الثلاثاء، 23 فبراير 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 83





وذكرتُ قصّة إبليس ومذهبه المتقلّب المخذول، في المقال السّابق، لأعرِضَ في الطريق إلى الدجّال كيفَ خدعَهُ إبليس وغرّهُ، وأقنعهُ بالوهمِ المحقّق، في خُدعة انطلَتْ عليه، وكذلك تنطلي الخُدَعُ على كلّ عابدٍ لهواه متألٍ على الله تعالى. ذلك السّامريّ الذي هو الدجّالُ، لمّا ترعرعَ في صغره، وجدَ نفسَهُ غير عاديّ النّشأة ويختلِفُ عن غيره، إذ بدأ يكتشفُ في نفسه قوّةً خارقةً، وحواساً تتجدّدُ، واستشفاءً يتجدّدُ، وتحكّماً خارقاً في تجديد قوّته، وفي خرق العوائد بالنظر الحديد الذي يطوي المسافات ويخترق الجدران والطبقات الأرضية والسحاب، وغير ذلك من الخوارق الظاهرة، كما هي أفلام الأبطال الخارقين التي ملأت بهم هوليود مسامعنا وأبصارنا، لأنّ الرّاوي هو الدجّال، يبثُّ ويروّجُ لنفسه ولأفكاره ويمهّد لظهوره. أمّا لماذا كانت له هذه النّشأة دون غيره ؟ فذلك لما ذكرناه سابقاً أنّه كان في سابق مشيئة الله تعالى يمثّلُ النّفس الكثيفة وميلها للعنصر والمادّة،  واستحكامِ الهوى فيها وجريان الشيطان في دمِ جسمها وعروقها يغذي وجوده فيها، بطلبِ ما تميلُ إليه من شهواتٍ مختلفة ورغباتٍ لا تتناهى، تلك الرّغبات والشهوات والطّباع على قدرِ الأخلاقِ البشرية التي كانت متقابلةً بين العلوّ والسّفل، وبين الفضيلة والرّذيلة، وهي أخلاق كثيرة لها أمّهاتٌ معدودة، ولكنّها كفروع كثيرة، فما يُقابلُ الإنسان بكماله وفضائله الإنسانية هي أخلاق الحيوانات وطباعها أي ما يُقابل علوّ الكمالات هو سفل الطباع الحيوانية، والإنسانُ مخلوقٌ جامعُ كما هو معلوم، فكان جامعاً لجميع طباع وأخلاق الحيوانات؛ جامعاً، نريدُ أنّ النّاس طباعها اختلفت بقدرِ تفاوت طباع الحيوانات الكثيرة العدد في الأرض. ووجود تلك الطّباع الحيوانية في الأرض هو وجود القابلية في البشر للتخلّق والانطباع بتلك الطّباع. فهذا تحقيق، ولذلك قد يصدِفُ أن تقرأ  كلمة الإنسان الحيوان في أثبات وكتب الشيخ الأكبر أو غيره من بعض العارفين الأمجاد. أو تجدُ مقابلةً بين الإنسان الكامل والإنسان الحيوان. لأنّ الإنسان الكامل هو الذي رجع إلى صورته الأصلية التي خلق عليها، وهي الخلافة والأخلاق الإلهية، أخلاق الأنبياء عليهم السلام وورثتهم الأولياء رضوان الله عليهم. والإنسان الحيوان هو الإنسان النّازلُ عن مرتبة الكمال والصورة التي خلقه عليها ابتداءً؛ ولا تعني لفظة إنسان حيوان "اصطلاحاً" مذمّةً بإطلاق، بل بحسبِ أخلاقه، ففي أخلاق الحيوان ما هو محمود ومطلوب كشجاعة الأسد، ووفاء الخيل وحنين الحمام، وصبر الجمل واجتهاد النّمل ونظام النّحل ونباهة الهدهد، وهكذا. وفيه أخلاق حيوانية هابطة بهيمية وشهوانية وسبعية وانحطاطية وغيرها، كالخنزير الذي مثّل عدم الغيرة ومثّل الميل للشهوات بصفة عامّة. فقلنا مثّل السامريّ النّفس الميّالة للهوى، وهي الجسم المؤتمِرُ بشهواته وحظوظه وأناهُ ينفثُ في روعه الشيطانُ، وعليه العقل الترابيّ قائدٌ. والعقلُ التّرابيّ هو عينه هذه النّفس الكثيفة المائلة للهوى المنقطعة عن النّظرِ إلى العواقب، وإلى الغيب، وإلى حقيقة الإنسان في هذا الوجود. فصار هذا العقلُ الترابيّ أسيرَ وجوده الحاضر، دهريّ الاعتقاد أنانيّ التفكير أرضيّ الارتباط ماديّ النّزعة، وكان للساّمري الدجّال تلك القدرة الخارقة والتعمير في الأرض منذ عهد سيّدنا موسى عليه السلام، لأنّ الله جعلهُ ظلاًّ للخليفة في المادّة والجسم الكثيف والعقل الترابيّ المحكوم بطباع الجسد والعناصر فيه، من حيث كونِ الخليفة جامعٌ لكلّ القوالب فهو الظاهرُ بها، وتوالي الأدوار والنشآت الإنسانية عبر الحقاب كانت صور تجليّات الخليفة في تلك الأدوار والنّشآت، من أوّلها لآخرها، فكان العقل الترابيّ المنقاد للعالم الأرضيّ والأكوان والرغبات العنصرية والمحكوم بطباع الجسد للخليفة وهو في تركيبه العنصريّ والبشريّ أي جسد المجذوب وعقله الترابيّ، كان قد مثّله الدجّال، كذا قضى الله تعالى، لأنّ الخليفة أنشأه الله في آخر الزمان مجذوباً ليُقيمَ به الحجّة على الخلائق والملائك أي ولياًّ وليس نبيّاً معصوماً، فالنبوّة بابٌ آخر، ومختومةٌ من خير الخلق وصفوتهم روح الوجود وسيّده صلّى الله عليه وسلّم، وهذا المجذوب وليّ مكتومٌ، ولايته مكنونة في سرّه، قبل أن يخرج من تركيبه العنصري، إلى مرتبته الكاملة المطلقة. ليجمع هذا المجذوبُ صور الأضداد كما ذكرنا، وليجتمع فيه جميع أقدار البشر والعالم، فهو الإنسانُ الكبير وهو القطبُ الأعظم. فمثّلَ الدجّالُ قرين المجذوب، قرينه أو عقله التّرابيّ ولاوعيه المغزول بعالم الوهم والأكوان والذي لم يخرج من أسرِها وظلالِها.

والقرين هو جسم المرءِ الكثيف المنقاد للهوى بخيوط الشياطين التي تجري في عروقه ودمه، تطالبُهُ أن يروي حاجاتها المادية وأهويتها وشهواتها، وهي تسري في دمه وعروقه كما أشرنا كالجراثيم الدّقيقة، كظاهرة إدمان، يُغذّيها ليل نهار، من شهواته ورغباته، وفضول طعامه وطبائع عنصره وهو لا يدري، ولا تزالُ تطالبُ وتُطالبُ حتّى تهوي به في قعرٍ سحيق، من الدّونية والبهيمية. كذلك ركّبَ الله سبحانه في الإنسان هذه الحقائق، وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم  ‏(إنّ الشيطان يجري من ابن ‏ ‏آدم ‏‏ مجرى الدم) صحيح البخاري ومسلم. فالدجّالُ هو الصورة الجامعة لأهل الشمال والكفر، أي القرين الكلّي الجاذب للأرض والطبائع الدّونية المخالف لكلّ نورٍ وروحٍ قدسيّ، فهو ظلّ الكثافة ووجهها الرديّ الهابط السّفليّ، وهو المادّةُ مفصومةً عن روح القدُسِ وحقيقتها النّورية، لأنّهُ (أي القرين في كلّ شخص) يُصادِرُ ما يأتي من الله سبحانه بواسطة الرّوح وينسبُهُ لنفسه وأناهُ، وفي كلّ شخصٍ وفي كلّ بشرٍ قرينُه، هو هذا التركيب الثنائي بين جريان الشيطان في دمه، وبين أوهامه المتراكمة في عقله الترابيّ اللاّواعيّ النّازعة للأرض والتراب والماديات وما سوى الله سبحانه، النّازعة لمحسوساتها وأكوانها. ولذلك لو رجعت لمشايخ التزكية والسلوك كمثل الإمام أبي حامد الغزالي رضي الله عنه في كتابه المجيد : إحياء علوم الدين، لوجدتَ مذهبه في تفكيك الأخلاق والعيوب، يذهبُ إلى شقّين: شقّ العلم، وشقّ العمل والمجاهدة. فالعلمُ هو تصحيح المفهوم وتوضيح النّظرة إلى خطر هذا العيب وضرره أو ذاك الخلق وأثرهُ وثمره، ثمّ المجاهدة التي لها أركانها ووصفتها الخاصّة بكلّ خُلُقٍ، وكان الذكرُ أحد أعمدة العلاج، لأنّه يَجلُبُ النّور، ويُذهِبُ ظلمة العروق في الجسم، ويحرِقُ وجود الشياطين فيها. فتخفّ كثافة النّفوس وترقُّ لاستقبال وارداتِ الحقّ، وتتهيّاُ للتخلّق بالأخلاق الحميدة الفاضلة والزكيّة.
إنّ ما ابتُلِيَت به الأمّة في القرون الأخيرة من محاربة ركن السّلوك والتصوّف والمشايخ العلماء العاملين وتضليل مسلكهم، لهو مُرادٌ من الأعداء، بدقّة وقصدٍ عظيم، ليرتعَ العدوّ بلا مقاومة ولا دفاع ولا ثغورٍ تحرُسُ الأفراد والمجتمعات. ويذهبَ روحُ الدين، ونورُه المُقِيمُ في القلوب، ويبقى التديّن المغشوشُ القائم على المظاهر والطّقوس، الحافظ للمتون والحروف، تغشّهُ طقوسُه ومظاهرُهُ التي تُشبُهُ عبادات السّابقين وشكلَ إقبالِهم على الله تعالى، ومنطقهم في الكلام المنظوم المنثور، وهي مفرغةٌ من كلّ رُوحٍ ونورٍ وتزكية وعلْمٍ بمداخل الشيطان، ومكائده التي تهوي بالنّفوس في مهاوي الرّدى والهوى والهلاك. فالإنسانُ لهُ ظاهرٌ وله باطن، فظاهره الأفعال والأعمال والطاعات  الظاهرة، وباطنُه الأحوالُ والصّفاء والإخلاص والأنوار والأسرارُ والتحرّر من العيوب الباطنة المهلكة التي لا تظهرُ في الظاهر، ولكن تُرى بعين البصيرة الحديدة التي يملكُها ورثة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فيرونَ أمامهم كلّ مُريدٍ مقبِلٍ عليهم، وكلّ شخصٍ وعروقه الأساسية والفرعية، المُضاءُ منها بالنّور والمصفّى من الظلمة، والمظلِمِ منها والمُدنّس بالعيب. ويُقدّمون لكلّ مريدٍ وصفتَهُ الخاصّة، بطريقتهم الخاصّة، ولذلك كان التسليم والتعظيم للشيخ المربّي (حينما يَثْبُتُ بعلاماتٍ أنّه شيخ حقّ ومسلسل بالسّند المتصّل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم) كان التسليم والتعظيم للشيخ هو شعارُ هذه المدارس الصوفية المنوّرة، فهو الطّبيب المحمديّ الشهاديُّ على قدم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، واسطةٌ في عالم الملك والشهادة بين المريد وربّه، بين عالم القدس وعالم النّفس، ولا بدَّ أن يكونَ واصلاً لعالَمِ القُدس ليسلك بأصحابِ النّفوسِ الدّربَ إلى ذلك العالم، وإلاّ فكيف يدلُّ القاصدين مقطوعٌ ؟! وكذلك قلنا المحمديّ "الشّهاديّ" أي حيُّ موجودٌ في عالم الشهادة، وهذا مهمّ وأساسيٌّ، وشرطٌ لإقامة جسر الواسطة والمدد، وجسر التسليك والتربية، ومن هنا جاء مفهوم الوراثة والاستخلاف الذين أقامهم الله تعالى في هذه الدّنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. فلمّا غابَ هذا الفهمُ، وهذا العلمُ، وهذا الاستشراف عن هؤلاء المتأخرين، أو غيرهم من المنكرين الظاهريين، أنكروا واعترضوا وضلّوا وأضلّوا، وفتحوا الثغور والأبواب للعدوّ، وقد صارت الشياهُ بلا راعٍ يحرسُها، ولا حائلٍ يحولُ بينها وبينه، فهجمَ العدوُّ، وبانَ عوارُ وجهل وخيبةُ هؤلاء، وفضحهم الله تعالى. وعرفوا عِظَمَ الأخطار، وهول الموقف، وهجير الصحراء، وظلمة الدروب، التي لا يملكون عنها دليلاً، ولا سلاحاً، ولا طائلَ لهم بمواجهة ما رأوه، ولا حول ولا قوّة، ووجدوا دروعهم وهمية وسيوفهم خشبيةً، بل وجدوها سيوفاً مصنوعة من العدوّ مهمّتها العملُ لصالحه وهم لا يشعرون، ودورُها الطّعن في ظهورِ وصدورِ الصّادقين المجاهدين في الله حقّ جهاده. المنافحين عن غيرهم من المؤمنين والمسلمين والمستضعفين في الخفاء، الواقفين على الثغور يذوذون أزماناً وأزماناً عن الأمّة شروراً  كانت قد خفيَتْ. فجاءَ زمنُ المحاسبة والمعاقبة، فذهبَ حُرّاسُ الثغورِ، أو قلّوا وفقاً لإرادتكم ومنهجكم وسعيكم الحثيث الذي تبنّيتموه، وترككم الله مع العدوّ وجهاً لوجه، فانظروا ماذا أنتم فاعلون. وهيهات، هيهات أن يقدرَ الخاوي الخائب الجاهل الفاقِدُ لكلّ علم ونور وبصيرة حقيّة وزكية وسنيّة أن يواجه أولئك الأعداء المحترفين الخبراء الذين مهمّتم قطع طريق النّور، ووأدُ مسالك التزكية، بل كيف يواجهونهم وهم من صناعتهم وتلاميذهم وإن لم يشعروا بذلك.

فقلنا لذلك قد كان عقلُ الدجال التّرابيّ كذلك كلياً لجملة القرناء والأشباح البشرية، كلياً من حيث كونِه ظلاًّ للعقل الترابيّ للمجذوب الخليفة، قبل أن ينسلخ من تركيبه العنصريّ، إذ يحدثُ للمجذوب هذا الانفصام، أو هذه الحرب بينه وبين قرينه، وعقله التّرابيّ ولاوعيه، وقرينه فكان انعكاس قرين المجذوب وعقله التّرابي هو الدجّال، في مظهر الكثافة، وإبليس في مظهر اللّطافة، لأنّ إبليس هو معلّم الدجّال، وهو مغويه كما بدأنا الإشارة.قلنا في مظهر اللّطافة فإبليس يُمثل جريان الشياطين في دمِ الجسم كالجراثيم تغذيها وتغذي الرّغبات العنصرية والطّباع الحيوانية، طبعا الدونية منها، (قلنا "تُغذيها وتُغذي" لأنّها عملية ثنائية الاتجاه متبادلة الدّور) ومن هنا جاءت أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كقوله ((ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه)) رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه.
لأنّ الإسراف في الأكل يُقوّي العنصر والتراب في الإنسان فيثقلُ عن الجانب الرّوحي، وهو معنى تقوية نفثات الشياطين فيه، ووجود فسحةٍ أكبر لمداخلهم ووسوستهم. وهم يجرون من بني آدم مجرى الدم كما قال النبي صلى الله عليه وسلّم. من هنا فالشيطان كان له تأثيرُ الوسوسة ومداخل الهوى بحسبِ ما يجِدُ من ثغراتِ في النّفس، ولم يكن له أكثرُ من تلك القدرة الإغوائية الغيبية. بيدَ أنّ الدجّال، فهو حالةٌ مختلفة وأقوى، وهو وجودُه الكثيف واستعماله للقوى المحسوسة والمادية والإنسية والسّحر للسيطرة والتضليل والتدجيل، وإن كان لا يظهرُ صريحاً إلاّ بعد الخلافة الإلهية المهدية بعد فتح الرّوم. وإن كان يمهّدُ لظهوره ووجوده تمهيدا قويّا كبيراً قبل ظهور الخلافة الراشدة الإلهية، أي يكونُ على وشكِ الظهورِ وإتمامِ مراحل إعداده في الأرضِ حتى يظهرَ المهديّ فيقطع عليه الطّريق. فقلنا للدجّال صولةٌ أكبر، لكونه يُمثل العقل الترابيّ الباطن اللاّواعي للمجذوب، الذي يحاربُ المجذوب فيه. فصورة حرب المجذوب بينه وبين قرينه فيه، أي جسمه وعنصره وعقله التّرابيّ ينعكسُ ذلك واقعاً، وهذه من أعجب الحقائق، لا تُشهدُ إلاّ في آخر الزمان بقرب ظهور المهديّ، وهي علامة كونِ المهديّ جامعاً لأقدار الخلق، وقطباً وهو لم يخرج من تركيبه العنصريّ. فيكونُ لعقله الترابيّ الصولة على الجسد وسائر الأرض، لأنّها من عالم المحسوسات. فينعكسُ ذلك في صولة الدجّال وإبليس وأتباعهما، وظهور الفساد في الأرض فسادا وظلما عظيما وذلك قبل ظهور المهديّ. عبّر عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بأحاديث صحيحة بقوله : (( أبشركم بالمهدى يُبعث فى أمتي على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما...)). وقوله ((لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلما وجورا وعدوانا، ثم يخرج من أهل بيتي من يملأها قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وعدوانا )). والتعبير الذي قصدناه قوله صلى الله عليه وسلّم : يملؤها قسطا وعدلا كما ملئت قبله ظلما وجورا. وهي روايات كثيرة بهذا الوصف والتعبير. فالأرضُ ملئت ظلما وجورا وعدوانا، وانظُر في تعبير "ملئت"، فهو امتلاء، وطغيان كبير عجيب، وفساد لا يُقارن، هذا الفسادُ قبل ظهور الدجّال، وقبل ظهور المهديّ وخلافته الراّشدة، وهو يُعبّرُ عن تمهيد الدجّال لظهوره، وظهور الدجّال الخفيّ، بالقوى الكبرى الظالمة، والهيمنات الأساسية للموارد : عسكرية واقتصادية وسياسية واجتماعية وفكرية وإعلامية ... والنزعات الدينية والقبلية والعنصرية والتحريضية بين الناس، ويكثر الهرج والمرج، وهو القتل والتمرّد، والكيد للطيّبين والصالحين، والمستضعفين، والتفاصيل موجودة في أحاديث آخر الزمان الكثيرة، بين صحيحها وضعيفها. تفاصيلٌ مذهلةٌ في فساد آخر الزمان. لأنّ القطب مجذوب، وهي علامة كبرى في ختمية هذا القطب، ومعنى ختميته يقيمُها الله حجّة على خلقه وعباده، يعرّفُهُم قدرَ هذا الإمام والأمير، فيعرفوا قدرَه، ويعلموا عن يقينٍ وبصيرةٍ، أنّه الرجلُ المنتظر الذي تنتظرُهُ الأرضُ، لأنّ الله أودعَ فيه ما لم يُودِعْ في غيره، وأنّه مجلى سائر الأقدار بين خيرها وشرّها. فتجلّى قرينُه في العالم، والواقع. طبعاً النّاسُ غافلون عن هذا المشهد، ولكن أهل الله وأهل البصيرة، يشهدون هذا الأمر عياناً، أمّا الخواصُ فهم عالمون بحقيقة هذا الإمام قبل أن يظهر، رأوا ذلك كشفاً وعرفاناً عرّفهم به الله سبحانه، أمّا غيرُهم، فيقع لهم الشهودُ بالمعاصرة لهذه الأمور والفتن والمظاهر.
وصورة صولة الدجال والشياطين والمفسدين في الأرض، هي صورة حربِ القرين الكبرى على المهديّ، لأنّ المهديّ المجذوب يُمثِلُ القلبَ، ولكنّهُ مستضعَفٌ آنذاك، فقرينه يسيطرُ على الجسد، وعقله الترابي آمرٌ للوظائف الحسيّة، وكل ما يقعُ تحت هذا الشبح، لأنّه كان في فترة جذبٍ، منقطعٍ عن المجاهدة والسّلوك والتزكية، غارقٌ في عوالم سكره، غافلٌ عن هذا الذي يدورُ. فيجِدُ قرينه قد تمكّن وكادَ كيداً، لأنّ القرين (بصفة عامّة) فيه طبيعة ونزعة أنانية مودعة فيه وهي الهوى، تدافعُ عن وجودها وأناها وكينونتها الكثيفة والعنصرية، فذلك تركيب الله للنّفوس سبحانه. وفي ذلك الإشارةُ أنّ الإنسان هو صاحبُ تصريف أقداره، ومنشأ رحى تجليّاته، أيّاً كان هذا الإنسان، جميع بني آدم على هذه الصورة والشاكلة، فالشيطان في الحقيقة مظهرٌ تابعٌ من صورة الإنسان، وتجلّيه ظهر كما ذكرنا، بالطبيعة العنصرية المودعة في الإنسان التي تدافعُ عن وجودها الكثيف الأرضيّ، وتنزعُ إلى أرض المحسوسات والشهوات والأكوان وما سوى الله تعالى، فتأمّل يرحمُك الله تعالى. وأورد الشيخ الأكبر : "أنّ آدم عليه السلام لقيَ إبليس بعد أن خرج من الجّنة، فقال له لقد أغويتني وأخرجتني من الجنّة، فقال إبليس: يا آدم أنا إبليسك، فمن إبليسي أنا ؟". وفي ذلك إشارةٌ أنّ لآدم التقدّم على إبليس بالخلافة، فكان إغواء إبليس واقعٌ بحكمِ الانعكاس من تجليّات آدم الذي استوى للخلافة. وكان دورُ تلك الطبائع العنصرية الجاذبة للأرض والدّون وحجاب الكثافة على الأكوان، هو دورُ إبليس كذا وقعَ في المشيئة الإلهية السّابقة. فالإنسانُ له الجمعُ الأكبر مخلوق على الصورة، وخلقه الله واسطةً بين الحقّ سبحانه والعالم. وليس ذلك لغير الإنسان. فله الأوّلية بحكمِ وجهته للحضرة الحقيّة وسرّه، وله الآخرية بحكمِ جمعه لجميع ما في عالم واختصاره لما فيه.

وقلنا تحدثُ حرب كبرى بين السّالك والقرين؛ وإنّما تحدثُ الحربُ الكبرى بين العبد وقرينه، لأهل السّلوك الأكبر،خاصّةً، أصحاب الحجّ والفناء الأكبر، والواقفين على باب حضرة الله تعالى، فيحدث حينذاك التهديد للوجود الكثيف والعنصريّ، فيُسخّرُ هذا الوجود العنصريّ الوهميّ جميع ما يملك من وظائف وقدرة ونزعات لإيقاف هذا الفناء وهذا الانسلاخ وهذا الرجّوع للرّوح. لأنّه يعني ذهابُ الكثافة والانسلاخ من التركيب العنصري، وموت النّفس الجزئية، والخروج من التقييد إلى الإطلاق، أي فنائه ونهايته وزواله مطلقاً. فتكونُ حربٌ لا هوادة فيها.

يتبع ..