السبت، 13 ديسمبر 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 69



وما أردتُ تبيينه في المقال السابق أنّ كلّ عبدٍ وكلّ إنسانٍ هو في الحقيقة مخلوق على الصورة في حقيقته، هذا هو الإنسان وهذه هي إرادة العناية الربانية في آدم وبنيه، ولذلك فإنّ كلّ عبدٍ له مجرّة خاصة به إن شئنا قول ذلك، أو أنّه يجمعُ السموات والأرض جميعها فيه، نسخةً منها. نعم نسخةً منها كما النسخة الأصلية للعالم. وهذا العالم الذي ينطوي في كلّ واحدٍ منّا هو منطوٍ بالمادة من كونِ كلّ جزءٍ فينا يعكِسُ ما هو موجود خارجنا وفي العالم الكبير، وهو منطوٍ فينا بالرّوح التي يتجلّى بها جميع الأشياء والعالم. وعلى هذا النّمط والصورة خلق الله الإنسان، وكلّفه.

فقال له عبدي وهبتُك هذا الوجود وهذا العالم وخلقتُك على الصورة، وأنعمتُ عليك بجميع ما في السموات والأرض وسخّرتهم لك، وأرسلتُ لك الرّسل ليعرّفوك حقيقتك وحقيقة ما أنت فيه، ووهبتُك العقل لتسمع وترى وتعقل وتفهم والقلبَ ليقودَ خطاك إليّ إن أطعتني من خلال رسلي ورسالاتي.

وجعلتُ فيك فطرةً تولدُ عليها وهي حقيقتُك وأصلُك، فطرةٌ تقودُ قلبكَ إليّ، ولكنّني خلقتُك لتعبدني وتعرفني، وتعرِفَ نعمي عليك وحقيقة وجودك، وأنّك بالإرادة المودعة فيك تملك سلاحاً ذو حدّين، إمّا أن تختارَ حقيقتك وأصلَك وترجعَ إليّ بالشكر والعبودية فأحرّرَك منكَ وأتفضَّلُ عليك بجميع ما وهبتك في العوالم، وبجميع ما تحمله روحك ممّا تعلمه وممّا لا تعلمه وممّا تراهُ وما لا تراهُ، ولديّ مزيد وعطائي لا نهاية له ولا حدّ فأنا الخالق العظيم جلّ شأني، أو تختارَ الوهمَ على الحقيقة، والنّعيم العاجل المتوهّم بإرجاع الأمر إليك ولو على حساب القيم وما شرعتُه لك من خلال شرائعي التي جاء بها الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهي شرائعٌ ما جاءت إلاّ لتوجيه حياتك وحياة من حولك للأفضل وللمصلحة العليا والفضلى وللخلاص من أسرِ وهمِك والكفر بالمنعم الذي تفضلّ عليك، والكفر بوجوده الذي هو الوجود الحقيقيّ، وجميع ما تراهُ من خيرٍ ونعم وعجيب المخلوقات هم مخلوقاتي وهم تجليّاتي وهم آثار أسمائيّ وصفاتيّ وآثار أفعالي في هذا الوجود. فلا شيء حولك له القيومية بنفسه، إلاّ بقيامه بي وحدي أنا سبحاني فأنا الحيّ القيّوم المطلق. فلا تكفرْ بي وبوجودي وبالحقيقة التي أقمتُك عليها وبالصّورة التي بها أنت تملكُ هذا الاختيار المطلق، الذي وهبتُه إيّاك، ولكنّه اختيارٌ كسلاحٍ ذو حدّين، فإمّا أن تخترقَ الوهْم وتؤمن بي وتنعم في الأخير بالخلود في النّعيم والرحمة المطلقة، وتحيا حياةً طيّبة في الدّنيا والآخرة. أو تبقى حبيس الوهم وتختار الظلم والأنانية والكفر ومصدر الشرّ والنّقص في حياتك وفي الأخير ستعودُ إليّ لأجازيك جزاء كفرك بوجودي وجزاء شرّك وبغيك في الأرض وظلمك لعبادي وخلْقي.

هكذا خيّرَ اللهُ سبحانه كلّ عبدٍ، سواء عرف أو يعرف هذا الاختيار، وأنَّهُ في الحقيقة لا موجود حولك سوى تجليّات نفسك عليك، فافهم.

فمجرّتك وعالمك والعالم من حولك كلّه هو تجليّات الصورة عليك، ولكنّها تمرُّ عبرك، عبر قلبِك وعبر نفسك، فتنعكِسَ تجليّات الصورة المنعكسة من الإسم الأعظم، لأنّ الإنسان مخلوق على الصّورة، ولكن بوجودِ نفسه وفرقِه، فإنّ ذلك يُعطي وجودُهُ الذي هو فيه، وجميع ما في الحياة هي حصادُ لزرعِك بطريقةٍ ما. فإنّ جملة الأسماء التي تعلمُها والتي لا تعلمُها التي أظهرتْ هذا العالم هي تتأثّرُ بك أنتَ في ما يدورُ حولك، وقد ذكرتُ هذا في مقالٍ سابق عن الإنسان وعلم الأسماء والتّصريف. ومن هنا فإنّ جميع ما يتعرَّضُ له المرءُ والعبدُ مصدرُه الله سبحانه، ولكن هو نتيجة قلبِه واعتقاداته وأخلاقه الباطنة فيه، وصورة نفسه في الحقيقة. وكان مصدرَ الشرّ والنّقص والأذى هو نفسُك، وكان مصدرَ الخير هو الله سبحانه. ونقصِدُ هنا أنّ مصدرَ الخيرَ يأتي من حيثُ الهوية المتجرّدة المطلقة المنسوبة لله سبحانه، ومصدرَ الشرّ هو نفسُكَ. ولا يظهَرُ هذا الأمرَ للنّاس والعبيد إلاّ في مرحلةٍ متقدّمة من السّلوك وعند اقتراب العبدِ من الحقيقة ليخرجَ من قيده إلى إطلاقه، ويخرج من وهم نفسه إلى صورته المخلوق عليها بأصليتها وحقيقتها أي إلى وجود الله سبحانه.

وهكذا خلَقَ الله الإنسانَ وكلّفَه في الدّنيا، وذلك بجعله مزيج روحٍ خالصة عارفة بالله هي أصلُه وحقيقته وصورته المقصودة من الوجود، وهي العاكسة لما هو فيه من حياةٍ، وجسد ترابيّ وطيني وتركيب عنصريّ يشكّل بصيغة ما وجودَهُ المقيّد ونفسَه العنصرية .. فإذا هو ركَنَ لهذا الوجود المقيّد أعطاهُ ما هو من جنسِه، وهو التقييد والألم الحسّي واللّذة الحسية في دائرة العنصر، والوهم الذي قام به الحياة. وأعطاهُ هذا الوجود المقيّد والوهم الذي هو فيه آثارَ الموجودين معه في العالم، ويعيشُ على تلك البهيمية والطبيعة الحيوانية فيه، لا يأخذ من دنياه سوى ما عاشَ من أجله وله. أمّا إذا آمن بالله سبحانه وبالغيب، والتجليّات الأسمائية المتصرّفة في حياته بالله سبحانه، فإنّ آثارَ هذه التجليّات تتعدّى ذلك الوجود المقيّد، ويقودُهُ ذلك للنّور، ولا نور في الحقيقة إلاّ نور الله سبحانه الذي أنار بنوره السموات والأرض وجميع المخلوقات بتجلّيه سبحانه، وجميع الموجودات والكائنات وهمٌ وآثار تجليّاته وحسب.
لذلك قال الله تعالى سبحانه
{اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ  وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ  أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)} سورة البقرة.
فالله وليّ المؤمن به يخرجه من ظلمات الوهم إلى نور الوجود الحقيقيّ إلى نور الله سبحانه. والذين كفروا بالله وبوجوده وبالغيب الذي يديرُ حيواتهم ويقيمُها، تولّاهم الطواغيت وهي جميع الطّبائع والأوهام المتجليّة في وجودهم غير الله سبحانه فتسقيهم طواغيتهم الظلمة ومزيدا من الرّكون الى الطبيعة الترابية والوهم، وليس ثمّة سوى الوهم ما يُضادّ مصدر النّعم جميعها والخير جميعه والوجود جميعه فينعكِس ذلك عليهم شقاءً وحرماناً وعذاباً في الدّنيا وفي الآخرة أجلى وأمرّ. أمّا المؤمن وإن تعرّضَ للمعوّقات في طريقه وطريق خروجه من الظلمة فهو منقادٌ إلى النّور الحقيقيّ، والوجود الحقيقيّ ومصدر الخير والإطلاق والنّعم جميعها. فينعمَ بذلك في مرحلةٍ ما في الدّنيا بحياةٍ طيّبة حتّى لو كانت في النكّبات والمعوّقات والابتلاءات التي هي من طبيعة الرحلة الى الوجود الحقيقيّ وطبيعة الدّنيا، ويذوق تلك النّعم والهناء والسّكينة من الله سبحانه تغمرُ قلبُه، ولكن آثارُ الحياة الطيّبة وذوقُها لا يظهرُ إلاّ في مرحلة ما من تجاوز الظلمة والقرب من الله سبحانه. هذا لعموم المؤمنين، وفي الآخرة نعيم يتجلّى خالد، ورضا من الله سبحانه الذي به آمن المؤمن.

فقلتُ لا تظهَرُ هذه الحقيقة بجلاءٍ ووضوحٍ إلاّ لسالك طريق الله للتحرّر من قيده إلى إطلاقه، ووهم نفسه إلى حقيقة وجوده، فإنَّهُ حينئذٍ يتجلّى عليه وهمُ وجوده ووهم الطّبائع فيه أي من حوله، بالحربِ عليه، ولمّا كان العالم هو صورته ونسخته ومنطوٍ فيه، فإنّ الذي يقودُ الحرب عليه هو قرينه وهو نفسُه ووجوده الوهميّ والعنصر فيه الملتصق به الذي يغذّي الحسّ والعقل التّرابي، وحينها يجدُ شيطاناً عليماً بالعالم والعيوب والمداخل النّفسية، يتجسّسُ على نفسه ويعلمُ عنه كلّ صغيرة وكبيرة منذ ولادته، وهو لا يقدرُ على دفع هذه الجوسسة لأنّه أسير النّفس ولم يخرج ولم يتحرّر من الأكوان ولم يخرج إلى الإطلاق والفناء عن نفسه. وتقوى هذه الحرب وتأخذ أبعاداً أكبر كما ذكرنا عند من يكونُ سلوكه جادّاً فيحصلُ بسلوكه اتِّساعُه في الإسراء والعالم ليخرج من القيد والوهم، فيأخذ بذلك عقلُه التّرابيّ ونفسُه وقرينُه حجماً أكبر وقوّةَ أقدر في التصريف في عالمه يُعاني من شيطانه ومن يوالون الطواغيت على حساب الوجود الحقّ والنّور. فيُبتلى أشدّ البلاء.

ومن هنا كان أشدّ النّاس بلاءً الأنبياء ثمّ الأمثل فالأمثل، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلّم، أي بقدرِ اتّساعك وجديّتك وصدقك في طيّ الطريق تتجلّى عليك العداوة من القرين والطّباع والطواغيت حولك. وكان الأنبياءُ القدوة فكانوا أشدّ النّاس بلاءً. ثمّ يحصلُ البلاء بحسبِ هذا الصّلاح والصّدق في طلبِ وجه الحقّ سبحانه.

وهذا الذي كنّا نشرحُه عن العقل التّرابيّ والقرين والمهديّ وما يحصلُ له، وينعكِسُ ذلك عليه دجّالاً في عرشه هو عقلُه التّرابيّ المنعكِس من وجوده الوهميّ والترابيّ والطّبعيّ العنصريّ. ولأنّ المهدي كان الوليّ الذاتيّ الذي كان مصدرَ التجلّيات وصاحب الذات الساذج، فقد أعطى الصّراع النّفسيّ والعقل الترابي كما ذكرنا دجّالاً عليماً بعيوب النّفس عليما بالمادّة، يدجّلُ على النّاس بالأوهام ليجعلهم يؤمنوا بوهمِ حياةٍ قائمة على المادّة والأسباب من غيرِ مسبّبٍ وموجدٍ سبحانه، ومن غيرِ غيبٍ يحكمُ هذا العالم الشهادي الظاهر.
فالحقائق إذن أعطتْ ظهورَ هذا الدجّالَ، ورافق ظهورُه وإفساده قرونا طوالاً بدأ من زمان سيّدنا موسى عليه السلام وبعثته، وقد شرحنا ذلك في مقالات سابقة أنّ بعثات الرّسل عليهم السلام، كانت مراحل في الوعي والنّضج الإنسانيّ وحقائق الخلافة الإنسانية الكبرى، وكانت بعثة سيّدنا موسى عروجاً ونقلة نوعية للإنسان. ومنه بدأت الرسالات السماوية الكبرى. فتأمّل. والتي وجودها الى يومنا قائم. وهذا يضاهي تماماً ما ذكرناهُ في حياة المجذوب أنّ دجّاله يظهر بعد فتح دائرة القلب وبداية العروج في الحقائق السماوية. أي بعد فتح روما يخرج الدجّال.

فالحقائق أعطتْ ظهور هذا الدجّال اللّعين لأنّ الله جعله رسول المادّة والوهم والحدّ المتطرّف من العقل التّرابيّ، وما كان ظهورُه وخطرُه يشتدُّ إلاّ في زمن الخليفة الذّاتيّ، الذي ظهر به العالم، ليُعطي الجزء الماديّ والعنصريّ والوهم المنفصل عن حقيقته الذي يُغذّي وجود كلّ نفسٍ بكلّ شرّ وكلّ وهم وكفر وأنانية. ولهذا كان أعوراً ليُجسَّد هذه الحقيقة أنّه أعورُ العين، ليس له سوى عين المادة والظاهر والشهادة وهو طافي العين الرّوحية كافرٌ بالغيب، وأنّه وهمٌ ليس إلاّ يتجلّى بقوّته  وظهوره الجسديّ في زمن الخليفة أو المجذوب، لأنّ المجذوب هو الذي ظهر بالشّطر الخلقيّ كما سبق ان أشرنا.

وإبليس وشياطينه هي الجزء النّفسيّ المغذي لكلّ نفسٍ وشرّها وكفرها ووهمها. فالحقيقة أنّ إبليس والدجّال مؤتمرون بالقرين نفسه، وهو نفسُ العبد. لأنّهما من سطوات الوهم والعقل التّرابي على النّفس.

ومن هنا كان ظهور الخاتم والخليفة هو إرجاعُ الحقائق لما هي عليه، والقضاء على هذا الوهم وعلى هذا الشرّ في العالم، فيتقدّس المجذوب، وينعكِسُ ذلك بقتل الدجّال والقضاء على ياجوج وماجوج. وياجوج وماجوج هم من آثار الانسلاخ من التركيب العنصريّ للمجذوب، وتغيير عرشه. فالله يمنّ عليه بعرش جديد وجسدٍ جديد يليقُ بالأمير والخاتم والخليفة الذي يظهر ويحكمُ بالعدل. وجهه كالكوكب الدريّ من أحسنِ النّاس وجهاً. ويتجلّى ذلك -أي أثرُ التقديس- في عهد المسيح عليه السلام حيث يُقتلُ الخنزير وهو رمز الخنزيرية ويُكسرُ الصّليب وهو رمز الشرّك ويعمّ السلامُ الأرض في عهد روح الله، وتنبتُ الأرض أشجاراً وفواكه من أحسن ما يكونُ طعما وحجماً وبركةً وخيراً، وتخضرُّ الأرض، ليُعطي تجلّي أثر الإسم الأعظم على الحياة. يحكمُها روحُ الله المسيح. فافهم هذه الحقائق الكبرى.

وإنّ الخاتم والخليفة جوهرُه وحقيقتُه ليس من أفراد بني آدم، وإن كان على الصورة الإنسانية، ولذلك لم يدخلْ ابداً في اعتبار التفضيل. فهو ذاتُ الباري سبحانه متجلّ بمظهرٍ إنسانيّ. الإمام الأعلى للوجود. أعلمُ الخلْق بالله تعالى.

هو الجوهرة المصونة والياقوتة التي لا قياس لفردِ بها، فهو فوق القياس فافهم. فهو السيِّدُ الصّمد. وهو حقيقة قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". أي أنّ الصورة الإنسانية التي وُهبها الإنسان هي صورة ما تجلّى به الله على الإنسان وخصّه به من فضلٍ عظيم ورجوعٍ إليه. ولكن هذه الصّورة الإنسانية محدودة بحدّها، فاعلم. أمّا الخاتم فهو ظاهرٌ بالصورة الإنسانية، وهو فوقها وخارجٌ عنها لأنّه هو حقيقتها، وهو خالقُها. فلا مجالَ للمقارنة بين أفراد بني آدم جميعاً وبين الخاتم. وذلك أشارَ إليه جهبد العارفين بالله في كلامٍ نفيس عظيم دالٌّ على علم هذا العارف بالله وأدبه ومقامه الرّفيع وهو الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي قدّس الله سرّه العزيز لمّا قال في الفتوحات المكيّة : 


(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. ) انتهى.


  فافهم، فهذا فهمٌ عزيزٌ نفيسٌ، لا يعرفُه سوى الأفراد الغرباء الأمجاد قدّس الله سرّهم العزيز، فظهورُ الختم في الصورة الإنسانية لا يجعله محدوداً بحدّها وصورتها ومقتضيات ما جادَ به الله سبحانه على الإنسان وصورة العلم به. فهو فوق ذلك الحدّ، وليس داخلاُ في الاعتبار أنّه فرد من أفراد بني آدم. لأنّه المظهر الذاتيّ في الصورة الإنسانية، ظهرَ ليُرجع العالم لنصابه، ولم يشتهرْ في الأكوان، لأنّه فوق ذلك الحدّ من التشهير والرّتبة. ولهذا قال الشيخ الأكبر واصفا إياه "فقد زال بختمه عن رتبته".
وكذا وصفه الشيخ الجيلي وعرّفه تعاريف واضحة أنّ "لغته ليست لغة الخلق ولا محلّه محلّهم". وغير ذلك من التعريف به في مواطن مختلفة، والكتمُ الضاربُ عليه وعلى رتبته الشريفة. ولهذا أشارَ الشيخ الأكبر في قصيدته :

وحيدُ الوقتِ ليس له نظيرٌ ... فريدُ الذاتِ من بيتٍ فريدِ
لقدْ أبصرتهُ ختماً كريماً ... بمشهدِه على رغمِ الحَسُودِ
فقال : "أبصرته ختما كريما بمشهده على رغم الحسود."  

فلو كان كغيرِه ورتبته كغيرها من الرّتب، لما أشارَ إلى حسّاده والمنكرين عليه، فإنّما وقعَ الحسدُ والإنكارُ لرتبته العزيزة جداّ. وكذلك نعته في خاتمة كتابه عنقاء مغرب : بوصف السيّد الصّمد. ولعمري فإنّه لا صمد إلاّ صاحب الوجود الأحد سبحانه.

يتبع ..