الأربعاء، 7 سبتمبر 2016

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 88




عوداً لحرف الباءِ وأسرارِه، وإيحاءاته، فحرفُ الباءِ هو ثاني الحروف الأبجدية، بعد الألف. عبّرَ عن الإثنينية والشّفعية في أنموذج التوحيد الذي أقامته الحروف ورسومها، ولم يكن رسمُه عبثاً. والإثنينة والشفعية هي إظهار التجلّي الواحديّ والحقيّ، من واحديته الجمعية إلى ظهورِ كثرته الفرقية، ومن مجلى الحقّ سبحانه إلى تجلّي الخلق والأكوان وظهور العالم، الذين هم أثرٌ وانفعالٌ عن أسماء الحقّ سبحانه.

فأعطى رسمُ الباءِ هذا المعنى، لمّا كان الباءُ ألفاً ممدّداً، والألفُ هو أوّل موجودِ من الكنه والعماء، أي أوّل حرفٍ تجلّى من النّقطة. لمّا كان رسمُه نقطتين، فبَعُدَ عن النّقطة بُعداً واحداً، لذلك ما عدّهُ المحقّقون إلاّ من جنسِ النّقطة، إذ هو مجلى عمائها، من كونِهِ ضمّ بُعد العماء والأحدية المنطوي في النّقطة، إذ هي نقطة مصمتة، نقطة دلّتْ على لا شيء، ودلّت على كلّ شيءٍ. انطوى فيها كلّ شيء إذ من جبّتها برز كلّ شيء، والحروفُ أصلها ومرجعها نقطة؛ وضمّ هذا الألف بُعداً آخراً معنوياً مجرّداً هو الأسماء الإلهية؛ الأسماء التي انبثقت من العماء، وتمايزتْ في الألف بلانهاياتِها، فالأسماءُ الإلهية غير منتهية، ولها أمّهاتٌ تجمعها كما جاء في الحديث النبويّ الشريف مئة إسمٍ، ولها إسمٌ جامع لها كلّها وهو اسمُ الله، لذلك كان الألف معبّراً عن اسمِ الله سبحانه، إذ هو المعبّرُ عن الجمعية الأسمائية كلّها، وهو الواسطة لها من بحر العماء، أو من عنصر الحياة، أو من نقطة الكنه، فهو مظهرُ النقطة، ومظهرُ العماء، والإمامُ المبين الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ. فالألف هو العماء والكنه والنّقطة وهو الجمعية الأسمائية الكبرى المتجليّة من بحر النّقطة والعماء، ولهذا اختصّ بالواحدية، وكذا الأحدية، ألف ونقطة. فكان رسمُ الباءِ معبّراً عن الألف فهو ظلٌّ للألف، فجاء ممدّداً وليس قائماً كما هو الألف ليعطي معنى الظليّة، ويعطي ما يوحيه رسمُهُ ووظيفته ومقامُه من التشفيع والواسطة بين القدم والحادث، وذلك ما سنذكره هنا؛ فجاءت الباء ألفا ممدّداً وهو بُعدين ونقطة تحت الألف الممدّد وهو بُعدٌ ثالث، فبَعُدت عن النّقطة بُعدين وعن الألف نقطة، وتلك هي مرتبتها، وفي النّقطة التي جاءت تحت الباء، الإشارة إلى سرّ الألف، أي نقطته المصمتة، وهو مقامُ الإنسان في الحروف، رغمَ كونه حرفاً مغايراً للحرف الأوّل، فلم يكن سوى على صورة الحرف الأوّل، وحاملاً لسرّه كذلك، أي قابلاً لسرّه الشهوديّ التامّ، فقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورته“، وهذه الصورة هي الألف، وقال صلّى الله عليه وسلّم ”خلق الله آدم على صورة الرحمن“ وهذه الصورة هي الباء، ولكلّ منهما دلالة، فصورة الألف هي الاستغراق في الجمعية الأسمائية بين الواحدية والأحدية، ومقام الخلافة الإلهية، وشهودِ كلّ شيءٍ في حُكمِ الواحدية وعدميّته الأصلية، وصورة الباء هي الجمع والفرق ومقام البقاء الأوّل وقاب قوسين. فجاء حرفُ الباءِ قارئاً لحرفِ الألف من قدِمِه إلى تجلّي حوادثه، وجاءَ نِسبةً كمالية صفاتية تدلَّتْ منها الموجودات والحوادث، ولذلك جاءَ رسمُه ألفاً نائماً وتحته نقطة وينعكسُ عبر تلك النقطة الكنهية ألفٌ ظلاليّ تحت النّقطة هو صورة وإسقاطُ الألف الغيبيّ فوقها، فحرفُ الباء وظيفته قراءةُ الألف الغيبيّ الأسمائيّ والتجلّي به إلى ألف ظلاليّ حدوثيّ هو عالم الصور والتعيّنات، هو عالم الأكوان. مثل الصورة التي وضعناها فالصورة تبدو كحرف اكس ( X ) أو كساعة رملية، تتقاطعُ عبر النقطة التي تحت الباء، فالباء شفّعت عالم الواحدية والأسماء، وهو الإسم الأعظم، أو حرفُ الألف، أو عالمُ القدَم إلى عالمين الأوّل العالم الذي ذكرناه، عالم الأسماء، والثاني هو عالم الأكوان. وهذا عينُ ما وصفنا به اسم الرحمن الذاتيّ الصفاتيّ الجامع، فهو راحمُ الأسماء الإلهية من اسمها الأعظم الجامع لها ” الله“ إلى ظهورِ آثارِها وصورها ومظاهرها في العالم والأكوان. فصارَ هذا الاسمُ وهذا الحرفُ (الباء) واسطةً للعالم الشهاديّ والصوري والتعيّني الذي ظهر به وبواسطته، فتأمّل. ولهذا قال الله سبحانه في الحديث القدسيّ ”لولاك لولاك ما خلقتُ الأفلاك“، أي يا محمد لولاك ولولا مظهرك ومقامُك الذي أقمتُه لك، ونسبتُكَ التي خصّصتها لك في أزلي ما خلقتُ الأفلاك، ولا ظهرَتْ، فأنت واسطتُها والنّسبة بيني وبينها، وأنت حجابي الأعظم دونها. طبعا حرفُ الباء الذي أعطى الرّتبة الثانية هومجلى خير الخلق صلوات الله وسلامه عليه، وأوّلهم وروحهم وواسطتهم، ولذلك كان الرّسول الجامع الأوّل، وكان النبيّ الأمثل، صلى الله عليه وسلّم، نبيّ الأنبياء، نالَ مقامَ الإنباءَ، وختم النبوّة في أمّ الكتاب، بهذه الواسطة العظمى، والنّسبة العليا التي تدلّت وتجلّتْ منها سائرُ الأشياء والأعيان؛ وكان سيّد العالم والأكوان، وكان صورة الإنسان الكامل الجامع للبرزخية بين شقّيها وقوسيها، الرّوح والجسد، الغيب والشهادة، الحقيّة والخلقية، الذاتية والصفاتية، كما قال الله تعالى {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ} (النّجم-9) . ثمّ تأمّل في صورة الباء ورسمه مرّة أخرى، تجدُ أنّه عبّرَ عن رسمِ الألف من جانبه الأعلى، أي ظهرَ في الباءِ رسماً الألفُ الأعلى فوق النّقطة لا الألِفُ الوهميّ الأسفل الدّالُ على الأكوان والعوالم، فعبّر عن رسمِ الألفِ في جانبه الأعلى كما ذكرنا أي في تقديسه وواحديّته، وأسمائه، وكمالاته، لمّا كانت صورة الأكوان والعالم منعكسةً تقديراً تحت نقطة رسمه، كأنّها وهمٌ وظلالٌ وأثرٌ وحسب، لا أصلٌ. فكان له - صلوات الله وسلامه عليه - هذه المرتبة العليا، وهي الكمالات الإلهية والكمالات الإنسانية، والصفات الرّحمانية، لأنّه حمل جانبها العلويّ الأعلى، ولذلك فالرّحمانية هي أعلى مراتب الوجود، لأنّها تُعطي ما أعطاهُ رسمُ حرف الباءِ، وهو رسم لنا صورة الألف الغيبي المقدّس، والنّقطة تحته، أمّا عالمُ الأكوان فهو ألفٌ منعكِسٌ تقديراً كما قدّرناهُ تحت نقطة الباء، إذ هو صورة الأسماء ومرآةُ الصّفات، فهو منفعلٌ من عالم الملكوت، يتبعه؛ وأثرٌ لتجليّات الأسماء، يلحقُها؛ وإنّما إحكامُ ما عليه كمالاتُ الله سبحانه وتقديسه وجماله وجلالُه وتنزيهه عن كلّ نقصٍ وخلل سبحانه وتعالى، أعطى العالَم بهذا الترتيب المُحكم المتناسق المتكامل الذي لا يشوبُهُ خللٌ ولا نقص ولا فطور، فكلّ شيء مرتبط ببعضه، والعالم قائمٌ على الأسباب والحكمة قياماً دقيقاً لا يتناهى، تعبيراً عن كمال حكمته ومنتهى القدرة والتقدير والإبداع والجمال والإحكام. فلا يقومُ شيءٌ إلاّ بما يُقيمُهُ من حكمة وسبب، وعلى هذا قامت الأقدارُ الإلهية، وهي - أي الأقدار- ليست سوى تجلّيات إلهية كما ذكرنا، تعيّنت في عالم الحكمة والتعيّن والصور، وأعطت ما أعطت من تقدير وأقدار وارتباطات.

وهذه النّسبة والمرتبة الرّحمانية العليا هي اعتبارية في حقيقتها، دلّتْ على الرّحمة التي قامَ عليها الوجود وسبقتْ كلّ شيءٍ، ودلّتْ على مجلى العماء الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ، وما تمايز فيه شيءٌ عن شيءٍ، في السّفلِ والعلوّ. كما جاء في الحديث الشريف : عَنْ أَبِي رَزِينٍ قَالَ : " قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ كَانَ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ ؟ قَالَ : ( كَانَ فِي عَمَاءٍ مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ وَمَا فَوْقَهُ هَوَاءٌ ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ ) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد والحديث صححه الطبري ، وحسَّنه الترمذي والذهبي. وكلّ ما سوى الله سبحانه هو اعتباريّ، ورحلة التحقّق والتفريد والعودة إلى الصورة يجعلُ العبدَ يشهدُ أنّ كلّ ما سوى الله عدمٌ، ولم يذقْ طعم الوجود ولم يشمّ رائحته أصلاً.

ويمكنُ القولُ إعلاماً وتنبيهاً كذلك، أنّ الألف كان مجلى الكتاب، فهو الحرفُ الكاتب الذي كتبَ أقضية الله وأقداره، وأظهرَ التجليّات، وتوسّط للأسماء، أو فلَقَها من عمائها ونقطة كنهها، وجمَعَها في وحدتِها الجامعة؛ والباءُ هو القارئ لهذا الكتاب، كتاب الألف ومترجمُه عالَماً وأكواناً وكائنات، الباءُ هو مرآةُ التجلّي الأسمائي والألفيّ. كما قال صلّى الله عليه وسلّم ” وَاللَّهُ الْمُعْطِي، وَأَنَا الْقَاسِمُ“ صحيح البخاري. فعبّر صلوات الله وسلامه عليه عن هذه الترجمة والمقام الذي أقامه الله فيه كما ذكرناه، أنّه القاسم لما أعطى الله، والمترجمُ لما تجلّى به الله سبحانه من بحرِ القدم إلى عالم الحوادث. ولذلك فصاحب الكتاب هو الخاتم الخليفة وهو العبدُ الذي أنزل الله عليه الكتاب، وكان إمام الواحدية والأحدية، الألف وخليفة النقطة المصمتة. وكان صاحب القرآن والذي أنزل الله عليه القرآن هو النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم، وكلّها اصطلاحاتٌ جاءت بدلالاتها وأسرارِها. كان المتخصّص بالقرآن الجامع القاسم هو صلوات الله وسلامه عليه، فهو الخليفة الأعظم. ولمّا كانت العوالمُ مشهد ومجلى الأسماء الإلهية، ومرآةُ صفاتِها، وكان الإنسانُ خليفةً اختارته العناية الأزلية، تجلّى كما ذكرنا سابقا وظهر الأنبياء عليهم السلام والأولياء المحمّديون ليعبّروا عن هذه الأسماء، وهذه الصفات الإلهية، فتخصّص كلّ بإسم وصفة، وظهرَ الخلفاء عبر المسيرة البشرية. وهم في الحقيقة خلفاءٌ على صورة الألف وصورة الباء، تحقّقوا بذلك وصحّت لهم الصورتين، فالصورة العلوية في جمعيتها واحدة، إذ ما ثمّ إلاّ هو سبحانه، فافهم. ولكن اختلفَ الخلفاءُ في مظاهر آثارِهم ووجودِهم الدنيويّ والحياتيّ، فهناك كلّ لما خلِقَ له، ولما هو ميسّرله، حسب طبيعة الصفة والإسم التي اختصّه الله به، من كونه مظهر تلك الصفة، أمّا التحقّق العلويّ فهناك تفاوتٌ وكاملٌ وأكملٌ، بحسبِ كذلك مقامِ الإسمِ الإلهيّ وشموله وإحاطته ورتبته. وإلاّ فالله تعالى يقول سبحانه : {قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ..} 110 الإسراء. ومن هنا كانت الأكوان مجلى هذه الأسماء وهيمنتها ورتبها. وكان اسمُ الرّحمن هو المستوي على عرش الأكوان. كما شرحنا إذ له مقامُ الصفات التي منه ظهرتْ الأكوانُ والآثارُ، وكما هي صورة الباء التي رسمناها على هيئة الإكس والساعة الرملية، دالّة على استواء اسمِ الرّحمن على عرش المخلوقات، إذ هو واسطة تجلّيها. بينما كان اسمُ الله تعالى دالاًّ على القدمِ، ودالاًّ على نقطة الكنه والعماء، التي هي مصدرُ كلّ شيءِ، فالحروف كلّها باختلافها والكلمات بتنوّعها ولا نهاياتها صدوراً، رسمُها عند تجريدها هو ألفٌ، فهو خلفيتُها. وكذلك مرجعها الى النّقطة كما سبق أن ذكرنا، ومن هنا كان الألِفُ الخليفة الذي خلفَ النّقطة، وقامَ به العالم، كما قامت به الحروف والسّطور، فهو خليفة النّقطة في عالم الظهور والحروف والكلمات، فالنّقطة معبّرة عن دواة الحبر، بلا نهاية، مصمتة كنزية لا انتهاء لإمدادتها، ومعانيها وتجليّاتِها وكلماتِها، والألِفُ هو مِدادُ الحبرِ، والقلمُ الكاتِبُ، الذي خطّ كلّ شيءٍ.

ولذلك في الرّسم الذي وضعناه، ترى أنّ الألف كان قائماً للدّلالة على استقلاله وقيّوميّته وصمديّته، ثمّ انشقّ منه حرفُ الباء نائماً، للدّلالة على الظلّية لحرف الألف؛ ثمّ ارتفع خطّ الباء الذي هو ظلّ الألف إلى أعلى، وبقيت النّقطة تحت، وحدث الإسقاطُ للألف الأعلى ألفٌ آخر تحت النّقطة أعطى عالم الأكوان والخلْق. فذلك هو حرفُ الباء الذي توسّط في ظهور العالم والخلْق كما ترى من رسمِ الباء. ثمّ عُدنا إلى رسمِ ألفِ نائمٍ أو ألفين متّحدين متقاربين على المستوى الأفقيّ للنّقطة، ليُعبّرَ عن اندماج الألفين، الأعلى والأسفل، الصّفاتي والمرآتي، فصارا ألفاً واحداً، هو ذاتُ الألف الأوّل، المعبّر عن شهود الحقّ والخلْق من مقام الجبروت، وبالصورة الألفية والخلافة الإلهية ومقام الولاية الكبرى. وهناك تنعدِمُ في نظرِ الوليّ الموجودات والكائنات، ولا يشهد فيها إلاّ الله سبحانه، ولا يرى إلاّ هو، وهو مقامُ بقاء البقاء، وآخر التحقّقات، ومقام ختم الولاية. فتأمّل في سرّ رسمِ حرف الباء وما يحويه. والله أعلى أعلم.

ثمّ إنّك هنا تشهدُ رتبة هذا الخليفة الختم المجذوب، في اجتماع الخطّين فيه الوهميّ والأصليّ، فجمع الأضداد، وتمايزَ فيه السّفلُ والعلوّ، بحكمِ وجوده في عالمِ الأكوان، وتحت التركيب العنصريّ، فأعطى وجوده اجتماع الأضداد، كما هو الأصلُ الذي تجلّى منه كلّ شيءٍ ولكن في العماء والقدم ما تمايز العلوّ عن السّفل، فما ثمّ إلاّ هو، ولمّا خرج إلى الوجود والظهور في الدّنيا، شابه الأصل الذي هو أصلُه، ورتبتُه، حتّى إذا انسلخ من الوهمية والتركيب العنصريّ، تطهّر من الأكوان، وختمَ الدّنيا، بارتفاع خطّها الوهميّ عن السّفل، وعودته إلى أصله حيث تجلّي الإسم الأعظم. فهو لم يخرجْ من رتبة الألف، مختلفاً عن غيره. والله أعلى وأعلم.