الجمعة، 14 فبراير 2014

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 61


 - 61 - 

إذن فآخر الزمان بفصوله يُجسِّدُ سلوك الوليّ المحض، الوليّ المتفرّد، الوليّ الختم خاتم الولاية وصاحب التصريف، المطهّر عن الأكوان، ولهذا يظهر الدجّال مدَّعياً الربوبية، ويحكمُ الأرضَ ويعيثُ فيها فساداً ودعاوى وخوارقاً كان على ربّكَ حتماً مقضياً. لأنّ الحقائق أعطتْ هذا الأمرَ، وحقيقة السّلوك إلى ملك الملوك أعطتْ هذا التجلّي الظلمانيّ العظيم.

وهذا يلوحُ لعارف بالله تعالى عرفَ حقيقة الأسماء، وطبيعتها ومراتبها في الأكوان والتجليّات، فيعرفُ بذلك أنّ إسمَ الربّ، لهُ مرتبةٌ أدنى من إسم الله تعالى، الدّال على الذات العليّة، والجامع لمراتب الوجود والمحيط بجميع الاستحقاقات للذات العليّة، والجامع للأسماء جميعها في جمعية تقديسها، حيثُ تُعطي معنى الأحدية مرتفعةً عن التمايز بينها، وحيثُ تُعطي الواحدية في تمايز أسمائها وتلوّنهم وتعدّدها الواحدي الوحدوي، أو حيثُ تُعطي كلّ مرتبة حقّها حتّى لو كانت مرتبة حكمية غير وجودية. أمّا اسمُ الربّ فهو إسمٌ متعلِّقٌ بالمربوب، يأتي في الرّتبة بعد اسم الرّحمن، لأنَّهُ متعلِّقٌ بالأسماء المشتركة بين الربّ والمربوب، أي متعلّق بالأسماء النفسية أو الأسماء الفعلية المختصّة بتأثيرها على المخلوقات والموجودات، بخلاف إسم الله سبحانه فهو إسمٌ محيطٌ جامعٌ، جمع جميع الإحاطات سواء تعلّقت بالمربوب والمخلوق، أو استغنت وتعالت عن التجلّي الخلقي، فهناك أسماء ذاتية تعلّقت بالذات فقط ولم تتعلّق بالمخلوقات، كما أنّ هناك أسماءٌ استأثرَ بها عنده سبحانه، فلم يتجلّّ بها على خلقه، لأنّها لا تتعلّق بالخلق وكذا ليس لمخلوقٍ أن يسعَ تجليّها أو حتى يسعَ العلم بها، ومن هنا كان مجلى حضرة العماء الذي ارتفعت فيه الأسماء والنّعوت والإضافات، فهذا من دلالات الإستئثار. فتميّز الإسم الجامع الأعظم الله عن باقي الأسماء. وهنا إسمُ الربِّ مع علوّ مرتبة هذا الإسم وإحاطته، فالربّ جامع للأسماء المشتركة بين الربّ والمربوب كما قال أهل العلم بالله تعالى، أي ما تعلّق بالرّبوبية لكنّه لم يسَعْ الأسماء الذاتية المحضة التي انفردتْ بها الذات كالفرد والأحد والعظيم في عظمته المطلقة وغير ذلك، أي أنّ إسم الربّ تعلّق بما دخل في العرش عرش المخلوقات، لذلك استوى عليه الرّحمنُ الذي هو إسمُ دالٌّ على الكمالات الإلهية والحقيّة ورحم الله به الخلق جامع للأسماء كذلك، فاستوى اسمُ الرّحمن على عرش الرّبوبية كما قال أهلُ العلم بالله، فقلنا الأسماء النفسية وهي أسماءٌ مشتركة بين الخالق والمخلوق كالسميع والبصير والعليم يسمع نفسه ويبصر نفسه ويعلم نفسه ويسمع غيره ويبصره غيره ويعلم غيره فهذه مشتركة، والأسماء الفعلية هي الأسماء المختصّة بتأثيرها على المخلوقات كالرزاق والنافع والضار فالله لا يرزق نفسه ولا ينفع نفسه ولا يضرّ نفسه فهذه أسماء لها شقّ واحد من جهة المخلوق فقط فهي المسمّاة بالأسماء الفعلية محتدُها اسم الملك كما قال أهل العلم بالله تعالى بخلاف اسم الربّ فله الأسماء الفعلية وله الأسماء النّفسية المشتركة. والربُّ لغةً هو الذي يربّي ويُنعم ويدبّر ويصلح ويقومُ على تدابير ومصالح خلقه وعباده وحاجاتهم، فلهذا كان للدجّال وجه من وجوه هذا الإسم تدليساً وتدجيلاً، إذ من هذه التدابير التي تُعنى بالخلق والعباد كانت الأمور المادية وما يحتاجه النّاس في معاشاتهم وحياتهم ممّا يتداولونه بينهم، فكان للدجّال هذا الوجه تدليساً وتزييفاً لا ربوبية بمعناها الحقيقي بل دعوى دجّل بها الاستعانة بالخوارق والماديات ليُحصّل شيئاً من هذه الاحتياجات والمعاشات الدنيوية، كما يصحّ لمالك شركة أو رئيس دولة أو ملك مملكة أن يدّعي امتلاكه للحوائج والأرزاق والنّعم التي يملكها ويتسيَّدُ عليها بطبيعة وظيفته ورتبته التي اقتضاها واقعه بين رعيّته، ولكن في الحقيقة هي ليست ملك هذا المالك أو الرّئيس، فكان للدجّال هذا الوجه المزيّف المدجّل من وجوه اسم الربّ، أي ادّعى تدبير مصالح وأرزاق الخلق والعباد والإحياء والإماتة والنّفع والضرّ فسخّرََ لذلك القدرة التكنولوجية والصولة العلمية المادية والخوارق الجنيّة والعفاريتية الشيطانية وما ميّزهم الله به من قوّة وقدراتٍ طبيعية فوق الإنسان واستعمل السّحر والوهم ، فادّعى الربّوبية في هذا المجال المفتوح. ولكنّ الدجّال ليس له وجوه الربّوبية الحقيقية التي هي للربّ سبحانه بأسمائها المقدّسة المريد المدبّر الرزاق المحيي المميت النافع الضار وغيرها من أسماء للربّوبية الحقيقية التي استعلتْ عن المادة والطبيعة والعناصر والأكوان وعالم الاسباب أصلاً، فالله سبحانه يقول للشيء كن فيكون، والله قضى ما قضاهُ في الأزل وجفّت الأقلامُ وطويتْ الصّحف، وكان ربّاً لعباده وخلقه في سائر تدابيرهم، الظاهرة والباطنة، المادية والروحية، الكونية والغيبية. ورتّب عالم الأسباب ترتيباً حكيماً، وأمهلَ وجعل الدّنيا امتحاناً واختباراً، وقدّرَ أقدارها بحكمة عالية وترتيب عظيمٍ، فكان الدجّال بالاعتبار الذي ذكرناه أكبرَ فتنةٍ عرفتها البشرية لأنّه يظهرُ بالمرتبة العليا للطبيعة الترابية والعنصرية وما لم يخرج عن الأكوان ولم يخرج عن النّفس النّاقصة وما دخل في عالم الأسباب بعلومها الدّقيقة، ليُجسدّ هذا الدّجال حقيقة مرتبة الإنسان العليا والكاملة، إنّ في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكّرون ويتدبّرون. فالدجَّالُ شاهدٌ عظيمٌ على رتبة الإنسان - شاهدٌ أعورٌ ناقصٌ - ولكنّه شاهدٌ على رتبة الإنسان الكامل وأميّته وذاتيته وصورته التي خلقه الله عليها، وهي الصورة الإلهية التي استوعبتْ جميعَ ما في العالم، ولها فوق ذلك ممّا لم يستوعبهُ العالم. فكان لزاماً أن يظهرَ ما يجسِّدُ مرتبة التدجيل الكبرى في الأكوان، صورة آثار الأسماء مفصولة عن قدسيّتها وروح القدُس. ولا يظهرُ ذلك أي هذا الأثر التدجيلي في ذروته وشخصه الدجّال إلاّ بظهور الوليّ الذاتيّ صاحب الولاية بالأصالة، الذي إليه رجعت الحقائق بالسذاجة الذاتية والعينية الذاتية. الوليّ الدّال على المعنى الأحديّ المتعالي عن الأكوان والتجليّات جميعها، فيُعطي هذا الوليّ قبل ظهوره الكامل حقيقة الولاية وتجليّات جميع المراتب وكمالها في الاكوان، وليّ مجذوبٌ لا حول له ولا قوّة، اصطفتهُ العناية واجتبته، ليكونَ مرقاها الأصليّ وحقيقتها الذاتية وسرّها الأوليّ. مُعبّراً عن جميع مظاهر الخلق وتطرّفاتهم ونقائضهم، فيظهرُ بالتطرّف الإنسانيّ النّفسيّ المبتور عن حضرة القدُس ويظهرُ في ذات الوقتِ بالسرّ الأعلى الذي يستوعبُ إدراك المراتب والحقائق الكمالية برغم عدم كماله الجبروتي والقدسيّ ليدلَّ على سرّه الذاتيّ الأصلي الذي استوعبَ هذه الكماليات والأسرار الشهودية الذوقية المستعصية المستحيلة على غير المشاهد لها شهوداً والذائق لها ذوقاً، ثمّ يظهرُ بعد ذلك بالكمال الإلهي الأعلى المحمديّ، إذ الكمال الأعلى الذي تجلّى الله به هو الكمال المحمديّ، فجعل الله سيّدنا محمّد هو مظهر الكمال الذي لا أكملَ فوقه في الأكوان، صاحب الأخلاق الإلهية العليا التي لا فوقها، لأنَّهُ صاحب الرّحمانية والرّحمانية هي أعلى مراتب الوجود، ولأنَّهُ حقيقة الصورة أي سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم ومظهرها الذاتيّ الكامل، ليكونَ هذا النبيّ القدوة والأنموذج والخاتم الذي من تحقّق به وبأخلاقه وكمالاته، واسطةً لشهود الحقيقة الغيبية الإلهية، والتحقّق بسرّ الذات الساذج، وبسرّ الهوية والولاية المحضة والختمية لكلّ فردٍ وليّ من أولياء هذا النّوع الإنسانيّ، فافهم. وهناك يصبحُ الفرد والوليّ على الصورة. فإذا كانتِ الصورة هي الاصطفاء النّوعي والاجتباء الأزليّ للإنسان، فإنّ أنموذج هذه الصورة في الأكوان وصاحب كمالاتها والظاهر بها وسيّدها هو النبيّ المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فهو الذي من أجله خلق الله الأفلاك والأكوان، فهو سيّد الأكوان وسيّد الوجود، فهو الظاهر بالصورة الرحمانية وهو باب الولاية وعين تحقّقاتها الذاتية، إذ هو المجلى الأكمل والأعلى للتجلّى الإلهي، هو المحتد والنّسبة التي لولاهُ ما ظهرتِ الأكوانُ والمخلوقات. فلهذا كان الختمُ المعظّم صاحب الولاية مكتوماً، لأنّهُ لا يُعبِّرُ إلاّ عن الصورة الغيبية الكمالية والولائية التصريفية التي خصّ بها الإنسان الكامل، فهو باطنُ الإنسان الكامل، وهو المرتبة التي يظهرُ بها الكمّل والأفراد وأصحاب الولاية الكبرى من النّوع الإنسانيّ، فلهذا يُقال هي الذاتُ الأحدية التي كانت أحمداً للذاتية ومحمداً لحقيقة الأكوان. وكان سيّدنا محمّداً هو أحمد بالذات والكمال والتجلّي التامّ والاجتباء على سائر هذا النّوع الإنسانيّ، ممّا هو داخل تحت حيطة الخلق، فهو سيِّدُ الخلق والمخلوقات وأفراد بني آدم عليه السّلام، وهو عنوان كرمِ الله تعالى الذي لا يُضاهى ولا يُتصوّر ولا يُتخيّلُ أصلاً من مخلوق، إلاّ لمن أدرك تلك المرابع وتُوِّجَ بتلك المراجع، فعلمَ وعادَ مسبّحاً بحمد الله تعالى مقدّساً ومنزّهاً. هذا هو العطاء الأعظم والكمال الأتمّ والإحسان الأفخم، فالخارجُ عن الخلق والمطهَّرُ عن الأكوان وصاحب المعنى الأحديّ بالأصالة هو الوليّ الختم، معناهُ تنزّه عن الكمالات أصلاً، واستعلى عن الإطلاق والتقييد، والتنزيه والتشبيه، هو الهو، هو الهو السّاذج، وكلّ وليّ فرد ختمٍ يطيرُ بهذا التحقّق العجيب، ليصبحَ له تلك الصورة وتلك الحريّة المطلقة، وذلك التصريف، لأنّه يقالُ له هناك إنّك لدينا مكينٌ أمين، ووليّ متصرّف. فافهم هذه الحريّة التي فاز بها الأحرارُ الخارجون عن الأكوان والعبادُ المطهّرون. فما قاموا في الأكوان إلاّ أنموذجاً وأئمة يدلّون المستعين والمستهدي من بني البشر، أمّا حقائقهم فهي في الحريّة المطلقة تسبح، وفوق الزمان والمكان، فهذه حقيقة سواء آمنتَ بها أم كفرتَ أيّها الإنسان، فقد فاز بها أفرادٌ وأولياءٌ وأطهار كرامٌ، طوبى للمعتقد والمحبّ وخابَ المعاندُ الرَّاكبُ رأسه والأحمقُ، فما جنى عليه إلاّ حمقُه والحمقُ داءٌ ماله دواءٌ. وإنّ هذه القابلية للكمال الذاتيّ موجودة في كلّ إنسان، في كلّ عبد من هذا النّوع الإنسانيّ فافهم، ولكنّ الاستعداد لقبول تلك القابلية هو الذي اختلفَ فيه النَّاسُ وتفاوتوا، فلئن فاتكَ ما فاتك، فلا تجعلِ بقايا هذا الاستعداد تفوتُك بالإنكار من غيرِ علمٍ، فيفوتُك الخير العظيم، واجعل سُلّمك التسليم والمحبّة والتعالي عن الأحقاد والضغائن. وانظُرْ لأخلاق النبيّ العظيم صلّى الله عليه وسلّم، تعرف ما يتحقَّقُ به الكرامُ والأحرارُ. والمحبّة من أكبر أبوابِ الفوز والمعيّة مع هؤلاء الكمّل والصّادقين.

فقلنا إنّ الوليّ الختم، هو حقيقة العطاء والمعنى الأحديّ، لذلك ظهرَ مظهرُهُ وسُمّيَ الخليفة، خليفة هذا الإطلاق وخليفة هذا التقييد، غيرةُ الله سبحانه في علاه، نسجتِ الحقائق على هذا المنوال، وقضتْ أن يظهرَ الخليفة حاملاً لسرّ هذا الإطلاق والتقييد، وهو فوق الإطلاق والتقييد، ليتميّز الأصلُ عن الفرع. وإن كانت الصورة الإلهية من تحقّق بها من النّوع الإنسانيّ جعلته سيّداً حرّاً يسبحُ في عوالمِ الإطلاق، ويخوضُ في بحارِ التقييد والتشبيه، فلا شيء يفوتُه ولا أمرَ يعلو عليه. فقد طارَ مع الأحرار في عالم الحريّة والإطلاق. وعلى هذا صارَ المشايخ الكمّل أدلاَّءُ على الله تعالى، لأنّهم نفذوا إلى هذا السرّ المطلق المستعلي، وتحقّقوا بسرّ الأعظم، واستوى اسمُ الله تعالى على قلوبهم، فصارتْ قوالبُهم بشريّة المظهر، إلهية الحقيقة والمخبر، وصاروا محطّ نظر الله تعالى، من نظروا إليه بعين الرّضا فاز، كأنّما نظرَ الله إليه بعينه، وذلك مصداقُ ما قاله الحبيب المحبوب طبُّ القلوب سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم على لسان الله تعالى في الحديث القدسيّ الصحيح الذي رواه البخاري "..حَتَى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ..".
فالصورة الإنسانية حقيقتها التطهير الكماليّ والخروج عن الأكوان، فقد صارَ المطهّرون هم الذي يمسّون الكتاب بالتصرّف فيه، يقولُ المحقّق منهم للشيء كن فيكون بالله تعالى، إنّها الخلافة الإلهية التي أهلّ الله لها الإنسان. وأشباحُهُم في الأرض صارت منافذ لهذه الرّحمة العليا والحريّة المطلقة لمن تمسّكَ بهم واستدلّ بهديهم، ليكونوا له أدلاّء، فكما أنّ الإنسان ما نفِذَ إلاّ ببعثات الأنبياء عليهم السّلام فهم العباد الذين اصطفاهم الله على سواحل الذات ليكونوا أهلاً للدّلالة وتعليم البشر قبل انتهاء النبوّة وختمها، فقد صارَ النّفوذ لعالم الحريّة والكمال الإنسانيّ بعدهم طريقُه من طريق صحبة أهل هذا الكمال الإنسانيّ وهذا المدد الربّانيّ وهذا الإطلاق الإمكاني، وبغير هذه الصّحبة فلن ينفذ النّافذ أبداً. لذلك كان الدّال على الله تعالى وبابه الأوحد وحجابه الأعظم هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.} [آل عمران:31]. فهؤلاء الأولياء هم الورثة لسيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، هم أصحاب الرّحمانية بأخلاقهم العليا وكمالهم وهم أهل الإسم الأعظم بولايتهم وتحقّقهم لدرجة تأهيل الغير وتكميلهم وحريّتهم التي أخرجت عن جميع القيود، وهنا اختلف الكمّل وتفاوتوا في درجة التكميل والتوصيل، والأفراد هم أهل هذه النّسبة العليا والتربية الكبرى، وكذلك هم متفاوتون هنا، فمنهم من بلغ درجة التجديد والإحياء فيحيي به الله الطّريق ويكون من ورثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بدرجة كبيرة، ويصعبُ التمييز بين أهل الكمال والتربية، لأنّ الكمال أصلاً درجات وتفاوتٌ، ولكن لذلك علامات، ومن علامات الكمال وعلوّ كعب المربّي المرشد، تجديدُهُ وتسهيلُه للمسالك وصهره لأتباعه مع العصر وأدوات العصر وميكانيزمات الإعمار فيه والاستخلاف، فبقدرِ التداخل مع العصر والولوج لعالم الحكمة وتنزّلِ معنى الرّحمة يدلُّ ذلك على علوّ كعب المربّي المرشد وكماله، وهذا الإعمار والتجديد يتوازى مع خمرة الرّوح وأوبة الأتباع لله تعالى وتقواهم، فتجدُهم يجمعون بين صفاء الرّوح وأخلاق الإسلام وبساطة الواقع وأخذهم بالأسباب وفهمهم للحياة فهماً سهلاً جميلاً نافذاً متوائماً مع الإنسانية والحكمة التي أجراها الله في هذه الدّنيا. هنا تفاوتَ الصوفية وتفاوت المربّون تفاوتاً عظيماً، فالقريب من الخليفة والقريب من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريبٌ من إنزالِ أمرِ الله على الواقع وإضفاء نكهة الرّوح والصّفاء والسّلوك والأخلاق والرّحمة على الحياة العصرية والواقع المعاش والتجديدات الحاصلة في العالم بتعقيداتها وتفاصيلها، فافهم. ولا يعني أنّ المربّين الذين يأخذون أتباعهم لدرجات القرب المتفاوتة ليسوا أهلاً للتربية، ولكنّ المجدّدين نادرون وأقلاّء في زمرة أقرانهم المربّين والمرشدين. فكيف بزماننا هذا الذي قلّ فيه وندر المجدّدون، ندرة عظيمة. وهذه النّدرة لن تدلّكَ إلاّ على ندرة هذا الفهم الذي أشرنا إليه هنا ندرة عزيزة جدّاً.

فكان لظهور الدجّال معانٍ واستنتاجات عالية، أوّلاً أنّها دالّة على طبيعة سلوك المجذوب وطهارة سرّه العظمى، فتنزّهََ عن السّلوك بالأغراض، فكان الأميّ الذاتيّ المحض، متعالياً عن الأسماء سوى الإسم الأعظم الجامع، فقلبُه أمينٌ غاية الأمانة صادقٌ كامل الصّدق، فلم يتحرّك ولم يسلك وفي الدوافع أغراض ونفسٌ غير مقدّسة، ليس لهُ مع الله تعالى سوى عهده القديم وحقيقته الأولى التي أولاها له ربّهُ في العناية الأزلية، وهي رتبة التطهير، لا طلباً للمراتب بل بالعكس تماماً منزّهٌ عن الأغراض والتجليّاتِ جميعها أميّ ذاتيّ، محتدُهُ ذاتيّ، ومحتدُهُ نبويّ، إذ لا أعلى من النبوّة التي كانت المجلى الأعلى والأكمل الوجودي كما ذكرنا، فكان محتدُهُ هذا المجلى لا أقلّ منهُ، لأنَّهُ الأصلُ وليس الفرعُ، أصلُ تلك المرتبة والمحتد النبويّ، فهو النبيّ وهو الوليّ وهو الرّسول وهو الصّديق وهو حقيقة جميع المراتب، فلا مزاحمة هنا، فما كان ليعودَ إلى رتبته الشريفة إلاّ بالمحتد الأعلى الأكمل، المحتد النبويّ الرّحماني. فهو المجذوبُ الأكبر مجذوبٌ تامٌّ لله تعالى، تكفّلتْ به العناية ليُعطي حقيقة الولاية التي أعطت جميع المراتب حقّها، بصدقٍ تامٍّ. إذ سرُّهُ السرُّ الأعلى والأوليّ، السرّ الذاتيّ المحض دون سواه، فجسّدََ تراجعهُ وانحسارَ نفسِهِ من العروج السّماويّ السّلوكيّ، فاستولتِ النَّفسُ العنصرية على كونِهِ ومملكتِه وقائدُها إبليس، المسمّاة سامريّ النّفس الذي هو الدجّال الأعور الذي اختارهُ الله لهذه الوظيفة وهذه الصفة التدجيلية الكبرى، فظهرَ دجَّالاً يعيثُ في الأرضِ فساداً ودعاوى ربوبية فلم يدخل مكّة المعصومة وهي رمز الجذب الذاتيّ فليس للشيطان والنّفس لهما عليها سلطان ولم يدخل المدينة الممنوعة وهي رمز الصحو الذاتيّ مقام البقاء بالله تعالى وليس للنفس والشيطان عليها سلطان كذلك، واعتصَمَ الرّوح الإمام في بيت المقدس ليدلَّ اعتصامُ الروح الإمام المهدي هناك على ولاية المهدي الأصيلة وبقائه تحت عهدِ الرّوح فلم يستولي سامريّ النّفس على عرشه وجسمه ونفسه، وإن كان توجّه الدجّال إلى بيت المقدس يدلُّ كما قال الشيخ الجيلي قدّس سره على مقام التباس الكشوفات عند العارفين وغلطهم في تمييز الكشف الصحيح من الكشف المدلّس، فأعطى التجلّي الدجّاليّ حقيقة العبد الوليّ بالاصالة حتّى في التجلّي الظلمانيّ الأعظم الذي لا فوقه، إذ جميع التجليّاتِ من الله سبحانه وحده لا شريك له، فكان التجلّي الظلمانيّ للطبيعة العنصرية والكثافة الترابية وكان التجلّي النورانيّ للرّوح العارفة بربّها. فأعطى مشهدُ استيلاء الدجّال على الأرض جميعها سوى ما ذكرنا من مكّة المقدّسة والمدينة المنوّرة وبيت المقدس مهد الرّوح والإسراء ومحطّة العروج السماوي أنّ المهدي المجذوب هو الرّوحُُ الظاهرُ بجميع المخلوقات، والرّوح الأعظم الذي منه خلق الله الخلق والموجودات، فهو روح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فهو النبيّ في الحقيقة وهو الوليّ وهو كلّ شيءٍ، هو الأصلُ الجامعُ للاضداد والظاهر بها، فأعطى جميع المراتب والمحاتد حقائقها ورتبها وهو ثابتٌ في ولايته. لم يقدِرْ دجّال العنصر والظلمة أن يستولي عليه، وليس يقدرُ. إنّما هي حُجَّةُ الله على عباده وخلقه وملائكته ليُشهدَهم حقيقة هذا الخليفة وسرّه الأعظم بتحقّقه بجميع الأسماء الإلهية حيثُ فاتَ الملائكة في ذلك المقام الأوّل حين تساءلوا وتعاظموا خلافة الإنسان لمّا قالوا: {.. أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} وفاتَهُم أنّ حقيقة الخلافة هي التحقّق بجميع الأسماء الإلهية في أرض الخلافة، والتحقّق بجميع الأسماء يقضي بظهورِ آثارِها عليه، فإن كانوا قدّسوا الله بأسماء التقديس فقط، فالإنسانُ الخليفة قدّس الله بجميع الأسماء فظهرتْ آثارَها عليه، والغفور لا يتحقّقُ به المتحقِّقُ إلاّ بفعل المغفرة التي يكونَ قبلها الذنبُ، فكان للإنسان هذه الجمعية الأسمائية والتقديس الكامل الأتمّ فوق الملائكة لذلك أجابهم الله تعالى {قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ.}، ثمّ علّم آدم الأسماء كلّها، أي ما ذكرناهُ وتحقّقَ بها فشهدوا حقيقة التحقّق بجميع الأسماء، {وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُون} -البقرة-. فكانت الخلاصة أن اعتذرَ الملائكةُ وعرفوا أنّ هذا الخليفة الإنساني، وكان سيّدنا آدم عليه السلام وقتها خليفة ونائباً عن الخليفة الأوّل كما هو سياقُ الآياتِ، قلتُ فعرفوا أنّ هذا الخليفة فاتَهم وتجاوزهم في التقدّيس والتحقّق بالأسماء، فاستوجبَ الخلافة عليهم بذاتِ ما اعترضُوا عليه، فسبحان الملك العلاّم العزيز الحكيم. فلمّا ظهرتِ على المجذوب جميعُ الاستحقاقاتِ والتطرُّفاتِ والآثار والرّتب في الأرضِ بنواقضِها وأضدادها، استأهلَ بذلك السرّ الأعظم والشرف الأعلى والأفخم، فكان هو الإمام الأعلى والخليفة الأعظم المسمّى الرّوح بذاته، لينعكس ذلك في ظاهر خلافته ثمّ ينزلَ روحُ الله المسيح بن مريم عليهما السلام ليقتل الدجّال ويقدّس الأرض وعرش المجذوب، وقبل ذلك اي في سلوك المجذوب ينزل الرّوح عليه والتي هي عروس الحضرة و حور الذات فيتقدّس ويكمل ويُصلحُهُ الله في ليلةٍ، لأنَّهُ عبدٌ مجتبى مجذوبٌ أصليٌّ وليٌّ بالأصالة. وعروس الحضرة أو حور الذات سرٌّ من أسرار هذا الطريق. وهي التي يُكنّي عنها الصوفية بليلى وهند وسلمى، الظاهرة في شعرهم الصوفيّ الرّمزيّ. فهي الرّوح التي يلتقيها الأفرادُ في بحار الجذب الذاتيّ، لتعودَ بهم إلى عوالم التقديس. وليس ذلك إلاّ للأفراد الذاتيين أهل التقديس والتأييد بروح القدس. ورمز روح القدس هو النبيّ عيسى بن مريم عليهما السلام كما أخبر الله تعالى، فهو المظهر الصفاتي ولبوسها الظاهر في الأرض، لذلك سمّي روحُ الله.

يتبع ..