الأحد، 29 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 81






ذكرتُ في مقال لي سابق أنّه "لولا المرزوقين ما كان سبحانه رزاقا ولا المخلوقين ما كان خالقا ..الخ." والعبارة بهذا التركيب تبدو خطأ، تعالى الله عن ذلك سبحانه، إنّما أردتُ ظهورَ أسمائه وصفاته، فما ظهرت لنا إلاّ بالآثار والتجليّات. وإلاّ فالله سبحانه لم يزل رازقا خالقا نافعا ضارا مغيثا محييا .. فقد كان الله ولا شيء غيره وهو الآن على ما عليه كان. ولهذا فما خلْقُه ومخلوقاتُه سوى مسرح آثار أسمائه وصفاته، أي ما عند الله زمانٌ، فهو فوق الزّمان سبحانه وفوق المكان، والخلْق وجودهم اعتباري مجازيّ، لأنّهم مسرح تجليات أسمائه الحسنى. فالعالم ظلّ لأسماء الله وصفاته، والظلّ لا يقومُ بنفسه، ويزولُ الظلّ إذا ارتفعت الكثرة الأسمائية وظهرت الأحدية. وكلّها حضراتٌ تتدرّجُ. ولا موجود سواه وحده لا شريك له سبحانه. وعقيدة السادات إثبات الصفات والأسماء قبل وجود الخلق. فلا نُخالفهم لأنّ التراتبية توجبُ ذلك. ودفعاً أن تختلطُ عقائدُ النّاس بعقولهم الترابية وقياسهم العقليّ النّظريّ. وإلاّ فما ثمّة قبلٌ عند الله سبحانه، والقبلُ اعتباريّ، والزّمانُ مخلوق منه سبحانه. والأحدية ثابتة لله تعالى، وأحديته لم ولن تتغيّر، وما زاد فوقها وعليها شيءٌ، فبقيَ أنّ الخلْقَ والعالَم حضرةٌ من حضراته سبحانه، تُجلي آثار أسمائه وصفاته. والأسماء مشهدُها الحضرات، فكلّ إسمٍ لهُ واجهةٌ في العالمَ وأثرٌ، والأسماء تجلّتْ من إسم الله الجامع لها، بواسطة اسمه الرّحمن الذي رحمها فأعطتْ آثارها وظلالها وتجليّاتها. فلمّا تجلّت هذه الأسماءُ اللاّمتناهية له سبحانه وإن جمعتها أسماء جامعة معدودة، فهي أمّهاتٌ للأسماء الغير متناهية، فلمّا تجلّت الأسماءُ أعطتْ صورة هذا العالم بهذا القدرِ المُحكم وهذا الجبروت الأعظم وهذا الكمال الأمثل. معبّرةً عن عظمته سبحانه وعظمة أسمائه وصفاته المقدّسة. فأعلمتنا - عن عظمته سبحانه وعن أسمائه وصفاته - هذه المخلوقات وهذا العالمُ الذي لا يزالُ الإنسانُ يكتشفُ ارتباطاته وجمالياته وتناسقه المذهل المحكم العظيم جدا، وعوالم فوق الحصر، وأشياء مركبّة فوق بعضها بعضٍ بإحكامٍ مذهل لا يتناهى، ولا ينفصِمُ، وليس فيها خللٌ أو خطأ، بل كلّ شيءٍ مرتبطُ ببعضه وبالعالم، ارتباطاً عظيماً، في حياة عظيمة مذهلة متناسقة مركّبة، قامت على الأسباب والإحكام والحكمة الثابتة. مستمرّةً في ارتباطها وحكمتها وحياتها، {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} سورة الملك (3-4). تأمّل وتأمّل في خلق الله سبحانه حيثما ولّيتَ وجهك وتأمُلَكَ، فلا تزالُ مع مزيدِ التأمّل والنّظرِ إلاّ مكتشِفاً لمزيد الأسباب والحِكَمِ والارتباطات والتركيب العجيب المذهل، والتناسق الباهر المعجز. إنّ هذه العوالم والمخلوقات مسرحُ تجليّاتِه سبحانه، تجليّاتِ أسمائه الحسنى الغير المتناهية التي برزتْ من برزخ الرّحمة، من اسمه الرّحمن. فقد خلق الله تعالى الخلق والعالَم بعبارة بسم الله الرحمن الرحيم. ولذلك كانت عبارةً جامعة لما في كتاب الله تعالى جميعا. اسمُ الله الأعظم الدّال على ذاته وعلى جميع الحضرات. واسمُ الرحمن الدّالُ على الأسماء والصفات، الذي به رحِمَ الله أسماءهُ فظهرت آثارَها في الأكوان، ثمّ اسمه الرّحيم الذي هو الرّحمة الأقدسية التي تُرجِعُ كلّ شيءٍ إليه سبحانه في منتهى رحلة الخلْق إلى ربّهم "وأنّ إلى ربّك المنتهى". فقامَ عالم الإمكان بين الأزل والأبد، والأزلُ والأبدُ عند الله يلتقيان، فما ثمّة عند الله زمان فافهم، وبينهما أي بين الأزل والأبد وُجِدَ عالَمُ الإمكان، وحضرة العوالم والمخلوقات. لذلك كان تعبيرنا الذي ذكرناه على تلك الشاكلة موهماً، ولكنّه مع ذلك فهو موهِمٌ في نظرِ أهلِ العلم، وبمنطق التراتبية التي قامَ عليها العالَم، وإلاّ فأحدية الله سبحانه، ووجوده الثابت لا يُبقي معه شيئاً متوهّماً. كما قال الجنيد رضي الله عنه للذي قال الحمد لله وسكت عن قول ربّ العالمين يريدُ القائلُ إثبات الحمد لله قبل وجود خلقه، فقال له الجنيد : قلها يا أخي فإنّ الحادث إذا قرن بالقديم تلاشي الحادث وبقيَ القديم.

وقال الله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ سورة البقرة. فما خلف تلك الظّلال إلاّ وجه الله سبحانه، وماخلف هذه الأكوان وهذه العوالم وهذه المخلوقات إلاّ وجهه سبحانه، والوجه هو الذات. إنّ الله واسعٌ عليمٌ، إنّ الله واسِعٌ لم يزلِ متجليّاً وخالقاً متعالياً عن الحدّ والحصرِ في صورةٍ أو حيّز، بل وسِعَ كلّ شيءٍ رحمةً وعلماً، عليمٌ سبحانه، لأنَّ الأكوان والخلْقَ مظهرٌ لاسمه العليم، فاسمُ العليم اسمٌ محيطٌ جامعٌ، علمه سبحانه فوق الحصر والإحاطة، غير متناهٍ. فجمعت هذه الآية حقيقة العقيدة في الله تعالى، ولكن لا يشهدُ ذلك إلاّ أهلُ الذوقِ والشهود، ونزّهته سبحانه عن كلّ صورةٍ ومظهرٍ وتشبيهٍ، كما أنّها ما فصلت تلك الصور المتجليّة في العالم في المشارق والمغارب عنه، بل أرجعتْ قيامها ووجودها له سبحانه، فثمّ وجه الله، أي قامت به سبحانه. وهكذا قامتِ الدّنيا ملايين السنين، بل مليارات السّنين تُجلي عن آثار أسمائه وصفاته، ورحلتها في التجلّي والظهور حتّى خُلِقَ آدمُ عليه السلام مختصرُ العالم، وآخر مخلوقٍ جامعٍ لجميع ما في العالم، ومبدأٌ لرحلة الإنسان في الخلافة مع ظهورِ آثار الأسماء في الأرض، وعند كلّ اسمٍ جامعٍ يكونُ مفترقٌ ومحطّة هامّة، وعلى ذلك ظهرتِ الرسالاتُ السماوية والبعثات النبويّة، فهي مجسّدةٌ لظهورِ تلك الأسماء الجامعة بعد مسيرةٍ ونُضجٍ في الأرض، حتّى ظهرت الرسالات السماوية الكبرى. كان سيّدنا موسى عليه السلام مظهراً لاسم الربّ، أي كان خليفةً لهذا الإسم الجامع الكبير وهو من الأسماء المتقدّمة، ثمّ كان سيّدنا عيسى بن مريم عليهما السلام مظهراً لاسم الرّحيم وهو اسمٌ يقدّسُ الأشياء تقديساً أقدسياً، ولذلك كان رمزاً ومؤيّداً بروح القدس، وكانت ولادته معجزةً بذلك الشكل الذي ولد به، وكان نبياً ورسولا منذ ولادته، معبّراً عن التجريد القدسيّ عن تبعاتِ ومقتضيات البشر والطين، ولهذا فقد رُفِعَ إلى السّماء لينزل في آخر الزمان، ثمّ كانت الرسالة الخاتمة وبعثة مظهر الرحمة الكبرى، برزخ الرحمة وخليفة اسم الرحمن سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم، اسمُ الرحمن الذي منه انبثق الوجودُ في بداياته أصلاً، وتجلّتِ الأسماءُ. فقال صلّى الله عليه وسلّم : ((إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ؛ ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ)) رواه البخاري. فالزّمانُ استدارَ كهيئته الأولى، وتوافقَتِ التجليّاتُ مع الآثار بظهورِ اسم الرحمن في الأرضِ بمبعثه صلّى الله عليه وسلّم، وتجسيد الخلافة الكبرى به صلّى الله عليه وسلّم وفتح باب الولاية الكبرى فكان هو محمد وهو أحمد صلى الله عليه وسلّم، وحاز على المقام المحمود ولواء الحمد، لأنّ جميع من يأتي من الأولياء والخلفاء من أمّته هم تابعون له وورثة له، هكذا سنّة الله سبحانه في الحياة، فلا يكون التابعُ فوق المتبوع، فافهم. والنبوّة والرّسالة لها القمّة، ثمّ يأتي الباقي تبعية. فكان اسمُ الرحمن دالٌّ على الله تعالى، وطريقٌ إليه، له وجه ذاتيّ إلى الذات أي الإسم الأعظم، واسم أحمد، وله وجه صفاتيّ جامع كما ذكرنا وهو الرحمانية وهي اسم محمد. ومنها بدأت رحلة الخلافة المحمدية والأحمدية في أمّته صلى الله عليه وسلّم، وكانوا على قدمه قمريين، فالقمرُ مقامه مكتومٌ مخفيّ، وقد عكسَ نور الشمس واستوعبه كلّه، حتّى تطلع شمس المغرب الذاتية في آخر الزّمان ويظهرَ صاحبُ الإسم الأعظم بالأصالة والخاتم لخزانة الجود الإلهيّ والخاتم للوجود الإنسانيّ، وهو علامة الساعة ومظهرها كذلك، الإمام المهدي عليه السلام. وبه ينزلُ النبيّ المؤيّد بروح القدس الذي كما ذكرنا جسّد اسم الرّحيم، ليختم اسمُ الرّحيم الوجود، وتتقدّس الأرضُ ويتجلّى فيها الإسمُ الأعظم أخيراً. فافهم، فما هذا العالم والمخلوقات والإنسان والخلافة سوى مظاهر تجليّاته سبحانه، وتجليّات أسمائه كما ذكرنا.