِظَمَ الأخطار، وهول الموقف، وهجير الصحراء، وظلمة الدروب، التي لا يملكون عنها دليلاً، ولا سلاحاً، ولا طائلَ لهم بمواجهة ما رأوه، ولا حول ولا قوّة، ووجدوا دروعهم وهمية وسيوفهم خشبيةً، بل وجدوها سيوفاً مصنوعة من العدوّ مهمّتها العملُ لصالحه وهم لا يشعرون، ودورُها الطّعن في ظهورِ وصدورِ الصّادقين المجاهدين في الله حقّ جهاده. المنافحين عن غيرهم من المؤمنين والمسلمين والمستضعفين في الخفاء، الواقفين على الثغور يذوذون أزماناً وأزماناً عن الأمّة شروراً  كانت قد خفيَتْ. فجاءَ زمنُ المحاسبة والمعاقبة، فذهبَ حُرّاسُ الثغورِ، أو قلّوا وفقاً لإرادتكم ومنهجكم وسعيكم الحثيث الذي تبنّيتموه، وترككم الله مع العدوّ وجهاً لوجه، فانظروا ماذا أنتم فاعلون. وهيهات، هيهات أن يقدرَ الخاوي الخائب الجاهل الفاقِدُ لكلّ علم ونور وبصيرة حقيّة وزكية وسنيّة أن يواجه أولئك الأعداء المحترفين الخبراء الذين مهمّتم قطع طريق النّور، ووأدُ مسالك التزكية، بل كيف يواجهونهم وهم من صناعتهم وتلاميذهم وإن لم يشعروا بذلك.

فقلنا لذلك قد كان عقلُ الدجال التّرابيّ كذلك كلياً لجملة القرناء والأشباح البشرية، كلياً من حيث كونِه ظلاًّ للعقل الترابيّ للمجذوب الخليفة، قبل أن ينسلخ من تركيبه العنصريّ، إذ يحدثُ للمجذوب هذا الانفصام، أو هذه الحرب بينه وبين قرينه، وعقله التّرابيّ ولاوعيه، وقرينه فكان انعكاس قرين المجذوب وعقله التّرابي هو الدجّال، في مظهر الكثافة، وإبليس في مظهر اللّطافة، لأنّ إبليس هو معلّم الدجّال، وهو مغويه كما بدأنا الإشارة.قلنا في مظهر اللّطافة فإبليس يُمثل جريان الشياطين في دمِ الجسم كالجراثيم تغذيها وتغذي الرّغبات العنصرية والطّباع الحيوانية، طبعا الدونية منها، (قلنا "تُغذيها وتُغذي" لأنّها عملية ثنائية الاتجاه متبادلة الدّور) ومن هنا جاءت أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كقوله ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه)) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
لأنّ الإسراف في الأكل يُقوّي العنصر والتراب في الإنسان فيثقلُ عن الجانب الرّوحي، وهو معنى تقوية نفثات الشياطين فيه، ووجود فسحةٍ أكبر لمداخلهم ووسوستهم. وهم يجرون من بني آدم مجرى الدم كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم. من هنا فالشيطان كان له تأثيرُ الوسوسة ومداخل الهوى بحسبِ ما يجِدُ من ثغراتِ في النّفس، ولم يكن له أكثرُ من تلك القدرة الإغوائية الغيبية. بيدَ أنّ الدجّال، فهو حالةٌ مختلفة وأقوى، وهو وجودُه الكثيف واستعماله للقوى المحسوسة والمادية والإنسية والسّحر للسيطرة والتضليل والتدجيل، وإن كان لا يظهرُ صريحاً إلاّ بعد الخلافة الإلهية المهدية بعد فتح الرّوم. وإن كان يمهّدُ لظهوره ووجوده تمهيدا قويّا كبيراً قبل ظهور الخلافة الراشدة الإلهية، أي يكونُ على وشكِ الظهورِ وإتمامِ مراحل إعداده في الأرضِ حتى يظهرَ المهديّ فيقطع عليه الطّريق. فقلنا للدجّال صولةٌ أكبر، لكونه يُمثل العقل الترابيّ الباطن اللاّواعي للمجذوب، الذي يحاربُ المجذوب فيه. فصورة حرب المجذوب بينه وبين قرينه فيه، أي جسمه وعنصره وعقله التّرابيّ ينعكسُ ذلك واقعاً، وهذه من أعجب الحقائق، لا تُشهدُ إلاّ في آخر الزمان بقرب ظهور المهديّ، وهي علامة كونِ المهديّ جامعاً لأقدار الخلق، وقطباً وهو لم يخرج من تركيبه العنصريّ. فيكونُ لعقله الترابيّ الصولة على الجسد وسائر الأرض، لأنّها من عالم المحسوسات. فينعكسُ ذلك في صولة الدجّال وإبليس وأتباعهما، وظهور الفساد في الأرض فسادا وظلما عظيما وذلك قبل ظهور المهديّ. عبّر عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحاديث صحيحة بقوله : (( أبشركم بالمهدى يُبعث فى أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما...)). وقوله ((لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا )). والتعبير الذي قصدناه قوله صلى الله عليه وسلّم : يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت قبله ظلما وجورا. وهي روايات كثيرة بهذا الوصف والتعبير. فالأرضُ ملئت ظلما وجورا وعدوانا، وانظُر في تعبير "ملئت"، فهو امتلاء، وطغيان كبير عجيب، وفساد لا يُقارن، هذا الفسادُ قبل ظهور الدجّال، وقبل ظهور المهديّ وخلافته الراّشدة، وهو يُعبّرُ عن تمهيد الدجّال لظهوره، وظهور الدجّال الخفيّ، بالقوى الكبرى الظالمة، والهيمنات الأساسية للموارد : عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية وإعلامية ... والنزعات الدينية والقبلية والعنصرية والتحريضية بين الناس، ويكثر الهرج والمرج، وهو القتل والتمرّد، والكيد للطيّبين والصالحين، والمستضعفين، والتفاصيل موجودة في أحاديث آخر الزمان الكثيرة، بين صحيحها وضعيفها. تفاصيلٌ مذهلةٌ في فساد آخر الزمان. لأنّ القطب مجذوب، وهي علامة كبرى في ختمية هذا القطب، ومعنى ختميته يقيمُها الله حجّة على خلقه وعباده، يعرّفُهُم قدرَ هذا الإمام والأمير، فيعرفوا قدرَه، ويعلموا عن يقينٍ وبصيرةٍ، أنّه الرجلُ المنتظر الذي تنتظرُهُ الأرضُ، لأنّ الله أودعَ فيه ما لم يُودِعْ في غيره، وأنّه مجلى سائر الأقدار بين خيرها وشرّها. فتجلّى قرينُه في العالم، والواقع. طبعاً النّاسُ غافلون عن هذا المشهد، ولكن أهل الله وأهل البصيرة، يشهدون هذا الأمر عياناً، أمّا الخواصُ فهم عالمون بحقيقة هذا الإمام قبل أن يظهر، رأوا ذلك كشفاً وعرفاناً عرّفهم به الله سبحانه، أمّا غيرُهم، فيقع لهم الشهودُ بالمعاصرة لهذه الأمور والفتن والمظاهر.
وصورة صولة الدجال والشياطين والمفسدين في الأرض، هي صورة حربِ القرين الكبرى على المهديّ، لأنّ المهديّ المجذوب يُمثِلُ القلبَ، ولكنّهُ مستضعَفٌ آنذاك، فقرينه يسيطرُ على الجسد، وعقله الترابي آمرٌ للوظائف الحسيّة، وكل ما يقعُ تحت هذا الشبح، لأنّه كان في فترة جذبٍ، منقطعٍ عن المجاهدة والسّلوك والتزكية، غارقٌ في عوالم سكره، غافلٌ عن هذا الذي يدورُ. فيجِدُ قرينه قد تمكّن وكادَ كيداً، لأنّ القرين (بصفة عامّة) فيه طبيعة ونزعة أنانية مودعة فيه وهي الهوى، تدافعُ عن وجودها وأناها وكينونتها الكثيفة والعنصرية، فذلك تركيب الله للنّفوس سبحانه. وفي ذلك الإشارةُ أنّ الإنسان هو صاحبُ تصريف أقداره، ومنشأ رحى تجليّاته، أيّاً كان هذا الإنسان، جميع بني آدم على هذه الصورة والشاكلة، فالشيطان في الحقيقة مظهرٌ تابعٌ من صورة الإنسان، وتجلّيه ظهر كما ذكرنا، بالطبيعة العنصرية المودعة في الإنسان التي تدافعُ عن وجودها الكثيف الأرضيّ، وتنزعُ إلى أرض المحسوسات والشهوات والأكوان وما سوى الله تعالى، فتأمّل يرحمُك الله تعالى. وأورد الشيخ الأكبر : "أنّ آدم عليه السلام لقيَ إبليس بعد أن خرج من الجّنة، فقال له لقد أغويتني وأخرجتني من الجنّة، فقال إبليس: يا آدم أنا إبليسك، فمن إبليسي أنا ؟". وفي ذلك إشارةٌ أنّ لآدم التقدّم على إبليس بالخلافة، فكان إغواء إبليس واقعٌ بحكمِ الانعكاس من تجليّات آدم الذي استوى للخلافة. وكان دورُ تلك الطبائع العنصرية الجاذبة للأرض والدّون وحجاب الكثافة على الأكوان، هو دورُ إبليس كذا وقعَ في المشيئة الإلهية السّابقة. فالإنسانُ له الجمعُ الأكبر مخلوق على الصورة، وخلقه الله واسطةً بين الحقّ سبحانه والعالم. وليس ذلك لغير الإنسان. فله الأوّلية بحكمِ وجهته للحضرة الحقيّة وسرّه، وله الآخرية بحكمِ جمعه لجميع ما في عالم واختصاره لما فيه.

وقلنا تحدثُ حرب كبرى بين السّالك والقرين؛ وإنّما تحدثُ الحربُ الكبرى بين العبد وقرينه، لأهل السّلوك الأكبر،خاصّةً، أصحاب الحجّ والفناء الأكبر، والواقفين على باب حضرة الله تعالى، فيحدث حينذاك التهديد للوجود الكثيف والعنصريّ، فيُسخّرُ هذا الوجود العنصريّ الوهميّ جميع ما يملك من وظائف وقدرة ونزعات لإيقاف هذا الفناء وهذا الانسلاخ وهذا الرجّوع للرّوح. لأنّه يعني ذهابُ الكثافة والانسلاخ من التركيب العنصري، وموت النّفس الجزئية، والخروج من التقييد إلى الإطلاق، أي فنائه ونهايته وزواله مطلقاً. فتكونُ حربٌ لا هوادة فيها.

يتبع ..


الجمعة، 19 فبراير 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 82




إبليس لمّا دعاه الله سبحانه لمجمع الملائكة في السماء وأمرهم بالسجود لآدم عليه السلام، تخلّف عن السّجود وأظهرَ ما كان يُبطِنُه من تكبّر واستعلاءٍ، وبرزَ منهُ مكنونُ سوء توجّهه في عبادته وعبوديته لله تعالى. فقَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33). سورة الحجر. فما توجّه للأمرِ الذي صدرَ من معبوده وخالقه الذي كان يتوجّهُ إليه بالعبادة طيلة آلاف السنوات المديدة، بل أوّل ما توجّه إلى نداءِ نفسه فيه، وهواه الذي استحكمَ عليه، ومنطقه العنصريّ الذي قاس به  كيف يتقدّمُ عليه هذا المخلوق من عنصر التراب والطين وهو المخلوق من عنصر النّار؟ كأنّهُ رأى في النّار اقتراباً من النّور ومشابهةً فهو أفضلُ، مع أنّهُ لم يخرج من دائرة العنصر، والعناصر أربعة كما هو معلوم : نار وهواء وتراب وماء. ولو كان كذلك في اقتراب النّار من النّور بالفرض، فللملائكة الأحقيّة بالاحتجاج وهم المخلوقون من نور خالص، فوق العناصر الأرضية الأربعة. فهم أحقّ بالاستعلاء لو صحّ الاستعلاء. ولكنّ المسألة مسألة عبودية لله تعالى لا غير، فما عظّمَ الأمر ولا وقع في قلبه، لمّا خالفَ الأمرُ هواه العنصريّ، فجنحَ وأخلد للهوى وحكّمَ قياسه ومنطقه المتحيّز وحظّه المكنون في الريّاسة على أمرٍ ربّه، فقال أنا خيرٌ منه، ما كنت لأسجد له، وقد كان أسرّ احتجاجه لمّا اعترض الملائكة المقدِّسون اعتراض غيرةٍ على أن ينال الخلافة من يُفسدُ في الأرضِ، وسرّ الخلافة فيه ذلك التشريف، فاعترضوا تعظيما لذات الله تعالى، لا حظوظاً نفسية، وإبليس معهم متمسّكٌ كلّ التمسّك بذلك الاحتجاج والاعتراض، قد وافقَ اعتراضُهُم غرضَه وأرَبَه، نعم كيف ينالُ الخلافة هذا المتخلّفُ ؟  يُبدي معهم اعتراضه بظاهرِ الأدبِ والرّصانة، ويُبطِنُ حظوظه وحسده وهواه، فأرادَ الله تعالى أن يستخرجَ مكنونَ كلّ فريقٍ في حقيقة ذلك الاعتراض، سبحانه جلّ شأنُه، فأمرهم بالسّجود، فظهر كلّ فريقٍ، بحقيقةِ مذهبه في الاعتراض، فأمّا الملائكة فسجدوا طائعين مسبّحين مقدّسين الله سبحانه، فغايتُهم وحياتهم الطاعة والتقديس لله تعالى سبحانه لا يعصونه، ولا تخطرُ عليهم خطراتُ العصيان والدون، وأمّا إبليسُ فبرزَتْ حقيقته المستورة، التي كان يخفيها وراء الاعتراض في جمع الملائكة، فأظهرها وجاهرَ بها وأصرّ عليها، ولم تشفعْ له العباداتُ السابقة، والطاعاتُ المديدة التي كان يرقمُها لله تعالى، ذلك أنّها كانت مدخولةً، بالحظوظ المكنونة النفسيّة، والتي لم يأتِ عليها ما يكشِفُها فلمْ تظهرْ قبل ذلك. فلمّا جاء وقتُ امتحانِها برزتْ ونكبَ صاحبُها عن الصّراط السويّ. فما قضاهُ الله تعالى على إبليس هو ما كان موجوداً في حقيقته وداخله، وهي قابليتُه لذلك القضاء.فلمّا أبى السجود وتكبّر، طرده الله من رحمته قال الله تعالى : {
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} الاعراف.
فأبى السجود وتحجّح في ذلك بالمذهب الجبري، فهو أوّل قائلٍ به كما أشارَ إلى ذلك الشيخ الأكبر رضي الله عنه، فقال إبليس إنّما قضيت عليّ يا ربّي بسابق قضائك أن أعصي وأطرد من رحمتك. مع أنّه ما فتئ بعد ذلك يثبِتُ موقفه وعصيانه الأوّل، وأقام جميع حياته التالية موقف العصيان والطرد الذي تلاه من رحمة الله تعالى، أقامها جميعها على تثبيت موقفه من آدم والتكبّر عليه وحسده،  بل وسأل الله تعالى مهمّة استعداء آدم وذريّته والكيد لهما وإغواءهما عن طريق الله تعالى، وطريق سعادتهم. وجنّد كلّ مواهبه ودقائق حياته من أجل هذا الغرض. وهو مع ذلك يقولُ قد سبق عليّ قضاؤك، فأنا مجبور في ذلك. ولكنّ الغريب العجيب أنّ إبليس ذاته الذي تحجّج بهذه الجبرية، تحجّج في مهمّته وسعيه التالي بالقدرية، فهو إمام أهل القدرية والمعتزلة القائلين باستقلال الأفعال عن الله تعالى كما أشارَ إلى ذلك الشيخ الأكبر، وراحَ يؤسّس (إبليس)  بكلّ إرادته المختارة الحرّة التي بين يديه، وكلّ ما وهبه الله من علم وتسخير من أجلِ تضليل بني الإنسان، غاية التضليل. ومهمّته جمعتْ بين حسده وتكبّره، وبين اعتراضه على الله تعالى مباشرةً، كأنّهُ يقولُ، سوف ترى ما أقدِرُ عليه أمام هذا الإنسان والبشر، فسوف أضلّه إضلالاً، وأغويه؛ ولبث ابليس في الأرض يتجسّس على البشر وخواطرهم ودواخلهم، وسخّر ذريّته لذلك، فما من مولودٍ إلاّ وله قرينٌ يقِفُ عليه منذ ولادته، لهذه المهمّة، وهكذا ابليس مضى مغوياً متفنّناً في مسلك التضليل والفتنة عن طريق الهداية إلى ربّ العالمين. ليُثبتَ أنّ موقفه الرافض للسجود موقف صحيح ثابت، وأنّه كان الأجدرَ بتلك الخلافة. ليُثبَتَ الجهولُ المغرور أنّ الله أخطأ. فانظُر عِظمَ معصية إبليس عليه خزي الله ولعنته. فإنّها تجاوزت حدّ المعصية الظاهرة، فهو الكبر والتكبّر، وأخطرُ ما يمنعُ العباد عن العبودية، وذرّةٌ منه تمنعُ صاحبها من دخول الجنّة، لأنّها تمنعه من حقيقة العبودية التي هي ذلّ وخضوعٌ وافتقارٌ وانكسارٌ لله تعالى وتُقابلُ في الطرف المناقض الكبر، أعاذنا الله منه. وقال الله سبحانه وتعالى مستغنياً، وهو الغنيّ سبحانه، إذهبْ مطرودا مذموما، ولك ما سألتَ من دورِ الغواية والفتنة في الأرض، أما وإنّي لذلك خلقتُهم، أي خلقتُهم لأمتحنَهم، وأمتحنَ خلقي وعبادي هل يعبدونني ويؤثرونني على شهواتِهم ومآربهم، أم يستقلّونَ بها، ويتنّعمون بها، غافلين عن صدروها منّي إليهم، وينسوا عهدهم الذي أشهدتهم في موطن الذرّ يوم قلتُ لهم : ألستُ بربّكم، فقالوا جميعا بلا استثناء: بلى. فاستخلفتُهم في الأرضِ لأنظُرَ من بقيَ على  العهدِ، ممّن نكث عهده ونسيَ واستغنى، وطغى ونسبَ نعمي وخلقي وخيري وفضلي لنفسه ولغيري، وغفل عن رجوعه المحتوم إليّ يوم الدين.

{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} الأعراف. 

فإبليسُ عليه خزي الله تلوّنَ بين قوله تارةً بالجبرِ لمّا حكَمَ عليه هواه وغلبهُ فأطاعه وعصى الله تعالى، وقال عصياني قضاءٌ قضيته عليّ، وبين قدريّته في تدوير الفعل والعزم بيديه وحريّته وإرادته باستجماعِ جميعِ همّته وعزمه من أجلِ أن يعصي ويكيدَ ويُضلّلَ بني آدم عن طريق الله تعالى. ولم يخطُر في بالِهِ داعي العبادة والعبودية لله تعالى، ولم يأخذه حنينه لما سبَقَ من مديد عمره في الطاعة والعبادة لله تعالى !!! .. هنا تعلمُ أنّه حَكَمَ عليه قضاءُ الله تعالى سبحانه بما حكَمَ به هو على نفسِه، وبما كانت نفسه قابلةً لهذا العصيانِ والطرد من رحمة الله تعالى. فإنّنا كخلْقٍ لا نعملُ إلاّ بما هي عليه حقائقُنا، وإنّنا مخيّرونَ بإرادةٍ حرّة لأنّ عينَ ما نقومُ به هو عينُ إرادة الله تعالى فينا. وهذا غامضٌ حقّاً في بابِ الإرادة، ولكنّهُ من وجهٍ -تقريباً- وأعوذُ بالله تعالى من الخوض بلا علم في بابٍ مذمومٌ الخوضُ فيه، ولكن تبييناً لهذا المسلك الإبليسيّ، نوضّحُ ما نفهمه والله أعلى وأعلمُ،  أنّ الحقيقة تقابلها مثلاً، كون هذا الشخص هو عددٌ ما، لنفرِض أنّهُ العدد 3، وندخلُ عليه عملية حسابية ما، أو ندخله تحت دالة ما لتكن مثلاً الجذر التربيعي فيحصلُ لنا ناتج، فكونُه العدد 3 نتج جذره التربيعي بذلك الشكل، بينما لو دخل عدد آخر غير 3 تحت الجذر التربيعي فينتج حاصل آخر ولا بدّ، وهكذا. فحقيقة العدد 3 وقابليته هي التي تعطيناَ النواتج والحواصل مع كلّ تجلٍّ وعملية ندخلهُ فيها، فهذا الذي يُسمّى قابلية وحقيقة العدد أو الشخص، طبعا المثال بسيط جدا في الأعداد هنا، ولكن هكذا أعيانُ الأشخاص لما خلقها الله تعالى، أخذ كلٌّ منها ترتيباتُه المستحقّة ونتائجه وقابليته، فأعطتْ لوح أقدارِه، وسابق قضاءِ الله فيه، فعلمُ الله فيه أنّه يكونُ كذا وكذا ثابتٌ لا يتغيّر ولا يتزحزحُ، ولكن ما حكمَ الله عليه أن يكونَ كذا ظلماً، إنّما حكمَتْ عليه نفسُه وحقيقته المودعة فيه. ثمّ إنّهُ بعد رحلة التجلّي الدنيويّ والأخروي الذي بدأ وانفلقَ من برزخ الرّحمة، فحاصلُ ومحصّلُ التجليات في الأبد أن تعودَ إلى الرّحمة التي بدأتْ منها، وذلك حينما تستوي المحصّلة الأسمائية ويتجلّى عليها الإسمُ الأعظم، فتتضادّ التجليّاتُ الأسمائية فيما بينها، ويذهبُ أثرُها العذابي أو العقابيّ، عندَ تحقيقِ العدلِ الذي يوجبُ الجزاء، فتدخلُ دائرة النّعيم والرّحمة. وهذا هو نهاية مآل الخلْقِ. خصوصاً الإنسان المخلوق على الصورة فلا نهاية له. ويبقى في مقامِ الشهودِ من حيثُ عينِه العلميّ، يتقلّبُ في رحمة الله تعالى. والله أعلى وأعلم. فرحمةُ الله تعالى عمّتْ الجميع. ولكن بين الكينونة الخلقية والأبدية حكمته سبحانه في عبيده، وامتحانه بين شقيّ وسعيدٍ، بحسب كلّ عبدٍ وما سعى وقدّم، فألهمَهُ الشقّين وهداهُ النّجدين، ثمّ كانت كلّ حقيقة تنجذبُ لما هي عليه طلباً لها لا تحيدُ عن ذلك. طلباً تعشقّياً مكنوناً في الذوات والأعيان العلمية. حكمته سبحانه وإرادته الأزلية التي قضتْ هكذا. قبضتُ قبضة وقلتُ هؤلاء في الجنّة ولا أبالي، وقبضتُ قبضة وقلتُ هؤلاء في النّار ولا أبالي. الخلْقُ خلقي والكونُ كوني، والإرادةُ إرادتي، ولا موجود سوائي. فانتشرتِ الحروف في قرطاسِ الكونِ تسعى بحقائقها، فكلٌّ وما قسَمَ الله لهُ في الأزلِ. وعلمُ الله فيه ثابت واحدٌ لا يتعدّد ولا يتبدّل. تماماً كعدد أصمّ أو غير نسبيّ في امتداده العشريّ الغير المنتهي يرقُمُ فواصلَهُ وامتدادهُ بدقّة متناهية لا يمكنُ أن يحيدَ عنها، وكذا في علم الله تعالى قد علِمَ امتدادَهُ وما يؤولُ إليه، وكلّ عينٍ علميّ ومعلومٍ يتبعُهُ علمُه وفقاً لما هو عليه. فيحكُمُ عليه الله بسابقِ علمه فيه، لأنّ حقيقته وكينونته اقتضتْ أن تكونَ على تلك الشّاكلة. والله أعلى وأعلم. ولذلك ذكرَ من بابِ الإشارة الشيخ عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه في تمايز هذا عن هذا، وكونِ هذا وليّاً وهذا نبياً وهذا ختماً وقد تفاضلوا فيما بينهم أزلاً، في معرِضِ الحديث عن الحروف واختصاصاتها وكيف سبق الألِفُ باقي الحروف فبَعُدَ عن النّقطة بُعداً واحداً، لمّا ابتعد غيره عنها بعدين وأكثر، فقال من بابِ الإشارة قوله تعالى
﴿قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ يوسف 75. وكذلك حرفُ الألِف جزاؤه أنّه وُجِدَ في رحله ذلك السرّ المكتنز، وسابقُ العناية الأزلية اختارتهُ فكان ختماً وكان خليفة وكان قائما بأمرِ الله تعالى، ينوبُ عنهُ في خلقه، وكذلك الأمرُ بالنّسبة لحرف الباء وخصوصيته لمّا كان ظلاًّ للألفِ قبِلَ أن يدخُلَ في خصوصيته ويكونَ واسطة تعيّنِهِ بواسطة نقطته التي تحتهُ التي هي نقطة الهوية، فكأنّها نقطةُ انعكاسِ صورةِ الألِف الممدود في حرفِ الباءِ إلى ألفِ ظلاليٍّ تحت النّقطة يظهَرُ بها ظلّ الوجود والموجودات والكون (أشارَ إلى هذه الصورة البائية الشيخ الأكبر)، فقال الشيخ الجيلي رضي الله عنه من بابِ الإشارة كذلك قوله تعالى  {كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ  عَلِيمٌ}. يوسف 76. فكان للباءِ تلك القابلية فيه أن يدخل في دين الألف ويتحلّى بخصوصيته ويكونَ واسطته العظمى لبروز عالم الظلالِ والأكوانِ. وهذه إشاراتٌ نفيسة منه رضوان الله عليه في تلك الآيات. فهو إذن اجتباءٌ واصطفاءٌ أزليٌّ قديمٌ منه سبحانه. 


والحاصلُ والخلاصة فيما أشرنا إليه من تقلّباتِ إبليس عليه خزي الله تعالى بين الجبرية والقدرية يأخذُ منها ما يناسِبُه في كلّ مرّة وحالٍ وما يوافِقُ هواهُ. فبانَ فسادُ مذهبه ومذهب من تبعوهُ في ذلك. فإنّهُ لا يُحتجُّ على الله تعالى، لأنّه ألهَمَ النّفوس النّجدين وجعل لها الاختيار، كما تسعى لتقيم قوتها وترضي شهواتها ورغباتها المختلفة بمحض الإرادة والرّغبة والحريّة فكذلك هي من تسعى لكتابة لوحِ أقدارها بما تقبَلُهُ على نفسِها. فإنّما كلُّ نفسٍ راقمةٌ أقدارَها، كأنّها تخطُّهُ أوّلَ مرّةٍ في الأزل. وكلّ ذلك موافقة لإرادة الله تعالى الأزلية وعلمُه الثابت فيها لا تحيدُ عنه. إذ في التحقيق ما ثمّ إلاّ هو سبحانه، هو الأعيان العلمية وهو الأقدار وهو القابليات وهو هو وحده لا شريك له، لا موجود سواه، كان ولا شيء غيره، ولا شيء معه، وكلّ يومٍ هو في شانٍ سبحانه يتجلّى بأقضية الخلقِ بدايةً من برزخ رحمتها إلى عودِها لذاتِ البرزخ. ولذلك فما للعبد الصّادق من مطلَبٍ وبُغيةٍ وقرارٍ سوى ركونه لله تعالى وللحقيقة المطلقة الثابتة وللشريعة الغرّاء وللحقّ، قبل أن تنتهي الفرصةُ، وقبل أن تزولَ هذه الدّارُ الفانيةُ وسنواتِها القليلة الخدّاعة، وتأتي دارُ العمارة والحيوان والإقامة والخلود، ويُطبَعُ كلُّ امرِئٍ بما كسبَ وبما كتبَ في لوحِ أعماله وحياته. فيُجازى عليه، ولا ينفعُ حينها النّدمُ. ولا يستخفّهُ إبليسُ وحليفه الدجّالُ وأتباعهما فإنّهم آيلونِ لعلمِ الله فيهم، ولما قرّرهُ سبحانه، وقد جفّت الأقلامُ وطويتْ الصّحفُ. وقال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} سورة فاطر. وكلّ ما يبدو لنا من فتنٍ عظيمة قد ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها نبيّه ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلّم في حديثه الشريف، ولم تتخلّف. والعاقبة للمتقّين. 


يتبع ..