الجمعة، 23 سبتمبر 2016

ما غادرك ربّك حتّى تسأل عن دليل وجوده؛ إنّ صفاته فيك وتجليّاته؛ تجلّى عليك فبه أنتَ تشهد العالم وما حولك ..




لبسم الله ..

تريدُ أن تشهدَ صفات الله فيك ؟!.. إنّه شهودك لما حولك والعالم .. فانظُر العالم، وشاهد .. فهل تُشاهدُ إلاّ مظاهرَ صفاتِه المتجليّات فيك سبحانه ؟! .. تلك القيّومية للعالم وما حولك إنّها فيك، تلك التناسقية والإبداع والجمال والبهرُ والسّحرُ إنّها فيك .. فبه وبصفاتِه أنتَ تشهدُ ما تشهدُ. ما غادرك ربُّكَ حتى تسألَ عن وجوده ودليله .. إنّك تسمعُ بتجلّي اسم السّميع عليك، وتُبصِرُ بتجلّي اسمِ البصير عليك، وتحسُّ وتجدُ وتتذوّقُ وتتنوّعُ حولكَ المظاهر والحياة والكائناتُ بتجلّي أسمائه وصفاتِه فيك .. إنّك تُدرِكُ بتجلّي اسم العليم والهادي فيك، ما أنتَ براءٍ إلاّ ما تجلّى به عليك لتراهُ، وذلك قدرٌ مشتركٌ للتجلّي العامّ على البشر، وإنّما زادتِ المرائي والكشوف والفتوح بحسبِ التعقّلِ القلبيّ، والشهود القلبيّ للعباد، فتخصّص البعضُ عن العامّ، بتنوّر القلوبِ وانفتاح بصائرها فأصبحت تشهدُ من العوالم والأطياف أكثر من غيرها. ولهذا اختلفتِ مسمّيات العقول اصطلاحاً. فهناك عقلٌ معاشيّ، وهو العقل المدبّرُ للحياة والتجلّي العام للكائنات والكثافة بصفة عامّة، واستوى فيه جميعُ البشر. ثمّ بدأتِ العقولُ تتدرّجُ في الزيادة بحسبِ تفتّح بصيرة القلبِ. والعمدةُ هو القلبُ في زيادة الترقّي، واتّساع محلّ التجلّي ... وإنّما جعلَ الله العقلَ المعاشيّ له اتّساعٌ في المحسوسات ومظاهرها وآثارها وقوانينها بحسبِ التوجّه لها وطلبِ علومها، وجعلَ الله القلبَ مجالَ وسْعِ العقلِ، وبحسبِ وسعِ القلبِ وتنوّرِه، يسعُ من العقلِ أكثر، ويقرأ من غيبه أكثر من ذي قبل، فتنفتحُ له الغيبيات على قدرِ التوجّه القلبيّ الصحيح، فتكونُ فتوحاً مختلفة متنوّعة، إلهاماتٌ، أو كشوفٌ، أو فهومٌ، أو أحوالٌ تتنزّلُ فتسعُ القلبَ والعقلَ معاً، تتقدّمُ به في مجالاتِ القربِ من الرّوح، أي من الله سبحانه، فالرّوح بالله عارفة وهي واسطة المدد والأنوار.

ثمّ إنّ الإنسانَ - مُطلق الإنسان - لا يزالُ في تقدّمٍ مستمرٍّ من حيث التجليّات والأسماء وسعتها، وها أنتَ ترى هذه التلوّنات والعلوم والاختراعاتُ التي تتولّدُ مع الوقتِ وتزدادُ كثرةً وتفرّعاً واتّساعاً، فهي في الحقيقة معبّرةٌ عن زيادة التجلّي الأسمائي وسعته، والإنسانُ اليوم أوسعُ من الإنسان من مئات السّنين ولا شكّ، فالإنسانُ في زيادة وترقٍّ، وإنّما ذلك عكسَهُ رحلةُ تجلّي الأسماء التي هي في زيادة وانتشارٍ حتّى تصيرَ كما هي اليوم نسخةً للإنسان الخليفة الذي جعله الله باب خزانة الجود الإلهيّ على الإنسان. فالبشرُ صورة ونسخةٌ لأقطاب زمانهم، فهذه حقيقة، صورةٌ من حيث التجليّات الأسمائية، ولمّا كان آخر الزّمان فقد كان مظهراً على التجلّي الأوسع وعلامةً على ظهورِ الخاتم، وبه صحّ لهذا الزّمان هذا التجلّي الواسع، فإنّ هذا الظاهر المتوسّع المتلوّن والمتنوّع الثريّ، يُقابلُهُ باطنٌ عظيم ونورٌ كبير، فإنّ هذا الظاهر القاتِم من حيث كسوف الأنوار وانتكاس الفطر وانعكاس المفاهيم، هو مظهرٌ لتنوّع الحضرات، وسعة الآثار الأسمائية، وظهور العلم الماديّ المقابل للعلم الباطن، ولا يقومُ علمُ المادّة ودولة الظاهرِ إلاّ بوجودِ النّفس، وكذا فإنّ تجلّي أمدادِ القدس لا يكونُ إلاّ يزوالِ النّفس، وعليه فالنّفسُ آيلةٌ للزوّال، ودولتُها وصولتُها، وحلفاؤها .. وهذا الزوالُ، يُقابلُه القهرُ الذي يزدادُ على الدّنيا، حتّى تتجلّى الوحدة الذاتية بإمامها الخليفة، خليفة الله.

وعوداً لما بدأناهُ، فإنّك أيّها العبدُ مجلى أسماء الله وصفاته في شهودِها في العالَم، حتّى وإن كنتَ عاجزاً عن شهودِ باطنِها وحقيقتها، فإنّك مشاهدٌ لآثارِها ومظاهرها فيك أنتَ، إذ لو لم تتجلَّ فيك لما قامَ للعالم وجودٌ عندك. فافهم. فالوجودُ قائمٌ كلّه فيك، إمّا بالشهود البصري والحواسيّ، أو بالشهود التخيّلي، أو بالشهود التعقّلي والفكري، والشهود العلميّ، فأنتَ لمّا تعقّلتَ الله سبحانه في عقلك وذهنك، فقد وسعتَهُ سبحانه فيك. وذلك دالٌّ على قابليتك لوسْعِ جميع الوجود، وتلك هي حقيقة الصورة من وجه تعقّلي فكريّ. فافهم، الصورة التي خلق عليها الإنسان من قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". أمّا حقيقتها الكاملة فهي الوسع القلبيّ الذي هو وسعٌ علميّ ووسعٌ عياني لجميع التجليّات، وإن لم تتناهَ هذه التجليّات الغير المتناهية. والله أعلى وأعلم.

الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 88




عوداً لحرف الباءِ وأسرارِه، وإيحاءاته، فحرفُ الباءِ هو ثاني الحروف الأبجدية، بعد الألف. عبّرَ عن الإثنينية والشّفعية في أنموذج التوحيد الذي أقامته الحروف ورسومها، ولم يكن رسمُه عبثاً. والإثنينة والشفعية هي إظهار التجلّي الواحديّ والحقيّ، من واحديته الجمعية إلى ظهورِ كثرته الفرقية، ومن مجلى الحقّ سبحانه إلى تجلّي الخلق والأكوان وظهور العالم، الذين هم أثرٌ وانفعالٌ عن أسماء الحقّ سبحانه.

فأعطى رسمُ الباءِ هذا المعنى، لمّا كان الباءُ ألفاً ممدّداً، والألفُ هو أوّل موجودِ من الكنه والعماء، أي أوّل حرفٍ تجلّى من النّقطة. لمّا كان رسمُه نقطتين، فبَعُدَ عن النّقطة بُعداً واحداً، لذلك ما عدّهُ المحقّقون إلاّ من جنسِ النّقطة، إذ هو مجلى عمائها، من كونِهِ ضمّ بُعد العماء والأحدية المنطوي في النّقطة، إذ هي نقطة مصمتة، نقطة دلّتْ على لا شيء، ودلّت على كلّ شيءٍ. انطوى فيها كلّ شيء إذ من جبّتها برز كلّ شيء، والحروفُ أصلها ومرجعها نقطة؛ وضمّ هذا الألف بُعداً آخراً معنوياً مجرّداً هو الأسماء الإلهية؛ الأسماء التي انبثقت من العماء، وتمايزتْ في الألف بلانهاياتِها، فالأسماءُ الإلهية غير منتهية، ولها أمّهاتٌ تجمعها كما جاء في الحديث النبويّ الشريف مئة إسمٍ، ولها إسمٌ جامع لها كلّها وهو اسمُ الله، لذلك كان الألف معبّراً عن اسمِ الله سبحانه، إذ هو المعبّرُ عن الجمعية الأسمائية كلّها، وهو الواسطة لها من بحر العماء، أو من عنصر الحياة، أو من نقطة الكنه، فهو مظهرُ النقطة، ومظهرُ العماء، والإمامُ المبين الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ. فالألف هو العماء والكنه والنّقطة وهو الجمعية الأسمائية الكبرى المتجليّة من بحر النّقطة والعماء، ولهذا اختصّ بالواحدية، وكذا الأحدية، ألف ونقطة. فكان رسمُ الباءِ معبّراً عن الألف فهو ظلٌّ للألف، فجاء ممدّداً وليس قائماً كما هو الألف ليعطي معنى الظليّة، ويعطي ما يوحيه رسمُهُ ووظيفته ومقامُه من التشفيع والواسطة بين القدم والحادث، وذلك ما سنذكره هنا؛ فجاءت الباء ألفا ممدّداً وهو بُعدين ونقطة تحت الألف الممدّد وهو بُعدٌ ثالث، فبَعُدت عن النّقطة بُعدين وعن الألف نقطة، وتلك هي مرتبتها، وفي النّقطة التي جاءت تحت الباء، الإشارة إلى سرّ الألف، أي نقطته المصمتة، وهو مقامُ الإنسان في الحروف، رغمَ كونه حرفاً مغايراً للحرف الأوّل، فلم يكن سوى على صورة الحرف الأوّل، وحاملاً لسرّه كذلك، أي قابلاً لسرّه الشهوديّ التامّ، فقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورته“، وهذه الصورة هي الألف، وقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورة الرحمن“ وهذه الصورة هي الباء، ولكلّ منهما دلالة، فصورة الألف هي الاستغراق في الجمعية الأسمائية بين الواحدية والأحدية، ومقام الخلافة الإلهية، وشهودِ كلّ شيءٍ في حُكمِ الواحدية وعدميّته الأصلية، وصورة الباء هي الجمع والفرق ومقام البقاء الأوّل وقاب قوسين. فجاء حرفُ الباءِ قارئاً لحرفِ الألف من قدِمِه إلى تجلّي حوادثه، وجاءَ نِسبةً كمالية صفاتية تدلَّتْ منها الموجودات والحوادث، ولذلك جاءَ رسمُه ألفاً نائماً وتحته نقطة وينعكسُ عبر تلك النقطة الكنهية ألفٌ ظلاليّ تحت النّقطة هو صورة وإسقاطُ الألف الغيبيّ فوقها، فحرفُ الباء وظيفته قراءةُ الألف الغيبيّ الأسمائيّ والتجلّي به إلى ألف ظلاليّ حدوثيّ هو عالم الصور والتعيّنات، هو عالم الأكوان. مثل الصورة التي وضعناها فالصورة تبدو كحرف اكس ( X ) أو كساعة رملية، تتقاطعُ عبر النقطة التي تحت الباء، فالباء شفّعت عالم الواحدية والأسماء، وهو الإسم الأعظم، أو حرفُ الألف، أو عالمُ القدَم إلى عالمين الأوّل العالم الذي ذكرناه، عالم الأسماء، والثاني هو عالم الأكوان. وهذا عينُ ما وصفنا به اسم الرحمن الذاتيّ الصفاتيّ الجامع، فهو راحمُ الأسماء الإلهية من اسمها الأعظم الجامع لها ” الله“ إلى ظهورِ آثارِها وصورها ومظاهرها في العالم والأكوان. فصارَ هذا الاسمُ وهذا الحرفُ (الباء) واسطةً للعالم الشهاديّ والصوري والتعيّني الذي ظهر به وبواسطته، فتأمّل. ولهذا قال الله سبحانه في الحديث القدسيّ ”لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك“، أي يا محمد لولاك ولولا مظهرك ومقامُك الذي أقمتُه لك، ونسبتُكَ التي خصّصتها لك في أزلي ما خلقتُ الأفلاك، ولا ظهرَتْ، فأنت واسطتُها والنّسبة بيني وبينها، وأنت حجابي الأعظم دونها. طبعا حرفُ الباء الذي أعطى الرّتبة الثانية هومجلى خير الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأوّلهم وروحهم وواسطتهم، ولذلك كان الرّسول الجامع الأوّل، وكان النبيّ الأمثل، صلى الله عليه وسلّم، نبيّ الأنبياء، نالَ مقامَ الإنباءَ، وختم النبوّة في أمّ الكتاب، بهذه الواسطة العظمى، والنّسبة العليا التي تدلّت وتجلّتْ منها سائرُ الأشياء والأعيان؛ وكان سيّد العالم والأكوان، وكان صورة الإنسان الكامل الجامع للبرزخية بين شقّيها وقوسيها، الرّوح والجسد، الغيب والشهادة، الحقيّة والخلقية، الذاتية والصفاتية، كما قال الله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} (النّجم-9) . ثمّ تأمّل في صورة الباء ورسمه مرّة أخرى، تجدُ أنّه عبّرَ عن رسمِ الألف من جانبه الأعلى، أي ظهرَ في الباءِ رسماً الألفُ الأعلى فوق النّقطة لا الألِفُ الوهميّ الأسفل الدّالُ على الأكوان والعوالم، فعبّر عن رسمِ الألفِ في جانبه الأعلى كما ذكرنا أي في تقديسه وواحديّته، وأسمائه، وكمالاته، لمّا كانت صورة الأكوان والعالم منعكسةً تقديراً تحت نقطة رسمه، كأنّها وهمٌ وظلالٌ وأثرٌ وحسب، لا أصلٌ. فكان له - صلوات الله وسلامه عليه - هذه المرتبة العليا، وهي الكمالات الإلهية والكمالات الإنسانية، والصفات الرّحمانية، لأنّه حمل جانبها العلويّ الأعلى، ولذلك فالرّحمانية هي أعلى مراتب الوجود، لأنّها تُعطي ما أعطاهُ رسمُ حرف الباءِ، وهو رسم لنا صورة الألف الغيبي المقدّس، والنّقطة تحته، أمّا عالمُ الأكوان فهو ألفٌ منعكِسٌ تقديراً كما قدّرناهُ تحت نقطة الباء، إذ هو صورة الأسماء ومرآةُ الصّفات، فهو منفعلٌ من عالم الملكوت، يتبعه؛ وأثرٌ لتجليّات الأسماء، يلحقُها؛ وإنّما إحكامُ ما عليه كمالاتُ الله سبحانه وتقديسه وجماله وجلالُه وتنزيهه عن كلّ نقصٍ وخلل سبحانه وتعالى، أعطى العالَم بهذا الترتيب المُحكم المتناسق المتكامل الذي لا يشوبُهُ خللٌ ولا نقص ولا فطور، فكلّ شيء مرتبط ببعضه، والعالم قائمٌ على الأسباب والحكمة قياماً دقيقاً لا يتناهى، تعبيراً عن كمال حكمته ومنتهى القدرة والتقدير والإبداع والجمال والإحكام. فلا يقومُ شيءٌ إلاّ بما يُقيمُهُ من حكمة وسبب، وعلى هذا قامت الأقدارُ الإلهية، وهي - أي الأقدار- ليست سوى تجلّيات إلهية كما ذكرنا، تعيّنت في عالم الحكمة والتعيّن والصور، وأعطت ما أعطت من تقدير وأقدار وارتباطات.

وهذه النّسبة والمرتبة الرّحمانية العليا هي اعتبارية في حقيقتها، دلّتْ على الرّحمة التي قامَ عليها الوجود وسبقتْ كلّ شيءٍ، ودلّتْ على مجلى العماء الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ، وما تمايز فيه شيءٌ عن شيءٍ، في السّفلِ والعلوّ. كما جاء في الحديث الشريف : عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ قَالَ : ( كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحديث صححه الطبري ، وحسَّنه الترمذي والذهبي. وكلّ ما سوى الله سبحانه هو اعتباريّ، ورحلة التحقّق والتفريد والعودة إلى الصورة يجعلُ العبدَ يشهدُ أنّ كلّ ما سوى الله عدمٌ، ولم يذقْ طعم الوجود ولم يشمّ رائحته أصلاً.

ويمكنُ القولُ إعلاماً وتنبيهاً كذلك، أنّ الألف كان مجلى الكتاب، فهو الحرفُ الكاتب الذي كتبَ أقضية الله وأقداره، وأظهرَ التجليّات، وتوسّط للأسماء، أو فلَقَها من عمائها ونقطة كنهها، وجمَعَها في وحدتِها الجامعة؛ والباءُ هو القارئ لهذا الكتاب، كتاب الألف ومترجمُه عالَماً وأكواناً وكائنات، الباءُ هو مرآةُ التجلّي الأسمائي والألفيّ. كما قال صلّى الله عليه وسلّم ” وَاللَّهُ الْمُعْطِي، وَأَنَا الْقَاسِمُ“ صحيح البخاري. فعبّر صلوات الله وسلامه عليه عن هذه الترجمة والمقام الذي أقامه الله فيه كما ذكرناه، أنّه القاسم لما أعطى الله، والمترجمُ لما تجلّى به الله سبحانه من بحرِ القدم إلى عالم الحوادث. ولذلك فصاحب الكتاب هو الخاتم الخليفة وهو العبدُ الذي أنزل الله عليه الكتاب، وكان إمام الواحدية والأحدية، الألف وخليفة النقطة المصمتة. وكان صاحب القرآن والذي أنزل الله عليه القرآن هو النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم، وكلّها اصطلاحاتٌ جاءت بدلالاتها وأسرارِها. كان المتخصّص بالقرآن الجامع القاسم هو صلوات الله وسلامه عليه، فهو الخليفة الأعظم. ولمّا كانت العوالمُ مشهد ومجلى الأسماء الإلهية، ومرآةُ صفاتِها، وكان الإنسانُ خليفةً اختارته العناية الأزلية، تجلّى كما ذكرنا سابقا وظهر الأنبياء عليهم السلام والأولياء المحمّديون ليعبّروا عن هذه الأسماء، وهذه الصفات الإلهية، فتخصّص كلّ بإسم وصفة، وظهرَ الخلفاء عبر المسيرة البشرية. وهم في الحقيقة خلفاءٌ على صورة الألف وصورة الباء، تحقّقوا بذلك وصحّت لهم الصورتين، فالصورة العلوية في جمعيتها واحدة، إذ ما ثمّ إلاّ هو سبحانه، فافهم. ولكن اختلفَ الخلفاءُ في مظاهر آثارِهم ووجودِهم الدنيويّ والحياتيّ، فهناك كلّ لما خلِقَ له، ولما هو ميسّرله، حسب طبيعة الصفة والإسم التي اختصّه الله به، من كونه مظهر تلك الصفة، أمّا التحقّق العلويّ فهناك تفاوتٌ وكاملٌ وأكملٌ، بحسبِ كذلك مقامِ الإسمِ الإلهيّ وشموله وإحاطته ورتبته. وإلاّ فالله تعالى يقول سبحانه : {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ..} 110 الإسراء. ومن هنا كانت الأكوان مجلى هذه الأسماء وهيمنتها ورتبها. وكان اسمُ الرّحمن هو المستوي على عرش الأكوان. كما شرحنا إذ له مقامُ الصفات التي منه ظهرتْ الأكوانُ والآثارُ، وكما هي صورة الباء التي رسمناها على هيئة الإكس والساعة الرملية، دالّة على استواء اسمِ الرّحمن على عرش المخلوقات، إذ هو واسطة تجلّيها. بينما كان اسمُ الله تعالى دالاًّ على القدمِ، ودالاًّ على نقطة الكنه والعماء، التي هي مصدرُ كلّ شيءِ، فالحروف كلّها باختلافها والكلمات بتنوّعها ولا نهاياتها صدوراً، رسمُها عند تجريدها هو ألفٌ، فهو خلفيتُها. وكذلك مرجعها الى النّقطة كما سبق أن ذكرنا، ومن هنا كان الألِفُ الخليفة الذي خلفَ النّقطة، وقامَ به العالم، كما قامت به الحروف والسّطور، فهو خليفة النّقطة في عالم الظهور والحروف والكلمات، فالنّقطة معبّرة عن دواة الحبر، بلا نهاية، مصمتة كنزية لا انتهاء لإمدادتها، ومعانيها وتجليّاتِها وكلماتِها، والألِفُ هو مِدادُ الحبرِ، والقلمُ الكاتِبُ، الذي خطّ كلّ شيءٍ.

ولذلك في الرّسم الذي وضعناه، ترى أنّ الألف كان قائماً للدّلالة على استقلاله وقيّوميّته وصمديّته، ثمّ انشقّ منه حرفُ الباء نائماً، للدّلالة على الظلّية لحرف الألف؛ ثمّ ارتفع خطّ الباء الذي هو ظلّ الألف إلى أعلى، وبقيت النّقطة تحت، وحدث الإسقاطُ للألف الأعلى ألفٌ آخر تحت النّقطة أعطى عالم الأكوان والخلْق. فذلك هو حرفُ الباء الذي توسّط في ظهور العالم والخلْق كما ترى من رسمِ الباء. ثمّ عُدنا إلى رسمِ ألفِ نائمٍ أو ألفين متّحدين متقاربين على المستوى الأفقيّ للنّقطة، ليُعبّرَ عن اندماج الألفين، الأعلى والأسفل، الصّفاتي والمرآتي، فصارا ألفاً واحداً، هو ذاتُ الألف الأوّل، المعبّر عن شهود الحقّ والخلْق من مقام الجبروت، وبالصورة الألفية والخلافة الإلهية ومقام الولاية الكبرى. وهناك تنعدِمُ في نظرِ الوليّ الموجودات والكائنات، ولا يشهد فيها إلاّ الله سبحانه، ولا يرى إلاّ هو، وهو مقامُ بقاء البقاء، وآخر التحقّقات، ومقام ختم الولاية. فتأمّل في سرّ رسمِ حرف الباء وما يحويه. والله أعلى أعلم.

ثمّ إنّك هنا تشهدُ رتبة هذا الخليفة الختم المجذوب، في اجتماع الخطّين فيه الوهميّ والأصليّ، فجمع الأضداد، وتمايزَ فيه السّفلُ والعلوّ، بحكمِ وجوده في عالمِ الأكوان، وتحت التركيب العنصريّ، فأعطى وجوده اجتماع الأضداد، كما هو الأصلُ الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ ولكن في العماء والقدم ما تمايز العلوّ عن السّفل، فما ثمّ إلاّ هو، ولمّا خرج إلى الوجود والظهور في الدّنيا، شابه الأصل الذي هو أصلُه، ورتبتُه، حتّى إذا انسلخ من الوهمية والتركيب العنصريّ، تطهّر من الأكوان، وختمَ الدّنيا، بارتفاع خطّها الوهميّ عن السّفل، وعودته إلى أصله حيث تجلّي الإسم الأعظم. فهو لم يخرجْ من رتبة الألف، مختلفاً عن غيره. والله أعلى وأعلم.

الجمعة، 2 سبتمبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 87



آخر الزّمان! أحداثُ آخر الزّمان التي تجيءُ معها علامات الساعة المختلفة والتي نشهدُ بعضها في زماننا هي في الحقيقة انعكاسٌ لحقائق الطريق، هي انعكاسٌ لسيرة الخليفة المجذوب، وإنّما تجلّتْ علناً وظاهراً وعاشها النّاسُ جميعاً وإن لم يشعروا بحقيقتها أنّها حقائق الخليفة والخاتم، قلتُ إنّما تجلّت وظهرتْ بوجودِه وسيرته في سلوك الطريق.

قال العارف بالله عبد الرزاق القاشاني رضي الله عنه في تفسيره "تأويلات القرآن"  :

 " (أتى أمر الله) لما كان عليه الصلاة والسلام من أهل القيامة الكبرى يشاهدها ويشاهد أحوالها في عين الجمع، كما قال عليه الصلاة والسلام : ' بعثت أنا والساعة كهاتين '. أخبر عن شهوده بقوله تعالى  : (أتى أمر الله) ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر لكل أحد لا يكون إلا بوجود المهدي عليه السلام)". انتهى.


فذكرَ أنّ ظهور تفاصيل الساعة وعلاماتها تكون في زمن المهدي عليه السلام. إذ هو المعنيّ باسم أمر الله، فهو أمرُ الله، وأمرُ الله هو الرّوح الأعظم. ولذلك سمّي المهدي من قِبَلِ آل البيت عليهم السلام بالقائم بأمر الله. وهذا لعلمهم بمن يكونُ. فهو صاحبُ الأمرِ والقائمُ بأمرِ الله أي هو عينُ الرّوح الأعظم في المظهر البشريّ. وإن خفيَ مقامُ المهدي عن الكثيرين. أو غابَ حتّى عن الكثير من المنتسبين للصوفية مقامُ المهدي، وكونه القائم بأمر الله أي الرّوح الأعظم والخليفة الأوّل والإمام الأعلى. ولذلك كان قدومُهُ ووجودُهُ علامة على الساعة والخروج من الدنيا والأكوان، وطهارتها من شرّها ودجّالها ونزول روح الله عليه السلام خاتماً لها، ولهذا رفع المسيح لينزل في آخر الزمان. فكلّ ذلك نتيجة قدوم الخاتم والخليفة المهدي. 


فكانت تلك العلامات الكبرى والفارقة والأهوالُ الواقعة في آخر الزمان من نتيجة قدومِ هذا الخليفة، وانعكاسِ سيرته مجذوباً، وتجلّي الحقائق التي سلكها السّالكون الأكابر، في الظاهر والعلن كأنموذج ليُشاهدها الجميع، ويعاينها المعاصرون لها. وتجلّي الملاحم التي يعيشُها أهلُ الطريق في سيرهم إلى الله تعالى ليخرجوا عن أكوانهم ويتطهّروا من نفوسهم. ولكن باختلافٍ  إذ لا تطابق في السيّر والسّلوك، فلكلّ سلوكه الخاصّ، وإن كانت نفس المحطّات والمراحل الرئيسة، وكذا فإنّ أشدّ هذه الملاحم وأعتاها هي ملاحم آخر الزّمان، ملاحمُ الختم الخليفة، لأنّه ختمُ الولاية، فكانت سيرتُهُ شاملة عامّة، والبلاءُ شديد، والغربةُ عظيمة، لعظم الوراثة وكليّتها. إذ كان طرفُ شرّ هذه الملاحم الدجّال وإبليس وطرفُ خيرِها الرّوح الأعظم أمرُ الله. والمجذوبُ وهو في تركيبه العنصري وقبل انسلاخه من مظاهر بشريّته، تتجسّدُ في سيرة سلوكه هذه الملاحم الكبرى باطنياً، وتنعكِسُ على الواقع ظاهراً. بل يكونُ لها تجليّانِ ظاهرانِ، أوّلهما قلاقلُ الساعة وقربِ زوالِ المعمعة الكبرى للبشرية وحضارتها التكنولوجية وهيلمان العسكرة والتطوّر الظاهريّ والعلم الماديّ، والعولمة الشريرة التي تهيمنُ على العالم، كما هو الشأنُ اليوم، فهذا مظهرٌ، ولها تجلّ ثانٍ ويكونُ بظهور القائم بأمر الله المهدي خليفة عادلا يملأُ الأرض عدلا وما يليه في خلافته إلى نزول سيدنا المسيح عليه السلام. فهناك تجليّانِ. وهذا الانعكاسُ يتجلّى، لقطبية هذا الوليّ بالأصالة، ونعني بقطبيته الأصيلة، أنّه قطبٌ بالأصالة حتّى قبل أن يحقّق شرائط القطبية، ووليّ بالأصالة حتى قبل أن يُحقّق شرائط الولاية التي يُحققها غيره من التخلّق بأخلاق الوليّ الحميد سبحانه، فكان هو وليّ بالأصالة بميلاده، ووجوده. ولايته تظهرُ على الأشياء، ويكونُ قطباً بلا اختياره، كونُه الخليفة التي رجعتْ إليه جميعُ الأشياء والأكوان والأشباح. فإليه مرجعها. ولذلك تجلّت تلك الملاحم والصّراعات في آخر الزمان، فهناك وليّ لم يتحقّق بعدُ بمقام الانسلاخ عن البشريّة ومظاهرها، ولم يخرج من قرية الطّبع ولم يخرج بعدُ عن الأكوان، وهناك طبعٌ وبشريّة ونفسٌ تنازعُه وتقاومُه تسعى أن تحولَ دون خروجه عنها وانسلاخه منها، فيحدثُ الصّراعُ الأكبر

وما الدجّالُ عليه خزي الله ولعنته، بتلك القدرة والخوارق التي يتعجّبُ لها من يتعجّب، كيف ملك تلك الخوارق والقدرة والتعمير ؟ ما كان ظهوره وتجليّه سوى تعبيرٍ عن بشريّة الخاتم وعقله التّرابيّ وقرينه النّفسيّ. الذي يظهرُ ليدافعَ عن وجودِه، ويقاومَ فناءَه، لأنّ الطريق من حقائقها أنّها تطلبُ الفناء عن النّفس، في الله سبحانه، في النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ في الله سبحانه. فالنّفسُ هنا تُقاومُ بكلّ ما تستطيعه لتمنع هذا الفناء، لأنّه يعني فناءها هي. فالفناء هو الخروج من هذا الحيّز الجزئي والكيان البشريّ المحدود المحصور، إلى الإطلاق وشهود الواحد الأحد سبحانه، وموتِ هذه النّفس وزوالها وتلاشيها. فيحصُلُ الصّراع.

ولذلك كان قرينُ المجذوب (الخاتم) هو القرينُ الكلّي للأرض والنّاس، وهو الدجّالُ الذي ظهر منذ عهد سيّدنا موسى عليه السلام، السّامريّ عليه خزي الله الذي وعده الله بموعد لن يُخلفَه، كما اقتضت ذلك الحقائق. ومثّل الشرّ كما مثّلت النّفسُ الشرّ والطبّاع الدونية والأرضية والهوى وكلّ دون وسوء، عكس الرّوح. ومثّل العقل التّرابيّ للمجذوب، والعقل الترابي الأعلى الذي يقِفُ في الإنسان حائلاً دون أمدادِ الرّوح، والمعنى أنّ وظيفته هي تحويلُ أمداد الرّوح إلى موادّ، وإمدادات ماديّة في الجسم. ويتحكّمُ في الوظائف الجسمية وهو المسمّى بالعقل اللاّواعي والعقل الباطن وله قدرة عالية جدا تفوق العقل الواعيّ ملايين المرّات سرعة في معالجة العمليات. فتنعكِسُ هذه الأوهامُ النّفسية في المجذوب، وسلوكه وطريق تحرّره وفنائه، إلى تلك الملاحم والعلامات الكبرى للساعة.

هكذا، إيذاناً بظهورِ الخليفة الذاتيّ والمالك الأصليّ والوليّ الخاتم الذي يُقابلُه هذا الوجود، فلمّا ظهرَ، ظهرَ ما كان يلوّحُ له العارفون بالله، ويتكلّمُ عنه الساداتُ الصوفية، وما قاله الإمام الغالب باب مدينة العلم سيدنا علي كرّم الله وجهه :
دواؤك فيك وما تشعرُ ... وداؤك منك وما تُبصرُ
وتحسب أنّك جرم صغير ...  وفيك انطوى العالم الأكبرُ
وأنت الكتاب المبين الذي ...  بأحرفه يظهر المُضمَرُ

فيظهرُ الإنسانُ الكبيرُ بالأصالة، الذي إليه يرجعُ العالَم، القطبُ الأصليّ، نقطة دائرة الوجود، كما للدائرة نقطة محور تدورُ وتقومُ عليها الدائرة، كذلك يكونُ هذا الخليفة هو تلك النقطة المحورية لدائرة الوجود، به يقومُ العالَم. وهو الخليفة الذي قال الله فيه : "إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةَ". أرضُ التجليّات الحقيّة والخلقية، فهو خليفتُها، وواسطتُها من مادّة الحياة، وعنصر الحياة، ومن العماء.

الخليفة الأوّل ومن هذا الخليفة ظهرَ بقيّة الخلفاء، فهم خلفاؤه. إذ هو الرّوح المطهّرُ، الذي تشفّعَ من الوحدة، قوسين : قوسُ الأسماء الإلهية وقوسُ آثارِها.

وهو المسمّى بالإسم الأعظم، هو عينُ الإسمِ الأعظم. في حقيقته، وإنّما تجلّى الإسمُ الأعظمُ مظهراَ ذاتياً في هذا الخليفة، فسمّي الخليفة، وسمّي الخاتم، خاتم الولاية من كونِ معنى الخاتم أو الختم أي الذي ختمَ المقام والمعنى بما لا يكونُ فوقه ولا مزيدَ عنه، وختم الولاية، أي الوليّ الخاتم الذي له ولاية الإسم الأعظم، أي الوليّ المتصرّف في الأسماء الإلهية، فهو قطبُ التصريف وهو إمامُ العوالم. وسمّيَ المهدي، دلالةً على كونِه العبد المجذوب الذي يُهدى بسرّه المكنون فيه، إلى سرّه الذاتيّ ومقامه، ويُعطي جميع الحضرات حقّها، دلالةً على كونِه حامل سرّها. حتى يتحقّق بالختمية والولاية العليا، ويتطهّر من الأكوان.

وكانت لغتهُ مختلفةً، كما قال الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس الله سره لغة هذا الفتى العربي الأعجمي غير لغة الخلْق، ومحلّه غير محلّهم، وإن بدتْ عليه الأضداد، وتجلّتْ عليه آثارُ الأسماء المختلفة وهو في جذبه وتركيبه العنصريّ، فيجمعُ بين الضّعف والقوّة، الضّعف من حيث بشريّته وقيده في الأكوان وهيكله، والقوّة من حيث مرتبته وقطبيّته الحاكمة على كلّ شيءٍ، والجمال والجلال، والعلم والجهل، والشهود واللاّشهود؛ وكما وصفه الشيخ الأكبر في الفصوص أنّه يجمعُ بين تلك المواصفات المتضّادة ليُعبّرَ عن الأصل الجامع، وليس هو غير هذا الأصل الجامع. وإنّما لم نضع تلك النّقول هنا لأنّنا سبق أن وضعناها في مواطن سابقة وعديدة. وأنّك ترى وتقرأُ أنّ هؤلاء الأكابر عيّنوهُ وأشاروا إليه، في مواضع متفرّقة كثيرة، لا يخطئُها متتبّعٌ وفاهم وعارف. وأنّهُ عنقاءُ مغرب الأسطورية، التي هي من جملة ما يُعرفُ إسمُها ولا يوجدُ رسمُها ووجودها الحقيقيّ، إذ مرتبتُه فوق المراتب، ومنزلته وراء العقول، حتّى الإفصاح عنها كما نحنُ نبيّنها في مقالاتِنا يجعلها ضرباً من الأوهامِ والمزاعمِ.

وقد قالوا إثنان ليس لهما وجود، إلاّ في الأساطير : الغول والعنقاء. وآخرُ الزّمان، يظهرُ فيه هذان الإثنان حقيقةً وواقعاً : الغولُ وهو الدّجال، والعنقاء وهو الخاتم.

وكان من آل البيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، دلالةً على عظم مكانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ربّه، وكونِه الواسطة والحجاب الأعظم على الله سبحانه، فما خرج الوليّ الخاتم إلاّ من ذريّته، كما ما تعرّفَ المتعرّفون إلى الله سبحانه إلاّ بواسطة هذا النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلّم. وإنّما يتطهّرُ المهدي من بشريّته وتركيبه العنصريّ، فيخرجُ إنساناً مختلفاً في صورة أحسن وأعظم وأكمل، ويصلحه الله في ليلة كما جاء في الحديث الصحيح. أي ينتقلُ من ثنائية التركيب العنصريّ والروّحيّ، إلى أصالته وكونه الرّوح والإمام المبين. بل هو خلاصةُ آل البيتِ وسلطانهم وعليه تنطبِقُ الآية الكريمة في معنى التطهير الأتمّ والأكمل، آية التطهير : ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. [الأَحْزَاب:33]. ولذلك سمّي الرّوح المطهّر، والرّجل المطهّر عن الأكوان أي مظهرُ الحقّ سبحانه عزّ وجلّ. إمامُ الأئمّة الأعلى. وقطب رحى الوجود، ونقطة دائرته. 

فإذا تحقّق بالطهارة والختمية والكمال والإصلاح، يبعثه الله قائدا وإماماً عادلاً ومجاهداً يصلحُ به الأرضَ ويبيدُ الظالمين ويقيمُ العدل، ويتصدّى للدجّالِ حتّى ينزل روح الله لقتلِ الدجّال، وبين سيدنا عيسى والدجال علاقة عكسية، كما قال بعض العارفين : أحدهما مقلوبُ الآخر، فذلك يمثّل روح القدس التي تُقدِّس، والآخر يمثّلُ الطبع الدونيّ والنّفسي المنتكس، ولذلك جاء في الحديث أنّه ما يُقابل المسيح روح الله حتّى يذوب كما يذوبُ الملح في الماء، ولكنّ المسيح عليه السلام يقتله ليطمئنَ المسلمين بقتله وزواله لشدّة ما أفسد وعربد هذا الدجّال.

وهنا ثلاثية : فالملاحمُ تحدثُ في عرش المهدي المجذوب، قبل أن يتقدّس، بوجود نفسه ووجوده في التركيب العنصريّ ومقتضياتِ البشريّة،  فيعطي ذلك وجود النّفس والطبع البشريّ والعقل الترابيّ المتراكم عليه سلطان الوهم وهو المتجسّدُ والمسمّى بالدجّال وسامريّ النّفس، ويُعطي كذلك القلب : قلب المهدي المجذوب، وهو القلبُ الذي وسعَ سرّ الروح القدسيّ، والذات الساّذج، فمثّل الإمام الأعظم الخاتم أي المهدي عند كماله وختميته، ويعطي كذلك : نزول الرّوح عليه التي بها يخرجُ من تركيبه العنصريّ ويتقدّس، ويتخلّصُ من وهمه ونفسه وعقله الترابيّ ومن قيده وسجنه، إلى إطلاقه وحريّته وسعة الله سبحانه، ويمّثلُ نزول الرّوح، نزول سيدنا عيسى عليه السلام المسمّى روح الله. ومن هنا تفهمُ سرّ بقاء سيدنا عيسى عليه السلام في السماء لينزلَ في آخر الزمان، وفي زمن المهدي عليه السلام، ولقتل الدجّال، أي ليقدّس المهديّ من الوهم والنّفس والدجال والعقل الترابيّ المتسلّط.

فهذه حقائق عن الخاتم وآخر الزّمان وسببُ تلك العلامات التي تكونُ على الساعة ...

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.