الأربعاء، 10 يوليو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 42


- 42 -

فلنعُد لمواصفات المهدي عليه السلام التي وصفته بها النبوّة الشريفة صلوات الله وسلامه على النبي الكريم وعلى آله وصحبه:

روى أبو داود والحاكم بسند صحيح عن أبي سعيد الخدري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "المهدي مني أجلى الجبهة ، أقنى الأنف ، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، يملك سبع سنين".

وجاء في مستدرك الحاكم : عن أبي سعيد ، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : "المهدي منا أهل البيت أشمّ الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت جورا وظلما".

وجاء في الحديث الشريف "المهدي رجل من ولدي ، وجهه كالكوكب الدري ، اللون لون عربي ، والجسم جسم إسرائيلي"

وفي حديث نبويّ شريف "وجهه كأنّه كوكب درّيّ، في خدّه  الأيمن خال"


_______________

فكان المهدي رجلاً من آل البيت من ولد فاطمة عليها السلام، أقنى الأنف أشمّه، أجلى الجبهة، وجهه كالكوكب الدريّ، عربيّ اللون، إسرائيليّ الجسم، في خدّه الأيمن خال.


فأمّا " إسرائيليّ الجسم" فشرحناها باستيفاء، وقلنا أنّ لفظة إسرائيليّ مركبّة من لفظتين : إسراء & إيل، فالإسراء هو الهجرة والسفر والسير والسريان ليلاً، وإيل هو إسم الله سبحانه. والمعنى أنّه الساري إلى الله والمسافر والمهاجر والرّاحل والسّائر إلى الله دون علم المخلوقات وعلم ما دخل في الأكوان، وأنّ كلّ شيءٍ يشهدُ له بالصّلة بالله والولاية. وهذا الوصف وحده كفيل بتعريف من هو المهدي، ولماذا سمّي المهدي، فهو المهدي إلى الله بسرّه المكتوم فيه، بكونِه الموصول بالله الصلة الذاتية، وأنّ الأشياء جميعها والأكوان .. لها وجهة لخالقها وبارئها الحقّ سبحانه، فكانت هذه الوجهة قائمةً في هذا العبد ذاتية أصالةً عنايةً من الله سبحانه بكونِهِ الخليفة، خليفة الله في أرضهِ، فصارَ البرزخ الحقيقيّ الذاتيّ القائم بين الكونِ والمكوِّنِ، فهو ذاتُ المكوّن في هويّته وفي مقامِ تلك الوجهة التي تعودُ إليها الموجودات والكائنات، فنابَ عن الله نيابةً ذاتيةً إذ هو عينُه ليس غير، لذلك سميّ الخليفة وفاز بالرّتبة الشريفة، وهو تحقيق قوله صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته". فما كان المقصود بهذا الحديث في سرّه وجوهره وحقيقته سوى الخليفة المهدي، فهو الوليّ أصالةً من الله سبحانه الذي تسمّى بالوليّ، قال سبحانه وتعالى {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(9)} الشورى. وهو العبد المخصوص بنزول الكتاب المكنون عليه، الكتاب الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ، لذلك كان هو الخليفة لأنّ الأعيان العلمية قبل ظهورها في الأكوان بكلمة كن، كانت أعياناً في الكتاب المكنون، أو تقولُ أمّ الكتاب فصارَتِ الأعيان راجعةً إليه في هويّتها، إلى هويّته، فكان السيّد الصّمد والحاكم العادل والقائم الفاصل والإمام الأعلى النّاهي الآمر، وهو المعنيّ بقوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ) [الزخرف: 84]. فهو صاحب سرّ الأحدية والهويّة والذات في السّماء، وهو المسمّى الخليفة في الأرض من كونِ الإنسان اصطفاهُ الله وخلقه على الصورة. ولو رجعنا إلى الكتاب والسنّة في إطلاق الصفّات في حقّ الباري سبحانه لوجدنا تلك الصّفات التي أوهمت التشبيه، من الضحك والتعجّب والإتيان والصورة وغير ذلك ممّا وقع عليه خلاف كبير بين طوائف المسلمين، فلولا أنّ الحقّ تجلّى بهذه الصّفات في دائرة الأكوان والتشبيه لما جاءت تلك الأوصاف بألفاظها المذكورة، مهما كابر المكابرون، فالله سبحانه جامعٌ بين التنزيه والتشبيه، وإلاّ لما عرفَ النّاس ربّهم ولا حادثوه ولا خاطبهم ولا نظروا إليه في دائرة الخلق والأكوان يوم القيامة والقيامة من عالم التقييد والأكوان؟؟؟ فالأحدية مسرح التنزيه حيث لا نعت ولا إسم ولا غير، فأين وقع الخطاب بين الخلق والخالق سبحانه؟ وأين يقع النّظر إلى وجهه الكريم المثبت صريحاً عند جمهور أهل السنة والجماعة ؟ والوارد في القرآن والسنّة ؟ فلا عليك بدوائر التعصّب ومن لم يبلغ من العلم دوائر التحقيق، فالأشاعرة والماتريدية والمنزّهون والمؤوّلون عصموا النّاس أن يغفلوا عن جانب التنزيه الذي هو أدعى عند العوام والطلبة وعلماء الظاهر بتعظيم الله تعالى، فالله تعالى جامعٌ بين التنزيه والتشبيه. ولكنّ الغفلة عن الجانب الآخر وتأويل ما جاء في الكتاب والسنّة صريحاً في دوائر التشبيه، يُعتبرُ تعطيلاً في عين الحقيقة، وإن كانَ العلمُ كما سبقَ أن فصّلنا قامَ على دوائر عامّة وخاصة وخاصة الخاصة إلى غير ذلك، وهنا وقع التفاوت ووقع الاختصاص، إذ ما حجبَ الخلقَ عن حضرة اللهِ إلاّ حجاب الجهل والقابليات، فالخلقُ دون الإنسان محجوبون بعدم القابلية والوسع الذي هو الصورة، وكانَ الإنسانُ على الصورة المعنوية قابلاً للشهود والمعرفة، ولكنّهُ تفاوتَ كذلك في ركونِهِ لمقتضياتِ الطّبع والعناصر التي شكّلتْ بشريّته فاحتجبَ عن خصوصيته أن يشهدَ ربّهُ ويعرفهُ فيزول عنه حجابُ الجهلِ والظلمِ لنفسه، وقد قال أهل التحقيق: وصولك إلى الله وصولك إلى العلم به، فليس بين العبد وربّه سوى العلم به. ولكنّ الضرورات اقتضتْ أن يقومَ  علم الكلام للدّفاع كما قلنا عن جناب التنزيه عن الحوادث مقابلة للمجسّمين تجسيماً محضاً وتسطيحاً لا يرقى إلى جلال الحقائق والتقديس والتنزيه، وجلال الوقوف على القدم والحادث، فتبنّى الخلَفُ علم الكلام منافحاً عن العقائد، ولكنّه ليس الأصلُ وليس اللبُّ والفصلُ، وإن كانَ أفضلَ من غيره ممّن جنحَ إلى التجسيم المحض والتسطيح الفارغ للعقائد والحقائق، على أنّ جزءاً من الحقيقة لم يخطِئها هؤلاء بوقوفهم على الألفاظ كما جاءت من الشارع الحكيم، وإنّما يُعابُ تقعيدُهم أنّه مبتورٌ عن صورته الكاملة ومنظومته الشاملة الجامعة مع ذلك حقائق التنزيه. ألا ترى أنّ مذهب السّلف كان التفويض والوقوف على تلك الاصطلاحات التي جاءت في الكتاب والسنّة، وإمرارها كما جاءت على مراد الله ورسوله صلى الله عليه وسلّم، فالسّلف كانوا أهل شهود وعلمٍ، لذلك فوّضوا وسكتوا عن تلك الألفاظ بإمرارها كما جاءت، فالذي لا يُدْرَكُ إلاّ بروح القدس فبسطهُ للنّاس يفتنهم لا محالة، فما وقفَ السّلفُ على ظاهر الألفاظ ولا أبطلوا مداليلها، لعلمهم وشهودهم ففوّضُوا. ومن هنا تفهمُ أنّ علمَ الكلام يُعتبَرُ تيمّماً مقارنةً بعلم الشهود والذوق والمعاينة الذاتية، علم الولاية والفردانية الذي حازه الأفراد الخارجون عن دائرة الأكوان الذي هو العلمُ الصّحيحُ والطّهارة الحقيقية والوضوء بالماء الطّاهر المطهّر لإقامة الصلاة التّامة التي هي صلة العبدُ بالله سبحانه. لذلك كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه مفوّضاً واقفاً على ألفاظ الكتاب والسنّة، وإن ظهرَ بعد ذلك من يدّعون الانتساب إليه فجسّموا تجسيماً محضاً من غير اعتبار أبعاد التنزيه والذوق والشهود وحاربوا الأمّة وتجرّؤوا عليها سلفها وخلفها فلا فوّضوا على طريقة السّلف ولا أوّلوا ونزّهوا على طريقة الخلف، ولا قبلوا بوسعِ الاختلاف، بل وحاربوا أهل الولاية والشهود فحادوا أبداً عن الإمام أحمد. فالإمام أحمد رضي الله عنه وقف على مذهب السّلف بالتفويض لعلمه بالحقائق كما هي عليه. ألا ترى قول الإمام علي زين العابدين  بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السلام :


يا رُبَّ جوهرِ عِلمٍ لو أبوحُ بـهِ
لَقِيلَ لي: أنت مِمّن يَعبُد الوَثَنـا
ولاَستَحلّ رجالٌ مسلمون دمي
يَرَون أقبحَ مـا يأتونـه حَسَنـا
إنّي لأكتمُ مِن علمـي جواهـرَهُ
كي لا يرى الحقَّ ذو جهلٍ فيفتَتِنا
وقد تقدّم في هـذا أبـو حَسَـنٍ
إلى الحسين، ووصّى قَبلَه حَسَنا

هذا هو مذهبُ أهل الحقّ كما هو عليه الحقّ ولا يهمّنا المخالفون والمتعصّبون سواء من هذه الفئة أو تلك الفئة، مستلهمين هذا العلم من أهله فهماً عنهم وفهماً عن الله تعالى الذي فتح لنا باباً في هذا العلم وهذا الفهم بمنّه وكرمه.

ولمّا كانت الحقائقُ كما ذكرنا فقد سمّى السّلفُ والأئمة الأفذاذ المهدي : القائم بأمر الله، فانظُرْ في هذا الإسم واللّقب، هو القائم بما يصدرُ من أمرِ الله تعالى، فأمرُهُ هو أمرُ الله تعالى بذاته. وسمّوهُ صاحب الأمر، وكيفما شئتَ أن تنظرَ في لقب : صاحب الأمر، فهو الذي إليه الأمرُ والفصل والحكمُ يرجعُ، أو شئتَ أنّ هذا الأمرَ الذي هو عليه الدّين والولاية فهو صاحب هذا الأمر ومالكه وإمامه. فافهم. ولم نزلْ ننقلُ إليك وصف الأكابر في توصيف المهدي أنّه الحقّ تعالى في مظهر الإنسان، ولكنّ الإنكار صفةُ الذين لم يبلغوا هذا المبلغ، فافهم. فإنّ الأفراد أهلُ القربة لا ينكرون على الغير، أبداً في هذا العلم. ولكن قد ينكرُ الصدّيقون ومن دونهم. قال الإمام الجنيد رضوان الله عليه "لا يبلغُ المرءُ درجة الحقيقة حتى يشهدَ فيه ألف صدّيق أنّه زنديق". فانظرْ إلى علوّ درجة الحقيقة، فهي آخر مدارج السّالكين ومنازل الواصلين، فأنكرَ على الذاهب إلى عوالم الحقيقة والراحل إلى بحار الذات حتّى الصدّيقون، ورموا هذا الغريب بالزندقة والشطح والانحراف ممّا لم يخبُرُوهُ، ولم تبلغهُم عقولهم ولا قابلياتهم. والأفراد هم الغرباء، لكونِهم يحملون علم الحقيقة ولا يجدونَ نظراءهم إلاّ ما يُعدُّ على الأصابع في زمانهم، كما وردَ عن الإمام الغالب علي بن أبي طالب عليه السلام وهو من الأفراد بل هو بابُ مدينة العلم والفردانية كما جاء في الحديث النبويّ الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أنا مدينة العلم وعليّ بابها". فوردَ عن علي عليه السلام قوله "هاه إنّ ها هنا لعلماً جماً (وأَشار إلى صدره الشريف) لو أَصبتُ له حملةً". فهذه نفثةُ مصدورٍ ولمّةُ غريبٍ في قومه، ومثلُهُ الأبيات التي أوردناها عن حفيده علي زين العابدين عليهما السلام التي يقسم فيها لو باحَ بما يعرفُ لصلبه المسلمون واستحلّوا دمه.


يتبع..