الاثنين، 17 فبراير 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 62



الإنسان إذن مجتبى، مطلقُ الإنسان، ولكن كان لهذا الاجتباءِ ثمنٌ، لمّا أعرَضَ هذا الإنسانُ عن حقيقته الكبرى التي اجتباهُ الله لها. وهذا الاجتباء الذي عنيناهُ هو نفخة روح الله فيه، فتأمّل يرحمك الله ما تعني نفخة روح الله فيك ؟

إنّها تعني أنّك لله منتمي ومنتسبٌ وأنّك مخلوقٌ على الصورة الإلهية التي تُعيدُكَ إلى ربّك، {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} (النجم-42)، {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق:8]، قال صلّى الله عليه وسلّم (خلق الله آدم على صورته). فهذا هو الشرف الأعظم، وقال صلّى الله عليه وسلّم (من عرف نفسه فقد عرف ربّه). كلّ عارفٍ لنفسه فهو عارف لربّه، لأنّ نفسك مخلوقة على الصورة، فلن تجدَ عند معرفتها وخبْرِ أغوارها وأسرارها سوى الحقيقة التي تستندُ عليها وتقومُ بها، وهي نفخة الرّوح الإلهي فيك، من غير حلولٍ ولا اتِّحادٍ ولا انفصالٍ ولا اتِّصال، بل لا موجودَ في التحقيق سواهُ، ولكنّك موجودٌ في عالمِ الإمكان، وعالم الحدوث، ومطلوبٌ منك أن تلتفتَ إلى حقيقتك وعالم القِدَمِ فيك، لأنّك مخلوقٌ بالرّحمة، ربُّك قال سبقت رحمتي غضبي، فهو الرحمن الرحيم، ومن الرّحمة ظهرَ الخلقُ، فالرّحمةُ أصلٌ والغضبُ عارِضٌ، فإنّما غضَبُ الله تعالى وُلِدَ من الرّحمة أيّها الإنسان، وفي هذه العباراتِ إشاراتٌ وحقائقٌ لأولي الألباب والعرفان، فتسمّى الله بالرحمن والرّحيم وما تسمّى بالغضبان ولا الغضوب، وكان اسمُ الرحمن اسمُ ذات، الرّحمن اسم ذاتي صفاتي، وكونُه اسمُ ذات، فتلك من أعظمِ الحقائق التي يطيرُ بها الخلْقُ فرحاً وشكراً. فالخلقُ مردّهم ومرجعم لربّهم ولذلك خلقهم. لذلك قال سبحانه (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ *
رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ) [آل عمران: 191]. وقال سبحانه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَـاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَـالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَـاهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [ المؤمنون: 115-116]. فانظُرْ ههنا، فقد خلق الخلْقَ لحقيقة التوحيد، إذ تلى سبحانه تساؤلَهُ المقرّر وليس المستفهم أفحسبتم أنّ خلْقكم ووجودكم عبث ورواية بلا معنى ولا حقيقةٍ تقِفُ وراءها ؟!! كلاّ بل خلْقُكم وحياتكم ووجودكم قامَ بحقيقة التوحيد وأنّه لا إله إلاّ هو سبحانه وأنّ كلّ شيءٍ يرجِعُ إليه وأنّكم ترجعون إليه في المنتهى، فسواءٌ رجعتُم بإرادتكم المودعة فيكم ووقوفكم على العواقب وفزتُم مع الفائزين، أو لم ترجِعوا من بابِ التوبة والعبودية والمنّة منّي إليكم، فسترجعون من بابِ الاستحقاق والنَّارُ مثوى لكم جزاءً بما كنتم تكفرون، والكفرُ لغةَ هو السّتر، أي جزاءً بما سترتُم الحقيقة النّاصعة بين أجنابكم الواضحة في حيواتكم ودنياكم، فآثرتُم طريق الظنِّ والوهمِ والشهوات والمتع والغفلات على الحقّ السّاطِعِ، وعلى ما أرسلتُ لكم من رُسلٍ تُنذركم العواقب والجزاء وتُبشِّرُكم بالعطايا والثواب، وتُعلِمُكم بحقيقةِ الدّنيا وسرّ خلقكم وآجالكم المحدودة ونقصكم المشهود وأقدارِكُم المتناوبة عليكم بين الجمال والجلال والخير والشرّ والمنح والمحن، إنّما تناوبتِ الأقدار بين الضدّين لتوقظَ فيكم عجزكم ونقصكم وحقيقتكم وعبوديتكم لربّكم فتشهدوها بين الشّكر والفرحِ بنعمه في حالِ السّرَّاءِ فتشكروهُ، والالتجاءِ إليه والتضرّع في حالِ الضّرّاء فتصبروا وتتضرّعوا إليه وتستغفروه ولا تستكبروا عن عبادته. فكلّ شيءٍ في الحياةِ قامَ على حقيقة التوحيد وبدأ من الرّحمة ولا يخلو من الرّحمة مُطلقاً، سواءٌ ظاهرةٌ أو باطنة، لكنّ أكثرَ النّاسِ لا يعلمون، وما كانَ ربُّكَ بظلاَّمٍ للعبيد، أي أقدارُ العبيدِ استوجبَتها حقائقُهم، واستوجبتها تفاعلاتُهم وردَّاتُ فعلِهم، كلٌّ بقانون وحسابٍ وسنن لا تحيد، فمن شكرَ فلهُ المزيد {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ}، ومن صبرَ فلهُ العاقبة الحسنة {سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}، ومن كفرَ فاللَّهُ غنيٌّ حميد {وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}.

فالدّنيا كلّها من بدايتِها إلى نهايتِها دالَّةٌ على هذه الرّحلة، رحلة الإنسان من مواقعِ نفسِه إلى حضائرِ قُدسِه، وقد ذكرنا ذلك في البداية وقلنا لخّصها المجذوب الخليفة، وهو ختامُ هذه الدّنيا، ليدلَّ على حقائقَ باهرةً غفلَ عنها أكثرُ النَّاسِ، وليدلَّ كذلك لصاحب علمٍ وبصيرةٍ أنّ هذا الختم هو الخليفة والوليّ والأصلُ والإمامُ والمالك والسيَّدُ الصَّمدُ. فكلّ إنسانٍ لهُ رحلتُهُ الخاصّة به إلى نقطة الذات، ولكن هناك من استأهلها من بابِ المنَّةِ والاجتباء الربّانيّ في الدّنيا فسعى لها وقدّمَ لها أسبابَها وآثرَ الحياة الحقيقية على الحياة الدّنيا، بل آثرَ وجه ربّهِ على ما سواه، فصحّ له الفناء في الله ثمّ البقاء به، فكان من أهلِ الطهّارة الذاتية وأهل الكمال الإنسانيّ وطوى رحلته وقامتْ ساعتُه وتجلّى لهُ مهديّهُُ، واستوى عليه الإسمُ الأعظم. فصار نائباً عن الخليفة الأوّل المهدي الخاتم صاحبِ سرّ الإسمِ الأعظم. وهناك من ينالُ تلك المنّة عندَ موتِهِ لما كان عليه من عظيمِ الطّاعة والإيمان والتقوى ولكنّه لم يفنى تمامَ الفناء فأدركتهُ العنايةُ ونالَ مقامُه عند الموتِ رحمةً من الله له، وإن كانت ساعته الصّغرى هي مثلُ ساعة فناءِ الكامل الذي تحقّق في حياته، ولكن هذا كملَ عند موته، وإن قلّ هؤلاء فهم موجودون، وقد يكونُ منهم الشهداءُ الصادقون الذين قدّموا أرواحهم في سبيل الله تعالى، وهناك من ينالُ ذلك المقامِ في الجنان في الآخرة بعد ترقيَّاتٍ كبرى، وأهلُ الجنّة لا يزالون في زيادة أبد الآبدين، وهكذا. وخصوصاً من يكونون تحت عهد مشايخ صدقٍ مربّين، فإنّهم يتعهّدونهم حتّى في الجنان بمزيدِ عناية لينالوا مقام الرّحمة الكامل. ويتحقّقوا بسرّ الإسم الأعظم.

فإنّ من أعظمِ المنن على النّاس، أن خلقهم الله تعالى من نوره، فخلق سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم من نوره، وخلق من نور سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم جميع الخلق. فإن وقفتَ على هذه الحقيقة المذكورة هنا، عرفتَ أنّ كلّ مخلوق وخصوصا الإنسان المخلوق على الصورة، فيه هذا السرّ السّاري والنّور الذاتيّ، فإن فهمتَ أنّ اسمَ الحبيب المصطفى صلّى الله عليه سلّم السرّ الساري في الأشياء والأكوان والنّور الذاتيّ، فاعلم حينها أنّهُ سارِ فيكَ أيّها الإنسان وباطنٌ فيك هذا النّور وهذا النبيّ صلواتُ الله وسلامه عليه، لذلك قال الله تعالى
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ}، فرسولُ الله فينا، في كلّ عبدٍ منّا، وفي كلّ مخلوقٍ سارٍ فينا نورُهُ صلّى الله عليه وسلّم، وإن شئتَ أن توقنَ أكثر فاقرأ قوله تعالى كذلك {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56)}. الأحزاب. إنّ حقيقة الصّلاة على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتخصيصهُ بها ليس أمراً عبثاً وجزافاً، بل لكونه صلّى الله عليه وسلّم هذا النّور الذاتيّ وهذا السرّ الساري فينا وفي العباد وفي جميع المخلوقات، ما من شيءٍ إلاّ ونورُه صلى الله عليه وسلّم فيه، لأنَّهُ المحتد الرّحماني والمحتد الإلهي الكمالي الأعلى، الذي لولاهُ لما خلقَ الله أيّ شيءٍ، فافهم الذي نقولُه، فإنَّ النّسبة القائمة بين الخلق والخالق هي هذا المحتد الرّحماني والكمالي الأعلى، إذ لولا وجود هذا المحتد الكمالي الرّحماني لما قامتْ الصّلة بين الخالق الذي لهُ مُطلَقُ الكمال وبين المخلوق مهما كان هذا المخلوق في درجات نقصه أو كماله، فكلّ مخلوق وكلّ شيءٍ في الوجود لهُ تلك الصّلة وتلك النّسبة وذلك المحتد الرّحمانيّ الكمالي الأعلى فيه، ليَدلَّ فيه على وجهِ الله سبحانه، وما من شيءٍ في الأصلِ إلاّ وحقيقتُه وجهُ الله سبحانه وذاتُه، فتلك هي القيومية التي قامت بها الأشياءُ والأكوان والمخلوقاتُ جميعاً، أنّها قامتْ بالله سبحانه وما قامت بنفسها، والإنسانُ فيه نفخة روحِ الله فيه وهي وجهُ الله وذاته سبحانه، قال الله تعالى
{وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} البقرة-115. فوجهُ الله باطنٌ في كلّ شيءٍ، والوجهُ هنا هي ذاتُه سبحانه، فاعلم وافهم، فإذا فهمتَ هذا عرفتَ عِظمَ الشرفِ وعظمَ القدرِ المنطوي فيك يا ابن آدم بالصّورة ثمّ بهذا الوجه الذاتي والسرّ الساري فيك، فحقيقتُك الرّجوع لوجه الله سبحانه، لتشهدَهُ سبحانه به وتشهدَ به الأشياء، الاشياء الأخرى ليست لها الصورة التي للإنسان، والصورة هي الأمانة وهي القابلية للرّجوع والشّهود والحياة بالله تعالى، أمّا الأشياء فليس لها تلك القابلية لذلك ليس لها التكليف، فالتكليف هو سرّ التشريف، قال الله تعالى {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72)} الأحزاب.
فإذا وقفتَ على ما قلناهُ عرفتَ معنى أنَّهُ رحلة البشرية وتاريخها ورسالاتِ الأنبياء عليهم السلام هي تجسيدٌ لحقيقة رحلة الإنسان إلى الكمال وإلى الذات، فانظُرْ كيفَ ختمَ الأنبياء خاتمها المبعوث رحمةً للعالمين واسطة الخلق إلى الله تعالى صلّى الله عليه وسلّم، ففتحَ باب الأحمدية وباب الولاية الكبرى، باب الإسم الأعظم، ثمّ استمرّت حياة الأمّة المحمدية بخصوصياتها وعمومياتها، ثمّ وقع الانحسار والتدهور والانحطاط في نصف اليوم الثاني أي في النّصف الألفي الثاني من عمر هذه الأمّة المحمدية، كما قال صلّى الله عليه وسلّم "إن صلحت أمّتي فلها يومٌ وإنْ فسدت فلها نصف يوم"، وذلك ليتجلّى التدجيل والظلمة وتقومَ دولة الدجّال والشيطان وفساده الأكبر في الأرض، ليظهرَ أخيراً خاتم الولاية والوجه الإلهي للخلافة الإنسانية في مظهره الذاتيّ المتمثّل في المهدي عليه السّلام.
فتدبّر ما قلناه، ففي الإنسان المحتد الرّحمانيّ لأنَّهُ منه مخلوق، وهو نور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهو معنى الصّلاة عليه من الله تعالى، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم

((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً وَاحِدَةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ عَشْرًا)). فتلك الصلاة من الله تعالى على المظهر الأكمل والنّور الذاتي والسرّ الساري هي في الحقيقة صلاةٌ على الخلق كذلك، وينالُ أنوارَ هذه التجليّات والصلاة من الله تعالى سبحانه المؤمنون والمصلّون والمقتبسون من أنوار الله سبحانه والمتعرّضون لها، لذلك خصّ بالصلاة والتجلّي الكامل الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو القاسم لما أعطى الله تعالى وما تجلّى به علينا، فهذا هو معنى الصّلاة عليه وتخصيصه بها أزلاً وامتداداً وأبدًا في قرآنه الكريم.
فقلنا إنّ فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو القاسمُ لنا من عطايا ربّنا، وهو الشَّفيعُ لنا يوم القيامة خصّ بقوله أمّتي أمّتي يوم يقولُ جميعُ الخلْق والأنبياءُ خصوصاً عليهم السلام على عظم قدرهم وعلوّ عزمهم : نفسي نفسي، فهو لها. فهو الشّفيع المشفّع، وهو القاسم الأمين، وهو صاحب لواء الحمد من الخلق لذلك ينالُ المقام المحمود، ولنا عودة لهذه الجزئية جزئية الحمد والمقام المحمود إن شاء الله تعالى. الخلاصة أنّ فينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وفينا كذلك كما قلنا الوجه الذاتيّ لله سبحانه، ونفخة روحه. كما سُقنا الآية الكريمة
{فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ}. ورحلةُ الإنسان والسّالك نحو الكمال، هي هذه الرّحلة هي رحلة التحقّق والتشرّع بالمحمديّة ثمّ التحقّق بالإسم الأعظم، ليبصح خليفة ذاتياً وفرداً، والفردانية جاءت من التفريد، وهو أعلى درجات التوحيد. وهو أي التفريد يعني توحيد الله تعالى بإسقاط النّفس وشهود الله وحده لا شريك له، وهذا توحيد الأكابر. لذلك سُمُّوا الأفراد. فالسّالك يتحقَّقُ بواسطة الرّسول وشريعته واتّباعه فيفنى فيه، فيقودُه ذلك للفناء في الله سبحانه واستواء الإسم الأعظم على قلبه،كما سبق أن ذكرنا أنّ القلبَ القارئ لكتاب الوجود والمفتاحَ الفارعَ لباب الشهود هو القلبُ المحمديّ،فكانت الرّحلة الإنسانية وتاريخ البشرية متّجِهاً لهذا الاتّجاه، فكان خاتم النبوّة سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم ثمَ كان ختامَ الدّنيا وعلامة قيام السّاعة والخروج عن الأكوان هو ظهور المهدي عليه السلام. وخروج الشمس من مغربها. فتأمّل هذه الحقيقة وهذا الرّبط لتفهمَ الحقائق والوقائع والأحداث وأنّها كانت بتدبيرٍ وحكمةٍ محكمةٍ منهُ سبحانه، دالّة على الحقائق المكتومة، فختْمُ الولاية والوجهة الذاتيّ هو الوليّ. وهنا كلامٌ كثيرٌ يتداعى عند هذه النّقطة، ولكن نضعُ على قدرِ ما جادَ بهِ الموضعُ والاسترسالُ. ولذلك لمّا سألَ سيّدنا جبريل عليه السلام سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح المشهور : ((...فأخبرني عَنْ الساعة؟ قَالَ: "ما المسئول عَنْها بأعلم مِنْ السائل" قَالَ: فأخبرني عَنْ أماراتها؟ قَالَ: "أن تلد الأمة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان!" ثم انطلق فلبثت مليا ثم قَالَ: "يا عمر أتدري مِنْ السائل؟" قلت : اللَّه ورسوله أعلم. قَالَ: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم")) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فقال لمّا سألهُ عن أمارات الساعة، أن تلِدَ الأمةُ ربّتها. فإنّ من معاني هذا الحديث، المعاني الإشاريّة الحقيقيّة البطونيّة، أنّ الأمة تلد ربّتها، أي يظهرُ وجهُ الربّ فيها، ويظهر المظهر الذاتيّ، فيظهرُ الوجه الإلهي والمحتد الذاتيّ المودع في المخلوق، فمن علامات السّاعة والفناء والتحقّق السّلوكي هو قيام الساعة واستواء الإسم الأعظم كما كنّا نقول، فافهم، وليس ذلك سوى ظهور المهديّ، والوجه الذاتيّ، والتحقّق بالكمالات الإلهية والأخلاق الربّانية كما هو معلومٌ. ولهذا كان من علاماتِ السّاعةِ أن تلدَ الدّنيا وجهها الذاتيّ الربّوبي، الذي هو المهدي عليه السلام المظهر الذاتيّ للحقّ سبحانه. وهذا قد ذكره الشيخ المحقّق الجيلي قدّس الله سره في كتابه الإنسان الكامل. فانظُرْ ما في هذه الحقائق من دويّ وزلزلةٍ للذين يرفضونَ الحقائق الصّارخة التي كانت مكتومةً.

ولعلّي أضعُ هنا بالمناسبة تعريف إسم الوليّ، كما وضعه الإمام الجيلي قدّس سرّه في كتابه الكمالات الإلهية، لنعرفَ معنى مسمّى الوليّ حقيقةً. ونعرفَ بذلك معنى ختم الولاية، وخاتم هذا الإسم ختماً استوفى كلّ معانيه وحقائقه.
قال المحقّق الجيلي في باب معرفة ما لله من الأسماء والصفات/ فصل اسمه "الوليّ" :
((هو المتولّي أمر الوجود بذاته، المتجلّي بذلك بأسمائه وصفاته، فكلّ ما عليه الكون من الظهور والبطون، والتبديل والتغيير، والتحويل والنقص والكمال والإيجاد والإعدام والتقدم والتأخير، والحدوث. وغير ذلك ممّا هو للوجود بأسره. فالله سبحانه وتعالى متولّي أمر ذلك. فجميعه راجع إليه صورة ومعنى، وجوداً وحكما.
وهذا الإسم يستحقّه الإنسان الكامل إذا كان الإنسانُ متوليّاً لله بذاته وصفاته لذاته وصفاته. وكان التولّي الإلهي للعالم الكوني راجعا إليه كما هو راجع إلى الله تعالى فيكون الوليّ هو ((الله)) تعالى. قال الله عزّ وجلّ
{فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ}. ﴿الشورى-9﴾. وقال {أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّـهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} ﴿يونس-٦٢﴾. فالله ولي العالم، والإنسان الكامل ولي الله.
وهذا الأسماء إسم من أسماء الصّفات. وصفته : الولاية.
وهي عبارة عن مرتبة التصرّف الكمالي في الوجود من غير مانع ولا عجز ولا عن نيابة. بل تصرف المالك في ملكه. وذلك هو مقام القطب الأكبر الغوث الجامع ((رضي الله عنه)). ))
انتهى.

فهذا توضيحٌ ليس بعده توضيحٌ لمرتبة الوليّ، ولمّا كان الوليّ بالأصالة والخاتم لها الذي كان وليّاً وآدم منجدلٌ بين الماء والطّين، وكان غيرُه ما تحقّق بالولاية إلاّ بتحصيل شرائطها فحينئذٍ تعلمُ أنّ الوليّ هو الله سبحانه، والظاهرُ بهذه المرتبة والولاية الأصالية المختومة هو الخاتم المهدي الخليفة.

وسوف نعودُ -إن شاء الله- للحديث النبويّ المشهور عن علامات السّاعة لنذكرَ بعض أسراره ناهلين ممّا ذكره المحقّقون، ونقصدُ هنا المحقّق الجيلي فقد أشار بعض إشارات تلك الأمارات. وهي دالَّةٌ كلّ الدّلالة على مرتبة هذا الختم وحقيقته. فكان لزاماً وحتماً على ربّك مقضياً أن يظهرَ هذا الخليفة الخاتم في نهاية الدّنيا، ليُعطي الوجه الإلهي ويُعطي معنى قيام الساعة والخروج عن الأكوان. فهو أصلُ جميع من تحقّق من الخلفاء بتلك المرتبة مرتبة الولاية والإسم الأعظم.

يتبع ..