الاثنين، 2 يونيو 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 64


- 64 -

قلنا : "فيتجلّى نعيم الجنّة بهذا الاعتبار. ويُصبحُ العبدُ أنّى اشتهى شيئاً وأراده وجده، وليس يشتهي سوى النّعم والجمال والرّحمات والفضائل، لأنّ حياته قائمةً بالله تعالى على الاعتبارين : الباطن والظاهر. بخلاف الحياة الدّنيا، فالحياة فيها قائمة على المعنى الظاهر فقط. لأنّ النّفس تنزِعُ فيها إلى الطّبع والتّراب والعنصر وأناها الذي يميلُ بها ضدّ حقيقتها الأصلية التي ترجِعُها إلى ربّها.". اه.
قولنا أنّ الحياة الدّنيا قائمة على المعنى الظاهر، أي أنّ العبد فيها غير متحقّق، يعيشُ على ظاهر الحياة فقط، وهو غافل عن باطنها وحقيقتها، فيتحقَّقُ بظاهرها وأسبابها، بخلاف الآخرة فالحياة فيها حقيقية، لأنّ العبدَ المؤمن في الجنّة يُصبحُ متحقّقاً فيها مهما أراد شيئاً وطلبَهُ حقّقه له الله تعالى وأعطاه، فله مشتهياته ورغباته محقّقة حاضرة بلمح البصر. فهو في نعيمٍ مقيم عظيم. فحياته قائمة بالله تعالى ظاهراً وباطناً، وكلٌّ حسب منزلته في الجنّة، وحسب مستوى ترقّي قلبه في التجليّات والذوق. فيتمنّى بقدرِ ما يريدُ، والقلبُ هو الحاكم في الأمنيات والإرادة. ولذلك اختلفت منازل العباد في الجّنة، بقدرِ تحقّق قلوبهم ومعرفتها بالله تعالى وذكرها له سبحانه. فاختلفتْ لذَّاتُهم ورغباتُهم وخيالاتهم ووسعُهم وتجليّاتهم. فالحياة الحقيقية في الآخرة، إذ يُصبحُ العبدُ حيّاً بالله تعالى بالمعنى المقصود، حياتُهُ مستمدّّة من أصلِ الوجود من الحيّ الواحد المعبود سبحانه وتعالى. قال الله تعالى (وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ). العنكبوت-64. فسمّاها الحيوان، وهي مبالغة في لفظ الحياة وزيادة في البناء للزيّادة في المعنى، وتثبيت معنى الآية السابق أنّ الحياة الحقيقية هي الآخرة (يا ليتني قدَّمتُ لحياتي)، مقارنةً مع الحياة الدّنيا التي هي لهوٌ وتلهيةٌ ولعبٌ وغفلةٌ، سريعة الزّوال، كثيرة الفتن، شيمتُها التحوّل والتقلّب، فحياتها لهوٌ ولعِبٌ لا يليقانِ بأهل العقل والرجاحة والأكياس الذين ينظرون في عواقب الأمور.
 

فالآخرةُ حصادُ زرعِ الدّنيا بميزانٍ دقيقٍ عادل عظيمٍ. لأنّها أي الآخرة باطنُ الدّنيا. ومهما كان العبدُ يسقي الجِرابَ الذي يسقيهِ، فمنهُ يستقي في الآخرة. فمن يسقي جرابَ النَّفسِ الأمّارة بالسوء، ويعيشُ في دائرتِها غافلاً عن ربِّهِ، وغافلاً عن وجودِهِ الحقيقيّ الذي به قام وهو وجودُ واجب الوجود سبحانه، فسيستقي من هذه النَّفسِ وتحقُّقَاتِها في آخرته، فتنعكِسُ عليه هذه الدائرة التي ارتهنَ فيها، وهي دائرة الوجود العرضيّ المزيّف الذي ينزِعُ إلى الشرّ والسّوء والمساوئ. فتسقيهُ نفسُه يومئذٍ سقياهُ التي استقى منها، ويحصِدُ زرعَهُ الذي زرعَه في الدّنيا. فيخلُدُ أهل الكفرِ والجحودِ والنّفاقِِ في النّار والجحيم، تسقيهُمْ نفوسهم بما تحقّقتْ به، وهي ما تحقّقتْ إلاّ بالكفرِ والجحودِ بالله تعالى مصدرِ النّعم والرّحمة والخير المطلق. أي تسقيهُم ما يُضادُّ هذه النعم والخير والرحمة وهو العذاب والجحيم والشقاء. فهذا هو جزاءُ الكافرين والمنافقين. قال الله تعالى {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ، عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ ، وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ، وَسَاءَتْ مَصِيرًا} الفتح-6 . فجعلَ دائرة السّوء نتيجة ظنّهم بالله ظنّ السّوء. ونالوا الغضب والطّرد والبُعد وعذاب الجحيم. أمّا المنافقين فإنّ أعمالَهُم الظاهرة على الطاعات والإسلام لم تشفَعْ لهم لأنّ حقيقتها هي الكفر والجحود، فسقتهُمْ نفوسُهم الجاحدة الكافرة باطناً الظانّة بالله تعالى ظنّ السّوء المطلق سقيا العذاب والبعد والجحيم مثل الكفرة، وكانوا أشدُّ كفراً وعداوة لله والمؤمنين فكانوا في الدّرك الأسفل من النّار، أي كانت نفوسُهم أشدّ سوءاً في ظنونها السيّئة بالله فانقلب ذلك عليهم وما شفعت لهم أعمالُهم الظاهرة لأنّ حقيقتها هي الكفرُ والعداوة والسّوء، كمن يُظهِرُ لكَ الإحسانَ والخير ويبشُّ في وجهَكَ وهو يكيدُ لكَ ويُريدُ أن يؤذيكَ من حيثُ أنتَ تُحسِنُ الظنّ به، فهو يستعمِلُ ابتسامته وخيره الظاهر لك وإحسانه من أجلِ أن ينالَ منكَ ويؤذيك، فأعمالُهُ ليستْ خيراً ولا إحساناً بل هي عينُ الأذى والكيد والإساءة والشرّ، وهكذا حالُ أعمالِ المنافقين ومعاملتهم مع الله تعالى. أمّا العصاةُ من الموحّدين، فتسقيهُم نفوسُهم ما لبِثُوا فيه من دوائر الظنّون السيّئة والأعمال الطّالحة السيّئة، ولكن يشفعُ لهمْ إيمانُهم بالله تعالى وتوحيدُهم، أي أنّهم ما كفروا وجحدوا المصدر والمرجع الأصل في الخير والنّعم، ولكن عصوا وتفاوتوا في العصيان والتمرّد، فسقتهم نفوسُهم بقدرِ ابتعادهم عن التحقّق والتزكية النّفسية والصّلاح. وردّوا بعد ذلك إلى الأصلِ وهو إيمانُهم بالله تعالى وتوحيدُهم. ولمّا كانوا عبيدَ الأجرِ والظاهرِ من الأعمالِ والأسبابِ، جزاهم الله تعالى ووفَّاهُم بظاهرها، وأقامَ لهم أعمالهم حاكمةً عليها، الصالحة والطالحة، وحكم عليهم الميزان.{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7-8]. وكذا المؤمنين فإنّهم كانوا فريقين، فريقٌ كان من أهل الظاهر وطلاّب أجرٍ فقط، ما عبدوا الله تعالى بمكيالِ المحبّة والعشق، ولكن عبَدُوهُ بمكيالِ الأجر وظاهر الطاعات، فوفَّاهُم الله تعالى بميزانهم الذي أقامُوهُ في الدّنيا مع ربّهم، وهو ميزان الظاهر والأسباب، فأقام لهم الميزان حاكماً على أعمالهم الصالحة وطاعاتهم، فلمّا كانت أعمالهم الصالحة غالبة وطاعاتهم وافرةً جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون، وهو أكرم الكرماء وأحسن الشاكرين، وأدخلهم الجنّة كما وعدهم. وفريقٌ آخر وهو فريقُ القلوبِ والتقوى، الذين عبدوا الله تعالى محبَّةً له سبحانه وطلباً لوجهه وذاته، فأقام الله لهم ميزانهم الذي أقامُوه مع ربّهم، وردَّهُم إلى قلوبِهم المُحبّة لله تعالى، فنالوا الكرامة عنده وسبقوا يوم القيامة. وزادَهُم على أعمالهم الصالحة وطاعاتهم مثاقيلاً لا يعلمُها إلاّ هو سبحانه، لأنّ مثاقيلَ أعمال القلوب لا يُقاسُ بها أعمال الظاهر. وما تفاوتت الأعمال الصالحات إلاّ بالنيات والقلوب، كما قال صلّى الله عليه وسلّم "إنّما الأعمال بالنيات". وهؤلاء جاؤوا ربَّهم بقلوبٍ محبّة ونياتٍ صافية خالصةٍ يطلبون وجهه، فردّهم سبحانه إلى ميزانِهم الذي جاؤوا به ربَّهُم وما خيَّبَهُم فسبقوا يومئذٍ. ولهذا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم " لَيْسَ يَتَحَسَّرُ أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى شَيْءٍ إِلا عَلَى سَاعَةٍ مَرَّتْ بِهِمْ لَمْ يَذْكُرُوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِيهَا ". فتأويلُ الحديث إن كانت الجنّة نعيماً خالِصاً لا حسرة فيها ولا ألم ولا حرمان وهو كذلك -أي لا حسرة فيها ولا ألم- ، فتأويلُ الحديث أنّ أهل الجنّة مقصود بهم عموم من يفوزون بالجنّة ويُبشّرون بها بعد الحساب أو عندَ دخولهم الجنّة ابتداءً، فيرونَ عظمة عطاء الله تعالى ووفرته، وميزانَ عطائه الذي قامَ على تعظيمِ المُنعِمِ سبحانه، فبقدرِ التعظيم والمحبّة لله يزدادُ ميزانُ القربِ والعطاء عنده سبحانه، فيتحسّرونَ على ما فاتَهم من أوقاتٍ ما ذكروا فيها ربّهم وما عظَّموا المُنعِمَ على النّعََمِ التي كانوا يتقلّبون فيها في الدّنيا، مع شهودِهم معنى الحياة الحقيقية ذوقاً وعياناً فيتحسّرونََ على ما فاتَهم من القربِ القلبيّ والحبّي لمولاهم سبحانه الكريم العظيم. وأدلُّ دلائل وعلامات تعظيم الْمُنعم والرّغبة في قربه ومحبّته هي ذكرهُ في الأوقات. وإنّما كانتِ العبادات وقامت الطاعات لإقامة هذه الصّلة بين العابد والمعبود، والخالق والمخلوق، ومن أجلِ ذلك كانتِ الصّلاة ركنُ الدين وعمودُه، لأنّها شملتْ هذا المعنى العظيم وهي ربط الصّلة بالله تعالى، وردّ العباد إلى المُنعِم بذاته سبحانه والوقوف بين يديه، كي لا يغفلَ العبادُ بشهودِ النّعم والتلذّذ بها على حسابِ المُنعِمِ وشهودِه سبحانه، فأقامَ لهم الصلاّة فيها تلك الصّلة المباشرة بين العبد وربّه، وفرّق أوقاتها على اليوم ليؤسّس هذه الصلة ويقوّيها لأنّها سرّ العبودية وحقيقة الفلاح، ولهذا جاء في نداء الصلاة حيّ على الفلاح، فالصّلاةُ عمودُ الدّين بهذا الاعتبار، فيها معنى الذكر بجماعه الذكر القلبيّ واللّسانيّ وتسخير سائر الأعضاء لهذه الصلة بين العبد وربّه وذكره سبحانه، فهي ليست ذكراً عادياً، بل ذكرٌ مكثَّفٌ شامل. ولسرّ الصّلاة وتميّزها ما اختارَ الله لها التّشريع إلاّ في السّماء عند سدرة المنتهى في ليلة المعراج، فأعظِمْ بها تكريماً وعماداً وشرفاً لهذا الإنسان، وحازتْ هذه الخصوصية لأنّ فيها كما قلنا معنى العبودية وسرّ شهودِ المُنعِم سبحانه والوقوف بين يديه وردّ العبدِ إلى ربّه يُناجيه ويذكرُه ويدعوه ويستشعِرُ قيامه ووقوفه بين يدي ربّه. ولمعنى التعظيم وشهود المُنعِم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ((أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي)). فجعلَ محبّة الله تعالى تقومُ بشهودِ حقيقة تلك النّعم التي يتقلَّبُ فيها العبدُ، وحقيقتُها هي الله سبحانه. وهنا بابٌ مفتوحٌ للبصيرة والذوق والمعرفة، كيف أنّ العبدَ يتقلَّبُ في النّعمِ التي لا تُحصى، وكلّما شهدها بتدبّرٍ وذوقٍ زادَ تعظيمُه لربّه وشكره ومحبّته، وعرفَ قدر هذا التّخصيص وقدر تلك النّعم. إذ لا موجودَ سواهُ سبحانه، فكلّ القدرِ والشرف والتكريم والحبّ والخصوصية في الوجودِ أوّلاً أيّاً كان هذا الوجود، ثمّ في الوجود على الصورة الإلهية، ثمّ في تنزّلِ تلك النّعم التي لا تُحصى ولا تتناهى وهي ثمرة الصورة الإلهية. فهنا بحرٌ من التفاوتِ في تقدير هذه النّعم التي وهبها الله لخلقه. وهو الغنيّ العظيمُ في علاهُ. لذلك قال سبحانه عزّ وجلّ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ..} [سورة الزمر:67]. فكانَ الذكر في الأوقات هو عنوان المحبّة وعنوانُ الرّغبة في القرب، وعنوان التعظيم للمُنعِم سبحانه. وكان الذّكر مطيّة القرب القلبيّ، والعلوّ في الدرجات عند الله تعالى، فيتحسَّرُ أهل الجنّة على كلّ ساعة مرّت لم يذكروا فيها الله تعالى. وكيف فاز الذاكرون الله بعظيمِ الدرجات، ومنازل الحبّ والقرب. فضلاً عن كونِ أجر الذكر أجرٌ عظيمٌ مع سهولته ويسره، فهو من أيسر العبادات إطلاقاً، وهو مع يُسرِهِ من أعظمِها ثماراً وأجراً.

والذِّكرُ كما قال أهل العرفان والتربية : هو منشور الولاية. من أُعطِيَهُ فقد أعطيَ باب الولاية والقرب. وما زالَ العبدُ يذكرُ الله تعالى حتّى يطوي الطريق إلى ربّه. وأنّ القلبَ سرُّهُ في التحقّق هو الذكر، وكثرة الذكر. لأنّ الذّكر هو مفتاحُ التجلّي، فمهما أقامَ العبدُ على ذكرِ ربّه، فقد أقامَ على تجلّيه عليه بقدرِ الذّكر والأوقات التي تستهلِكُ العبدَ في ذكره، ونوع ذكره، وكيفية ذكِره. وكثرة الذّكر تستجلِبُ الخشوعَ وتوسِّعُ مداركَ القلبِ لسعة التجلّي الأقدس، فهو مع دوامِ الطّرق والذكر والإقامة على الذّكرِِ يفتحُ منافذ القلبَ نحو الرّوح ليتلقّى منها أمداد الحقّ سبحانه إليها، يفتحُ المنافذ ويوجّهِها نحو الرّوح، فيخِفُّ العبدُ أكثر، من عبء الجسد وعبء الطّبع التّرابيّ الذي يشدّهُ للطبائع الدونية والمساوئ النّفسية، ويترقّى بالرّوح. لأنّ القلبَ سرّهُ التقلّبُ، وسرّهُ التوجّه، وحيثُ توجّه وجهةً استهلكتهُ كلّه، فإذا توجّه نحو الله تعالى وأمداده عبر الرّوح، فقد ارتفعَ عن توجّهه الدونيّ الترابيّ الدنيويّ. والقلبُ هو البرزخُ بين الرّوح العارفة بربّها الشاهدة له، وبين النّفس المتّصلة مباشرةً بعالمِ الحسّ والطبائع الترابية والعنصرية، والذكرُ يملأُ هذا القلبَ بأنوارِ الحقّ سبحانه، وأمداد الرّوح، مهما زادَ وتقوّى وتركّز هذا الذكرُ زادت الأنوار والأمداد، واتَّسعتِ المنافذ نحو الرّوح. فيستجلِبُ هذا التوجّه نحو الحقّ سبحانه أنوارَ تجليَّاتِه عليه. فيُصبِحُ العبدُ في معية الحقّ، معيِّة بقدرِ حضورِهِ في الذكر وبقدر كثرة ذكره. ولهذا كان الذِّكرُ أفضلُ العبادات مُطلَقاً. قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم - :"ألا أخبركم بخير أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم " قالوا : بلى يا رسول الله، قال: " ذكر الله".حديث صحيح. إنّ الأعمالَ والطّاعات تتعاظَمُ عند الله بقدرِ نيتِها وخلوصِها، وتفاوتت أقدارُها ودرجاتُها عنده سبحانه، ولكنَّ الذِّكرَ هو السرُّ الذي يجعَلُ لجميعِ العباداتِ والطّاعات معناها الحقيقيّ، فدوامُهُ في الأوقات يغمُرُ العبدَ ويجعلُه في معيّة الله تعالى، فتأتي طاعاتُهُ خالصةً قائمةً بروحِها فيها معنى العبودية والمحبّة لله تعالى والتعظيم. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ مَكَّةَ فَمَرَّ عَلَى جَبَلٍ يُقَالُ لَهُ : جَبَلُ جُمْدَانَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " سِيرُوا سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ " . قَالُوا : وَمَا الْمُفَرِّدُونَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " الذَّاكِرُونَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتُ .. ". حَدِيثٌ صَحِيحٌ. سبق المفرّدون وهم السّابقون من عباد الله تعالى الذين استهتروا بذكر الله تعالى حتّى أصبحت أنفاسُهم ذاكرة لله تعالى.



___________

وقولنا : (والإشارة هنا، هي في كونِ أنّ الإنسان لا نهاية ولا حدّ لشرّه إلاّ إذا تجلّى الله عليه بمحاسنه وفضائله وكمالاته. قال لي أحد مشايخي قدّس الله سرّه وسرّهم : "الإنسان لا نهاية لشرّه ومساوئه إلاّ إذا تجلّى عليه الله بمحاسنه وفضائله".) اه.

أي أنّ النّفسََ الإنسانية لا نهاية لشرّها ومساوئِها ما دامت ملتفتةً لنفسِها معرضةً عن ربِّها سبب وجودِها وسبب النّعمِ التي تتوالى عليها، فلا ترتهنُ إرادتُها حينئذٍ سوى في الأنانية والشرّ والمساوئ والجحود. قال العارف ابن عطاء الله السّكندري رضي الله عنه
(لا نهاية لمذامك إن أرجعك إليك، ولا تفرغ مدائحك إن أظهر جوده عليك). ولذلك يتجلّى التدجيلُ على أوجِهِ في العالم، فهو ارتهانُ النّفس البشريّة في سجنها النّفسيّ حتّى ترتكسَ إلى قاعِ الحضيض، وتهوي الى دركة البهيمية بل الشيطانية، ولا تزالُ تهوي هذه النّفس المسجونة في قفصِها النّفسيّ إلى دركات الانحطاط، وتُسمّى حينها النّفس الدجّالة، وهذا يُفسِّرُ ما جاءَ من أوصافٍ وأحاديث تصِفُ آخر الزّمان، وانقلابَ مفاهيمه وانحراف سلوكياته، وقلّة خيره وصالحيه، وتهارج النّاس على الدّنيا وبيعهم لدينهم بعرض من الدنيا قليل، ويُصبحُ المحافظ على دينه كالقابض على الجمر، لأنّه وقتها يُصبِحُ المحافظ على دينه المتمسّك بانتمائه الحقيقيّ وهو الانتماء لله تعالى، يُصبحُ غريباً معاكساً للتيّار العامّ القويّ جدّاً، تيَّارٌ مدجَّلٌ. والحفاظ على الدين هنا ليس هو الحفاظ على ظاهره فقط، فكم من تديّن ظاهر وحقيقته التدجيل، وما ارتضاهُ عصبة التدجيل العالميّ أن يكون موجوداً على حساب التديّن الحقيقيّ النقيّ الذي يجمعُ القلبَ على ربّه، ولا يشغله عنه. وأكثر حال المتديّنين في آخر الزّمان مشغولون عن ربّهم، بسبب التدجيل الذي عمّ واخترَقَ الكثير من الهيئات والحالات وانحراف المفاهيم وانقلابها، وعدم وضوح في الرؤية والفهم والتديّن. فضلاً عن فساد النيات والقلوب وانجذابها للدّنيا والشهوات المؤثَرَة التي استعلتْ بوسائلها القويّة، ونفوذها وسهولتها. فحينئذٍ لا يكونُ صلاحُ هذه الدّنيا المدجّلة والنّفس الرّاكنة لأناها وشرّها، إلاّ دالاًّ عن ظهورِ الرجل الذاتيّ، الذي صلاحُهُ يعكِسُ صلاحَ العالم. ولهذا يظهرُ هذا الرَّجلُ من آل البيت عليه السلام في آخر الزّمان، وإصلاحُهُ يكونُ في ليلةٍ، ليُعطي حقيقة مقامِهِ الذاتيّ المؤهِّل لهذا الإصلاح الجذريّ الانقلابيّ العظيم في الكون، وكذا رحمةً من الله لبقيّة المؤمنين وبهذه الأمّة المحمديّة المرحومة، فيظهرُ المهديّ عليه السلام، ولا يكونُ ظهورُهُ سوى مُعبِّرٍ عن نفخ الرّوح في الإسلام، فهو الرّجل الذاتي والخليفة الذي كان سرِّهُ ذاتياً، والوحيد المؤهَّلُ أن يقلَبَ هذه النّفس العنصرية المسجونة في قفصِها النّفسي التدجيليّ المنحطّ إلى نفسٍ صالحةٍ مؤيّدةً بروح القدس. فيظهرُ إماماً عادلاً وهو في الحقائق وعالم العرفان دالٌّ على مرتبته الذاتية وإمامته العليا لمن كان يعقلُ معنى إصلاحه في ليلة وقلبه للعالم كلّه رأساً على عقب، وإبادته للظالمين. وبالتّالي فظهورُهُ لا يُعبِّرُ إلاّ عن الساعة وعلاماتها الكبرى.  


________________

شاهِدُ الخليفة

وشاهِدُ الخليفة ليس هو الطريقة المعتادة، بل شاهدُهُ هو ما اعترضَ عليه الملائكة لمّا أنبأهم الله تعالى بأمرِ الخليفة في الأرض، أي أنَّ الخليفة هو روح جميع الخلائق وسرّ جميع العباد، فشاهدُهُ هو التحقّق بجميع مظاهرهم وتلوّناتهم واعتباراتهم سواء بجمالها وكمالها أو نقصها وجلالها. وهذا إذا استعصى على الكثيرين إدراكُهُ فهو سرُّ الخليفة وحقيقتُهُ وحجَّتُه وعلامتُهُ التي ذكرها الله تعالى في شأنِهِ وعلامتُه التي فضّلَهُ الله بها على غيره من الملائكة المعترضين وسائر الخلق. فسرُّ الخليفة هو التحقّق بالأسماء جميعها، والتحقّق بالأسماء يقتضي الظهورُ بآثارِها في الأرضِ. فقد صارَ بهذا الظهور والتلوّن والشاهدِ الخليفةُ هو سرّ جميع المراتب والخلائق، وحقيقة الحقائق، التي تعيّنتْ في الأعيانِ وظهرتْ في الأشكالِ والأطوارِ والخلفاء والعباد على اختلافهم. فليس اسمُ الخليفة سوى الإشارة إلى الإنسان مطلق الإنسان الذي استخلَفَهُ الله تعالى في الأرض فمنهُ الشاكر ومنه الكافر. ولكنّ حقيقة الخليفة وحقيقة هذا الإنسان هو المُرادُ بالخليفة اصطلاحاً، لأنّهُ السرّ الذي تلوّنَ بسائر الخلفاء والأنبياء والنّاس وليس ذلك السرّ سوى الوجه الذاتي الذي ذكرَهُ سبحانه وتعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. ولهذا فالخليفة المُطلق لا يظهرُ إلاّ بعلامات السّاعة الكبرى، لأنَّهُ نهاية الوجود وختام خزانة الجود الإلهي، وحقيقة كلّ موجود. فلا تتعجّب من وجودِ هذا الخليفة وهذا العنقاء المغربية، لأنّه حقيقة الخلفاء، وإلاّ لوجبَ أن ترجِعَ الحقيقةُ والخلافة بعينيتها إلى صاحبِها باسمِهِ وسرّه الذاتيّ، وحيثُ لم يُعلن عنهُ ولم يُعرف غيرُهُ، فوجبَ أن يتفكّرَ المعترِضُ عن سرِّ وجودِ تلك المرتبة التي ظهرَ بها الخلفاءُ، وهي ليست مرتبة النبوّة، فالنبوّة مرتبتُها الرّحمانية والكمالات، ومقامُها الرحمة التي أرسلت بها إلى سائر المخلوقات والعالمين، فدلّ ذلك على وجود ختمٍ وخليفة مطلقٍ هو الخليفة في الآيات المذكورة في سورة البقرة، فقد نعته الله تعالى خليفةً واحد وأسجد لسرّه الملائكة، بينما الخلفاء هم سائرُ النّاس بإطلاق الخلافة بنقصها وكمالها، وخلفاء متناوبون واحداً بعد واحدٍ في مقام الخلافة الكاملة، ولمّا كان الخليفة هو المرادُ من الإنسانية بكمالِها وصورتها الإلهية، فحقيقة الإنسان والخلفاء جميعاً، هو سرُّ الوصلِ والفصل لجميع هؤلاء الخلفاء الذي أعطى لكلّ واحدٍ من هؤلاء الخلفاء محتدهُ الخاصّ به، أنبياءً وأولياءً في مقامِ النبوّة والولاية، وأعطى لكلّ أنسانٍ محتده الخاص به، فليس مردُّ الناس والعباد سوى إلى ربّهم في المنتهى، أقولُ ذلك للمعترضين الذين يزعمون خصوصية الفهم والانتماء لسلك العرفان. فمن صاحبُ هذه الخلافة الذي أعطى سرّ محاتد جميع الناس والعباد ليرجعوا إليه في النهاية؟ لترجع أعيانُهم الثابتة وحقائقهم إليه في النهاية؟ إنَّهُ الخليفة الذي تجلّى بالأعيان، وهو عينُ كلّ عينٍ وسرُّ كلِّ محتد. فافهم سرّ اعتراض الملائكة على الخليفة، وهو ذاتُ الأمرِ الذي شرّفَ به الله هذا الخليفة وأسجدَ له الملائكة، لأنَّهُ ظهرَ بسرّ الأحدية، وحقيقة الواحدية التي تجلَّتْ فيها الأسماء، ثمّ تعيّنتْ بها الأعيان، فصارَ خليفة مطلقاً، فشاهدُ الخليفة الأصليّ المطلق هو التلوّنات بالقوالب الخلقية جميعها قبل أن يتحلّى بالثوب الكماليّ المحمديّ، وهو سرّ الكمال المحمديّ، لأنّ الأخلاق والكمالات هي كمالاتُ الله تعالى، وهي لأهل الكمال وعلى رأسِهِم النبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم بالعرَض. قال صلّى الله عليه وسلّم "تخلّقوا بأخلاق الله". فهذه الأخلاق هي أخلاق الخليفة المُطلق، لأنَّهُ عينُ الظاهرِ بالنبي الخاتم، فهو سرُّ الأنبياء، وحقيقةُ الأولياء. إنَّهُ الرّوحُ المطهّر الذي يظهرُ الله فيه بذاته. فافهم إن كنتَ ممّن يفهم، وسواءٌ سلّمتََ أم لم تُسلّم، فهذا أمرٌ لا يُنكِرُهُ اليوم سوى متخلِّفٍ عن حقيقة العرفان الذي تجلّى -أي العرفان تجلّى- كنهارٍ مُشرِقٍ وشمسٍ ساطعةٍ.
 
يتبع ..