الثلاثاء، 3 يونيو 2014

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 65



 - 65 -

إنّ كلامنا عن صاحبِ لواء الذَّاتِ المهدي، لا نعني بذلك أنَّهُ الذات بهيئته ومظهره وتشبيهه، تعالى الله عن التشبيه والحلول والاتِّحاد. فجميعُ مقالاتنا من بداياتِها قامتْ على تأسيس التنزيه لله تعالى سبحانه، وكرّرنا مراراً أنّ كنه ذاتِ الله تعالى غيبٌ غير مدركٌ، وليس يُدرِكُهُ لا نبيٌّ ولا وليٌّ لا في الدّنيا ولا في الآخرة، فغاية إدراك الخلقِ وعلى رأسِهم سيّد الكمال والخلق وصفوتهم وسيّد الأوّلين والآخرين رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، غايةُ إدراكِهم هو إدراكُ التجليّاتِ المنزّلة من غياهبِ التنزيه إلى قوالبِ التشبيه، وهناك وقفَ الجميعُ بالحيرة والعجز عن الإدراك سبحانه، فما تعرَّفَ الله سبحانه لخلقِهِ إلاّ بالتجليّات والهوية الغير المدركة، فجاء في سورة الإخلاص المخصوصة بالتعريف بالله سبحانه وتعالى قوله : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فجاء التعريف بدايةً بهاء الهوية وضمير الغائب "هو" وإن شئتَ فهو في حقّ الله تعالى إسم أي الضمير "هو" هو إسمٌ لله تعالى. أي أنّ الله تعالى كنهُهُ غير مُدرَك البتّة. فما تعرّفَ لخلقه إلاّ بالتجليّات التي ظهرَ بها الرّوحُُ الأعظم. فقد ظهر سبحانه بذاته في الرّوح، أي الرّوح الأعظم هو مرآةٌ ذات الله تعالى، أمّا كنهُ ذاتِه فهو غيبٌ مطلق غير مدرك البتّة. قلنا ذلك وكرَّرناهُ مِراراً. وكذلك قال سبحانه {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ}. فبدأ بـ "هو" وختمَ بـ "هو". ليغلِقَ بابَ إدراك هويّته وكنه ذاته مطلقاً، فلا يزالُ معروفاً عند أربابِ التحقيق والولاية والمقرّبين من عباده بـ "هو". وهو إسمٌ يعودُ إلى غائبٍ، حتّى يُعلمَ أنّه غيبٌ سبحانه. وهو غيبٌ تعالى عن إدراك كنهِهِ. قال الله تعالى {الم(1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ(2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ(3)} سورة البقرة. فعرّفََ في آياته هنا عن عباده المتّقين المفرّدين السّابقين الذين يقيمون الصّلاة وهي الصّلة بالله تعالى التامّة، فهم قائمون بالله تعالى باقون به سبحانه، وينفقونَ من ثمرة ما رزقهم من الكتاب الذي يمسّونه بطهارتهم الذاتية {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ* فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ* لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ* تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ*}. لأنّهم حصّلوا مقام نزول الرّوح إلى قلوبهم وعرجوا إلى سرّ الرّوح، فأمكنَهُم الله سبحانه من التصرّف بإذنه، بذلك السرّ، أن صارتْ قلوبُهُم معاينةً للأحدية، والأحدية مظهرُ الذات السّاذج الذي هو سرّ الرّوح، وإن شئتَ سرّ مرتبة الألوهية. والأحدية طلسَمٌ وغيبٌ لأنّها مرتفعة عن التعيين والتعريف، فلا إسم فيها ولا صفة ولا نعت. إنّها الأحدية التي لا تقبل الغيرية مطلقاً، فهذا غاية شهود المحقّقين والفانين في الذات، وليس لهم وراء ذلك إدراك لكنه الذات وحقيقتها. فقلنا عرّف الله سبحانه عن العباد السّابقين المحقّقين المفرّدين المطهّرين أصحاب التفريد بإقامة الصلة بالله التامّة، والإنفاق من رزق التجليّات بمسّ الكتاب (الذي أنزله على عبده الذاتيّ). ولكنَّهُ سبحانه عرّفَهُم قبلَ ذلك بقوله {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ}. فجعلَ إيمانَهم به سبحانه غيباً، فتأمّل يرحمك الله، فَهُم بالرَّغمِ من تحقُّقاتِهم التي لا فوقها، إذ هم الأختامُ المحقّقون المطهّرون عن الأكوان الذين تحقّقوا بالفردانية وطبع عليهم بخاتم الولاية وورثوا الوراثة الكاملة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، بالرَّغمِ من علمهم بالله تعالى المنزَّلِ عليهم من إسم العليم وتحقّقاتهم الختامية وكمالِهم، فقد عرَّفَ بهم أنّهم يؤمنون بالغيب، وهذا الإيمان بالغيبِ هو في حقّ ذات الله تعالى وكُنهِهَا الغير المدرك. فهم عالمون بالله باقون به يقيمون الصّلة الكاملة به سبحانه من غير حلولٍ ولا اتّحاد، ويتصرّفون في الأكوان بإذن الله تعالى بختم الولاية الذي تُوِّجُوا به، ومع ذلك فكُنْهُ ذاته سبحانه غيبٌ بالنّسبة لهم، لذلك عرّفهم بالإيمان بالغيبِ. والإيمان يكونُ دائماً للغيب، لأنّكَ عندما تكونُ مشاهداً معايناً فأنتَ تجاوزتَ مرحلة الإيمان إلى مرحلة الشهود والمعاينة. ثمّ ليتأكّد هذا المعنى، قال الله تعالى بعد ذلك : {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}. فعطفَ "والذين يؤمنون بما أنزل إليك..". كما ذكر ذلك الشيخ الجيلي فعطفَ الفئة المؤمنة أصحاب اليمين -من غير السّابقين- الفئة المؤمنة التي تؤمنُ بباقي أركان الإيمان غيباً، لأنّ سائر الأركان عندها غيباً، فكان العطفُ بين السّابقين وأصحاب اليمين. لأنّ السّابقين ليس عندهم غيبٌ من أركانِ الإيمانِ سوى كنهِ ذات الله تعالى عن الإدراك، فهم مؤمنون به غيباً، وأمّا باقي أركان الإيمان من القدَرِ والملائكة والرّسل والكتب فهم مشاهدون لهم، معاينون لهم. يشهدون القدر في لوح القدر، ويعاينون الملائكة، بل هم معاينون للرّوح الأعظم. وبقيّة المؤمنين إيمانُهم بأركان الإيمان التي جاءت في الحديث الشريف الصحيح، إيمانُهم بها غيب. فالغيبُ موجودٌ لكلا الفريقين، ولكن عند أهل التّحقيق والسّابقين هو كنه الذات الغير مدرك أبداً لهم لا في الدّنيا ولا في الآخرة، وعند أصحاب اليمين الغيب هو باقي الأركان الواردة في باب أركان الإيمان.

وعليه فيجبُ الانتباه لما نذكرُهُ في التعريف بحامل لواء الذات والقائم بحقّ حمد الله المهدي عليه السلام، فهو المظهر الذي يظهرُ فيه الله بذاته. أي أنّ سرَّهُ هو السرّ الذاتيّ، وعلمُه هو العلمُ الكليّ الكامل بالله تعالى، هو الوليّ المتصرّف، هو الرّوح الأعظم الذي ظهر الله فيه بذاتِه. وليس يظهرُ الله تعالى إلاّ في هذا الرّوح، فهو حاملُ السرّ الذاتيّ والكنه الغير مدرك. فتعالى عن النّظير والشّبيه والمثيل مطلقاً، كما تعالى سبحانه عن الإدراك.

واسمُ الله هو إسمُ مرتبة من وجه، أي نعم، ذكرنا ذلك فقلنا اسمُ الله هو الإسم الجامع لمراتب الوجود جميعها، وبه يتحقَّقُ الحاملون للإسم الأعظم القرآنيون المطهّرون. وتحقّقُهُم به يُصطلحُ عليه : الفناء في الذات والبقاء بالذات. فهم ذاتيون اصطلاحاً، لا حقيقةً. فالذاتُ غير مدركة أصلاً كما أشرنا، ونريدُ كنه الذات وهويّتها هي الغير مدركة. لذلك ذكرَ الشيخ الأكبر في الفتوحات المكيّة أنّ الله أغير الغيورين وغيرتُه تجلّتْ أكثر ما تجلّت سبحانه عزّ وجلّ، في كونِ ختْمِ أسمائه هو : الإسم "هُو". كما سُقنا الآية الكريمة
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ }. فبدأ بـ "هو" وختمَ بـ "هو". غيرةً منهُ سبحانه فتعالى عن المشاركة والإدراك والنّظراء. وكانَ الختم العزيز المهدي هو صاحب هذا الهو والكنه بسرّه ولطيفته، ولهذا كانَ هو سرّ الوصلِ والفصلِ. وإلاّ لما قامتِ أصلاً حقيقة التوحيد. ولانفصلَتِ التجليَّاتُ والصِّفاتُ عن الذات، وذلك لا يكونُ فافهم. فحتّى قولنا أنّ اسم الله إسمَ مرتبة، فهذا لا يعني عدم وجود صاحب هذه المرتبة بالأصالة والسرّ الذاتيّ. وإلاّ لوقعَ الفصلُ ولما قامت حقيقة التوحيد كما ذكرنا. ولكونِها مرتبة يتحقَّقُ بها المتحقّقون الأفراد الأختام الورثة، فقد صارَ لها ختمٌ ليختِمَها وتعود إليه بالأصالة والذات فلا تقعُ المُشاركة والمزاحمة ولا التعدّد. فهو الأصلُ وغيرُهُ ظلٌّ له فقط. فافهم. والولاية ذكرنا أنّها سرُّ مرتبة الألوهية ولكنّ الوليّ الخاتم هو الوليّ بالأصالة المتصرّف المالك صاحبُ الملك، خاتِمُ تلك المرتبة، وحامل سرّ الكنه وسرّ الذات، وبهِ صار الإسمُ "الله" إسمُ ذات. وإنّما كانت مرتبةً -أي مرتبة الإسم الأعظم الله- لأنَّهُ لا وجودَ إلاّ له وحده، فهل معه أحدٌ في التّحقيق؟ لا. ولكن التعدّد والحدوث اقتضى أن يتميّزَ الأصلُ والظلُّ، ولولا الأصلُ لما وجِدُ الظلُّ، فافهم. ولولا أنَّ الظلَّ يرجِعُ للأصلِ لما سمّيَ ظلاًّ، ولما قامَ بأصلِه إذن، فهو تابعٌ ملحقٌ لحوقاً إمكانياً لا حقيقياً، فلهذا سمّي ظلاًّ. فما دخلَ في المخلوقية فهو من عالمِ الحدوث وهو من عالم الظلال، وكان الخليفة هو الرّوحُ الذي تجلّى الله فيه وظهر به بذاته، فهو الأصلُ الذي به تجلّى الله تعالى في عالمِ الظّلال، فمهما كان من ظلٍّ فلهُ أصلٌ يعودُ إليه، فكان الخليفةُ هو أصلُ تلك الظّلال، فالخليفة الأصلُ حامل سرّ الذات، وغيرُهُ بما فيهم سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه هم من عالم الحدوث والظّلال. وإلاّ لوقعَ الفصلُ بين الذات والتجليّات والصفات. وذلك لا يكونُ فما في الوجود والتحقيق سواهُ وحده لا شريك له. فالله اسمُ مرتبة وأسمُ ذات. فهو إسم مرتبة باعتبارِ التحقّق وعودة المخلوق إلى خالقِه، وعودةِ الظلّ إلى أصله، وهو إسم ذات باعتبارِ أنَّهُ لا إله إلاّ الله، ولا موجود سواهُ، فعادتِ التجليَّاتُ والصِّفاتُ إلى المظهر الذي تجلّى الله فيه بذاته، فهو صاحبُ الذات بهذا الاعتبار. قال الله تعالى {الله لا إله إلاّ هو} .. { قل هو الله أحد}. فالهو والكنه الغير مدرك هو الله جلّ جلاله، أحد في أحديته وليس له كفؤاً أحد. فالله إسمُ ذات، بردِّ ورجوعِ الإسم لحامل سرّ الذات. وهو المظهرُ الذي يظهرُ فيه الله بذاته. وهو إسمُ مرتبةٍ كما قلنا لسائر المحقّقين الخلفاء الأختام، فهُم ظلالٌ للأصلِ، وهي مرتبة البقاء بالله. ولهذا كان سيّد الخلق والكمال وقدوتهم هو رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكانت رتبته تُسمى رتبة البقاء الذاتيّ، فقد خلَقَ من أجله الأكوان والإنسان، فنصبَهُ لَهُم قدوةً وغايةً ونهاية الكمال والتحقّقات، وهو ظلٌّ لصاحبِ الذات الأصل، فنزلَ عليه القرآن بالرّوح الأمين على قلبِه، ليكونَ من القارئين لكتاب الوجود، الكتاب الذي أنزلَ على العبد الذاتيّ المهدي الخليفة. فالمهدي الخليفة أنزل عليه الكتاب، فهو الكاتب بسرّ ذاته ولطيفته الذاتية الأصلية، وغيرُه نزل عليه القرآن، فهو قارئ لهذا الكتاب فقامَ الحقّ سبحانه لطيفة ذاتية في المهدي الخليفة، وقامَ في غيره لطيفة صفاتية، أو ظلالية. فافهم هذا الذي نقولُه فهو من أنفس التحقيقات.

فقد صارَ صاحب لواء الذات واللّطيفة الذاتية بهذا الاعتبار سفير وخليفة الحقّ سبحانه، لأنّه لا سبيل إلى ظهور الحقّ سبحانه إلاّ بمظهرٍ في عالم الكثرة والحدوث، حيثُ ما في التّحقيق سواهُ موجوداً، فكان مظهرُ الحقّ سبحانه بذاته هو الخليفة. ففي سماء الربّوبية والقدِم هل موجودٌ غير الواحد الأحد؟
وإقرأ بدايات سورة النّجم، حيث ورد أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم اخترقَ إلى سرّ الرّوح ورأى من آياته الكبرى، وجاء في أخبارٍ صحيحة أنّه رأى ربّه عند عروجه في ليلة الإسراء والمعراج، وهو رأى الرّوح الأعظم حينما اخترقَ لسرّه. عند سدرة المنتهى. فرأى ربّه، والله بذاته وكُنه ذاته وأحديّته مُتعالٍ عن الإدراك فضلاً عن الرؤية، فافهم. وإنّما رأى المظهر الذي يظهرُ فيه الله بذاته، وهو الرّوح. وما استنكفَ السَّلفُ والرّاوي أن يقولَ رأى ربَّهُ. وكذلك جاء في الأحاديث الصّحيحة أنّه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربّه في رؤيا على هيئة شابٍّ أمرد. فالمرادُ هنا هو الرّوح حامل لواء الذات والمُسمّى : الحقّ المخلوق به. وهو ليس سوى الخليفة المهدي عليه السلام.
فلا حرجَ في إطلاق لفظة الربّ عليه، لأنّ سرّهُ هو السرّ الذاتيّ، ولطيفته ذاتية فهو ليس بظلٍّ. ولإقامة كلامنا على التأسيس فسننقلُ بعض اقتباسات الأكابر المحقّقين في توصيفهم للخليفة المهدي. وإطلاقُ لفظة الربّ لا تليقُ إلاّ به سبحانه هو صاحب الذات والهُو والكنه الغير مدرك، فتعالى الله عمّا يُشركون.

قال الشيخ الأكبر قدّس سره في الفتوحات المكيّة في وصفِ الخليفة :
(("إني جاعل في الأرض خليفة" يُؤمن به من كل خيفة، أعطاه التقليد، ومكّنه من الإقليد، فتحكّم به في القريب والبعيد، وجعله عينَ الوجود، وأكرمه بالسجود، فهو الرّوح المطهّر والإمام المدبِّر، شفّعَ الواحدَ عينه، وحكم بالكثرة كونَه، وإن كان كل جزء من العالم مثله في الدلالة ولكنّه ليس بظلّ فلهذا انفرد بالخلافة وتميز بالرسالة فشرّع ما شرع، وأتبَع واتّبع فهو واسطة العقد وحامل الأمانة والعهد)). انتهى.
فنعته هنا أنّه ليس بظلّ فانفرد بالخلافة وكان واسطة العقد وحامل الأمانة والعهد. أي حامل سرّ الذات حيث تجلّت تجليَّاتُها، وإلاّ لما قام معنى قوله تعالى
{ وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ }. فوجهُ الله هنا هو وجههُ سبحانه. وإلاّ لوقع الشرك والانفصال. ثمّ عرّفه أنّه شفع الواحد عينُه، وحكمَ بالكثرة كونَه، فنسبَ إليه الكون، ونسبَ إليه التشفيع والكثرة، ونسبَ إليه مقاليد الأمور والتصرّف. فهو الربُّ والذي استحقّ السّجود، لأنَّهُ حامل سرّ الذات والكنه الغير المدرك وصاحب العلم الكلّي الكامل بالله تعالى، وصاحب التّصريف المطلق.
وقال الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه "الإنسان الكامل"

ذاتٌ لها في نفسها وجْهَـانِ ... للسّفل وجهٌ والعُلا للثانـي
ولكلّ وجهٍ في العبـارة والأدا .... ذاتٌ وأوصافٌ وفعلُ بَيَانِ
إن قلت واحدة صدقْتَ وإنْ تقُلْ ... اثـنانِ حـقّ إنّـه اثنـانِ
أو قلتَ لا بل إنّهُ لمثلّثٌ ... فصدقت ذاك حقيقة الإنسانِ
أنظر إلى أحدية هي ذاته ... قل واحدٌ أحدٌ فريدُ الشانِ
ولئن ترى الذاتين قلت لكِوْنِهِ ... عبدا وربا إنّه اثنانِ
وإذا تصّفحتَ الحقيقة والتي ... جمَعَتْهُ ممّا حكمُه ضدّانِ
تحتارُ فيهِ فلا تقولُ لسُفلِه ... علو ولا لعلوّه داني
بل ثمّ ذلك ثالثاً لحقيقة ... لحقت حقائق ذاتها وصْفانِ
فهي المسمّى أحمد من كون ذا ... ومحمّد لحقيقة الأكوانِ
وهو المعرّف بالعزيز وبالهدى ... من كونه ربّاً فداهُ جناني

فوصفه الشيخ الجيلي بالذات الأحدية، فهذا محقّق عالم بالله يصِفُ صاحب الذات المُسمّى أحمد، والمعرّف بالعزيز والهدى : المهدي {ألم ، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتّقين}، وعرَّفهُ أنّه ربٌّ. وأنّه الظاهرُ بالمحمدية في الأكوان فكان هو الظاهر بمحمّد لحقيقة الأكوان. وهو أحمدٌ الذي قامَ بحقّ الحمد، وما قامَ بحقّ الحمدِ سواهُ على التّحقيق، والحمدُ هو إعطاء كلّ مرتبةٍ حقّها، وما ظهرتِ المراتبُ ولا ظهرَ التعدّدُُ إلاّ بالتجلّيات الحقيّة والخلقية، وما ثمّ في التَّحقيقِ حامِدٌ ومحمودٌ وحمدٌ سوى الواحد الأحد المعبود سبحانه، فهو عينُ الحمد والحامد والمحمود، فهذا معنى القيامِ بحقّ الحمدِ، فمن هو سرّ الحمد والحامدين؟ هو المحمود سبحانه، الذي تجلّى بخلقه، فأعطى كلّ مرتبةٍ حقّها، وليس ذلك سوى أحمد بالأصالة وهو الخليفة المهدي، فكان العبد الذي قام بحقّ حمد الله تعالى على التّحقيق دون سواه. وكان سيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم عند تحقّقه بالإسم الأعظم، التحقّق الظلاليّ الشهوديّ العبد الذي استحقّ لواء الحمد دون غيرِه من الخلق، فهو صاحبُ لواء الحمد والمقام المحمود، والخليفة أصلٌ لا مزاحمة بينه وبين الخلق. وإنّما كان صاحب لواء الحمد هو القدوة والأنموذج الذي جعله الله مكمّلاً وقدوةً سيّداً لسائر المتحقّقين والعباد والمخلوقات، وجامعاً لجميع التجليّات خاتِماً لها متحقّقا بها، وهو سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجميعُ العباد سائرون على قدمه متحقّقون من بعده.


وقال الشيخ الأكبر قدّس الله سرّه في الفتوحات المكيّة :

(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. ) انتهى.
فهنا كلامٌ واضحٌ، في التفريق بين المتحقّقين وبين صاحب الأحدية والذات. فهيهات أن يتماثل الأصلُ والظلُّ. فتحقّق المحقّقين والأولياء والأنبياء هو تحقّق بالعلم والصفات، لا بالذات. وذكرَ أنّ هناك ياقوتة يتيمة لا نظير لها. وهي ياقوتة الخليفة والرّوح صاحب الذات وصاحب الأحدية وصاحب الكنه، فشتّان بين الخالق والمخلوق. فافهم. أن ينخدَعَ من لم يتحقّق بين المرتبة وبين الأصل وصاحبها الذي به ظهرت. فأمرَ سبحانه بإقامة الميزان.

وكثيرٌ من الاقتباسات ذكرناها في ثنايا مقالاتنا تتكلَّمُ عن حقيقة هذا الوليّ الخاتم. فليس له نظير ولا مثيلٌ، فمهما وقع التماثل في المظهر والإنسانية الظاهرة، فالختمُ سرّهُ وعلمُه هو فوق الإدراك وفوق التناظر والمثلية.


وقال الشيخ الأكبر في كتاب عنقاء مغرب تلميحاً لهذا المقام : ((فرأيتُ ختم الأولياء الله الحقّ، في مقعد الإمامة الإحاطية والصدق، فكشف لي عن سرّ محتده وأمرت بتقبيل يده، ورأيتُه متدليّاً على الصدّيق و الفاروق متدانياً من الصّادق المصدوق، محاذياً له من جهة الإذن، قد ألقى السمع لتلقّي الإذن ولو تقدّمه منشور ، وخاتماه نور على نور ، فكان له في ذلك الجمع الظهور وما عداه فيه كلابس ثوبي زور))انتهى. فما عداهُ كلابس ثوبي زور، لأنّه الأصلُ وغيرهُ ظلٌّ لهُ. فهو صاحب لواء الذات.

ووصفه الشيخ الأكبر
في عنقاء مغرب بقوله مقسماً : ((وأقسم لك بهذا البلد إنّه للسيّد الصّمد)). انتهى. ولا صمد إلاّ الله المعرّف في سورة الإخلاص بقوله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ }. ولا صمد سواهُ "هو" وحده لا شريك له، الذي استغنى وغيرُهُ إليه افتقر.

وقال الشيخ الجيلي قدّس الله سرّه في كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل في باب : "في الزبور" :
((.. فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه، وإليه الإشارة في قوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} يعني الصالحين للوراثة الإلهية..)) انتهى.

وقال الشيخ الجيلي في كتابه "الإنسان الكامل"، يصِفُ حقيقة المهديّ الخاتم الوليّ:

(فقد سبق أن قلنا أن الحقّ إذا تجلّى على عبده وأفناه عن نفسه قام فيه لطيفة إلهية، فتلك اللّطيفة قد تكونُ ذاتية وقد تكونُ صفاتية، فإذا كانت ذاتية كان ذلك الهيكل الإنسانيّ هو الفرد الكامل والغوث الجامع، عليه يدورُ الوجود، وله يكون الركوع والسجود، وبه يحفظ الله العالم، وهو المعبّر عنه بالمهدي والخاتم وهو الخليفة، وأشار إليه في قصة آدم، تنجذبُ حقائق الموجودات إلى امتثال أمره انجذاب الحديد إلى المغناطيس، ويقهر الكون بعظمته ويفعل ما يشاء بقدرته، فلا يُحجبُ عنه شيء، وذلك أنّه لمّا كانت هذه اللطيفة الإلهية في هذا الوليّ ذاتاً ساذجاً غير مقيّد برتبة لا حقيقة إلهية ولا خلقيّة عبديّة، أعطى كلّ رتبة من رتبة الموجودات الإلهية الخلقية حقّها، ...) انتهى.

فعيَّنهُ أنَّهُ صاحب اللّطيفة الذاتية وغيرُه قام فيهم الحقّ لطيفة صفاتية.

وقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في مقدّمة الفتوحات :

إنْ قيل من هذا ومن تعني به... قلنا المحقِّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمُ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

وهنا نزّهه الشيخ الأكبر عن النّظراء والمشابهة مطلقاً، وجعله سرّ العباد ووصفه بأوصاف الإله. حتّى قال على لسان المندهشين:
قالوا لقد ألحقتَهُ بإلهَنِاَ... في الذات والأوصاف والأسماء
وأجابهم :
فبأيّ معنى تعرفُ الحقّ الذي... سوّاك خلْقًا في دُجَى الأحشاء
أجابَهم أنّ معرفة الحقّ تقضي بوجود سرّه في خلقه، فوجبَ وجود صاحبِ هذه المرتبة الذي ظهرتْ به المخلوقات، فهو هذا الخليفة خاتم الخلفاء. هو سرُّ الوصلِ والفصلِ. وإليه ترجِعُ الظّلالُ والمراتب والتجليّات.

كثيرة هي الاقتباسات الصّريحة والملمّحة. ولكنّنا أردنا التنبيه لحقيقة التنزيه لكُنْه الذات العليّة المتعالية عن الإدراك، التي لا تُدركُ لا دنيا ولا آخرة، فهو سبحانه في أحديته وعلاه، وحقيقة الخلافة بين الأصل والظلّ. والله يقولُ الحقّ وهو يهدي السبيل.