الجمعة، 21 أكتوبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 89


لبسم الله ..

ظهور خاتم الولاية في آخر الزمان عليه السلام هو في الحقيقة من معاني ومظاهر تشريف سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أعظمَ التشريف، ودلالة كذلك على أنّ خاتم الولاية منزلة ومرتبة ثابتة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأقصِدُ أنّ ذلك ظهورٌ لباطنه صلّى الله عليه وسلّم، فإنّ الولاية باطنُ النبوّة، لأنّها الوجه الإلهيّ للعبد، فلمّا ظهرَ خاتم الولاية فقد تجلّى أعظم ما يمكنُ أن يكونَ مدّخراً من المنازل والمراتب الموجودة إلى صحائِفه ومنازله صلّى الله عليه وسلّم، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم مجلى الظهور وأرض التجلّي وجميعُ ما يتجلّى مضافٌ إليه ونازلٌ بواسطته، فهو سيّدُ الوجود. فتأمّل في هذا الفضل العظيم والشرف الكبير. وبهذه الختمية للولاية نال صلوات الله وسلامه عليه المقام المحمود. فإنّ المقام المحمود هو لصاحبه المحمود خاتم الولاية، وظهور هذا الخاتم المهدي هو علامةٌ على تتويجه صلوات الله وسلامه عليه بذلك المقام المحمود والختمية في الولاية.

إن قلتَ إنّ خاتم الولاية هو مرتبة من مراتبه صلوات الله وسلامه عليه، فهذا صحيحٌ من وجهٍ، فإنّ كلّ التجليّات والمظاهر انفلقت وظهرتْ بواسطته صلى الله عليه وسلّم. إلاّ أنّ ذلك لا يعني تداخل المراتب هنا بين خاتم الأنبياء وخاتم الأولياء عليهم السلام جميعا، بل ذلك يعني أنّه صلّى الله عليه وسلّم نالَ وجهاً كاملاً من وجوه هذه الختمية في الولاية، التي هي لصاحبها بالأصالة الوليّ بالأصالة. فإنّ ولاية الخاتم شمسية ذاتية وولاية خاتم النبوّة قمرية مستفادة من ولاية الخاتم للولاية. وإن كان هذا الخاتم للأولياء حسنةٌ من حسناته صلى الله عليه وسلّم كما ذكرنا، فهو من أهل بيته نسباً وهو من أمّته اتّباعاً، وهو إن جاء يحكمُ بشرعه صلّى الله عليه وسلّم. فهو حسنةٌ من حسناته، كذا قدّر الله الحقائق وعقدها عقداً قائماً على العظمة والجمال.

وتجدُ هذا المعنى في التشريف قد ذكره الشيخ الأكبر في كتاب عنقاء مغرب في قصيدته قائلاً مفتتحاً :

فمن شرَفِ النبيِّ على الوجودِ ... ختامُ الأولياءِ من العقود

فانظُرْ كيفَ ربطَ شرف النبي صلّى الله عليه وسلّم بظهور ختام الأولياء، فمن يفهم حقيقة خاتم الولاية فإنّهُ يفهم عظمة الشرف في ظهوره في الدّنيا، والظهورُ والتجلّي كلّهُ محسوبٌ للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنّهُ واسطة الظهور والتجلّي. وكذلك قال صلوات الله وسلامه عليه "أبشِري يا فاطمةُ ، المهديُّ مِن ولَدِكِ." (رواه أبونعيم ، وابن عساكر). ومعنى الحديث صحيح، وهو نفس معنى ما جاء في قصيدة الشيخ الأكبر، أبشري يا فاطمة فإنّ المهدي من ولدك، فبشّرها كأنّهُ يقولُ لها هذا المهديُّ مضافٌ إليكِ فهو من مظاهرِ ومعاني زيادة تشريفٍ لكِ؛ وذلكَ يدلُّ على قدرِ هذه الإضافة المفاضة من قدرِ المضاف وشرفِه.

وأمّا في ميزانٍ آخر، ميزان الحقائق، فإنّ الأمرَ منوطٌ بالتعيّن الأوّليّ، فليس قبل خاتم الولاية من مُتعيّنٍ، فهو أوّل متعيّن ذاتيّ دلّ على الذات، فهو صاحب اسم الذات، الإسم الأعظم. وإليه ينتهي كلّ شيءٍ وجميعُ المراتب والمنازل، فهي منهُ متعيّنة. فهو الخليفة الجامع الأوّل. ومعنى الخليفة أي جميع قوالب الإنسان وتعيّناته ومراتبه ومنازله ترجِعُ إليه، فهو أصلُها وهو جامعُها، فهذا هو معنى الخليفة، فهو الصورة الجامعة وهو الظاهرُ في كلّ الخلائف على اختلاف منازلهم ومراتبهم، وهو باطنُهم من حيث الحقيقة. ثمّ كان ثاني متعيّنٍ هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وخاتم الأنبياء، وهو صاحب برزخ الرّحمة والمستوى الرحمانيّ. وكان واسطةً إلى الله سبحانه لجميع الخلق. وهذه حقائقٌ عزيزة قد يختلطُ على البعض ممّن يخوضُ في هذه المجالات، أو يظنُّ العرفان والتحقيق في معرفته، أنّ الأمرَ غير ذلك. فهو لم يتحقّق بمعرفة سرّ التعيّنات ومراتبها. فالإسمُ الأعظم هو سيّدُ الأسماء وقطبُها؛ ثمّ يليه اسم الرّحمن الذاتي الصفاتي في الرّتبة، والتعيّن. فالسيّدُ الصّمدُ هو صاحبُ الإسم الأعظم، الذي كان مظهراً ذاتياً للحقّ سبحانه، ومرآة ذاتية لتجلّي الله سبحانه. وبدايةُ المعرفة والعلم لكلّ عينٍ، هو من حيث تعيّنه؛ إذ كلّ عينٍ ومخلوقٍ صورتُهُ هي صورة علمِ الله به، وعلمُ الله به يبدأُ من تعيّنه الأوّليّ. فافهم هذه النّكتة تُدرِك بها فضلَ سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذي هو أوّل تعيّنٍ في الخلق ومنه انشقّت الأسرار وانفلقت الأنوار وبدأت رحلة العلم بالأعيان والموجودات. وتُدرك فضل الساداتِ وتفاوتهم بالعلم بالله سبحانه، فالعلمُ هو سرُّ الوسع وسرّ التقدّم والتعيّن. والله أعلى وأعلم.


الجمعة، 23 سبتمبر 2016

ما غادرك ربّك حتّى تسأل عن دليل وجوده؛ إنّ صفاته فيك وتجليّاته؛ تجلّى عليك فبه أنتَ تشهد العالم وما حولك ..




لبسم الله ..

تريدُ أن تشهدَ صفات الله فيك ؟!.. إنّه شهودك لما حولك والعالم .. فانظُر العالم، وشاهد .. فهل تُشاهدُ إلاّ مظاهرَ صفاتِه المتجليّات فيك سبحانه ؟! .. تلك القيّومية للعالم وما حولك إنّها فيك، تلك التناسقية والإبداع والجمال والبهرُ والسّحرُ إنّها فيك .. فبه وبصفاتِه أنتَ تشهدُ ما تشهدُ. ما غادرك ربُّكَ حتى تسألَ عن وجوده ودليله .. إنّك تسمعُ بتجلّي اسم السّميع عليك، وتُبصِرُ بتجلّي اسمِ البصير عليك، وتحسُّ وتجدُ وتتذوّقُ وتتنوّعُ حولكَ المظاهر والحياة والكائناتُ بتجلّي أسمائه وصفاتِه فيك .. إنّك تُدرِكُ بتجلّي اسم العليم والهادي فيك، ما أنتَ براءٍ إلاّ ما تجلّى به عليك لتراهُ، وذلك قدرٌ مشتركٌ للتجلّي العامّ على البشر، وإنّما زادتِ المرائي والكشوف والفتوح بحسبِ التعقّلِ القلبيّ، والشهود القلبيّ للعباد، فتخصّص البعضُ عن العامّ، بتنوّر القلوبِ وانفتاح بصائرها فأصبحت تشهدُ من العوالم والأطياف أكثر من غيرها. ولهذا اختلفتِ مسمّيات العقول اصطلاحاً. فهناك عقلٌ معاشيّ، وهو العقل المدبّرُ للحياة والتجلّي العام للكائنات والكثافة بصفة عامّة، واستوى فيه جميعُ البشر. ثمّ بدأتِ العقولُ تتدرّجُ في الزيادة بحسبِ تفتّح بصيرة القلبِ. والعمدةُ هو القلبُ في زيادة الترقّي، واتّساع محلّ التجلّي ... وإنّما جعلَ الله العقلَ المعاشيّ له اتّساعٌ في المحسوسات ومظاهرها وآثارها وقوانينها بحسبِ التوجّه لها وطلبِ علومها، وجعلَ الله القلبَ مجالَ وسْعِ العقلِ، وبحسبِ وسعِ القلبِ وتنوّرِه، يسعُ من العقلِ أكثر، ويقرأ من غيبه أكثر من ذي قبل، فتنفتحُ له الغيبيات على قدرِ التوجّه القلبيّ الصحيح، فتكونُ فتوحاً مختلفة متنوّعة، إلهاماتٌ، أو كشوفٌ، أو فهومٌ، أو أحوالٌ تتنزّلُ فتسعُ القلبَ والعقلَ معاً، تتقدّمُ به في مجالاتِ القربِ من الرّوح، أي من الله سبحانه، فالرّوح بالله عارفة وهي واسطة المدد والأنوار.

ثمّ إنّ الإنسانَ - مُطلق الإنسان - لا يزالُ في تقدّمٍ مستمرٍّ من حيث التجليّات والأسماء وسعتها، وها أنتَ ترى هذه التلوّنات والعلوم والاختراعاتُ التي تتولّدُ مع الوقتِ وتزدادُ كثرةً وتفرّعاً واتّساعاً، فهي في الحقيقة معبّرةٌ عن زيادة التجلّي الأسمائي وسعته، والإنسانُ اليوم أوسعُ من الإنسان من مئات السّنين ولا شكّ، فالإنسانُ في زيادة وترقٍّ، وإنّما ذلك عكسَهُ رحلةُ تجلّي الأسماء التي هي في زيادة وانتشارٍ حتّى تصيرَ كما هي اليوم نسخةً للإنسان الخليفة الذي جعله الله باب خزانة الجود الإلهيّ على الإنسان. فالبشرُ صورة ونسخةٌ لأقطاب زمانهم، فهذه حقيقة، صورةٌ من حيث التجليّات الأسمائية، ولمّا كان آخر الزّمان فقد كان مظهراً على التجلّي الأوسع وعلامةً على ظهورِ الخاتم، وبه صحّ لهذا الزّمان هذا التجلّي الواسع، فإنّ هذا الظاهر المتوسّع المتلوّن والمتنوّع الثريّ، يُقابلُهُ باطنٌ عظيم ونورٌ كبير، فإنّ هذا الظاهر القاتِم من حيث كسوف الأنوار وانتكاس الفطر وانعكاس المفاهيم، هو مظهرٌ لتنوّع الحضرات، وسعة الآثار الأسمائية، وظهور العلم الماديّ المقابل للعلم الباطن، ولا يقومُ علمُ المادّة ودولة الظاهرِ إلاّ بوجودِ النّفس، وكذا فإنّ تجلّي أمدادِ القدس لا يكونُ إلاّ يزوالِ النّفس، وعليه فالنّفسُ آيلةٌ للزوّال، ودولتُها وصولتُها، وحلفاؤها .. وهذا الزوالُ، يُقابلُه القهرُ الذي يزدادُ على الدّنيا، حتّى تتجلّى الوحدة الذاتية بإمامها الخليفة، خليفة الله.

وعوداً لما بدأناهُ، فإنّك أيّها العبدُ مجلى أسماء الله وصفاته في شهودِها في العالَم، حتّى وإن كنتَ عاجزاً عن شهودِ باطنِها وحقيقتها، فإنّك مشاهدٌ لآثارِها ومظاهرها فيك أنتَ، إذ لو لم تتجلَّ فيك لما قامَ للعالم وجودٌ عندك. فافهم. فالوجودُ قائمٌ كلّه فيك، إمّا بالشهود البصري والحواسيّ، أو بالشهود التخيّلي، أو بالشهود التعقّلي والفكري، والشهود العلميّ، فأنتَ لمّا تعقّلتَ الله سبحانه في عقلك وذهنك، فقد وسعتَهُ سبحانه فيك. وذلك دالٌّ على قابليتك لوسْعِ جميع الوجود، وتلك هي حقيقة الصورة من وجه تعقّلي فكريّ. فافهم، الصورة التي خلق عليها الإنسان من قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". أمّا حقيقتها الكاملة فهي الوسع القلبيّ الذي هو وسعٌ علميّ ووسعٌ عياني لجميع التجليّات، وإن لم تتناهَ هذه التجليّات الغير المتناهية. والله أعلى وأعلم.

الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 88




عوداً لحرف الباءِ وأسرارِه، وإيحاءاته، فحرفُ الباءِ هو ثاني الحروف الأبجدية، بعد الألف. عبّرَ عن الإثنينية والشّفعية في أنموذج التوحيد الذي أقامته الحروف ورسومها، ولم يكن رسمُه عبثاً. والإثنينة والشفعية هي إظهار التجلّي الواحديّ والحقيّ، من واحديته الجمعية إلى ظهورِ كثرته الفرقية، ومن مجلى الحقّ سبحانه إلى تجلّي الخلق والأكوان وظهور العالم، الذين هم أثرٌ وانفعالٌ عن أسماء الحقّ سبحانه.

فأعطى رسمُ الباءِ هذا المعنى، لمّا كان الباءُ ألفاً ممدّداً، والألفُ هو أوّل موجودِ من الكنه والعماء، أي أوّل حرفٍ تجلّى من النّقطة. لمّا كان رسمُه نقطتين، فبَعُدَ عن النّقطة بُعداً واحداً، لذلك ما عدّهُ المحقّقون إلاّ من جنسِ النّقطة، إذ هو مجلى عمائها، من كونِهِ ضمّ بُعد العماء والأحدية المنطوي في النّقطة، إذ هي نقطة مصمتة، نقطة دلّتْ على لا شيء، ودلّت على كلّ شيءٍ. انطوى فيها كلّ شيء إذ من جبّتها برز كلّ شيء، والحروفُ أصلها ومرجعها نقطة؛ وضمّ هذا الألف بُعداً آخراً معنوياً مجرّداً هو الأسماء الإلهية؛ الأسماء التي انبثقت من العماء، وتمايزتْ في الألف بلانهاياتِها، فالأسماءُ الإلهية غير منتهية، ولها أمّهاتٌ تجمعها كما جاء في الحديث النبويّ الشريف مئة إسمٍ، ولها إسمٌ جامع لها كلّها وهو اسمُ الله، لذلك كان الألف معبّراً عن اسمِ الله سبحانه، إذ هو المعبّرُ عن الجمعية الأسمائية كلّها، وهو الواسطة لها من بحر العماء، أو من عنصر الحياة، أو من نقطة الكنه، فهو مظهرُ النقطة، ومظهرُ العماء، والإمامُ المبين الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ. فالألف هو العماء والكنه والنّقطة وهو الجمعية الأسمائية الكبرى المتجليّة من بحر النّقطة والعماء، ولهذا اختصّ بالواحدية، وكذا الأحدية، ألف ونقطة. فكان رسمُ الباءِ معبّراً عن الألف فهو ظلٌّ للألف، فجاء ممدّداً وليس قائماً كما هو الألف ليعطي معنى الظليّة، ويعطي ما يوحيه رسمُهُ ووظيفته ومقامُه من التشفيع والواسطة بين القدم والحادث، وذلك ما سنذكره هنا؛ فجاءت الباء ألفا ممدّداً وهو بُعدين ونقطة تحت الألف الممدّد وهو بُعدٌ ثالث، فبَعُدت عن النّقطة بُعدين وعن الألف نقطة، وتلك هي مرتبتها، وفي النّقطة التي جاءت تحت الباء، الإشارة إلى سرّ الألف، أي نقطته المصمتة، وهو مقامُ الإنسان في الحروف، رغمَ كونه حرفاً مغايراً للحرف الأوّل، فلم يكن سوى على صورة الحرف الأوّل، وحاملاً لسرّه كذلك، أي قابلاً لسرّه الشهوديّ التامّ، فقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورته“، وهذه الصورة هي الألف، وقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورة الرحمن“ وهذه الصورة هي الباء، ولكلّ منهما دلالة، فصورة الألف هي الاستغراق في الجمعية الأسمائية بين الواحدية والأحدية، ومقام الخلافة الإلهية، وشهودِ كلّ شيءٍ في حُكمِ الواحدية وعدميّته الأصلية، وصورة الباء هي الجمع والفرق ومقام البقاء الأوّل وقاب قوسين. فجاء حرفُ الباءِ قارئاً لحرفِ الألف من قدِمِه إلى تجلّي حوادثه، وجاءَ نِسبةً كمالية صفاتية تدلَّتْ منها الموجودات والحوادث، ولذلك جاءَ رسمُه ألفاً نائماً وتحته نقطة وينعكسُ عبر تلك النقطة الكنهية ألفٌ ظلاليّ تحت النّقطة هو صورة وإسقاطُ الألف الغيبيّ فوقها، فحرفُ الباء وظيفته قراءةُ الألف الغيبيّ الأسمائيّ والتجلّي به إلى ألف ظلاليّ حدوثيّ هو عالم الصور والتعيّنات، هو عالم الأكوان. مثل الصورة التي وضعناها فالصورة تبدو كحرف اكس ( X ) أو كساعة رملية، تتقاطعُ عبر النقطة التي تحت الباء، فالباء شفّعت عالم الواحدية والأسماء، وهو الإسم الأعظم، أو حرفُ الألف، أو عالمُ القدَم إلى عالمين الأوّل العالم الذي ذكرناه، عالم الأسماء، والثاني هو عالم الأكوان. وهذا عينُ ما وصفنا به اسم الرحمن الذاتيّ الصفاتيّ الجامع، فهو راحمُ الأسماء الإلهية من اسمها الأعظم الجامع لها ” الله“ إلى ظهورِ آثارِها وصورها ومظاهرها في العالم والأكوان. فصارَ هذا الاسمُ وهذا الحرفُ (الباء) واسطةً للعالم الشهاديّ والصوري والتعيّني الذي ظهر به وبواسطته، فتأمّل. ولهذا قال الله سبحانه في الحديث القدسيّ ”لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك“، أي يا محمد لولاك ولولا مظهرك ومقامُك الذي أقمتُه لك، ونسبتُكَ التي خصّصتها لك في أزلي ما خلقتُ الأفلاك، ولا ظهرَتْ، فأنت واسطتُها والنّسبة بيني وبينها، وأنت حجابي الأعظم دونها. طبعا حرفُ الباء الذي أعطى الرّتبة الثانية هومجلى خير الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأوّلهم وروحهم وواسطتهم، ولذلك كان الرّسول الجامع الأوّل، وكان النبيّ الأمثل، صلى الله عليه وسلّم، نبيّ الأنبياء، نالَ مقامَ الإنباءَ، وختم النبوّة في أمّ الكتاب، بهذه الواسطة العظمى، والنّسبة العليا التي تدلّت وتجلّتْ منها سائرُ الأشياء والأعيان؛ وكان سيّد العالم والأكوان، وكان صورة الإنسان الكامل الجامع للبرزخية بين شقّيها وقوسيها، الرّوح والجسد، الغيب والشهادة، الحقيّة والخلقية، الذاتية والصفاتية، كما قال الله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} (النّجم-9) . ثمّ تأمّل في صورة الباء ورسمه مرّة أخرى، تجدُ أنّه عبّرَ عن رسمِ الألف من جانبه الأعلى، أي ظهرَ في الباءِ رسماً الألفُ الأعلى فوق النّقطة لا الألِفُ الوهميّ الأسفل الدّالُ على الأكوان والعوالم، فعبّر عن رسمِ الألفِ في جانبه الأعلى كما ذكرنا أي في تقديسه وواحديّته، وأسمائه، وكمالاته، لمّا كانت صورة الأكوان والعالم منعكسةً تقديراً تحت نقطة رسمه، كأنّها وهمٌ وظلالٌ وأثرٌ وحسب، لا أصلٌ. فكان له - صلوات الله وسلامه عليه - هذه المرتبة العليا، وهي الكمالات الإلهية والكمالات الإنسانية، والصفات الرّحمانية، لأنّه حمل جانبها العلويّ الأعلى، ولذلك فالرّحمانية هي أعلى مراتب الوجود، لأنّها تُعطي ما أعطاهُ رسمُ حرف الباءِ، وهو رسم لنا صورة الألف الغيبي المقدّس، والنّقطة تحته، أمّا عالمُ الأكوان فهو ألفٌ منعكِسٌ تقديراً كما قدّرناهُ تحت نقطة الباء، إذ هو صورة الأسماء ومرآةُ الصّفات، فهو منفعلٌ من عالم الملكوت، يتبعه؛ وأثرٌ لتجليّات الأسماء، يلحقُها؛ وإنّما إحكامُ ما عليه كمالاتُ الله سبحانه وتقديسه وجماله وجلالُه وتنزيهه عن كلّ نقصٍ وخلل سبحانه وتعالى، أعطى العالَم بهذا الترتيب المُحكم المتناسق المتكامل الذي لا يشوبُهُ خللٌ ولا نقص ولا فطور، فكلّ شيء مرتبط ببعضه، والعالم قائمٌ على الأسباب والحكمة قياماً دقيقاً لا يتناهى، تعبيراً عن كمال حكمته ومنتهى القدرة والتقدير والإبداع والجمال والإحكام. فلا يقومُ شيءٌ إلاّ بما يُقيمُهُ من حكمة وسبب، وعلى هذا قامت الأقدارُ الإلهية، وهي - أي الأقدار- ليست سوى تجلّيات إلهية كما ذكرنا، تعيّنت في عالم الحكمة والتعيّن والصور، وأعطت ما أعطت من تقدير وأقدار وارتباطات.

وهذه النّسبة والمرتبة الرّحمانية العليا هي اعتبارية في حقيقتها، دلّتْ على الرّحمة التي قامَ عليها الوجود وسبقتْ كلّ شيءٍ، ودلّتْ على مجلى العماء الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ، وما تمايز فيه شيءٌ عن شيءٍ، في السّفلِ والعلوّ. كما جاء في الحديث الشريف : عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ قَالَ : ( كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحديث صححه الطبري ، وحسَّنه الترمذي والذهبي. وكلّ ما سوى الله سبحانه هو اعتباريّ، ورحلة التحقّق والتفريد والعودة إلى الصورة يجعلُ العبدَ يشهدُ أنّ كلّ ما سوى الله عدمٌ، ولم يذقْ طعم الوجود ولم يشمّ رائحته أصلاً.

ويمكنُ القولُ إعلاماً وتنبيهاً كذلك، أنّ الألف كان مجلى الكتاب، فهو الحرفُ الكاتب الذي كتبَ أقضية الله وأقداره، وأظهرَ التجليّات، وتوسّط للأسماء، أو فلَقَها من عمائها ونقطة كنهها، وجمَعَها في وحدتِها الجامعة؛ والباءُ هو القارئ لهذا الكتاب، كتاب الألف ومترجمُه عالَماً وأكواناً وكائنات، الباءُ هو مرآةُ التجلّي الأسمائي والألفيّ. كما قال صلّى الله عليه وسلّم ” وَاللَّهُ الْمُعْطِي، وَأَنَا الْقَاسِمُ“ صحيح البخاري. فعبّر صلوات الله وسلامه عليه عن هذه الترجمة والمقام الذي أقامه الله فيه كما ذكرناه، أنّه القاسم لما أعطى الله، والمترجمُ لما تجلّى به الله سبحانه من بحرِ القدم إلى عالم الحوادث. ولذلك فصاحب الكتاب هو الخاتم الخليفة وهو العبدُ الذي أنزل الله عليه الكتاب، وكان إمام الواحدية والأحدية، الألف وخليفة النقطة المصمتة. وكان صاحب القرآن والذي أنزل الله عليه القرآن هو النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم، وكلّها اصطلاحاتٌ جاءت بدلالاتها وأسرارِها. كان المتخصّص بالقرآن الجامع القاسم هو صلوات الله وسلامه عليه، فهو الخليفة الأعظم. ولمّا كانت العوالمُ مشهد ومجلى الأسماء الإلهية، ومرآةُ صفاتِها، وكان الإنسانُ خليفةً اختارته العناية الأزلية، تجلّى كما ذكرنا سابقا وظهر الأنبياء عليهم السلام والأولياء المحمّديون ليعبّروا عن هذه الأسماء، وهذه الصفات الإلهية، فتخصّص كلّ بإسم وصفة، وظهرَ الخلفاء عبر المسيرة البشرية. وهم في الحقيقة خلفاءٌ على صورة الألف وصورة الباء، تحقّقوا بذلك وصحّت لهم الصورتين، فالصورة العلوية في جمعيتها واحدة، إذ ما ثمّ إلاّ هو سبحانه، فافهم. ولكن اختلفَ الخلفاءُ في مظاهر آثارِهم ووجودِهم الدنيويّ والحياتيّ، فهناك كلّ لما خلِقَ له، ولما هو ميسّرله، حسب طبيعة الصفة والإسم التي اختصّه الله به، من كونه مظهر تلك الصفة، أمّا التحقّق العلويّ فهناك تفاوتٌ وكاملٌ وأكملٌ، بحسبِ كذلك مقامِ الإسمِ الإلهيّ وشموله وإحاطته ورتبته. وإلاّ فالله تعالى يقول سبحانه : {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ..} 110 الإسراء. ومن هنا كانت الأكوان مجلى هذه الأسماء وهيمنتها ورتبها. وكان اسمُ الرّحمن هو المستوي على عرش الأكوان. كما شرحنا إذ له مقامُ الصفات التي منه ظهرتْ الأكوانُ والآثارُ، وكما هي صورة الباء التي رسمناها على هيئة الإكس والساعة الرملية، دالّة على استواء اسمِ الرّحمن على عرش المخلوقات، إذ هو واسطة تجلّيها. بينما كان اسمُ الله تعالى دالاًّ على القدمِ، ودالاًّ على نقطة الكنه والعماء، التي هي مصدرُ كلّ شيءِ، فالحروف كلّها باختلافها والكلمات بتنوّعها ولا نهاياتها صدوراً، رسمُها عند تجريدها هو ألفٌ، فهو خلفيتُها. وكذلك مرجعها الى النّقطة كما سبق أن ذكرنا، ومن هنا كان الألِفُ الخليفة الذي خلفَ النّقطة، وقامَ به العالم، كما قامت به الحروف والسّطور، فهو خليفة النّقطة في عالم الظهور والحروف والكلمات، فالنّقطة معبّرة عن دواة الحبر، بلا نهاية، مصمتة كنزية لا انتهاء لإمدادتها، ومعانيها وتجليّاتِها وكلماتِها، والألِفُ هو مِدادُ الحبرِ، والقلمُ الكاتِبُ، الذي خطّ كلّ شيءٍ.

ولذلك في الرّسم الذي وضعناه، ترى أنّ الألف كان قائماً للدّلالة على استقلاله وقيّوميّته وصمديّته، ثمّ انشقّ منه حرفُ الباء نائماً، للدّلالة على الظلّية لحرف الألف؛ ثمّ ارتفع خطّ الباء الذي هو ظلّ الألف إلى أعلى، وبقيت النّقطة تحت، وحدث الإسقاطُ للألف الأعلى ألفٌ آخر تحت النّقطة أعطى عالم الأكوان والخلْق. فذلك هو حرفُ الباء الذي توسّط في ظهور العالم والخلْق كما ترى من رسمِ الباء. ثمّ عُدنا إلى رسمِ ألفِ نائمٍ أو ألفين متّحدين متقاربين على المستوى الأفقيّ للنّقطة، ليُعبّرَ عن اندماج الألفين، الأعلى والأسفل، الصّفاتي والمرآتي، فصارا ألفاً واحداً، هو ذاتُ الألف الأوّل، المعبّر عن شهود الحقّ والخلْق من مقام الجبروت، وبالصورة الألفية والخلافة الإلهية ومقام الولاية الكبرى. وهناك تنعدِمُ في نظرِ الوليّ الموجودات والكائنات، ولا يشهد فيها إلاّ الله سبحانه، ولا يرى إلاّ هو، وهو مقامُ بقاء البقاء، وآخر التحقّقات، ومقام ختم الولاية. فتأمّل في سرّ رسمِ حرف الباء وما يحويه. والله أعلى أعلم.

ثمّ إنّك هنا تشهدُ رتبة هذا الخليفة الختم المجذوب، في اجتماع الخطّين فيه الوهميّ والأصليّ، فجمع الأضداد، وتمايزَ فيه السّفلُ والعلوّ، بحكمِ وجوده في عالمِ الأكوان، وتحت التركيب العنصريّ، فأعطى وجوده اجتماع الأضداد، كما هو الأصلُ الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ ولكن في العماء والقدم ما تمايز العلوّ عن السّفل، فما ثمّ إلاّ هو، ولمّا خرج إلى الوجود والظهور في الدّنيا، شابه الأصل الذي هو أصلُه، ورتبتُه، حتّى إذا انسلخ من الوهمية والتركيب العنصريّ، تطهّر من الأكوان، وختمَ الدّنيا، بارتفاع خطّها الوهميّ عن السّفل، وعودته إلى أصله حيث تجلّي الإسم الأعظم. فهو لم يخرجْ من رتبة الألف، مختلفاً عن غيره. والله أعلى وأعلم.

الجمعة، 2 سبتمبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 87



آخر الزّمان! أحداثُ آخر الزّمان التي تجيءُ معها علامات الساعة المختلفة والتي نشهدُ بعضها في زماننا هي في الحقيقة انعكاسٌ لحقائق الطريق، هي انعكاسٌ لسيرة الخليفة المجذوب، وإنّما تجلّتْ علناً وظاهراً وعاشها النّاسُ جميعاً وإن لم يشعروا بحقيقتها أنّها حقائق الخليفة والخاتم، قلتُ إنّما تجلّت وظهرتْ بوجودِه وسيرته في سلوك الطريق.

قال العارف بالله عبد الرزاق القاشاني رضي الله عنه في تفسيره "تأويلات القرآن"  :

 " (أتى أمر الله) لما كان عليه الصلاة والسلام من أهل القيامة الكبرى يشاهدها ويشاهد أحوالها في عين الجمع، كما قال عليه الصلاة والسلام : ' بعثت أنا والساعة كهاتين '. أخبر عن شهوده بقوله تعالى  : (أتى أمر الله) ولما كان ظهورها على التفصيل بحيث تظهر لكل أحد لا يكون إلا بوجود المهدي عليه السلام)". انتهى.


فذكرَ أنّ ظهور تفاصيل الساعة وعلاماتها تكون في زمن المهدي عليه السلام. إذ هو المعنيّ باسم أمر الله، فهو أمرُ الله، وأمرُ الله هو الرّوح الأعظم. ولذلك سمّي المهدي من قِبَلِ آل البيت عليهم السلام بالقائم بأمر الله. وهذا لعلمهم بمن يكونُ. فهو صاحبُ الأمرِ والقائمُ بأمرِ الله أي هو عينُ الرّوح الأعظم في المظهر البشريّ. وإن خفيَ مقامُ المهدي عن الكثيرين. أو غابَ حتّى عن الكثير من المنتسبين للصوفية مقامُ المهدي، وكونه القائم بأمر الله أي الرّوح الأعظم والخليفة الأوّل والإمام الأعلى. ولذلك كان قدومُهُ ووجودُهُ علامة على الساعة والخروج من الدنيا والأكوان، وطهارتها من شرّها ودجّالها ونزول روح الله عليه السلام خاتماً لها، ولهذا رفع المسيح لينزل في آخر الزمان. فكلّ ذلك نتيجة قدوم الخاتم والخليفة المهدي. 


فكانت تلك العلامات الكبرى والفارقة والأهوالُ الواقعة في آخر الزمان من نتيجة قدومِ هذا الخليفة، وانعكاسِ سيرته مجذوباً، وتجلّي الحقائق التي سلكها السّالكون الأكابر، في الظاهر والعلن كأنموذج ليُشاهدها الجميع، ويعاينها المعاصرون لها. وتجلّي الملاحم التي يعيشُها أهلُ الطريق في سيرهم إلى الله تعالى ليخرجوا عن أكوانهم ويتطهّروا من نفوسهم. ولكن باختلافٍ  إذ لا تطابق في السيّر والسّلوك، فلكلّ سلوكه الخاصّ، وإن كانت نفس المحطّات والمراحل الرئيسة، وكذا فإنّ أشدّ هذه الملاحم وأعتاها هي ملاحم آخر الزّمان، ملاحمُ الختم الخليفة، لأنّه ختمُ الولاية، فكانت سيرتُهُ شاملة عامّة، والبلاءُ شديد، والغربةُ عظيمة، لعظم الوراثة وكليّتها. إذ كان طرفُ شرّ هذه الملاحم الدجّال وإبليس وطرفُ خيرِها الرّوح الأعظم أمرُ الله. والمجذوبُ وهو في تركيبه العنصري وقبل انسلاخه من مظاهر بشريّته، تتجسّدُ في سيرة سلوكه هذه الملاحم الكبرى باطنياً، وتنعكِسُ على الواقع ظاهراً. بل يكونُ لها تجليّانِ ظاهرانِ، أوّلهما قلاقلُ الساعة وقربِ زوالِ المعمعة الكبرى للبشرية وحضارتها التكنولوجية وهيلمان العسكرة والتطوّر الظاهريّ والعلم الماديّ، والعولمة الشريرة التي تهيمنُ على العالم، كما هو الشأنُ اليوم، فهذا مظهرٌ، ولها تجلّ ثانٍ ويكونُ بظهور القائم بأمر الله المهدي خليفة عادلا يملأُ الأرض عدلا وما يليه في خلافته إلى نزول سيدنا المسيح عليه السلام. فهناك تجليّانِ. وهذا الانعكاسُ يتجلّى، لقطبية هذا الوليّ بالأصالة، ونعني بقطبيته الأصيلة، أنّه قطبٌ بالأصالة حتّى قبل أن يحقّق شرائط القطبية، ووليّ بالأصالة حتى قبل أن يُحقّق شرائط الولاية التي يُحققها غيره من التخلّق بأخلاق الوليّ الحميد سبحانه، فكان هو وليّ بالأصالة بميلاده، ووجوده. ولايته تظهرُ على الأشياء، ويكونُ قطباً بلا اختياره، كونُه الخليفة التي رجعتْ إليه جميعُ الأشياء والأكوان والأشباح. فإليه مرجعها. ولذلك تجلّت تلك الملاحم والصّراعات في آخر الزمان، فهناك وليّ لم يتحقّق بعدُ بمقام الانسلاخ عن البشريّة ومظاهرها، ولم يخرج من قرية الطّبع ولم يخرج بعدُ عن الأكوان، وهناك طبعٌ وبشريّة ونفسٌ تنازعُه وتقاومُه تسعى أن تحولَ دون خروجه عنها وانسلاخه منها، فيحدثُ الصّراعُ الأكبر

وما الدجّالُ عليه خزي الله ولعنته، بتلك القدرة والخوارق التي يتعجّبُ لها من يتعجّب، كيف ملك تلك الخوارق والقدرة والتعمير ؟ ما كان ظهوره وتجليّه سوى تعبيرٍ عن بشريّة الخاتم وعقله التّرابيّ وقرينه النّفسيّ. الذي يظهرُ ليدافعَ عن وجودِه، ويقاومَ فناءَه، لأنّ الطريق من حقائقها أنّها تطلبُ الفناء عن النّفس، في الله سبحانه، في النبي صلّى الله عليه وسلّم ثمّ في الله سبحانه. فالنّفسُ هنا تُقاومُ بكلّ ما تستطيعه لتمنع هذا الفناء، لأنّه يعني فناءها هي. فالفناء هو الخروج من هذا الحيّز الجزئي والكيان البشريّ المحدود المحصور، إلى الإطلاق وشهود الواحد الأحد سبحانه، وموتِ هذه النّفس وزوالها وتلاشيها. فيحصُلُ الصّراع.

ولذلك كان قرينُ المجذوب (الخاتم) هو القرينُ الكلّي للأرض والنّاس، وهو الدجّالُ الذي ظهر منذ عهد سيّدنا موسى عليه السلام، السّامريّ عليه خزي الله الذي وعده الله بموعد لن يُخلفَه، كما اقتضت ذلك الحقائق. ومثّل الشرّ كما مثّلت النّفسُ الشرّ والطبّاع الدونية والأرضية والهوى وكلّ دون وسوء، عكس الرّوح. ومثّل العقل التّرابيّ للمجذوب، والعقل الترابي الأعلى الذي يقِفُ في الإنسان حائلاً دون أمدادِ الرّوح، والمعنى أنّ وظيفته هي تحويلُ أمداد الرّوح إلى موادّ، وإمدادات ماديّة في الجسم. ويتحكّمُ في الوظائف الجسمية وهو المسمّى بالعقل اللاّواعي والعقل الباطن وله قدرة عالية جدا تفوق العقل الواعيّ ملايين المرّات سرعة في معالجة العمليات. فتنعكِسُ هذه الأوهامُ النّفسية في المجذوب، وسلوكه وطريق تحرّره وفنائه، إلى تلك الملاحم والعلامات الكبرى للساعة.

هكذا، إيذاناً بظهورِ الخليفة الذاتيّ والمالك الأصليّ والوليّ الخاتم الذي يُقابلُه هذا الوجود، فلمّا ظهرَ، ظهرَ ما كان يلوّحُ له العارفون بالله، ويتكلّمُ عنه الساداتُ الصوفية، وما قاله الإمام الغالب باب مدينة العلم سيدنا علي كرّم الله وجهه :
دواؤك فيك وما تشعرُ ... وداؤك منك وما تُبصرُ
وتحسب أنّك جرم صغير ...  وفيك انطوى العالم الأكبرُ
وأنت الكتاب المبين الذي ...  بأحرفه يظهر المُضمَرُ

فيظهرُ الإنسانُ الكبيرُ بالأصالة، الذي إليه يرجعُ العالَم، القطبُ الأصليّ، نقطة دائرة الوجود، كما للدائرة نقطة محور تدورُ وتقومُ عليها الدائرة، كذلك يكونُ هذا الخليفة هو تلك النقطة المحورية لدائرة الوجود، به يقومُ العالَم. وهو الخليفة الذي قال الله فيه : "إنّي جاعلٌ في الأرضِ خليفةَ". أرضُ التجليّات الحقيّة والخلقية، فهو خليفتُها، وواسطتُها من مادّة الحياة، وعنصر الحياة، ومن العماء.

الخليفة الأوّل ومن هذا الخليفة ظهرَ بقيّة الخلفاء، فهم خلفاؤه. إذ هو الرّوح المطهّرُ، الذي تشفّعَ من الوحدة، قوسين : قوسُ الأسماء الإلهية وقوسُ آثارِها.

وهو المسمّى بالإسم الأعظم، هو عينُ الإسمِ الأعظم. في حقيقته، وإنّما تجلّى الإسمُ الأعظمُ مظهراَ ذاتياً في هذا الخليفة، فسمّي الخليفة، وسمّي الخاتم، خاتم الولاية من كونِ معنى الخاتم أو الختم أي الذي ختمَ المقام والمعنى بما لا يكونُ فوقه ولا مزيدَ عنه، وختم الولاية، أي الوليّ الخاتم الذي له ولاية الإسم الأعظم، أي الوليّ المتصرّف في الأسماء الإلهية، فهو قطبُ التصريف وهو إمامُ العوالم. وسمّيَ المهدي، دلالةً على كونِه العبد المجذوب الذي يُهدى بسرّه المكنون فيه، إلى سرّه الذاتيّ ومقامه، ويُعطي جميع الحضرات حقّها، دلالةً على كونِه حامل سرّها. حتى يتحقّق بالختمية والولاية العليا، ويتطهّر من الأكوان.

وكانت لغتهُ مختلفةً، كما قال الشيخ عبد الكريم الجيلي قدس الله سره لغة هذا الفتى العربي الأعجمي غير لغة الخلْق، ومحلّه غير محلّهم، وإن بدتْ عليه الأضداد، وتجلّتْ عليه آثارُ الأسماء المختلفة وهو في جذبه وتركيبه العنصريّ، فيجمعُ بين الضّعف والقوّة، الضّعف من حيث بشريّته وقيده في الأكوان وهيكله، والقوّة من حيث مرتبته وقطبيّته الحاكمة على كلّ شيءٍ، والجمال والجلال، والعلم والجهل، والشهود واللاّشهود؛ وكما وصفه الشيخ الأكبر في الفصوص أنّه يجمعُ بين تلك المواصفات المتضّادة ليُعبّرَ عن الأصل الجامع، وليس هو غير هذا الأصل الجامع. وإنّما لم نضع تلك النّقول هنا لأنّنا سبق أن وضعناها في مواطن سابقة وعديدة. وأنّك ترى وتقرأُ أنّ هؤلاء الأكابر عيّنوهُ وأشاروا إليه، في مواضع متفرّقة كثيرة، لا يخطئُها متتبّعٌ وفاهم وعارف. وأنّهُ عنقاءُ مغرب الأسطورية، التي هي من جملة ما يُعرفُ إسمُها ولا يوجدُ رسمُها ووجودها الحقيقيّ، إذ مرتبتُه فوق المراتب، ومنزلته وراء العقول، حتّى الإفصاح عنها كما نحنُ نبيّنها في مقالاتِنا يجعلها ضرباً من الأوهامِ والمزاعمِ.

وقد قالوا إثنان ليس لهما وجود، إلاّ في الأساطير : الغول والعنقاء. وآخرُ الزّمان، يظهرُ فيه هذان الإثنان حقيقةً وواقعاً : الغولُ وهو الدّجال، والعنقاء وهو الخاتم.

وكان من آل البيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، دلالةً على عظم مكانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند ربّه، وكونِه الواسطة والحجاب الأعظم على الله سبحانه، فما خرج الوليّ الخاتم إلاّ من ذريّته، كما ما تعرّفَ المتعرّفون إلى الله سبحانه إلاّ بواسطة هذا النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلّم. وإنّما يتطهّرُ المهدي من بشريّته وتركيبه العنصريّ، فيخرجُ إنساناً مختلفاً في صورة أحسن وأعظم وأكمل، ويصلحه الله في ليلة كما جاء في الحديث الصحيح. أي ينتقلُ من ثنائية التركيب العنصريّ والروّحيّ، إلى أصالته وكونه الرّوح والإمام المبين. بل هو خلاصةُ آل البيتِ وسلطانهم وعليه تنطبِقُ الآية الكريمة في معنى التطهير الأتمّ والأكمل، آية التطهير : ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً. [الأَحْزَاب:33]. ولذلك سمّي الرّوح المطهّر، والرّجل المطهّر عن الأكوان أي مظهرُ الحقّ سبحانه عزّ وجلّ. إمامُ الأئمّة الأعلى. وقطب رحى الوجود، ونقطة دائرته. 

فإذا تحقّق بالطهارة والختمية والكمال والإصلاح، يبعثه الله قائدا وإماماً عادلاً ومجاهداً يصلحُ به الأرضَ ويبيدُ الظالمين ويقيمُ العدل، ويتصدّى للدجّالِ حتّى ينزل روح الله لقتلِ الدجّال، وبين سيدنا عيسى والدجال علاقة عكسية، كما قال بعض العارفين : أحدهما مقلوبُ الآخر، فذلك يمثّل روح القدس التي تُقدِّس، والآخر يمثّلُ الطبع الدونيّ والنّفسي المنتكس، ولذلك جاء في الحديث أنّه ما يُقابل المسيح روح الله حتّى يذوب كما يذوبُ الملح في الماء، ولكنّ المسيح عليه السلام يقتله ليطمئنَ المسلمين بقتله وزواله لشدّة ما أفسد وعربد هذا الدجّال.

وهنا ثلاثية : فالملاحمُ تحدثُ في عرش المهدي المجذوب، قبل أن يتقدّس، بوجود نفسه ووجوده في التركيب العنصريّ ومقتضياتِ البشريّة،  فيعطي ذلك وجود النّفس والطبع البشريّ والعقل الترابيّ المتراكم عليه سلطان الوهم وهو المتجسّدُ والمسمّى بالدجّال وسامريّ النّفس، ويُعطي كذلك القلب : قلب المهدي المجذوب، وهو القلبُ الذي وسعَ سرّ الروح القدسيّ، والذات الساّذج، فمثّل الإمام الأعظم الخاتم أي المهدي عند كماله وختميته، ويعطي كذلك : نزول الرّوح عليه التي بها يخرجُ من تركيبه العنصريّ ويتقدّس، ويتخلّصُ من وهمه ونفسه وعقله الترابيّ ومن قيده وسجنه، إلى إطلاقه وحريّته وسعة الله سبحانه، ويمّثلُ نزول الرّوح، نزول سيدنا عيسى عليه السلام المسمّى روح الله. ومن هنا تفهمُ سرّ بقاء سيدنا عيسى عليه السلام في السماء لينزلَ في آخر الزمان، وفي زمن المهدي عليه السلام، ولقتل الدجّال، أي ليقدّس المهديّ من الوهم والنّفس والدجال والعقل الترابيّ المتسلّط.

فهذه حقائق عن الخاتم وآخر الزّمان وسببُ تلك العلامات التي تكونُ على الساعة ...

وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما.




الجمعة، 12 أغسطس 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 86

 
وإنّ ممّا يُدهِشُ ويتوقّفُ العقلُ عنده وقوفاً طويلاً بين الحيرة والتأمّل، خلقة هذا الإنسان.
وماذا جعل الله له من تشريفٍ لا يُدانيه تشريفٌ، ولا يخطُرُ على بالِ العباد والعبيد.
وإنّما كلامنا عن الإنسان، من كونه خليفة الديّان سبحانه.
وحجبَ الله حقيقة الخلافة، وحقيقة الإنسان، حتّى ظهرت على ألسنة الخواص وبعض أشياعهم. على أنّ أهل التحقيق، يغارون على الحقيقة غيرة كبرى.
ولكنّ ضرورة السّلوك وغربة الطريق في الأزمنة المتأخّرة، أوجبَ أو أطلقَ ألسنة بعض المحقّقين بذكر بعض الحقائق والأسرار، بالإشارات والتلميحات، تثبيتاً وتوجيهاً وتقريباً للسّالكين والعارفين. ثمّ التوسّع والخلاف الذي نال العقول وأصحاب المذاهب، أشاع الحقائق والأسرار، ولكن لا على سبيل التحقيق والوضوح، بل على سبيل متناقضة بين المدح والقبول، والذمّ والترذيل؛ وكذا فالذمّ نشأ من سوء الفهم والتصوّر، وإلصاق معارف الذوق والسّلوك بمنطق الفلاسفة وأصحاب العقول القاصرة، فأعطى تقارب الاصطلاحات وتشابهها ذمّاً وسوء تأويلٍ وسوء فهمٍ، لما هو عصيٌّ عن الإدراك العقليّ بدون خلفيات ذوقية وسلوكية ومقاربات إيمانية تفضي إلى التسليم السّليم من العلل والشّبه التي تداولها النّاقدون بلا ذوق ولا علم ولا فهم.

فعوداً لهذه الخلافة الإنسانية التي تَرجَمتْ عن الله سبحانه، وتوسّطتْ بين سائر الكائنات والمكوّن سبحانه. فهي تَشِي بتنزيهٍ عظيمٍ للخلاّق سبحانه في عُلاه، لا تُدركُهُ العقولُ، ولا تطالُه النّقول، احتجبَ فما ظهر إلاّ بتجلّيات أسمائه وصفاته في العالم والكون. وكان الخليفة الإنسان واسطة التجلّي، ووصلة الكون بالمكوّن.

وإنّ الدّهشة المشار إليها جاءتْ في ثنائية هذا الخليفة الذي حملَ سرّ الله سبحانه، وكان واسطة عقد التجلّي وحامل سرّ العماء والكنه المتعالي عن الإدراك لذاته لسبحانه، فهذا الخليفة، أعطى الوسع الإلهي في التجليّات جميعها، وحمل هذا الوسع اتّصافاً، لمّا كان الحقّ سبحانه في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء، فما تميّزت الأشياء عن بعضها في العماء بسفل وعلوّ، فنسبتها واحدة لهذا العماء الذي هو أصلُ الوجود وأصلُ كلّ شيءٍ. فلمّا انعكستْ وظهرتْ الأشياء والأعيان وتمايزتْ في عالم الظهور والأكوان، وأخذت رتبها ومدلولاتها ونسبها وتفاصيلها، كانَ حامل هذا الوسع المتكثّر المتضادّ المتناسق المتوحّد، هو الخليفة.

فجمعَ بين المتناقضات والأضداد : قوّة وضعف، علم وجهل، جمال وجلال، قدرة وعجز، ..الخ. من تلك الثنائيات. وأعطت ثنائياته هذه، عالمين، وحقيقتين، حقيقة حقيّة، وحقيقة خلقية. حينما تؤول الصّفاتُ إلى كمالها وإطلاقها فهي حقيّة لا نقص فيها وخلل ولا عوج. وحينما تؤول الى النسبية والنّقص فهي خلقية. فكان هذا الإنسان برزخٌ وواسطة كما ذكرنا بين الحقّ سبحانه وبين الخلق. بين الله وبين العالم والكون.

وركّب الله سبحانه الإنسان، بهذه الثنائية: روح وجسم فالرّوح الأوّل وهي نفخة الرّوح الإلهيّ فيه هي الرّوح العارفة المتّصفة بالكمال وعالم الأسماء، والجسم وروحه الجزئيّ النّاقص هو المسمّى اصطلاحاً بالنّفس باعتبار عدم كمالها وتقديسها إلى درجة الرّوح، فكانت النّفس معجونةً بجميع الطّباع الأرضية والدونية والنّّاقصة التي تشدّها إلى طبيعتها الترابية التي منها خلقت، وإلى عالمها الكونيّ الهيكليّ المتكثّر بالتمايز الأثريّ، المطبوع بعالم الطبّع، الذي صدرَ أثراً وتجلياً لعالم الأسماء الحسنى الإلهية.

هنا الدّهشةُ، لا في مطلقِ الإنسان بأعداده الكثيرة، بل بخليفته الأوّل الأصليّ المقصود بقوله تعالى {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}، حامل السرّ والعهد، فمقتضى ظهور هذا الخليفة الأوّل في الأرض يقضي بحمل هذه الثنائية، لأنّه الخليفة المطلق، ولأنّه سرّ الخلفاء جميعاً، سواء كانوا خلفاء من أهل الكمال والـتحقيق، أو كانوا مطلق النّاس من عهد سيدنا آدم عليه السلام إلى آخر الزمان. فظهرَ هذا الخليفة الإنسان، معجونٌ بالأضداد والألوان، معجونٌ بسائر الطّباع والأكوان، بل يولدُ على الفطرة النقيّة، ولمّا كان صاحب لطيفة ذاتية ساذجة غاية السّذاجة، فقد خرجَ ليتطبّعَ بما في العالم، ويحملَ على عاتقه جملة الأكوان، ويتشرّبَ كلّ الألوان، بعملية مركزية فيه، لأنّ جميع العالم ينتمي إليه، ويرجعُ إليه، فتنحى إليه مركزية الشرّ والطّبع في العالم لأنّ قيامها به، ووعيَهَا يعي ذلك تماماً، فتنزِعُ إليه لتحاصرَهُ عن الرّجوعِ إلى حقيقته التي منها خُلِق وإليها يرجع، وهو صاحبُ حقيقة ذاتية ساذجة غير متعلّقةً بالأكوان والطّباع، لأنّه واسطتها في الظهور، وحامل سرّها من عالم العماء، وكذا في نقطة وعيٍ ما من عمره، يؤوبُ بصفةٍ فطرية إلى البحث عن حقيقته الأولى، فيطلبُ مركزية الخير والنّور بلقاء المشايخ أهل السرّ والخلافة، وهناك عند ذلك المفترق، في طريقِ رجوعه إلى الحقيقة التي إليها انتماؤه، ومنها مبدؤه، تتصادمُ الثنائيةُ والحقيقتان فيه. حقيقة النّفس المتقويّة بالطّباع والأكوان، وحقيقة القلبِ النّازعة إلى الرّوح العارفة بالله تعالى والقائم بها عالم الأسماء والصفات. ولمّا كان هو الخليفة الأوّل فقد كانت النّفسُ متقويّةً بمركزية الشرّ والطّبع في العالم والأرض متمثّلةً في أقصى حاملي هذا العنوان والطرف، وكانت الرّوحُ هي روحُه، وكان أصلُهُ الرّوح الأعظم بذاته الذي انبثقت منه العوالم جميعها، كما ذكرنا من عالم العماء. إذ هو الخليفة. ولكن هنا نحنُ نتحدّثُ عن الخليفة قبل رجوعه إلى حقيقته الأولى من كونه روحاً خالصاً، فوجوده في قالب التركيب العنصري والطبعيّ جعله يمثّل الصّراع بين هذه الثنائية، وهاتين الحقيقتين، حقيقته كونِه ذاتاً ساذجاً، جميعُ الأشياء بأضدادِها وأطرافها ترجعُ إليه، ولديه معرّفها، وتشهدُ له في عالم الحقائق بالولاية، وحقيقة نفسِه كما ذكرنا النّازعة الى كينونتها الأرضية والطبعية والعنصرية المخلدة إلى الدّون والسّفل، المعاكسة للرّوح والصفاء والعلوّ.

فيه اختصرَ الله جميع الصّراعات، وجميع التجليّات، وجميع الحقائق، وإليه يرجِعُ كلّ شيء، وبه تظهَرُ مفارقات آخر الزّمان، وشدّاتُه وأهوالُه، وصراعاتُه، ويتجلّى ذلك الشرُّ العارمُ العظيمُ، الذي تتفاجأُ به البشريةُ، شيطنة إنسية وجنية مجتمعةً من أجل هيمنة شرّيرة كافرة شيطانية. وكلُّ ذلك يتجسّدُ مع طريق رجوع هذا الخليفة إلى أصله وحقيقته، وإلى الانسلاخ من التركيب العنصريّ والطبعيّ، لأنّهُ يبدأ رجوعه فرداً، ممثّلاً لقلبه الرّاجع السّالك، فإذا سرى في سلوكه وعرج معارج السّالكين، واجهته تلك المركزية التي ذكرناها، وهي تعيّ تمام الوعي والإدراك أنّهُ رجلُ الساعة ورجلُ الخلافة، لأنّها ليست سوى أصداءِ ذاته الطبعية والعنصرية، وأصداءِ نفسه المتشبّثة بالطّبع والأكوان، وأصداءِ عقله التّرابيّ المتراكمِ فيه سلطانُ الوهم. وهو الخليفة الذي منه تفرّعتِ جميع النّاس بقوالبهم وحقائقهم المختلفة. سواء كانوا أنبياء وأولياء أو كانوا عتاة جبابرة أشقياء، أو كانوا عظماء وحكماء أو بسطاء وكلّ النّماذج منه ظهرتْ، فهو أوّل موجودٍ. هو الرّوح الأعظم. هو المسمّى بالحقّ المخلوق به. وهو ليس سوى مظهر الحقّ سبحانه.

وهنا الدّهشةُ التي أشرنا إليها، فهذا سرّهُ فاق كلّ سرّ، ومع ذلك ثوبُه الإنسانيّ، لم يجعله سوى في هذه الثنائية، التي أجرَتْ عليه جميع السّنن الكونية والأرضية، ويُبتلى بلاءً عظيماً، حتّى يتحقّق فيه معنى العبودية الأجلى الأكمل، ولا يدخلُ باب الله سبحانه إلاّ من باب الاضطرار الأعظم، وبابِ العبودية، فهناك يجيئه مددُ الرّوح. ليتطهّرَ من تركيبه العنصريّ الطبعيّ، ويصيرَ الخليفة الرّوح المطهّر عن الأكوان، الإمام الأعلى المظهر الإنسانيّ للحقّ سبحانه وتعالى.

إليه ترجِعُ الخلافة والولاية والإمامة والسيادة بالأصالة ، وغيرُهُ فيها كلابس ثوبي زور. الزائلُ بختمه عن رتبته، صاحب الرّتبة الشريفة كما نعته الشيخ الأكبر.

كلّ الدّهشة في هذه الخلافة الإنسانية، وكيف أنّ أقرب المقرّبين، المطهّرُ عن الأكوان، الذي إذا كمل وتمّ يقالُ له السيّدُ الصمدُ، ما نالَ مقامه ورتبته إلاّ بالضعف الأكبر والعجز التامّ والابتلاء والاضطرار ومسيرة كبرى من الجهاد.

والله سبحانه وتعالى مقدّس منزّه في عليائه، لا تطالُه الإدراكاتُ والعقولُ والأوهامُ والخيالات.


الجمعة، 5 أغسطس 2016

حقائق العباد واختياراتهم القائمة بهم في تأكيد حقائقهم ..



الإنسان سرّ عظيمٌ. والاختيارُ فيه يتبعُ سرّه الذي وُجِِدَ فيه في الأزل. والأسرارُ متفاوتة في مداليلِها، بين سرّ أوليٍّ به يرجِعُ العبدُ إلى مولاهُ في منتهى الرحلّة الوجودية الجزئية الخاصّة بذلك العبد، فقد سبقَتِ الرّحمة على الخلْق، كما شهدَ الله للعباد جميعهم شقيّهم وسعيدهم بقولهم بلى، شهوداً لربوبية الله تعالى وألوهيته ووحدانيته، فهذا سرّ سابقٌ لا شكّ في الرّجوعِ إليه عند المنتهى.

ولكن هناكَ سرّ وجوديّ جزئيّ ثانٍ عليه قامت الحياة الدّنيا والأخرى كذلك، وهو الذي ترجِعُ إليه حقائق العباد، في تفاوتهم للاستجابة للعهد الإلهيّ القديم، وعليه في تفرّقهم بين شقيّ وسعيد، وكذا درجاتِهم في السعادة والشقاء. وهذا السرّ الأخير هو الذي قصدناه عند ذكرِ الاختيار.


وعليه، لكي يسبِقَ العبدُ إلى تأكيدِ انتمائه، وتحقيق انتسابه، فعليه أن يشهدَ من نفسه سعياً لفيضِ دواعي الاستجابة لعهد الله تعالى. خصوصاً وأنّ الله قد عرّفه هذه الحقائق، وجعله من أمّة خير الأنبياء والمرسلين وسيّد الأوّلين والآخرين عليه وعليهم الصلاة والسلام. فتلك منّة أخرى سبقتْ عليه من الله تعالى ليس له فيها اختيار، فليجمع المنّة السابقة عليه مع الاختيار اللاّحق بمحبّة أهل الله الصادقين الورثة المرشدين الذين ورثوا نور النبوّة، وأقامهم الله خلفاءً له في الأرض، وجعل قلوبهم محطّ نظره العظيم، فإذا نظروا إلى عبدٍ نظرة رضا وحبور، استوجبَ من الله الرّضا والحبور، فقد وعدهم الله بذلك وأنالهم تلك العطيّة والمزيّة لا خلفَ فيها ولا تبديل، عطيّة المحبّة والكرامة العليا ومزية الخصوصية والقرب منه سبحانه، كما جاء في الحديث القدسي الصحيح : "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ،. ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه ". فهذا خطاب مقدّس بنصّ شريف وقدسيّ أنّهم بالله قاموا وإذا أرادوا أراد الله تعالى، وإذا نظروا نظر الله تعالى .. والله سبحانه إذا نظرَ إلى العبد نظرة الرّضا والقبول، وأصابتِ العبد نظرة العناية والعهد القديم، فقد تخصّصَ بقابليةٍ عزيزةٍ لا تشهدُ له إلاّ بالقابلية للنّور القديم والعناية الأزلية. ثمّ ليريِض هناك عند محبّة القوم، والتسليم لهم، والدخول في معيّتهم. فهُمُ القومُ لا يشقى بهم جليسهم، ولا يشقى محبّهم ومحبوبهم. 



إنّ العناية الأزلية ما قامَتْ إلاّ بالوسائط، ولكنّ قوماً يجهلونَ خاضوا بالجهل في نفيِ الوسائطِ فضلّوا وأضلّوا ضلالاً كبيراً. وحُرِمُوا وحَرَمُوا من مالَ إليهم وأخذ عنهم حرماناً عظيماً، وهم لا يشعرون. فقد تعرّفَ الله للنّاس بالأنبياء عليهم السلام، فكانوا وسيط النّاس الى الله سبحانه ودليل الناس اليه. ثمّ ختمت النبوّة بالرسالة المحمدية ونابَ عن الأنبياء عليهم السلام في الوساطة والدلالة الأولياء المحمديون الورثة، وبوساطة ثابتة كاملة غير منقوصة لأنّها كانت وراثة لخاتم الأنبياء والمرسلين وواسطة الخلق أجمعين إلى ربّهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فما زالَتِ السماءُ موصولةً بالأرضِ ما دامَ هؤلاء الورثة والأولياء الخلفاء موجودون، وبهم يصِلُ الله من يصِلُ، وبهم يرقّي الله من يُرقيّ، وبهم يغاثُ النّاسُ، وبهم يُستدلُّ على الله سبحانه، وهم خلفاؤه في أرضه وكونه. فمن وصلَهم فقد وصلَ الله سبحانه ورسوله صلى الله عليه وسلّم، ومن أحبّهم فقد أحبّ الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. لا مرية في ذلك ولا شكّ. فقد جعلهم في ذلك المقام، ولا تقومُ الساعة حتى يغيب هؤلاء الخلفاء ولا تجِدُ الأرض من يقول الله الله، تحقّقا بالاسم الأعظم وحاملا له وخليفة لله تعالى. 

الاثنين، 11 يوليو 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 85



الإنسان خليفة الله عزّ وجلّ، وحامل سرّه في الأرض ..

إنّ الدّنيا تجلّت وأعدّت للخلافة، حتّى نشأت جميع المخلوقات والكائنات واستوت الدّنيا للخلافة، كمملكة تنتظِرُ ملكاً عليها. فكانَ ملكُها، هو آخر مخلوقٍ في عالم الكثافة، الإنسان. وكذلك صاحبُ الشأنِ والخلافة يقضي أن يكونَ ختامها بمقتضى استيعابه لجميع ما كان وما مضى وما خُلِق، ليشمله ويكون مختصراً للعالم، ويكونَ أميرا وملكاً عليه. فجميعُ ما في العالم منطوٍ في الإنسان، فهو مختصرُ العالم. ولهذا صحّت له الخلافة دون غيره. ولهذا قابلتْ آخريتُهُ الكثيفة والمخلوقية، أوليّتَه الحقيّة والسرّية، وإبليسُ لمّا اعترضَ على آدم مخلوقيته من طينٍ، من كونه من نارٍ وآدم من طين، فاته هذا العلم وهذا الفهم العظيم، أنّ الخليفة يقتضي أن يشملَ جميع الرّتب من أعلاها إلى أدناها، ولهذا كانت مخلوقيته من الطين الذي هو آخر العناصر وأدناها وكان إبليس من نارٍ والنّارُ فوق رتبة الطين ـ فإبليس كانت خلقته مقيّدةً بذلك الفضل المقيّد، بينما كان آدمُ جامِعاً من حيث اشتملتْ خلقته على أدنى العناصر وآخرها، ليكون مختصرا وجامعا لما بين الطرفين بين آخرية العناصر والكثافة والظهور، وأولية السرّ والجمع والنّور. وهو المؤيّد والمفضّل بنفخة الروح الإلهية. وهي سرّ التشريف والتفضيل والخلافة.

فالخلافة خصّ بها هذا الإنسان، إذ خلقه الله تعالى على الصورة. "خلق الله آدم على صورته". وهي أي هذه الخلافة الإنسانية في الأرض لله تعالى رحلة تجلّي عالم الأسماء الإلهية وآثارها ومصنوعاتها وصورها وظلالها، حتّى يتجلّى إسمُها الجامع لها الأعظم "الله".
فتوازت رحلة التجلّي الأسمائي في الأرض بنضج الإنسان وتطوّره وتفتّحه. وكانت بدايات التجلّي خاصاً بالأنبياء عليهم السلام، حتى جاء خاتم النبّوّة فتجلّى معه الإسم الجامع الثاني بعد الإسم الجامع الأكبر "الله"، وهو إسم الرحمن. فالرّحمن رسول الإسم الجامع "الله". لأنّه مظهر آثار الإسم الجامع في الأكوان والعالم. فالله إسم جامع للأسماء وحدها وكلّها، أي هو الجمعية الأسمائية. والرّحمن إسم جامع للأسماء كلّها وصفاتها. أي مظهرُ صفاتها. فهو راحم لما خلق الله تعالى. راحم للأسماء من عليائها وتجريدها إلى إظهار صفاتها وآثارها في العالم والأرض. فكان برزخاً بين الإسم الذاتيّ الجامع "الله" وآثارِ أسمائه. برزخاً بين عالم الأسماء وصفاتها وآثارها في الأكوان. ولهذا كان سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم سيّد الوجود، وروح الوجود، لأنّه ما ظهرَ الوجودُ إلاّ به، بهذا الإسم الجامع الرّحمن، كما جاء في الآثار والأحاديث النبوية الشريفة أنّ الرّحمة سبقت كلّ شيء، وكما جاء في قوله تعالى
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْمًا..} غافر-7. وسعت رحمته سبحانه كلّ شيء، فانفلق كلّ شيءٍ بالرّحمة، باسم الرّحمن، الذي استوى على العرش، عرش المخلوقات. فاسمُ الرّحمن دالٌّ على الوجود في أعلى محاتدِه ورتبه، جامع لقوسي الحقيّة والخلقية، ومظهرُه هو سيّد الوجود صلوات الله وسلامه عليه، جامعٌ بين اللّطافة والكثافة في برزخيتها ونوريتها، فكان نوراً محضاً صلواتُ الله وسلامُه عليه، وكان مجلى الكمالات الإلهية، وحامل الصّفات العليّة، وترجمانُ القِدَمِ إلى الحدوث، ولهذا ما كان له ظلٌّ كما أثِرَ عنه صلى الله عليه وسلّم، كونُه نورٌ وبرزخٌ بين النّور والكثافة، وخصّ بالعروج بالجسم والرّوح، وليس ذلك لغيره، صلواتُ الله وسلامه عليه، فهو أفضلُ الخلقِ وأوّلُ الخلقِ، وهو مظهرُ الشفعية، التي شفعّت وترية دائرة الواحدية إلى قوسي الحقيّة والخلقية، فهو العبدُ المحضُ، الذي قابلَ بعبوديته تجليّات الربّوبية والألوهية، فكان أوّلَ العابدين، وأوّلَ العارفين، وكان القاسمَ لما أعطى الله تعالى كما جاء في الحديث الصحيح "وَاللَّهُ الْمُعْطِي، وَأَنَا الْقَاسِمُ" متفق عليه. فهو القاسمُ من بحرِ القِدَم، لكلّ خلْق الله تعالى، ولكلّ حادث، فهو أوّل مخلوقٍ ومن نوره خلِق كلّ شيء. فما تجلّى الله من كنزيته إلاّ باسم الرحمن، ولمّا  كان الإنسانُ خليفةً، كان خليفةُ هذا الإسم الجامع ومظهرَُه هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم عينُ الرّحمة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} (الأنبياء:107). فهو واسطةُ الظهور، وحجابُ الحقّ سبحانه. وليس من إنسانٍ في الدّنيا إلاّ وبابُه إلى الله تعالى من بابِ هذا النبيّ الأعظم، صلّى الله عليه وسلّم، كما كانت الأسماءُ مرحومةً متجليةً به، وظاهرةً آثارُها به، ولذلك خُصّ بالرّسالة الكبرى الجامعة، وخُصّ بالنبوّة الخاتمة، فهو صاحبُ مقامِ الإنباء، كما كان اسمُ الرّحمنِ منبئاً عن الأسماء، وواسطةً لها، وحجاباً جامعاً لها إلى إسم الله الأعظم، وراحماً لها منه بظهورِ آثارها في الوجود والأكوان.



ثمّ بعد ذلك، بعد بعثته صلّى الله عليه وسلّم بدأت تتجلّى الأسماء الذاتية في الأولياء المحمديين الورثة، كلّ خليفة وقته بحسب التدبير الإلهيّ والتدرّج المقضيّ بالتجلّي الإلهيّ. فكان الأقطاب والأغواث والخلفاء كلٌّ مظهرٌ لإسم ذاتيّ معيّن مخصوص بصفة ما بحسب الوقت والمناسبة، ومقتضى التجلّي في آزاله سبحانه. إلى أن يأتي آخر الزمان فيتجلّى الإسم الأعظم الجامع بذاته في صاحب الإسم الأعظم المكتوم وهو خاتم الخلفاء. الإمام المهديّ عليه السلام. ويختمُ الدّنيا. طبعاً ختامُ الدّنيا يكونُ بسيدنا المسيح عليه السلام، ولكنّ المسيح عليه السلام هو روح الله وهو نبيّ روح القدس، فهو مظهرُ التقديس وعلامة التقديس لما يكون عليه الإمام المهدي قبله. فيختم الوجود نبيّ روح القدس ليقدّس الأرض كعلامة على تجلّي الإسم الأعظم بأثره على الأرض. فجميع رحلة الإنسان وخلافته قامت لتجسيد هذا التجلّي الأسمائي الى ظهور ختام التجلّي بالإسم الأعظم الذي هو محصّلة الأسماء وجامعها وذاتها. وهو الخليفة والخاتم الذي يكونُ العبد الذاتيّ الغير ظلاليّ، وفيه تتجلّى الصراعات جميعها قبلَ كماله، صراعه مع النّفس. يتجلّى وينعكس على الأرض والواقع. فيكونُ منبعاً ومركزاً للوجود والحقيقة والواقع حقّا وتحقيقاً، وتلك علامته على كونه الخاتم والوليّ المحض، والرجل الذاتيّ، والخليفة المذكور في كتاب الله تعالى  {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً} (البقرة-30)، وصاحب الإسم الأعظم الذي به تجلّت الأسماء. فهو واسطتها وجامعها ومحصّلتُها ومنبعها. وعلى ذلك تُختمُ الدّنيا. ولا يعرفُ هذه الحقائق إلاّ الأمناء، ومن وقف متأمّلاً في زمان هذا الختم، قارئاً للحقائق، ليشهدَ مع الأمناء ختمية هذا العبد والخاتم، في زمان عظيم، تمورُ فيه الأهوالُ والفتن موراً، لأنّ تجلّي الوحدة الذاتية يقضي بسبق تجلّي إسم الله القهّار.

إنّما قلنا عن الخاتم أنّه واسطة الأسماء، نعني بذلك واسطتها من الذات، فهو مظهرُ الذات في كنزيتها، به تجلّت الأسماء من كنزيتها، فهو المتجلّي بالوترية الواحدية من بطنِ الأحدية ثمّ لمّا تشفّع بالظهورِ أخذ نسبةً أخرى وإسماً مختلفاً، دالاّ على الشفعية بين الحقيّة في جمعيتها الأسمائية والخلقية في ظهورِ آثار صفات الأسماء، وما ثمّ إلاّ هو سبحانه متجلّياً بأسمائه وصفاته، في حضراتِ وجوده المختلفة. وكان خليفة الله وخليفة هذا الهو هو الخليفة الإنسان الجامع، صاحب الإسم الجامع الله، الوليّ بالأصالة، خاتم الولاية وفلكها. وليّ الوحدة الأسمائية والمتصرّف فيها. المسمّى بالحقّ المخلوق به، الرّوح الأعظم، مرآة ذات الله تعالى. أوّل موجودِ وقطب الوجود، حمل سرّ المستخلف بذاته، فكان مظهرَه الذاتيّ، وكان الإنسان المتعالي عن بقيّة أفراد آدم في حقيقته وسرّه. الزّائلُ بختمه عن رتبته، خليفةٌ به ظهرتْ المراتبُ جميعها، من أعلاها إلى أدناها. فهو عينُها، عند ارتفاعِ الحجبِ والأوهام، وظهرَ في آخر الزمان مجذوباً، جامعاً للأضداد، بين إقبالٍ وإدبارٍ، كما وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العقل الأوّل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم (أول ما خلق الله العقل قال له : أقبل فأقبل . ثم قال له : أدبر فأدبر . ثم قال : وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا أكرم عليّ منك : بك آخذ وبك أعطي ; وبك أثيب وبك أعاقب)، فقال له الله أقبل ثمّ قال له أدبر. فهو بين إقبالٍ وإدبار، جامعاً للأضداد، كما تجلّتِ الذاتُ بالأضداد، وكلّ شيءٍ في الوجودِ منه سبحانه ولا يخرجُ شيء عن ملكوته، وهو ذو الجلال والإكرام. فثبتت لهذا الخليفة بهذه الأضداد، وهذه المركزية الوجودية في زمان وجوده، ختميته، وكونه نقطة مركز دائرة الوجود، وأصلُ التجلّي، ومحصّلةُ الأسماء، كلّ الصراعِ مختصرٌ فيه، في شخصه، بين أوهامه التي تسلّطتْ عليه ونفسُه وهواه، وبين توجّهه لربّه بقلبه، منعكساً ذلك الصّراعُ فيه على الأرضِ بكلّ الصراعات الكبرى، والأهوال والأحوال التي تغشى النّاس في ذلك الزمان العجيب، حتّى ينصلح حاله في ليلة  كما جاء في الآثار الصّحيحة، ويكمل بعد جذبه، فتنصلح معه الأكوان والعوالم، ويكون الرجل الذي يبيد الظالمين، ويعيدُ للأرض رشدها، ويقيمُ العدلَ العظيم، كما تجلّى بالعدلِ إسم الله الأعظم، فأعطى كلّ شيءٍ خلقه وهدى.   والله أعلى وأعلم.




الاثنين، 7 مارس 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 84





فقلنا من هنا حصّل الدجّال تلك القدرة الخارقة والدعوى الكبرى، التي لا يمكنُ معرفتُها إلاّ بعلمٍ من الله تعالى ومعرفة هذه الأسرار عن الخليفة، والنّاسُ لا يشهدون في الدجّال سوى رجلٍ قويّ خارقٍ شرّيرٍ مفسدٍ في الأرض يُهدّدهم ويدّعي عليهم دعاوى، ويسحرهم بسحره وعلمه الدّقيق الماديّ وسيطرته، وكشفه الظلامي، وقوّته الغير عادية، وتدجيله في المفاهيم تدجيلاً خبيثاً كبيراً، يُدلّس به الحقائق والمفاهيم والأخلاق، فيبهرهم ولذلك كان أعظم فتنةٍ في الوجود البشريّ. ويحصلُ للدجّال تلك الهيمنة والتمكّن في الأرض، والصولة والتحكّم أثناء فترة وجود هذا المجذوب، وفي فترة قطبيته خصوصا، وأكثر من ذلك في مرحلة عودة المجذوب من حال السكر والجذب إلى الصّحو، فهناك تقعُ الصولة الكبرى الأعظم، ويزدادُ وقعُ الظلم وفساد الدجّال وإبليس وأتباعهما. لأنّ السّالك بعد أن يحصلُ له الجذب، ففي جذبه، يكونُ ممتنعاً بجذبه عن صولة الشيطان عليه، وإن كان ليس بسالك فهو في جذب وسكر، ولكن بعد تمام الجذب، تبدأ رحلة السالك الى الصّحو. وهنا يعترض الشيطان طريق السّالك في ثلاث مفاصل ومحطّات أساسية. محطّة الذات ثمّ محطّة الصفات ثمّ محطّة الأفعال. فهي ثلاثة منازلات كبرى بين السّالك والشيطان، يترصّدُ له فيها الطريق أيّما ترصّد، فإن لم يرجم الشيطان فيها، قطع الشيطان عنه الطريق. ولذلك فالحجّ باطناً هو الكمال، أي الحجّ ظاهراً هو ركن من أركان الإسلام لمن استطاع إليه سبيلا بشرائعه وأركانه المعروفة ويكونُ في البقاع المقدّسة كما  هو معروف. وهو في الباطن والسلوك ركن الكمال وركن تمام الإحسان وتحقيق الحجّ لله تعالى والقصد التامّ في الباطن والصّلة الكاملة، والتخلّص من العلائق النفسية والبشرية. فهو في الباطن ركن الكمال وأهل الكمال وأهل الحضرة من السالكين، وذلك لأنّ سلوك الكمال يقضي بوجود شروط لا تتوفّرُ لجميع السّالكين، وانظرْ في قوله صلّى الله عليه وسلّم "لمن استطاع إليه سبيلا". فهو للمستطيع، ظاهراً أي الحجّ العام، بالقدرة الظاهرة مادية وصحيّة ونحو ذلك، وباطناً : أي المتحقّق فيه شروط القدرة على طيّ الحضرات والمفاوز الكبرى ليكمل، من عقل قويّ، وسرٍّ منطوٍ فيه أزليّ، كما أنّهُ باهضُ التكاليف والبلاء، شديدٌ، تئنُّ تحت وقعه النّفوس أيّما أنينٍ وتجهَدُ أيّما جَهْدٍ، فمن رحمة الله تعالى لم يكلّف به جميعَ القاصدين، لأنّ من مفاوزه أثناءه أن يطلبَ العبدُ الإقالة بكلّ ذرّة وشعرة فيه ممّا يُلاقي من جهد البلاء ووقع الشدّات والجلال، ولكنّه لا يُقالُ، إذ سبقتْ عليه جذبة الحيّ القيّوم ذي الجبروت والجلال، ومن أنتُخِبَ أُعينَ، ومنْ كُلِّفَ أُيِّدَ.
وكان من محطّات الحجّ كما هو معروف، رمي الجمرات، رجم الشيطان، ثلاث مرّات، وهي نفسها المحطّات التي ذكرناها : ذات وصفات وأفعال، أو العكس أقصد الترتيب، أفعال وصفات وذات، بحسب نوع سلوك السّالك، فالتدنّي هو النّزول من أعلى إلى أسفل فيبدأ المجذوب، من الذات لأنّه كان في حضرة الذات مجذوباً، ثمّ ينزلُ إلى الصفات، ثمّ إلى الأفعال. والترقّي هو العكس وهو الصّعود إلى أعلى وهي عموماً للسّالك الصّاحي يبدأ بالأفعال ثمّ الصفات ثمّ الذات. والله أعلم.

ففي هذه الفترة البينية بين صحوٍ من جذبٍ وانتقالٍ لسلوكٍ، يتلقّى الشيطان السّالك، وكذلك يترصّدُ إبليس والدجال المجذوب في هذا المفترق الفارق، فتحصلُ منازلاتٌ بينهم وبينه في المحطّات الثلاثة، يستعملُ فيها هؤلاء كلّ مداخل النّفس وكلّ مكائدٍ ممكنة، وهذه المرّة المكائد والمداخل ليست غيبية وحسب، بل كونُ السالك هو المهدي القطب، فيتجلّى كيدُ قرينه ظاهراً وحسيّاً وواقعاً، ويغلِقُ جميع قنوات السّلوك، وجميع أبواب اللّوذ بباب الله دون المجذوب، ويتجلّى ذلك فيما أشرنا إليه سابقاً جورٌ وظلم وعدوان تمتلئ به الأرض، وتخضعُ به أعناق العباد لهذا البلاء الجاثم والفساد، قهراً وغصباً، ويوُشكُ أن يعمّ الفساد والمهلكة جميع البلاد والعباد، حتّى تنتهي منازلات المجذوب السالك القطب مع قرينه، أي مع إبليس والدجال وكيدهما المحيط به من كلّ جانب.

ولذلك حدّد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فترة بقاء الدّجال وظهوره بأربعين يوم، كما هو الحديث الصحيح لما سأل الصحابة عن مدة لبث ومكث الدجال فقال صلّى الله عليه وسلّم (أربعين يوما، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة، وسائر أيامه كأيامكم.) رواه مسلم.
وهي كما أشار بعض العارفين بالله أنّها منازلات المهديّ في مقام الذات والصفات والأفعال، فيوم كسنة وهو من جنس يوم الربّ، لقوله تعالى {وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ (47)} الحج. فهذا اليوم في مقام الذات. ويوم كشهر وهو من جنس يوم الصفات، {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} سورة القدر.  
 ويوم كأسبوع أو كجمعة وهو يوم يقابل السموات السبع، وهي والله أعلم معبّرة عن مقامات العقل في عالم الملك، فهي رتب عقلية -والله أعلى وأعلم- فتقابل كلّ سماءٍ يوم من أياّم الأسبوع، وباقي الأيام كسائر الأيام. ولستُ أدري يقيناً وجه التخصيص بأربعين يومٍ، ولكن لعلّه نسبة لعمر الإمام المهدي قبل كماله، أو نحو ذلك، لكون الأربعين معبّرة عن الاعتدال، وفيها بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك كان ميقاتُ سيدنا موسى عليه السلام أربعين يوماً، وهو نفس هذه الأربعين، وقصّة سيّدنا موسى عليه السلام موضّحة لهذه الحقائق تمام التوضيح، إذ لمّا غاب سيّدنا موسى لميقات ربّه أربعين يوماً، أضلّ السّامريّ قومه وجعل لهم عجلاً وقال لهم هذا ربّكم، ولم يقدِر سيّدنا هاورن عليه السلام أن يمنعه أو يمنع قومه من عبادة العجل ومن الفتنة السامرية، وكذلك يحصلُ للمهدي هذا الأمر، فيجذب لحضرة الله، ويغيبُ موساه، لمّا قال الله تعالى لسيّدنا موسى {وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ يَا مُوسَىَ * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَىَ أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبّ لِتَرْضَىَ * قَالَ فَإِنّا قَدْ فَتَنّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلّهُمُ السّامِرِيّ} سورة طه. أي عجِلَ المهديّ إلى الله تعالى فانجذب إلى حضرته طمعاً في رضاه وقربه، وتلك علامة جذبه، أي دخوله حضرة الله سبحانه، قبل تحقّق نفسه. فقلنا غاب موساه، ويبقى هارون عقله الذي يتدرّجُ ويتحقّقُ بالاستشرافات العقلية والعلمية الأساسية في محطّات الشهود، ولكن دون تحقّق نفسه بذلك، في غياب موساه، وحضرته القدسية، فيخرجُ سامريّ نفسه وهو قرينه، ويفتنُ قومه ورعيّته، يُفسِدُ في الأرض فساداً، ولا يقدرُ هاورن عقله واستشرافات علمه أن تمنع قرينه وسامريّه من الفتنة، ولا أن يمنع الرّعية من الافتتان بتلك الفتنة العظمى. فكلّ الحقائق مترابطة ومذكورة في القرآن الكريم.

أمّا كيف غرّ إبليس الدجّال عليهما خزي الله وخذلانه، فذلك من بداية قصّة البشرية، وهبوط سيّدنا آدم عليه السلام من الجنّة، لمّا أغواه وحوّاه عليهما السلام بشجرة خلد وملك لا يبلى، فتأمّل، ما وقعتِ الفتنة للنّفس البشريّة، إلاّ من هذا الجانب الخطير، وهو ملك وخلد لا يبلى، والسّامريّ أعطاهُ الله ذلك التحقّق الماديّ والبشريّ الخارق لمّا مثّل بشرية الخلافة وعنصريتها، فوقع في فتنة خلد وملك لا يبلى، وعدهما به إبليس، وافق ذلك ما فتنه الله به من قوى وآياتٍ مختلفة عن الغير، فالسّامريّ طالب ملك وخلد لا يبلى، في لعبة وخدعة إبليسية، بدأت بها قصّة الإنسان وصراعه مع الشيطان. فكان صاحب هذا الانخداع الأكبر، والطمع الأعظم، هو السّامريّ، فيتحالف مع إبليس وهو لا يدري أنّه يخدعه، بنفس ما خدع به أباه آدم عليه السلام، إنّما سيّدنا آدم عصى ليس استكباراً أو عناداً من وراء الله سبحانه، بل هفوة وزلّة أن يحصل له ذلك الفضل الذي وعده به إبليس، إن أكل من تلك الشجرة. وهي إرادة الله تعالى أن تبدأ خلافة آدم وبنيه في الأرض، وهم مخلوقون للأرض، فالأرض هي منزلُ الخلافة والتجليّات بأضدادها. ولكنّ السّامريّ، يعقِدُ نيته وطمعه في تحقيق ما ميّزه الله من قوى خارقة، أن ينال خلد وملكا لا يبلى، ولهذا فطموحه دعوى الرّبوبية في الأرض. إبليس بحلفه مع الدجّال، يُحصّلُ من مراده أضعاف أضعاف ما لا يحصل له من غير هذا الدجال. لكون الدجّال يمثّل الكثافة والظهور الحسّي، وكذا ما يملكه من خوارق. هذا في عالم الأسباب. وقد سبق أن وضّحنا أنّ الدجال كان انعكاس البشرية والعنصرية للخليفة، لذلك ظهر بتلك القوى الخارقة، ليجري الله عليه فتنة قرين القطب المجذوب، وتظهرَ قطبية هذا العبد الأصيلة دون غيره.

وكذا فإنّ آية الخليفة والخاتم، وعلامة تطهيره الكبرى، في قوله تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33).} سورة الأحزاب.
علامته وآيته أنّه ينسلخُ من هذه الكثافة والعنصرية، فيتطهّرُ مطلقاً من العنصر والتراب، فيكونُ المطهّر الأكبر، الطاهر عن الأكوان، فيخرجُ عبداً محضاً في أعلى رتب التحقّق الإلهي، يمثّلُ الشطر الحقّي المنفلق عن شطره الخلْقيّ، فيكونُ هو ذاتُه الرّوح المطهّر، الإمام الأعلى، ولهذا كان ظهورُه علامةً على الساعة لأنّ ظهوره يوجبُ هذا الانفلاق والانسلاخ، ويوجبُ نهاية الشرّ الأرضي والعنصريّ في خلافة الإنسان، فتتمايز الصّفوف، فسطاطين، فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط كفر صريح. ويظهرُ في زمنه الدجّال رمز الكثافة والعنصرية الأرضية والارتكاس لكلّ ما هو دونٍ وأرضيّ متحالفاً مع الشيطان.

ومن هنا فليلة إصلاح المهديّ هي ليلة انسلاخه من عنصره وكثافته الأرضية، وتحقّقه بالإمامة والشطر الحقّي. وهي ليلة تمايز الصّفوف، وبداية الملاحم الكبرى، التي يسقطُ فيها جميع طواغيت الأرض تباعاً، ويُبادُ فيها الظالمون أفواجاً، وآخرهم الدجال. والله أعلى وأعلم.

فانظُر في عظم هذه الحقائق، فإنّها لم تكن صدفةً، بل كانت متوافقةً مع حقائق هذا الخاتم الخليفة، ولذلك كما ذكرنا فظهوره كان ممثلا للساعة والنهاية. إذ يزولُ معه الشرّ كلّه، وتظهرُ فترة العقوبات الكبرى، ثمّ تليها الخلافة الراشدة العادلة ثمّ ملحمة نهاية الدجّال ونزول سيدنا المسيح روح الله عليه السلام.





الثلاثاء، 23 فبراير 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 83





وذكرتُ قصّة إبليس ومذهبه المتقلّب المخذول، في المقال السّابق، لأعرِضَ في الطريق إلى الدجّال كيفَ خدعَهُ إبليس وغرّهُ، وأقنعهُ بالوهمِ المحقّق، في خُدعة انطلَتْ عليه، وكذلك تنطلي الخُدَعُ على كلّ عابدٍ لهواه متألٍ على الله تعالى. ذلك السّامريّ الذي هو الدجّالُ، لمّا ترعرعَ في صغره، وجدَ نفسَهُ غير عاديّ النّشأة ويختلِفُ عن غيره، إذ بدأ يكتشفُ في نفسه قوّةً خارقةً، وحواساً تتجدّدُ، واستشفاءً يتجدّدُ، وتحكّماً خارقاً في تجديد قوّته، وفي خرق العوائد بالنظر الحديد الذي يطوي المسافات ويخترق الجدران والطبقات الأرضية والسحاب، وغير ذلك من الخوارق الظاهرة، كما هي أفلام الأبطال الخارقين التي ملأت بهم هوليود مسامعنا وأبصارنا، لأنّ الرّاوي هو الدجّال، يبثُّ ويروّجُ لنفسه ولأفكاره ويمهّد لظهوره. أمّا لماذا كانت له هذه النّشأة دون غيره ؟ فذلك لما ذكرناه سابقاً أنّه كان في سابق مشيئة الله تعالى يمثّلُ النّفس الكثيفة وميلها للعنصر والمادّة،  واستحكامِ الهوى فيها وجريان الشيطان في دمِ جسمها وعروقها يغذي وجوده فيها، بطلبِ ما تميلُ إليه من شهواتٍ مختلفة ورغباتٍ لا تتناهى، تلك الرّغبات والشهوات والطّباع على قدرِ الأخلاقِ البشرية التي كانت متقابلةً بين العلوّ والسّفل، وبين الفضيلة والرّذيلة، وهي أخلاق كثيرة لها أمّهاتٌ معدودة، ولكنّها كفروع كثيرة، فما يُقابلُ الإنسان بكماله وفضائله الإنسانية هي أخلاق الحيوانات وطباعها أي ما يُقابل علوّ الكمالات هو سفل الطباع الحيوانية، والإنسانُ مخلوقٌ جامعُ كما هو معلوم، فكان جامعاً لجميع طباع وأخلاق الحيوانات؛ جامعاً، نريدُ أنّ النّاس طباعها اختلفت بقدرِ تفاوت طباع الحيوانات الكثيرة العدد في الأرض. ووجود تلك الطّباع الحيوانية في الأرض هو وجود القابلية في البشر للتخلّق والانطباع بتلك الطّباع. فهذا تحقيق، ولذلك قد يصدِفُ أن تقرأ  كلمة الإنسان الحيوان في أثبات وكتب الشيخ الأكبر أو غيره من بعض العارفين الأمجاد. أو تجدُ مقابلةً بين الإنسان الكامل والإنسان الحيوان. لأنّ الإنسان الكامل هو الذي رجع إلى صورته الأصلية التي خلق عليها، وهي الخلافة والأخلاق الإلهية، أخلاق الأنبياء عليهم السلام وورثتهم الأولياء رضوان الله عليهم. والإنسان الحيوان هو الإنسان النّازلُ عن مرتبة الكمال والصورة التي خلقه عليها ابتداءً؛ ولا تعني لفظة إنسان حيوان "اصطلاحاً" مذمّةً بإطلاق، بل بحسبِ أخلاقه، ففي أخلاق الحيوان ما هو محمود ومطلوب كشجاعة الأسد، ووفاء الخيل وحنين الحمام، وصبر الجمل واجتهاد النّمل ونظام النّحل ونباهة الهدهد، وهكذا. وفيه أخلاق حيوانية هابطة بهيمية وشهوانية وسبعية وانحطاطية وغيرها، كالخنزير الذي مثّل عدم الغيرة ومثّل الميل للشهوات بصفة عامّة. فقلنا مثّل السامريّ النّفس الميّالة للهوى، وهي الجسم المؤتمِرُ بشهواته وحظوظه وأناهُ ينفثُ في روعه الشيطانُ، وعليه العقل الترابيّ قائدٌ. والعقلُ التّرابيّ هو عينه هذه النّفس الكثيفة المائلة للهوى المنقطعة عن النّظرِ إلى العواقب، وإلى الغيب، وإلى حقيقة الإنسان في هذا الوجود. فصار هذا العقلُ الترابيّ أسيرَ وجوده الحاضر، دهريّ الاعتقاد أنانيّ التفكير أرضيّ الارتباط ماديّ النّزعة، وكان للساّمري الدجّال تلك القدرة الخارقة والتعمير في الأرض منذ عهد سيّدنا موسى عليه السلام، لأنّ الله جعلهُ ظلاًّ للخليفة في المادّة والجسم الكثيف والعقل الترابيّ المحكوم بطباع الجسد والعناصر فيه، من حيث كونِ الخليفة جامعٌ لكلّ القوالب فهو الظاهرُ بها، وتوالي الأدوار والنشآت الإنسانية عبر الحقاب كانت صور تجليّات الخليفة في تلك الأدوار والنّشآت، من أوّلها لآخرها، فكان العقل الترابيّ المنقاد للعالم الأرضيّ والأكوان والرغبات العنصرية والمحكوم بطباع الجسد للخليفة وهو في تركيبه العنصريّ والبشريّ أي جسد المجذوب وعقله الترابيّ، كان قد مثّله الدجّال، كذا قضى الله تعالى، لأنّ الخليفة أنشأه الله في آخر الزمان مجذوباً ليُقيمَ به الحجّة على الخلائق والملائك أي ولياًّ وليس نبيّاً معصوماً، فالنبوّة بابٌ آخر، ومختومةٌ من خير الخلق وصفوتهم روح الوجود وسيّده صلّى الله عليه وسلّم، وهذا المجذوب وليّ مكتومٌ، ولايته مكنونة في سرّه، قبل أن يخرج من تركيبه العنصري، إلى مرتبته الكاملة المطلقة. ليجمع هذا المجذوبُ صور الأضداد كما ذكرنا، وليجتمع فيه جميع أقدار البشر والعالم، فهو الإنسانُ الكبير وهو القطبُ الأعظم. فمثّلَ الدجّالُ قرين المجذوب، قرينه أو عقله التّرابيّ ولاوعيه المغزول بعالم الوهم والأكوان والذي لم يخرج من أسرِها وظلالِها.

والقرين هو جسم المرءِ الكثيف المنقاد للهوى بخيوط الشياطين التي تجري في عروقه ودمه، تطالبُهُ أن يروي حاجاتها المادية وأهويتها وشهواتها، وهي تسري في دمه وعروقه كما أشرنا كالجراثيم الدّقيقة، كظاهرة إدمان، يُغذّيها ليل نهار، من شهواته ورغباته، وفضول طعامه وطبائع عنصره وهو لا يدري، ولا تزالُ تطالبُ وتُطالبُ حتّى تهوي به في قعرٍ سحيق، من الدّونية والبهيمية. كذلك ركّبَ الله سبحانه في الإنسان هذه الحقائق، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم  ‏(إنّ الشيطان يجري من ابن ‏ ‏آدم ‏‏ مجرى الدم) صحيح البخاري ومسلم. فالدجّالُ هو الصورة الجامعة لأهل الشمال والكفر، أي القرين الكلّي الجاذب للأرض والطبائع الدّونية المخالف لكلّ نورٍ وروحٍ قدسيّ، فهو ظلّ الكثافة ووجهها الرديّ الهابط السّفليّ، وهو المادّةُ مفصومةً عن روح القدُسِ وحقيقتها النّورية، لأنّهُ (أي القرين في كلّ شخص) يُصادِرُ ما يأتي من الله سبحانه بواسطة الرّوح وينسبُهُ لنفسه وأناهُ، وفي كلّ شخصٍ وفي كلّ بشرٍ قرينُه، هو هذا التركيب الثنائي بين جريان الشيطان في دمه، وبين أوهامه المتراكمة في عقله الترابيّ اللاّواعيّ النّازعة للأرض والتراب والماديات وما سوى الله سبحانه، النّازعة لمحسوساتها وأكوانها. ولذلك لو رجعت لمشايخ التزكية والسلوك كمثل الإمام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه في كتابه المجيد : إحياء علوم الدين، لوجدتَ مذهبه في تفكيك الأخلاق والعيوب، يذهبُ إلى شقّين: شقّ العلم، وشقّ العمل والمجاهدة. فالعلمُ هو تصحيح المفهوم وتوضيح النّظرة إلى خطر هذا العيب وضرره أو ذاك الخلق وأثرهُ وثمره، ثمّ المجاهدة التي لها أركانها ووصفتها الخاصّة بكلّ خُلُقٍ، وكان الذكرُ أحد أعمدة العلاج، لأنّه يَجلُبُ النّور، ويُذهِبُ ظلمة العروق في الجسم، ويحرِقُ وجود الشياطين فيها. فتخفّ كثافة النّفوس وترقُّ لاستقبال وارداتِ الحقّ، وتتهيّاُ للتخلّق بالأخلاق الحميدة الفاضلة والزكيّة.
إنّ ما ابتُلِيَت به الأمّة في القرون الأخيرة من محاربة ركن السّلوك والتصوّف والمشايخ العلماء العاملين وتضليل مسلكهم، لهو مُرادٌ من الأعداء، بدقّة وقصدٍ عظيم، ليرتعَ العدوّ بلا مقاومة ولا دفاع ولا ثغورٍ تحرُسُ الأفراد والمجتمعات. ويذهبَ روحُ الدين، ونورُه المُقِيمُ في القلوب، ويبقى التديّن المغشوشُ القائم على المظاهر والطّقوس، الحافظ للمتون والحروف، تغشّهُ طقوسُه ومظاهرُهُ التي تُشبُهُ عبادات السّابقين وشكلَ إقبالِهم على الله تعالى، ومنطقهم في الكلام المنظوم المنثور، وهي مفرغةٌ من كلّ رُوحٍ ونورٍ وتزكية وعلْمٍ بمداخل الشيطان، ومكائده التي تهوي بالنّفوس في مهاوي الرّدى والهوى والهلاك. فالإنسانُ لهُ ظاهرٌ وله باطن، فظاهره الأفعال والأعمال والطاعات  الظاهرة، وباطنُه الأحوالُ والصّفاء والإخلاص والأنوار والأسرارُ والتحرّر من العيوب الباطنة المهلكة التي لا تظهرُ في الظاهر، ولكن تُرى بعين البصيرة الحديدة التي يملكُها ورثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيرونَ أمامهم كلّ مُريدٍ مقبِلٍ عليهم، وكلّ شخصٍ وعروقه الأساسية والفرعية، المُضاءُ منها بالنّور والمصفّى من الظلمة، والمظلِمِ منها والمُدنّس بالعيب. ويُقدّمون لكلّ مريدٍ وصفتَهُ الخاصّة، بطريقتهم الخاصّة، ولذلك كان التسليم والتعظيم للشيخ المربّي (حينما يَثْبُتُ بعلاماتٍ أنّه شيخ حقّ ومسلسل بالسّند المتصّل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم) كان التسليم والتعظيم للشيخ هو شعارُ هذه المدارس الصوفية المنوّرة، فهو الطّبيب المحمديّ الشهاديُّ على قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واسطةٌ في عالم الملك والشهادة بين المريد وربّه، بين عالم القدس وعالم النّفس، ولا بدَّ أن يكونَ واصلاً لعالَمِ القُدس ليسلك بأصحابِ النّفوسِ الدّربَ إلى ذلك العالم، وإلاّ فكيف يدلُّ القاصدين مقطوعٌ ؟! وكذلك قلنا المحمديّ "الشّهاديّ" أي حيُّ موجودٌ في عالم الشهادة، وهذا مهمّ وأساسيٌّ، وشرطٌ لإقامة جسر الواسطة والمدد، وجسر التسليك والتربية، ومن هنا جاء مفهوم الوراثة والاستخلاف الذين أقامهم الله تعالى في هذه الدّنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فلمّا غابَ هذا الفهمُ، وهذا العلمُ، وهذا الاستشراف عن هؤلاء المتأخرين، أو غيرهم من المنكرين الظاهريين، أنكروا واعترضوا وضلّوا وأضلّوا، وفتحوا الثغور والأبواب للعدوّ، وقد صارت الشياهُ بلا راعٍ يحرسُها، ولا حائلٍ يحولُ بينها وبينه، فهجمَ العدوُّ، وبانَ عوارُ وجهل وخيبةُ هؤلاء، وفضحهم الله تعالى. وعرفوا عِظَمَ الأخطار، وهول الموقف، وهجير الصحراء، وظلمة الدروب، التي لا يملكون عنها دليلاً، ولا سلاحاً، ولا طائلَ لهم بمواجهة ما رأوه، ولا حول ولا قوّة، ووجدوا دروعهم وهمية وسيوفهم خشبيةً، بل وجدوها سيوفاً مصنوعة من العدوّ مهمّتها العملُ لصالحه وهم لا يشعرون، ودورُها الطّعن في ظهورِ وصدورِ الصّادقين المجاهدين في الله حقّ جهاده. المنافحين عن غيرهم من المؤمنين والمسلمين والمستضعفين في الخفاء، الواقفين على الثغور يذوذون أزماناً وأزماناً عن الأمّة شروراً  كانت قد خفيَتْ. فجاءَ زمنُ المحاسبة والمعاقبة، فذهبَ حُرّاسُ الثغورِ، أو قلّوا وفقاً لإرادتكم ومنهجكم وسعيكم الحثيث الذي تبنّيتموه، وترككم الله مع العدوّ وجهاً لوجه، فانظروا ماذا أنتم فاعلون. وهيهات، هيهات أن يقدرَ الخاوي الخائب الجاهل الفاقِدُ لكلّ علم ونور وبصيرة حقيّة وزكية وسنيّة أن يواجه أولئك الأعداء المحترفين الخبراء الذين مهمّتم قطع طريق النّور، ووأدُ مسالك التزكية، بل كيف يواجهونهم وهم من صناعتهم وتلاميذهم وإن لم يشعروا بذلك.

فقلنا لذلك قد كان عقلُ الدجال التّرابيّ كذلك كلياً لجملة القرناء والأشباح البشرية، كلياً من حيث كونِه ظلاًّ للعقل الترابيّ للمجذوب الخليفة، قبل أن ينسلخ من تركيبه العنصريّ، إذ يحدثُ للمجذوب هذا الانفصام، أو هذه الحرب بينه وبين قرينه، وعقله التّرابيّ ولاوعيه، وقرينه فكان انعكاس قرين المجذوب وعقله التّرابي هو الدجّال، في مظهر الكثافة، وإبليس في مظهر اللّطافة، لأنّ إبليس هو معلّم الدجّال، وهو مغويه كما بدأنا الإشارة.قلنا في مظهر اللّطافة فإبليس يُمثل جريان الشياطين في دمِ الجسم كالجراثيم تغذيها وتغذي الرّغبات العنصرية والطّباع الحيوانية، طبعا الدونية منها، (قلنا "تُغذيها وتُغذي" لأنّها عملية ثنائية الاتجاه متبادلة الدّور) ومن هنا جاءت أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كقوله ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه)) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
لأنّ الإسراف في الأكل يُقوّي العنصر والتراب في الإنسان فيثقلُ عن الجانب الرّوحي، وهو معنى تقوية نفثات الشياطين فيه، ووجود فسحةٍ أكبر لمداخلهم ووسوستهم. وهم يجرون من بني آدم مجرى الدم كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم. من هنا فالشيطان كان له تأثيرُ الوسوسة ومداخل الهوى بحسبِ ما يجِدُ من ثغراتِ في النّفس، ولم يكن له أكثرُ من تلك القدرة الإغوائية الغيبية. بيدَ أنّ الدجّال، فهو حالةٌ مختلفة وأقوى، وهو وجودُه الكثيف واستعماله للقوى المحسوسة والمادية والإنسية والسّحر للسيطرة والتضليل والتدجيل، وإن كان لا يظهرُ صريحاً إلاّ بعد الخلافة الإلهية المهدية بعد فتح الرّوم. وإن كان يمهّدُ لظهوره ووجوده تمهيدا قويّا كبيراً قبل ظهور الخلافة الراشدة الإلهية، أي يكونُ على وشكِ الظهورِ وإتمامِ مراحل إعداده في الأرضِ حتى يظهرَ المهديّ فيقطع عليه الطّريق. فقلنا للدجّال صولةٌ أكبر، لكونه يُمثل العقل الترابيّ الباطن اللاّواعي للمجذوب، الذي يحاربُ المجذوب فيه. فصورة حرب المجذوب بينه وبين قرينه فيه، أي جسمه وعنصره وعقله التّرابيّ ينعكسُ ذلك واقعاً، وهذه من أعجب الحقائق، لا تُشهدُ إلاّ في آخر الزمان بقرب ظهور المهديّ، وهي علامة كونِ المهديّ جامعاً لأقدار الخلق، وقطباً وهو لم يخرج من تركيبه العنصريّ. فيكونُ لعقله الترابيّ الصولة على الجسد وسائر الأرض، لأنّها من عالم المحسوسات. فينعكسُ ذلك في صولة الدجّال وإبليس وأتباعهما، وظهور الفساد في الأرض فسادا وظلما عظيما وذلك قبل ظهور المهديّ. عبّر عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحاديث صحيحة بقوله : (( أبشركم بالمهدى يُبعث فى أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما...)). وقوله ((لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا )). والتعبير الذي قصدناه قوله صلى الله عليه وسلّم : يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت قبله ظلما وجورا. وهي روايات كثيرة بهذا الوصف والتعبير. فالأرضُ ملئت ظلما وجورا وعدوانا، وانظُر في تعبير "ملئت"، فهو امتلاء، وطغيان كبير عجيب، وفساد لا يُقارن، هذا الفسادُ قبل ظهور الدجّال، وقبل ظهور المهديّ وخلافته الراّشدة، وهو يُعبّرُ عن تمهيد الدجّال لظهوره، وظهور الدجّال الخفيّ، بالقوى الكبرى الظالمة، والهيمنات الأساسية للموارد : عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية وإعلامية ... والنزعات الدينية والقبلية والعنصرية والتحريضية بين الناس، ويكثر الهرج والمرج، وهو القتل والتمرّد، والكيد للطيّبين والصالحين، والمستضعفين، والتفاصيل موجودة في أحاديث آخر الزمان الكثيرة، بين صحيحها وضعيفها. تفاصيلٌ مذهلةٌ في فساد آخر الزمان. لأنّ القطب مجذوب، وهي علامة كبرى في ختمية هذا القطب، ومعنى ختميته يقيمُها الله حجّة على خلقه وعباده، يعرّفُهُم قدرَ هذا الإمام والأمير، فيعرفوا قدرَه، ويعلموا عن يقينٍ وبصيرةٍ، أنّه الرجلُ المنتظر الذي تنتظرُهُ الأرضُ، لأنّ الله أودعَ فيه ما لم يُودِعْ في غيره، وأنّه مجلى سائر الأقدار بين خيرها وشرّها. فتجلّى قرينُه في العالم، والواقع. طبعاً النّاسُ غافلون عن هذا المشهد، ولكن أهل الله وأهل البصيرة، يشهدون هذا الأمر عياناً، أمّا الخواصُ فهم عالمون بحقيقة هذا الإمام قبل أن يظهر، رأوا ذلك كشفاً وعرفاناً عرّفهم به الله سبحانه، أمّا غيرُهم، فيقع لهم الشهودُ بالمعاصرة لهذه الأمور والفتن والمظاهر.
وصورة صولة الدجال والشياطين والمفسدين في الأرض، هي صورة حربِ القرين الكبرى على المهديّ، لأنّ المهديّ المجذوب يُمثِلُ القلبَ، ولكنّهُ مستضعَفٌ آنذاك، فقرينه يسيطرُ على الجسد، وعقله الترابي آمرٌ للوظائف الحسيّة، وكل ما يقعُ تحت هذا الشبح، لأنّه كان في فترة جذبٍ، منقطعٍ عن المجاهدة والسّلوك والتزكية، غارقٌ في عوالم سكره، غافلٌ عن هذا الذي يدورُ. فيجِدُ قرينه قد تمكّن وكادَ كيداً، لأنّ القرين (بصفة عامّة) فيه طبيعة ونزعة أنانية مودعة فيه وهي الهوى، تدافعُ عن وجودها وأناها وكينونتها الكثيفة والعنصرية، فذلك تركيب الله للنّفوس سبحانه. وفي ذلك الإشارةُ أنّ الإنسان هو صاحبُ تصريف أقداره، ومنشأ رحى تجليّاته، أيّاً كان هذا الإنسان، جميع بني آدم على هذه الصورة والشاكلة، فالشيطان في الحقيقة مظهرٌ تابعٌ من صورة الإنسان، وتجلّيه ظهر كما ذكرنا، بالطبيعة العنصرية المودعة في الإنسان التي تدافعُ عن وجودها الكثيف الأرضيّ، وتنزعُ إلى أرض المحسوسات والشهوات والأكوان وما سوى الله تعالى، فتأمّل يرحمُك الله تعالى. وأورد الشيخ الأكبر : "أنّ آدم عليه السلام لقيَ إبليس بعد أن خرج من الجّنة، فقال له لقد أغويتني وأخرجتني من الجنّة، فقال إبليس: يا آدم أنا إبليسك، فمن إبليسي أنا ؟". وفي ذلك إشارةٌ أنّ لآدم التقدّم على إبليس بالخلافة، فكان إغواء إبليس واقعٌ بحكمِ الانعكاس من تجليّات آدم الذي استوى للخلافة. وكان دورُ تلك الطبائع العنصرية الجاذبة للأرض والدّون وحجاب الكثافة على الأكوان، هو دورُ إبليس كذا وقعَ في المشيئة الإلهية السّابقة. فالإنسانُ له الجمعُ الأكبر مخلوق على الصورة، وخلقه الله واسطةً بين الحقّ سبحانه والعالم. وليس ذلك لغير الإنسان. فله الأوّلية بحكمِ وجهته للحضرة الحقيّة وسرّه، وله الآخرية بحكمِ جمعه لجميع ما في عالم واختصاره لما فيه.

وقلنا تحدثُ حرب كبرى بين السّالك والقرين؛ وإنّما تحدثُ الحربُ الكبرى بين العبد وقرينه، لأهل السّلوك الأكبر،خاصّةً، أصحاب الحجّ والفناء الأكبر، والواقفين على باب حضرة الله تعالى، فيحدث حينذاك التهديد للوجود الكثيف والعنصريّ، فيُسخّرُ هذا الوجود العنصريّ الوهميّ جميع ما يملك من وظائف وقدرة ونزعات لإيقاف هذا الفناء وهذا الانسلاخ وهذا الرجّوع للرّوح. لأنّه يعني ذهابُ الكثافة والانسلاخ من التركيب العنصري، وموت النّفس الجزئية، والخروج من التقييد إلى الإطلاق، أي فنائه ونهايته وزواله مطلقاً. فتكونُ حربٌ لا هوادة فيها.

يتبع ..