الجمعة، 19 فبراير 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 82




إبليس لمّا دعاه الله سبحانه لمجمع الملائكة في السماء وأمرهم بالسجود لآدم عليه السلام، تخلّف عن السّجود وأظهرَ ما كان يُبطِنُه من تكبّر واستعلاءٍ، وبرزَ منهُ مكنونُ سوء توجّهه في عبادته وعبوديته لله تعالى. فقَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33). سورة الحجر. فما توجّه للأمرِ الذي صدرَ من معبوده وخالقه الذي كان يتوجّهُ إليه بالعبادة طيلة آلاف السنوات المديدة، بل أوّل ما توجّه إلى نداءِ نفسه فيه، وهواه الذي استحكمَ عليه، ومنطقه العنصريّ الذي قاس به  كيف يتقدّمُ عليه هذا المخلوق من عنصر التراب والطين وهو المخلوق من عنصر النّار؟ كأنّهُ رأى في النّار اقتراباً من النّور ومشابهةً فهو أفضلُ، مع أنّهُ لم يخرج من دائرة العنصر، والعناصر أربعة كما هو معلوم : نار وهواء وتراب وماء. ولو كان كذلك في اقتراب النّار من النّور بالفرض، فللملائكة الأحقيّة بالاحتجاج وهم المخلوقون من نور خالص، فوق العناصر الأرضية الأربعة. فهم أحقّ بالاستعلاء لو صحّ الاستعلاء. ولكنّ المسألة مسألة عبودية لله تعالى لا غير، فما عظّمَ الأمر ولا وقع في قلبه، لمّا خالفَ الأمرُ هواه العنصريّ، فجنحَ وأخلد للهوى وحكّمَ قياسه ومنطقه المتحيّز وحظّه المكنون في الريّاسة على أمرٍ ربّه، فقال أنا خيرٌ منه، ما كنت لأسجد له، وقد كان أسرّ احتجاجه لمّا اعترض الملائكة المقدِّسون اعتراض غيرةٍ على أن ينال الخلافة من يُفسدُ في الأرضِ، وسرّ الخلافة فيه ذلك التشريف، فاعترضوا تعظيما لذات الله تعالى، لا حظوظاً نفسية، وإبليس معهم متمسّكٌ كلّ التمسّك بذلك الاحتجاج والاعتراض، قد وافقَ اعتراضُهُم غرضَه وأرَبَه، نعم كيف ينالُ الخلافة هذا المتخلّفُ ؟  يُبدي معهم اعتراضه بظاهرِ الأدبِ والرّصانة، ويُبطِنُ حظوظه وحسده وهواه، فأرادَ الله تعالى أن يستخرجَ مكنونَ كلّ فريقٍ في حقيقة ذلك الاعتراض، سبحانه جلّ شأنُه، فأمرهم بالسّجود، فظهر كلّ فريقٍ، بحقيقةِ مذهبه في الاعتراض، فأمّا الملائكة فسجدوا طائعين مسبّحين مقدّسين الله سبحانه، فغايتُهم وحياتهم الطاعة والتقديس لله تعالى سبحانه لا يعصونه، ولا تخطرُ عليهم خطراتُ العصيان والدون، وأمّا إبليسُ فبرزَتْ حقيقته المستورة، التي كان يخفيها وراء الاعتراض في جمع الملائكة، فأظهرها وجاهرَ بها وأصرّ عليها، ولم تشفعْ له العباداتُ السابقة، والطاعاتُ المديدة التي كان يرقمُها لله تعالى، ذلك أنّها كانت مدخولةً، بالحظوظ المكنونة النفسيّة، والتي لم يأتِ عليها ما يكشِفُها فلمْ تظهرْ قبل ذلك. فلمّا جاء وقتُ امتحانِها برزتْ ونكبَ صاحبُها عن الصّراط السويّ. فما قضاهُ الله تعالى على إبليس هو ما كان موجوداً في حقيقته وداخله، وهي قابليتُه لذلك القضاء.فلمّا أبى السجود وتكبّر، طرده الله من رحمته قال الله تعالى : {
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13)} الاعراف.
فأبى السجود وتحجّح في ذلك بالمذهب الجبري، فهو أوّل قائلٍ به كما أشارَ إلى ذلك الشيخ الأكبر رضي الله عنه، فقال إبليس إنّما قضيت عليّ يا ربّي بسابق قضائك أن أعصي وأطرد من رحمتك. مع أنّه ما فتئ بعد ذلك يثبِتُ موقفه وعصيانه الأوّل، وأقام جميع حياته التالية موقف العصيان والطرد الذي تلاه من رحمة الله تعالى، أقامها جميعها على تثبيت موقفه من آدم والتكبّر عليه وحسده،  بل وسأل الله تعالى مهمّة استعداء آدم وذريّته والكيد لهما وإغواءهما عن طريق الله تعالى، وطريق سعادتهم. وجنّد كلّ مواهبه ودقائق حياته من أجل هذا الغرض. وهو مع ذلك يقولُ قد سبق عليّ قضاؤك، فأنا مجبور في ذلك. ولكنّ الغريب العجيب أنّ إبليس ذاته الذي تحجّج بهذه الجبرية، تحجّج في مهمّته وسعيه التالي بالقدرية، فهو إمام أهل القدرية والمعتزلة القائلين باستقلال الأفعال عن الله تعالى كما أشارَ إلى ذلك الشيخ الأكبر، وراحَ يؤسّس (إبليس)  بكلّ إرادته المختارة الحرّة التي بين يديه، وكلّ ما وهبه الله من علم وتسخير من أجلِ تضليل بني الإنسان، غاية التضليل. ومهمّته جمعتْ بين حسده وتكبّره، وبين اعتراضه على الله تعالى مباشرةً، كأنّهُ يقولُ، سوف ترى ما أقدِرُ عليه أمام هذا الإنسان والبشر، فسوف أضلّه إضلالاً، وأغويه؛ ولبث ابليس في الأرض يتجسّس على البشر وخواطرهم ودواخلهم، وسخّر ذريّته لذلك، فما من مولودٍ إلاّ وله قرينٌ يقِفُ عليه منذ ولادته، لهذه المهمّة، وهكذا ابليس مضى مغوياً متفنّناً في مسلك التضليل والفتنة عن طريق الهداية إلى ربّ العالمين. ليُثبتَ أنّ موقفه الرافض للسجود موقف صحيح ثابت، وأنّه كان الأجدرَ بتلك الخلافة. ليُثبَتَ الجهولُ المغرور أنّ الله أخطأ. فانظُر عِظمَ معصية إبليس عليه خزي الله ولعنته. فإنّها تجاوزت حدّ المعصية الظاهرة، فهو الكبر والتكبّر، وأخطرُ ما يمنعُ العباد عن العبودية، وذرّةٌ منه تمنعُ صاحبها من دخول الجنّة، لأنّها تمنعه من حقيقة العبودية التي هي ذلّ وخضوعٌ وافتقارٌ وانكسارٌ لله تعالى وتُقابلُ في الطرف المناقض الكبر، أعاذنا الله منه. وقال الله سبحانه وتعالى مستغنياً، وهو الغنيّ سبحانه، إذهبْ مطرودا مذموما، ولك ما سألتَ من دورِ الغواية والفتنة في الأرض، أما وإنّي لذلك خلقتُهم، أي خلقتُهم لأمتحنَهم، وأمتحنَ خلقي وعبادي هل يعبدونني ويؤثرونني على شهواتِهم ومآربهم، أم يستقلّونَ بها، ويتنّعمون بها، غافلين عن صدروها منّي إليهم، وينسوا عهدهم الذي أشهدتهم في موطن الذرّ يوم قلتُ لهم : ألستُ بربّكم، فقالوا جميعا بلا استثناء: بلى. فاستخلفتُهم في الأرضِ لأنظُرَ من بقيَ على  العهدِ، ممّن نكث عهده ونسيَ واستغنى، وطغى ونسبَ نعمي وخلقي وخيري وفضلي لنفسه ولغيري، وغفل عن رجوعه المحتوم إليّ يوم الدين.

{قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18)} الأعراف. 

فإبليسُ عليه خزي الله تلوّنَ بين قوله تارةً بالجبرِ لمّا حكَمَ عليه هواه وغلبهُ فأطاعه وعصى الله تعالى، وقال عصياني قضاءٌ قضيته عليّ، وبين قدريّته في تدوير الفعل والعزم بيديه وحريّته وإرادته باستجماعِ جميعِ همّته وعزمه من أجلِ أن يعصي ويكيدَ ويُضلّلَ بني آدم عن طريق الله تعالى. ولم يخطُر في بالِهِ داعي العبادة والعبودية لله تعالى، ولم يأخذه حنينه لما سبَقَ من مديد عمره في الطاعة والعبادة لله تعالى !!! .. هنا تعلمُ أنّه حَكَمَ عليه قضاءُ الله تعالى سبحانه بما حكَمَ به هو على نفسِه، وبما كانت نفسه قابلةً لهذا العصيانِ والطرد من رحمة الله تعالى. فإنّنا كخلْقٍ لا نعملُ إلاّ بما هي عليه حقائقُنا، وإنّنا مخيّرونَ بإرادةٍ حرّة لأنّ عينَ ما نقومُ به هو عينُ إرادة الله تعالى فينا. وهذا غامضٌ حقّاً في بابِ الإرادة، ولكنّهُ من وجهٍ -تقريباً- وأعوذُ بالله تعالى من الخوض بلا علم في بابٍ مذمومٌ الخوضُ فيه، ولكن تبييناً لهذا المسلك الإبليسيّ، نوضّحُ ما نفهمه والله أعلى وأعلمُ،  أنّ الحقيقة تقابلها مثلاً، كون هذا الشخص هو عددٌ ما، لنفرِض أنّهُ العدد 3، وندخلُ عليه عملية حسابية ما، أو ندخله تحت دالة ما لتكن مثلاً الجذر التربيعي فيحصلُ لنا ناتج، فكونُه العدد 3 نتج جذره التربيعي بذلك الشكل، بينما لو دخل عدد آخر غير 3 تحت الجذر التربيعي فينتج حاصل آخر ولا بدّ، وهكذا. فحقيقة العدد 3 وقابليته هي التي تعطيناَ النواتج والحواصل مع كلّ تجلٍّ وعملية ندخلهُ فيها، فهذا الذي يُسمّى قابلية وحقيقة العدد أو الشخص، طبعا المثال بسيط جدا في الأعداد هنا، ولكن هكذا أعيانُ الأشخاص لما خلقها الله تعالى، أخذ كلٌّ منها ترتيباتُه المستحقّة ونتائجه وقابليته، فأعطتْ لوح أقدارِه، وسابق قضاءِ الله فيه، فعلمُ الله فيه أنّه يكونُ كذا وكذا ثابتٌ لا يتغيّر ولا يتزحزحُ، ولكن ما حكمَ الله عليه أن يكونَ كذا ظلماً، إنّما حكمَتْ عليه نفسُه وحقيقته المودعة فيه. ثمّ إنّهُ بعد رحلة التجلّي الدنيويّ والأخروي الذي بدأ وانفلقَ من برزخ الرّحمة، فحاصلُ ومحصّلُ التجليات في الأبد أن تعودَ إلى الرّحمة التي بدأتْ منها، وذلك حينما تستوي المحصّلة الأسمائية ويتجلّى عليها الإسمُ الأعظم، فتتضادّ التجليّاتُ الأسمائية فيما بينها، ويذهبُ أثرُها العذابي أو العقابيّ، عندَ تحقيقِ العدلِ الذي يوجبُ الجزاء، فتدخلُ دائرة النّعيم والرّحمة. وهذا هو نهاية مآل الخلْقِ. خصوصاً الإنسان المخلوق على الصورة فلا نهاية له. ويبقى في مقامِ الشهودِ من حيثُ عينِه العلميّ، يتقلّبُ في رحمة الله تعالى. والله أعلى وأعلم. فرحمةُ الله تعالى عمّتْ الجميع. ولكن بين الكينونة الخلقية والأبدية حكمته سبحانه في عبيده، وامتحانه بين شقيّ وسعيدٍ، بحسب كلّ عبدٍ وما سعى وقدّم، فألهمَهُ الشقّين وهداهُ النّجدين، ثمّ كانت كلّ حقيقة تنجذبُ لما هي عليه طلباً لها لا تحيدُ عن ذلك. طلباً تعشقّياً مكنوناً في الذوات والأعيان العلمية. حكمته سبحانه وإرادته الأزلية التي قضتْ هكذا. قبضتُ قبضة وقلتُ هؤلاء في الجنّة ولا أبالي، وقبضتُ قبضة وقلتُ هؤلاء في النّار ولا أبالي. الخلْقُ خلقي والكونُ كوني، والإرادةُ إرادتي، ولا موجود سوائي. فانتشرتِ الحروف في قرطاسِ الكونِ تسعى بحقائقها، فكلٌّ وما قسَمَ الله لهُ في الأزلِ. وعلمُ الله فيه ثابت واحدٌ لا يتعدّد ولا يتبدّل. تماماً كعدد أصمّ أو غير نسبيّ في امتداده العشريّ الغير المنتهي يرقُمُ فواصلَهُ وامتدادهُ بدقّة متناهية لا يمكنُ أن يحيدَ عنها، وكذا في علم الله تعالى قد علِمَ امتدادَهُ وما يؤولُ إليه، وكلّ عينٍ علميّ ومعلومٍ يتبعُهُ علمُه وفقاً لما هو عليه. فيحكُمُ عليه الله بسابقِ علمه فيه، لأنّ حقيقته وكينونته اقتضتْ أن تكونَ على تلك الشّاكلة. والله أعلى وأعلم. ولذلك ذكرَ من بابِ الإشارة الشيخ عبد الكريم الجيلي رضي الله عنه في تمايز هذا عن هذا، وكونِ هذا وليّاً وهذا نبياً وهذا ختماً وقد تفاضلوا فيما بينهم أزلاً، في معرِضِ الحديث عن الحروف واختصاصاتها وكيف سبق الألِفُ باقي الحروف فبَعُدَ عن النّقطة بُعداً واحداً، لمّا ابتعد غيره عنها بعدين وأكثر، فقال من بابِ الإشارة قوله تعالى
﴿قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ﴾ يوسف 75. وكذلك حرفُ الألِف جزاؤه أنّه وُجِدَ في رحله ذلك السرّ المكتنز، وسابقُ العناية الأزلية اختارتهُ فكان ختماً وكان خليفة وكان قائما بأمرِ الله تعالى، ينوبُ عنهُ في خلقه، وكذلك الأمرُ بالنّسبة لحرف الباء وخصوصيته لمّا كان ظلاًّ للألفِ قبِلَ أن يدخُلَ في خصوصيته ويكونَ واسطة تعيّنِهِ بواسطة نقطته التي تحتهُ التي هي نقطة الهوية، فكأنّها نقطةُ انعكاسِ صورةِ الألِف الممدود في حرفِ الباءِ إلى ألفِ ظلاليٍّ تحت النّقطة يظهَرُ بها ظلّ الوجود والموجودات والكون (أشارَ إلى هذه الصورة البائية الشيخ الأكبر)، فقال الشيخ الجيلي رضي الله عنه من بابِ الإشارة كذلك قوله تعالى  {كَذَٰلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ ۖ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ ۚ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ  عَلِيمٌ}. يوسف 76. فكان للباءِ تلك القابلية فيه أن يدخل في دين الألف ويتحلّى بخصوصيته ويكونَ واسطته العظمى لبروز عالم الظلالِ والأكوانِ. وهذه إشاراتٌ نفيسة منه رضوان الله عليه في تلك الآيات. فهو إذن اجتباءٌ واصطفاءٌ أزليٌّ قديمٌ منه سبحانه. 


والحاصلُ والخلاصة فيما أشرنا إليه من تقلّباتِ إبليس عليه خزي الله تعالى بين الجبرية والقدرية يأخذُ منها ما يناسِبُه في كلّ مرّة وحالٍ وما يوافِقُ هواهُ. فبانَ فسادُ مذهبه ومذهب من تبعوهُ في ذلك. فإنّهُ لا يُحتجُّ على الله تعالى، لأنّه ألهَمَ النّفوس النّجدين وجعل لها الاختيار، كما تسعى لتقيم قوتها وترضي شهواتها ورغباتها المختلفة بمحض الإرادة والرّغبة والحريّة فكذلك هي من تسعى لكتابة لوحِ أقدارها بما تقبَلُهُ على نفسِها. فإنّما كلُّ نفسٍ راقمةٌ أقدارَها، كأنّها تخطُّهُ أوّلَ مرّةٍ في الأزل. وكلّ ذلك موافقة لإرادة الله تعالى الأزلية وعلمُه الثابت فيها لا تحيدُ عنه. إذ في التحقيق ما ثمّ إلاّ هو سبحانه، هو الأعيان العلمية وهو الأقدار وهو القابليات وهو هو وحده لا شريك له، لا موجود سواه، كان ولا شيء غيره، ولا شيء معه، وكلّ يومٍ هو في شانٍ سبحانه يتجلّى بأقضية الخلقِ بدايةً من برزخ رحمتها إلى عودِها لذاتِ البرزخ. ولذلك فما للعبد الصّادق من مطلَبٍ وبُغيةٍ وقرارٍ سوى ركونه لله تعالى وللحقيقة المطلقة الثابتة وللشريعة الغرّاء وللحقّ، قبل أن تنتهي الفرصةُ، وقبل أن تزولَ هذه الدّارُ الفانيةُ وسنواتِها القليلة الخدّاعة، وتأتي دارُ العمارة والحيوان والإقامة والخلود، ويُطبَعُ كلُّ امرِئٍ بما كسبَ وبما كتبَ في لوحِ أعماله وحياته. فيُجازى عليه، ولا ينفعُ حينها النّدمُ. ولا يستخفّهُ إبليسُ وحليفه الدجّالُ وأتباعهما فإنّهم آيلونِ لعلمِ الله فيهم، ولما قرّرهُ سبحانه، وقد جفّت الأقلامُ وطويتْ الصّحفُ. وقال تعالى {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)} سورة فاطر. وكلّ ما يبدو لنا من فتنٍ عظيمة قد ذكرها الله تعالى في كتابه، وذكرها نبيّه ورسوله المصطفى صلى الله عليه وسلّم في حديثه الشريف، ولم تتخلّف. والعاقبة للمتقّين. 


يتبع ..