الخميس، 5 يونيو 2014

الحبّ والعشق سرّ التحقّق ..



أعرِفُ عارفاً بالله قال أنّ أهل العشق الدّنيوي هم أقربُ النّاس للإيمان بالله وأقرَبُهم من ملامسة مشاعر القرب من الله، هكذا قال بالمعنى أو نحو هذا الكلام، ولستُ أذكرُ الصياغة ودقيق المعنى من كلامه. وهذا المعنى قالَ مثله الشيخ ابن تيمية رحمه الله وسمَّاهُم عشّاق الصّور، وقال أنّهم إذا حسن إيمانهم وتوجّهوا نحو الله تحوّل حبّهم إلى الله تعالى بحُكمِ ذوقهم السّابق للعشق. وإن كانت تسميته عشّاق الصّور تحتاجُ إلى تحرير، لأنّ العاشق لا يقعُ في قلبِه العشق نحو معشوقه إلاّ بسرٍّ باطنٍ فوق الصورة الظاهرة مُطلقاً، وهذا معروفٌ عن العُشّاق أنّهم يرون محبوبهم أجمل وأحسن وأقرب إليهم من سائر الأشخاص مهما بلغ جمال وفضائل الغير مقارنةً بمحبوبهم، فهو سرٌّ فوق الظاهر والصور، يأخذُ بألبابِهم فلا يلتفتون إلى غير محبوبيهم.
ولكنّا نُثمِّنُ ما قاله الشيخ ابن تيمية على أنّ أهل العشق أكثر قابليةً لمحبّة الله تعالى والقربِ منه إذا توجّهتْ قلوبُهم إليه سبحانه، أو وجدتْ من يدلُّها على الطريق إليه. وأنَّهُم يملكونَ الفرصة أكثر من غيرِهم للإيمان بالله تعالى والإسلام لوجهه سبحانه. إيماناً يضربُ في العمقِ نحوَ المحبّة والتعلّق القلبيّ القائد نحو فضائل الرّوح وحقيقة الهداية التي جاء من أجلِها الدّين.

وأعتقِدُ أنّ من أسبابِ اندثار غراس الدين في النّاس في زماننا هو ابتعاد النّاس عن التديّن القلبيّ النّابع من سرّ المحبّة والعشق، وصارَ التديّنُ أقربَ للإنتماء لحزبٍ سياسيّ أو نادٍ من النّوادي أو مذهبٍ فكري أكاديميّ . بينما سرّ هذه القلوب هو الحبّ، ولغتها المُثلى هي الحبّ، وأرقى وأسمى وأفضلُ ما يرتقي إليه العبدُ في منازل القربِ من الله تعالى هو الحبّ، فإذا تحقّق له الحبّ من الله والحبّ لله سبحانه، فقد فاز لا شكّ في ذلك. فالقربُ قرينُ الحبّ، فالأحبُّ هو الأقربُ والأفضلُ .. وكذلك ميزانُ الحبّ عند الجميع.
وفي الحديث القدسيّ الصحيح : ((...حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر فيه ، ويده التي يبطش بها ،. ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه)). وهذه أعلى درجة يصلُ إليها الإنسان في القربِ من ربّه. والحديث صريحٌ فثمرةُ تلك المنزلة هي المحبوبية من الله تعالى ((حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ ..)). وكذلك في الحديث الصحيح ((إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ )).
وهذا الاندثار حصلَ حينما دخل هؤلاء المتفلسفين تناولُ صفاتِ الله تعالى بحيادية عجيبة بعيدة عن روحها، وتنزيهٍ أقربَ للتّعطيل، لتعطيلِ روح المعاني وسرّها وعفويتها وسريانِها في حياة النّاس بسجيّتهم وطبيعتهم ومعاملاتهم، ومثلهم السّطحيون الواقفون على الألفاظ بظاهرها، فلم تشفع لهم ظاهريتهم أن يأخذوا بالمعنى الذي يُوحيه الظاهر. عجباً !!! عجبٌ لا ينقضي فلا هؤلاء ولا أولئك أخذوا بالأريحية والبساطة والإنسانية في المعاني والمفاهيم، مع تناقضهم وتجاذبهم النّقيضين في تحرير الألفاظ والمعاملات المتعلّقة بذاتِ الله سبحانه. وهذا الدّين جاء للإنسان يخاطبُهُ بما فيه بما أودعَ الله فيه من مواهب ومعاملات ومشاعر وفضائل، فالحبّ هو الحبّ .. والعشقُ هو العشق. كيفَ صارَ هذا العشقُ هو أشدُّ الارتباطات وأوثقها وأعلاها بين الإنسان ومثيله الإنسان، حتّى فنى فيه شوقاً وعِشقاً وتيماً وقرباً وألهمَهُ ذلك أن يُضحّي بنفسه من أجل محبوبه ويفديه بكلّ ما يملكُ. فقبِلناهُ واقعاً وشهدناهُ معنى وظاهرةً ترويها الحياة حاضراً وماضياً. ثمّ نرفضُ أن يكونَ هذا الرِّباطُ الشديد والعلاقة المتينة موجودةً بين العبدِ وربّه، الذي هو أولى بالمحبّة والعشقِ والفناء فيه والتضحية من أجله، مع وجودِ الفارقِ العظيم بين محبّةِ مخلوقٍ ونتيجتها، وبين محبّة خالقِ إليه يرجعُ أمرُ كلّ شيءٍ ونتائجها؟!.

وعليه فتديُّنٌ من غيرِ حُبٍّ هو تديُّنٌ مغشوشٌ، أو -على الأقلّ- تديّن ناقِصٌ، من غير حبٍّ يقودُ العبدَ نحو ربّهِ، حُبٌّ فوق الخوف وفوق العطاء، الخوفُ قد يتزحزحُ عند ظروفٍ تُبسَطُ فيها الدّنيا ويطولُ فيها الأملُ وتتبهرجُ الدّنيا بزينتها ووجهها الفاتن ظاهراً، فيتسَّلَّلُ الخوفُ من القلبِ ويضعُفُ، وكذا العطاء والرّجاء قد يبهَتُ في ظلّ ظروفٍ مماثلة من العطاء العاجل وفتنة الدّنيا أو في ظلّ ظروفٍ فيها الخوفُ والترهيب والتهديدُ فيسبِقُ الخوفُ العاجلُ الرّجاءَ المؤجَّلَ. بيدَ أنّ المُحِبَّ يتجاوز الخوف والرّجاء، عاشقاً نحو محبوبه، يقدِّمُ أعزّ ما يملكُ فداءً لمحبوبه وهو فرحانٌ نشوانٌ.

قال الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ ، وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ} البقرة(165). فما ميّزَ اللهُ سبحانه هنا بين النّاس إلاّ بالحبّ، كأنَّهُ لا قائِدَ ولا سائِقَ نحو الوجهات المختلفة سوى الحبِّ. فهناك منهم من اتَّخذ أنداداً يحبّونهم كحبّ الله تعالى، أنداداً من حبّ الدّنيا وحبّ النّفس وحبّ الحظوظ المختلفة أو حبٌّ مخلوق من العباد، حبٌّ ذاتيّ كامِلٌ تألّهََ عند هؤلاء المتخذين أنداداً. وهناك المؤمنون الذي كان حبُّهم أشدُّ لله تعالى، وهؤلاء هُم الذين استحقّوا درجة الإيمان فوصفهم الله تعالى "الذين آمنوا". فكان الله أحبَّ إليهم من محبوباتهم الأخرى، فهُم في الحقيقة لم يتخلّصوا بَعْدُ من الأغيار جميعها ولكنّ الله مدحَهُم: أنّهم آثروا الله تعالى وكان حبُّهم له أشدّ وأقوى من رغائبِهم الأخرى. وهناك فريقٌ آخر وهم القليل الذين ليس عندهم رغائبٌ سوى الله تعالى، مُنتهى العشق والحبّ، حبٌّ لدرجة الفناء وتلاشي باقي المحبوبات الأخرى والأشياء وبقاء محبوبهم الأوحد. هؤلاء هم السّابقون فحبّهُم كلُّهُ لله تعالى ليس فيه مشاركة مهما قلّت. والخلاصة أنّ الأمرَ قامَ على الحبّ في سائرِ التوجّهات، صحيحة كانت أو خاطئة.

وقال الله تعالى تأكيداً على هذا المعنى {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا} الفرقان(43). فالهوى أصلاً سُمّيَ هوى من الهوى والميل والانحطاط إليه، لأنَّهُ أقربُ للنَّفسِ من الرّوح العارفة بالله، الهوى ممتزِجٌ بالنّفس وحاضِرٌ برغباته الحسّية العاجلة وعطاياهُ الحاضرة، بينما الرّوح تحتاجُ توجّهُاً ونُضجاً وعقلاً يرى العواقب وصبراً كي تظهر نتائج العلاقة بالرّوح البعيد نسبياً في عطاياه وذوقه وثماره. فوصف الله أنّ هناك من يتَّخذُ إلهه هواه، وهو ذاتُ الوصف في الآية السّابقة أنداداً يحبّونهم كحبّ الله. فهو هوىً وحبٌّ للأنداد والأهواء النّفسية هوىً غالباً كاملاً سائقاً العبدَ مالكاً عليه أمرَهُ فهو لا يأتمِرُ بغيرِهِ من ضميرٍ أو إيمانٍ .. فهنا الهوى صارَ كالإله الذي لا يستحقّ هذا الائتمار والاتّباع والطاعة سوى من كان إلهاً. فغلَبَ حبُّ الهوى النّفسيّ على هؤلاء حبَّ الله تعالى.
فها نحنُ نشهدُ أنّ توجّهات العباد قامت على هذه المحبوبية والهوى والميل، إمّا إلى رغائبِ النّفس، أو إلى ربّها .

وهنا سيقولُ القائلٌ كيفَ صارَ أهل العشق الدنيويّ أقربَ من غيرهم من أهلِ الأهواء والكفر إلى الله تعالى والإيمان به؟ والله ذمّهم في معرَضِ محبّة الأنداد، وهؤلاء اتّخذوا من محبوبيهم أنداداً يحبّونهم كحبّ الله تعالى ؟

فنقولُ والله أعلم، أنّ هؤلاء تميّزوا عن أهل الهوى وتأليه هواهم بصفة عامّة، بمحبّة إنسان وعشقه، وصارَ هواهُم مجموعاً في هذا الإنسان. وعليه فهذا محسوبٌ لهم.
ومحسوبٌ لهم باعتباراتٍ كثيرة، تجعَلُ منهم فعلاً مؤهّلين أكثرَ من غيرهم لذوق المحبّة الإلهية والإيمان. لأنّهم أوّلاً كما قلنا ما تفرّقت أهواؤهُم أوزاعاً بين الأنداد والمحبوبات النّفسية والرّغائب الدنيوية، فصار عندهم حبٌّ متوحِّدٌ مجموعٌ في شخصٍ، فغلَبَ حبّهُ جميع أهواءهم الدنيوية وحظوظهم الأخرى، وهذا يجعلُ تأهيلهم واضِحاً في اجتماع توجّههم نحو وجهة واحدةٍ، وإن كانت وجهةً خاطئة، ولكنّها وجهةٌ مجتمعة مركّزة وليست مشتّتة في مُطلَقِ الرّغبات والأهواء والحظوظ العاجلة.

ثانياً نقولُ أنّ توجَّهُهم نحو إنسانٍ بالمحبّة والعشق فيه سرّ عظيمٌ، لأنّ الإنسان سرُّهُ في الحقيقة سرٌّ جامعٌ للمحبوباتِ والأهواء الأخرى، فالإنسان مخلوقٌ على الصورة. وعليه فهنا قياسٌ خفيٌّ متوارٍ يُبدي عن حقيقة هذا العشق الإنسانيّ، فهو أقربُ عشقٍ في نوعيّته من محبّة الله سبحانه، لسرّ الإنسان الجامع. فحصلَتْ لَهُم تلك التجربة الشعورية والقلبية بينهم وبين محبوبيهم، وشهدوا عشقَهم يتلوَّنُ في ملامح وانفعالات معشوقيهم حتّى لو كان حبّاً وعشقاً من طرفٍ واحد، فذاقُوا تلك الإرسالاتِ التي يرسلُونَها مشاعراً وتعلّقاً وتعودُ لهُمْ نشوةً روحيةً وسمواً ولذَّةً تفوقُ أيّ لذّة. وهذا يجعلُ منهم قد حصَّلُوا  امتيازاً على غيرِهِم في ذوقِ اللَّذاتِ، فقد ذاقُوا لذَّةً أعلى من سائرِ اللّذاتِ الحسيّة المعتادة المستهلكة.

ثالثاً أنّهم وجَّهُوا حبَّهم لحيّزٍ خارج أناهم ونفوسهم، في حبّ شخصٍ غيرهم، وذاتٍ غيرَ ذواتِهم، بخلافِ المحبوبات الدّنيوية المختلفة والرغبات النّفسية ففيها نزعة نفسية أنانية ومصلحية وحظوظية، وهؤلاء بمحبّة هذا الغير أثبتوا أنّهم مستعدّون للتضحية بنفوسهم وذاتِهم وما يملكون من مصالح وحظوظ ورغبات في سبيل إسعاد ومحبّة هذا الغير. فهي محبّة مختلفة تقترِبُ في مماثلتِها محبّة الله تعالى التي من تجعل محبّ الله تعالى مؤثراً ربّه على جميع الحظوظ والرّغبات والمصالح ومستعدّاً للتضحية في سبيله، فهؤلاء العشّاق ذاقوا تلك المحبّة، وسرّها وإنْ لم تكن محبّة أصلية كما هي المحبّة أصليةٌ نحو الله سبحانه. ولكنَّهُم فازوا بهذا الذوق وتلك القابلية وتلك الحريّة، نعم تلك الحرية التي أطلقت فيهم المحبّة والعشق، فازوا بالاقترابِ خطوةً من ذوق معنى الحريّة والتضحية والحبّ في جوهره.

فضلاً أنّنا نقولُ بلغة الحقيقة، أنَّ العشّاق حينما وقعوا في العشق، ما أحبّوا وما عشقوا سوى الله سبحانه، عشقوا شيئاً من جمال الله تجلّى في محبوبهم، فهوى على قلوبِهم فخطفَها وأخذ بمجامعها. وذلك هو سِرُّ العشق.

وبهذا الاعتبار فقد كانوا أقربَ للإيمان بالله تعالى، وأقربَ للحريّة والتحرّر من نفوسهم وأنواتِهم وذواتِهم الترابية.

وإنّنا لو وقفنا على الطرائق السّلوكية، لوجدناها تقومُ على الشيخ، والشيخ ليس ينفعُ إلاّ إذا كان أوَّلاً شيخاً واصلاً وصلَ إلى المنبع فهو قادِرٌ أن يسقي غيره من المنبع. وليس شيخاً منقطعاً. ثمّ السرّ الأكبر والأوّل للفلاح في الطريق هو اجتماع قلب المريد على شيخه، به ينقِطِعُ عن سائرِ الأنداد والوجهات، فلا يلتفتُ عن شيخه، ويُسلّمُه يده وقيادَهُ ليقودَهُ بعد ذلك الشيخُ القيادة الحكيمة الصحيحة نحو المنبع. وهنا يبدو التماثل والتشابه بين حال علاقة الشيخ بمريده وتسليمه له ومحبّته له وفنائه فيه، وبين حالِ عشّاق أهل الدّنيا الذين يفنون ويهيمون في محبوبيهم. فقد صاروا بتلك القابلية للفناء والهيام والعشق قريبين من هذا السرّ الذي هو سرّ الفلاح والقرب من الله تعالى. قرباً خاصّاً.

ثمّ إنّ محبّة الشيخ واتّباعه والتسليم له والانقياد له هو في الحقيقة دورةٌ تدريبية للقاء الله تعالى والانقياد له والتسليم له سبحانه في أقداره وتجليّاته، والرّضا بقضائه وقدره والصبر على المحن والابتلاء وعلى مفاتن الدّنيا حتّى يصلَ العبدُ إلى ربّه. بل نقولُ أنّه لا يتحقَّقُ الوصولُ والتحقّق إلاّ بالعشق الإلهيّ والفناء في الرّوح الإلهيّ. وسرُّ الوصول وسرّ الطريق هو العشق والحبّ. ولهذا نقرأُ للصوفية الأوائل ومن لحقهم بإحسانٍ تلك الأشعار العاشقة الهائمة العذبة المنقطعة النّظير في المحبّة والعشق، فإنّ الله يجمعهم بالرّوح، لتتمثّل لهم فيهيمون عشقاً فيها وفي سرّها وهي الرّوح التي بها يتقدَّسُ هؤلاء السّالكون طريق الله تعالى.

وعليه فسِرُّ وحقيقة هذا الطريق كلّه هو العشق والحبّ، وليس يكونُ ديناً عميقاً متيناً فيه معاني الذّوق والتحقيق والقرب إلاّ بهذا العشق والحبّ. ذلكَ أنّ أعظمَ المشاعر وأعلاها وأقواها وأشدّها هو الحبّ والعشق، لا شيء فوقه. به تذوبُ المخاوفُ وتضمحِلُّ المساوئ وتقوى الهِمَمُ وتتحرَّرُ النّفوس من قيودِها، فيغدُو الجبانُ مقداماً شجاعاً، والبخيلُ سخيّاً كريماً، والضعيفُ قويّاً، والمهزومُ صامِداً، والذَّليلُ عزيزاً، والأسيرُ حرّاً، والخسيسُ شهماً نبيلاً، به بهذا الحبّ والعشق تنطلِقُ فضائلُ العبد المكنونة فيه، وتستعلي الإنسانيةُ والجمالُ والذَّوقُ والفطرةُ .. وسبيلُ السّلوك في الطّريق في الحقيقة هو الكشفُ عن هذه المحبوبية في قلب السّالك والمريد نحو ربّه، لينطلِقَ حرّاً يتجاوزُ المخاوف والمهالك والمفاوز، تتقلَّبُ عليه الأقدارُ بين منحِها ومحنِها وقلبُهُ غيرَ مبالٍ بها ، قلبُهُ معلَّقٌ بربّه فقط، عاشِقٌ كأقوى ما يكونُ العاشقُ، عاشقٌ عشقاً كليّاً، ليس لهُ وقتٌ لفضول الكلامِ والأعمالِ، أو وقتٌ للانشغالِ بغير محبوبه. إنَّهُ العشقُ والحبّ والتيمُ والهيامُ خيرُ قائدٍ نحو الله سبحانه، حتى يصلَ إلى المنبع وقد تحقّقَ، فلا يزالُ إلى الله اضطرارُهُ يزدادُ وتمكينُهُ يقوى، ووصالُهُ يتقدَّمُ.