الجمعة، 12 أغسطس 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 86

 
وإنّ ممّا يُدهِشُ ويتوقّفُ العقلُ عنده وقوفاً طويلاً بين الحيرة والتأمّل، خلقة هذا الإنسان.
وماذا جعل الله له من تشريفٍ لا يُدانيه تشريفٌ، ولا يخطُرُ على بالِ العباد والعبيد.
وإنّما كلامنا عن الإنسان، من كونه خليفة الديّان سبحانه.
وحجبَ الله حقيقة الخلافة، وحقيقة الإنسان، حتّى ظهرت على ألسنة الخواص وبعض أشياعهم. على أنّ أهل التحقيق، يغارون على الحقيقة غيرة كبرى.
ولكنّ ضرورة السّلوك وغربة الطريق في الأزمنة المتأخّرة، أوجبَ أو أطلقَ ألسنة بعض المحقّقين بذكر بعض الحقائق والأسرار، بالإشارات والتلميحات، تثبيتاً وتوجيهاً وتقريباً للسّالكين والعارفين. ثمّ التوسّع والخلاف الذي نال العقول وأصحاب المذاهب، أشاع الحقائق والأسرار، ولكن لا على سبيل التحقيق والوضوح، بل على سبيل متناقضة بين المدح والقبول، والذمّ والترذيل؛ وكذا فالذمّ نشأ من سوء الفهم والتصوّر، وإلصاق معارف الذوق والسّلوك بمنطق الفلاسفة وأصحاب العقول القاصرة، فأعطى تقارب الاصطلاحات وتشابهها ذمّاً وسوء تأويلٍ وسوء فهمٍ، لما هو عصيٌّ عن الإدراك العقليّ بدون خلفيات ذوقية وسلوكية ومقاربات إيمانية تفضي إلى التسليم السّليم من العلل والشّبه التي تداولها النّاقدون بلا ذوق ولا علم ولا فهم.

فعوداً لهذه الخلافة الإنسانية التي تَرجَمتْ عن الله سبحانه، وتوسّطتْ بين سائر الكائنات والمكوّن سبحانه. فهي تَشِي بتنزيهٍ عظيمٍ للخلاّق سبحانه في عُلاه، لا تُدركُهُ العقولُ، ولا تطالُه النّقول، احتجبَ فما ظهر إلاّ بتجلّيات أسمائه وصفاته في العالم والكون. وكان الخليفة الإنسان واسطة التجلّي، ووصلة الكون بالمكوّن.

وإنّ الدّهشة المشار إليها جاءتْ في ثنائية هذا الخليفة الذي حملَ سرّ الله سبحانه، وكان واسطة عقد التجلّي وحامل سرّ العماء والكنه المتعالي عن الإدراك لذاته لسبحانه، فهذا الخليفة، أعطى الوسع الإلهي في التجليّات جميعها، وحمل هذا الوسع اتّصافاً، لمّا كان الحقّ سبحانه في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، فما تميّزت الأشياء عن بعضها في العماء بسفل وعلوّ، فنسبتها واحدة لهذا العماء الذي هو أصلُ الوجود وأصلُ كلّ شيءٍ. فلمّا انعكستْ وظهرتْ الأشياء والأعيان وتمايزتْ في عالم الظهور والأكوان، وأخذت رتبها ومدلولاتها ونسبها وتفاصيلها، كانَ حامل هذا الوسع المتكثّر المتضادّ المتناسق المتوحّد، هو الخليفة.

فجمعَ بين المتناقضات والأضداد : قوّة وضعف، علم وجهل، جمال وجلال، قدرة وعجز، ..الخ. من تلك الثنائيات. وأعطت ثنائياته هذه، عالمين، وحقيقتين، حقيقة حقيّة، وحقيقة خلقية. حينما تؤول الصّفاتُ إلى كمالها وإطلاقها فهي حقيّة لا نقص فيها وخلل ولا عوج. وحينما تؤول الى النسبية والنّقص فهي خلقية. فكان هذا الإنسان برزخٌ وواسطة كما ذكرنا بين الحقّ سبحانه وبين الخلق. بين الله وبين العالم والكون.

وركّب الله سبحانه الإنسان، بهذه الثنائية: روح وجسم فالرّوح الأوّل وهي نفخة الرّوح الإلهيّ فيه هي الرّوح العارفة المتّصفة بالكمال وعالم الأسماء، والجسم وروحه الجزئيّ النّاقص هو المسمّى اصطلاحاً بالنّفس باعتبار عدم كمالها وتقديسها إلى درجة الرّوح، فكانت النّفس معجونةً بجميع الطّباع الأرضية والدونية والنّّاقصة التي تشدّها إلى طبيعتها الترابية التي منها خلقت، وإلى عالمها الكونيّ الهيكليّ المتكثّر بالتمايز الأثريّ، المطبوع بعالم الطبّع، الذي صدرَ أثراً وتجلياً لعالم الأسماء الحسنى الإلهية.

هنا الدّهشةُ، لا في مطلقِ الإنسان بأعداده الكثيرة، بل بخليفته الأوّل الأصليّ المقصود بقوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، حامل السرّ والعهد، فمقتضى ظهور هذا الخليفة الأوّل في الأرض يقضي بحمل هذه الثنائية، لأنّه الخليفة المطلق، ولأنّه سرّ الخلفاء جميعاً، سواء كانوا خلفاء من أهل الكمال والـتحقيق، أو كانوا مطلق النّاس من عهد سيدنا آدم عليه السلام إلى آخر الزمان. فظهرَ هذا الخليفة الإنسان، معجونٌ بالأضداد والألوان، معجونٌ بسائر الطّباع والأكوان، بل يولدُ على الفطرة النقيّة، ولمّا كان صاحب لطيفة ذاتية ساذجة غاية السّذاجة، فقد خرجَ ليتطبّعَ بما في العالم، ويحملَ على عاتقه جملة الأكوان، ويتشرّبَ كلّ الألوان، بعملية مركزية فيه، لأنّ جميع العالم ينتمي إليه، ويرجعُ إليه، فتنحى إليه مركزية الشرّ والطّبع في العالم لأنّ قيامها به، ووعيَهَا يعي ذلك تماماً، فتنزِعُ إليه لتحاصرَهُ عن الرّجوعِ إلى حقيقته التي منها خُلِق وإليها يرجع، وهو صاحبُ حقيقة ذاتية ساذجة غير متعلّقةً بالأكوان والطّباع، لأنّه واسطتها في الظهور، وحامل سرّها من عالم العماء، وكذا في نقطة وعيٍ ما من عمره، يؤوبُ بصفةٍ فطرية إلى البحث عن حقيقته الأولى، فيطلبُ مركزية الخير والنّور بلقاء المشايخ أهل السرّ والخلافة، وهناك عند ذلك المفترق، في طريقِ رجوعه إلى الحقيقة التي إليها انتماؤه، ومنها مبدؤه، تتصادمُ الثنائيةُ والحقيقتان فيه. حقيقة النّفس المتقويّة بالطّباع والأكوان، وحقيقة القلبِ النّازعة إلى الرّوح العارفة بالله تعالى والقائم بها عالم الأسماء والصفات. ولمّا كان هو الخليفة الأوّل فقد كانت النّفسُ متقويّةً بمركزية الشرّ والطّبع في العالم والأرض متمثّلةً في أقصى حاملي هذا العنوان والطرف، وكانت الرّوحُ هي روحُه، وكان أصلُهُ الرّوح الأعظم بذاته الذي انبثقت منه العوالم جميعها، كما ذكرنا من عالم العماء. إذ هو الخليفة. ولكن هنا نحنُ نتحدّثُ عن الخليفة قبل رجوعه إلى حقيقته الأولى من كونه روحاً خالصاً، فوجوده في قالب التركيب العنصري والطبعيّ جعله يمثّل الصّراع بين هذه الثنائية، وهاتين الحقيقتين، حقيقته كونِه ذاتاً ساذجاً، جميعُ الأشياء بأضدادِها وأطرافها ترجعُ إليه، ولديه معرّفها، وتشهدُ له في عالم الحقائق بالولاية، وحقيقة نفسِه كما ذكرنا النّازعة الى كينونتها الأرضية والطبعية والعنصرية المخلدة إلى الدّون والسّفل، المعاكسة للرّوح والصفاء والعلوّ.

فيه اختصرَ الله جميع الصّراعات، وجميع التجليّات، وجميع الحقائق، وإليه يرجِعُ كلّ شيء، وبه تظهَرُ مفارقات آخر الزّمان، وشدّاتُه وأهوالُه، وصراعاتُه، ويتجلّى ذلك الشرُّ العارمُ العظيمُ، الذي تتفاجأُ به البشريةُ، شيطنة إنسية وجنية مجتمعةً من أجل هيمنة شرّيرة كافرة شيطانية. وكلُّ ذلك يتجسّدُ مع طريق رجوع هذا الخليفة إلى أصله وحقيقته، وإلى الانسلاخ من التركيب العنصريّ والطبعيّ، لأنّهُ يبدأ رجوعه فرداً، ممثّلاً لقلبه الرّاجع السّالك، فإذا سرى في سلوكه وعرج معارج السّالكين، واجهته تلك المركزية التي ذكرناها، وهي تعيّ تمام الوعي والإدراك أنّهُ رجلُ الساعة ورجلُ الخلافة، لأنّها ليست سوى أصداءِ ذاته الطبعية والعنصرية، وأصداءِ نفسه المتشبّثة بالطّبع والأكوان، وأصداءِ عقله التّرابيّ المتراكمِ فيه سلطانُ الوهم. وهو الخليفة الذي منه تفرّعتِ جميع النّاس بقوالبهم وحقائقهم المختلفة. سواء كانوا أنبياء وأولياء أو كانوا عتاة جبابرة أشقياء، أو كانوا عظماء وحكماء أو بسطاء وكلّ النّماذج منه ظهرتْ، فهو أوّل موجودٍ. هو الرّوح الأعظم. هو المسمّى بالحقّ المخلوق به. وهو ليس سوى مظهر الحقّ سبحانه.

وهنا الدّهشةُ التي أشرنا إليها، فهذا سرّهُ فاق كلّ سرّ، ومع ذلك ثوبُه الإنسانيّ، لم يجعله سوى في هذه الثنائية، التي أجرَتْ عليه جميع السّنن الكونية والأرضية، ويُبتلى بلاءً عظيماً، حتّى يتحقّق فيه معنى العبودية الأجلى الأكمل، ولا يدخلُ باب الله سبحانه إلاّ من باب الاضطرار الأعظم، وبابِ العبودية، فهناك يجيئه مددُ الرّوح. ليتطهّرَ من تركيبه العنصريّ الطبعيّ، ويصيرَ الخليفة الرّوح المطهّر عن الأكوان، الإمام الأعلى المظهر الإنسانيّ للحقّ سبحانه وتعالى.

إليه ترجِعُ الخلافة والولاية والإمامة والسيادة بالأصالة ، وغيرُهُ فيها كلابس ثوبي زور. الزائلُ بختمه عن رتبته، صاحب الرّتبة الشريفة كما نعته الشيخ الأكبر.

كلّ الدّهشة في هذه الخلافة الإنسانية، وكيف أنّ أقرب المقرّبين، المطهّرُ عن الأكوان، الذي إذا كمل وتمّ يقالُ له السيّدُ الصمدُ، ما نالَ مقامه ورتبته إلاّ بالضعف الأكبر والعجز التامّ والابتلاء والاضطرار ومسيرة كبرى من الجهاد.

والله سبحانه وتعالى مقدّس منزّه في عليائه، لا تطالُه الإدراكاتُ والعقولُ والأوهامُ والخيالات.


الجمعة، 5 أغسطس 2016

حقائق العباد واختياراتهم القائمة بهم في تأكيد حقائقهم ..



الإنسان سرّ عظيمٌ. والاختيارُ فيه يتبعُ سرّه الذي وُجِِدَ فيه في الأزل. والأسرارُ متفاوتة في مداليلِها، بين سرّ أوليٍّ به يرجِعُ العبدُ إلى مولاهُ في منتهى الرحلّة الوجودية الجزئية الخاصّة بذلك العبد، فقد سبقَتِ الرّحمة على الخلْق، كما شهدَ الله للعباد جميعهم شقيّهم وسعيدهم بقولهم بلى، شهوداً لربوبية الله تعالى وألوهيته ووحدانيته، فهذا سرّ سابقٌ لا شكّ في الرّجوعِ إليه عند المنتهى.

ولكن هناكَ سرّ وجوديّ جزئيّ ثانٍ عليه قامت الحياة الدّنيا والأخرى كذلك، وهو الذي ترجِعُ إليه حقائق العباد، في تفاوتهم للاستجابة للعهد الإلهيّ القديم، وعليه في تفرّقهم بين شقيّ وسعيد، وكذا درجاتِهم في السعادة والشقاء. وهذا السرّ الأخير هو الذي قصدناه عند ذكرِ الاختيار.


وعليه، لكي يسبِقَ العبدُ إلى تأكيدِ انتمائه، وتحقيق انتسابه، فعليه أن يشهدَ من نفسه سعياً لفيضِ دواعي الاستجابة لعهد الله تعالى. خصوصاً وأنّ الله قد عرّفه هذه الحقائق، وجعله من أمّة خير الأنبياء والمرسلين وسيّد الأوّلين والآخرين عليه وعليهم الصلاة والسلام. فتلك منّة أخرى سبقتْ عليه من الله تعالى ليس له فيها اختيار، فليجمع المنّة السابقة عليه مع الاختيار اللاّحق بمحبّة أهل الله الصادقين الورثة المرشدين الذين ورثوا نور النبوّة، وأقامهم الله خلفاءً له في الأرض، وجعل قلوبهم محطّ نظره العظيم، فإذا نظروا إلى عبدٍ نظرة رضا وحبور، استوجبَ من الله الرّضا والحبور، فقد وعدهم الله بذلك وأنالهم تلك العطيّة والمزيّة لا خلفَ فيها ولا تبديل، عطيّة المحبّة والكرامة العليا ومزية الخصوصية والقرب منه سبحانه، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح : "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ،. ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ". فهذا خطاب مقدّس بنصّ شريف وقدسيّ أنّهم بالله قاموا وإذا أرادوا أراد الله تعالى، وإذا نظروا نظر الله تعالى .. والله سبحانه إذا نظرَ إلى العبد نظرة الرّضا والقبول، وأصابتِ العبد نظرة العناية والعهد القديم، فقد تخصّصَ بقابليةٍ عزيزةٍ لا تشهدُ له إلاّ بالقابلية للنّور القديم والعناية الأزلية. ثمّ ليريِض هناك عند محبّة القوم، والتسليم لهم، والدخول في معيّتهم. فهُمُ القومُ لا يشقى بهم جليسهم، ولا يشقى محبّهم ومحبوبهم. 



إنّ العناية الأزلية ما قامَتْ إلاّ بالوسائط، ولكنّ قوماً يجهلونَ خاضوا بالجهل في نفيِ الوسائطِ فضلّوا وأضلّوا ضلالاً كبيراً. وحُرِمُوا وحَرَمُوا من مالَ إليهم وأخذ عنهم حرماناً عظيماً، وهم لا يشعرون. فقد تعرّفَ الله للنّاس بالأنبياء عليهم السلام، فكانوا وسيط النّاس الى الله سبحانه ودليل الناس اليه. ثمّ ختمت النبوّة بالرسالة المحمدية ونابَ عن الأنبياء عليهم السلام في الوساطة والدلالة الأولياء المحمديون الورثة، وبوساطة ثابتة كاملة غير منقوصة لأنّها كانت وراثة لخاتم الأنبياء والمرسلين وواسطة الخلق أجمعين إلى ربّهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما زالَتِ السماءُ موصولةً بالأرضِ ما دامَ هؤلاء الورثة والأولياء الخلفاء موجودون، وبهم يصِلُ الله من يصِلُ، وبهم يرقّي الله من يُرقيّ، وبهم يغاثُ النّاسُ، وبهم يُستدلُّ على الله سبحانه، وهم خلفاؤه في أرضه وكونه. فمن وصلَهم فقد وصلَ الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلّم، ومن أحبّهم فقد أحبّ الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. لا مرية في ذلك ولا شكّ. فقد جعلهم في ذلك المقام، ولا تقومُ الساعة حتى يغيب هؤلاء الخلفاء ولا تجِدُ الأرض من يقول الله الله، تحقّقا بالاسم الأعظم وحاملا له وخليفة لله تعالى.