الأحد، 16 أغسطس 2020

في قوله صلّى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "


في قوله صلّى الله عليه وسلم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك "

20 فبراير 2020

إنّ كلام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأدعيته، كلّها مُحكمَةٌ غاية الإحكام، بالغةٌ غاية المرام في العرفان، معرّفةٌ بالله سبحانه والحقائق والأحكام. ولربّما ظنّناها مجرّد سلسلة أدعيةٍ جامعة للخيرِ، كما نجمعُ الخير في أدعيتنا بتناوب العبارات وطلب الزيادات والفضائل والخيرات، وهي كذلك، ولكنّها ولا ريب أكثر من ذلك. وللنّصوص المقدّسة البطون، والمعاني التي لا تنفد، بحسَبِ التلقّي والعلمِ منها، وأحاديثه الشريفة صلوات الله وسلامه عليه وآله وصحبه، مقدّسة "إن هو إلاّ وحي يوحى". فهو المشرّع والمفصّل لأحكام الله سبحانه، ولذلك جاء في كثيرٍ من الأحاديث وبألفاظ متقاربة ثناءُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الذي ينقُلُ كلامَه بلفظه وتمامه، لا بمعناه، أدّاهُ كما سمعه، ..الخ. لأنّ ألفاظ النبوّة وترتيبها مهمّ غاية الأهمية في توصيل المعاني المرادة إلى أهلها، وأهلُها ليسوا حصراً على زمنٍ واحد أو مكانٍ واحد أو مناسبة واحدة، بل المعاني فوّارةٌ مستنزلة بحسَبِ التلقّي كما ذكرنا، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم " رحم الله أمرءا سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها فربّ مبلَغ أوعى من سامع". مُبلَّغ بفتح اللام، وفي رواية "نضَّرَ اللَّهُ عبدًا سمِعَ مَقالَتي، فحفِظَها ووَعاها وأدَّاها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ غيرِ فقيهٍ، ورُبَّ حاملِ فِقهٍ إلى مَن هو أفقَهُ مِنهُ.". فلا يزالُ الفقه والعلمُ في زيادةٍ غير نافد، والكلامُ هنا يطولُ.

والخلاصة فكلامه صلى الله عليه وسلّم، علمٌ مُحكمُ غاية الإحكام، وأعلى مرامات العلم والعرفان التي يرومُها العلماء والعارفون.

فقال صلّى الله عليه وسلّم " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك". في ثنايا دعائه بين يدي ربّه وهو ساجِدٌ، وهي عبارة ثنائية وعرفانية، تحقيقية، تُعبّرُ عن معرفته صلّى الله عليه وسلّم بربّه، في عجزِ الثّناء عن تأدية الثناء، وكذلك فيما يُعبِّرُ عنه العارفون والمحقّقون عن الوصول، حيثُ الحيرةُ الكبرى، لأنّ العبدَ وإن بلغ مهامه التحقيق، فهو حينذاك لم يبلُغ سوى نقطة الزيادة والحيرة والتلقّي الذي لا ينتهي، ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا)). وكما قال صلّى الله عليه وسلّم (زدني فيك تحيّرا). وهؤلاء الحشوية لا علم لهم ولا عقلا تجاوز درجات العقل الأولى، فضلاً أن يبلغَ درجات العقول الكاملة والعظيمة، فلا يزالون يفتئتون على العلم، بمخالفة هذه الطائفة كلّما أوردتْ عن المعرفة ما لا يُدركوه، ولن يدركوه بما هم فيه، وعلى رأسهم شيخهم الذي شيّخوه على الإسلام ابن تيمية، في الافتئات على العلم العالي، ودعوى الردّ، وإبطال النّصوص، وقد قال فيه العلاّمة السبكي رضي الله عنه "علمه أكبر من عقله".
وقال الجنيد رضي الله عنه "انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة". وانتهى المحقّقون إلى الحيرة في معرفة الله سبحانه، من وجه كونه غيباً، وكنه ذاته غيبٌ مطلق عنهم، "الذين يؤمنون بالغيب". ومن وجه العلم به الذي لا يتناهى وتجليّاته التي لا تتناهى، فلا أدرك المحقّقونَ ذات الله وذاته أجلُّ من أن تُدرك، ولا أدركوا صفاته من وجه عدم التناهي المطلق للتجليّات.

وهنا مثالٌ بسيطٌ جدّاً ولكنّه يؤتي المعنى لمن دقّق .. فقط لنعتبر متغيّرًا : س ، تزدادُ قيمته وينطلِقُ إلى المالانهاية +∞ ، فانظُر كيف لاينتهي به المطافُ أبداً إلى حدّ معقول أو مُدرك، فلا نهاية لنهاياته، وهو كلّما زاد وسارَ زادتْ حيرتُه وذهوله في تلقّي ما هو أكبرُ ممّا كان عليه، فلا يزالُ في اتّساعٍ وتلقٍّ وحيرة بغيرِ نهاية. ولك أن تُسقط هذا المثال على تجليّاته سبحانه العظيمة اللامتناهية. وهنا قال الصدّيق الأكبر رضي الله عنه وأرضاه "العجز عن درك الإدراك إدراك". إنّه يشبُه التعبير عن الحيرة، بالقول بالعجز، لعدم نهاية التلقّي والتجلّي، وقد قال المحقّقون أمثال الشيخ الأكبر رضي الله عنه أنّ مقام التحقيق أعلى من هذا العجز بدرجة، بالقولِ بالحيرة وعدم العجز معاً، لعدم تناهي علم الله المطلق سبحانه، فهو مشهدُ الحقّ سبحانه، فلا يقولُ بالعجز تعالى عن ذلك، ولا يقولُ بالتناهي لعدم تناهي علمه في نفسه البتّة.

والعبارة أعلاه التي صدرت من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الغارقة في بحار المعرفة والتعظيم لله سبحانه " لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك ".  المنزّهة لله سبحانه من مشهدِ دون مشهده العلويّ الذاتيّ في الطّرف الأوّل من العبارة في عدمِ إحصاء الثّناء عليه.  ثمّ قوله أنتَ كما أثنيتَ على نفسِك، ففيها ما يُشيرُ إلى ذوق النبي صلى الله عليه وسلّم وتحقّقه بالتحقّق الذاتيّ والمشهد الحقيّ، وجمع التحقّقين والحقيقتين  في غايةٍ من الأدبِ والعلم والتعريف لنا بالله سبحانه. فنزّه الله تعالى عن الإدراك والإحاطة من نفسه ( نفس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم) ومن غيره سبحانه، بقوله " لا أحصي ثناءً عليك " .. فهذا تنزيهٌ من الجانب الخلقيّ والقول بالعجز، فعرفنا  كيفَ اجتمعت العبارةُ النبويّة الشريفة في شقٍّ من شقّيها بعبارة الصدّيق عليه السّلام، بالقولِ بالعجز عن الإدراك، وبذاتِ الوقتِ بتنزيه الله سبحانه عن العجز في إدراك الثناء على نفسه بذاته سبحانه عزّ وجلّ " أنت كما أثنيت على نفسك " . هذا ولنعلَم علم وعرفان المحقّقين من أمثال الشيخ الأكبر والجيلي بالله سبحانه وبحديث رسوله صلّى الله عليه وسلّم، حيث أشاروا إلى المقامين، ومقام التحقيق بعدم القول بالعجز، كما هو حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. والمعرفة والحقائق موجودة في أحاديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ولكنّها متوارية بالجهل عنها، فغالب المسلمين والعلماء يفهمون منها ما بلغته أفهامهم ودرجاتهم في العلم، فلا يقرؤون من كلام النبيّ صلى الله عليه وسلّم الحقائق العالية، التي تُقراُ وتُعرفُ بالمعرفة بالله وبالشهود.

قلنا جاءت العبارة أعلاه في ثنايا دعاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم : " اللَّهُمَّ أعُوذُ برِضَاكَ مِن سَخَطِكَ، وبِمُعَافَاتِكَ مِن عُقُوبَتِكَ، وأَعُوذُ بكَ مِنْكَ لا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أنْتَ كما أثْنَيْتَ علَى نَفْسِكَ. ".
فاستعاذ النبيّ في مقام الصفات أوّلاً بالرّضا عن السّخط والغضب، ثمّ تنزّلَ إلى مقامِ الأفعال بالاستعاذة بالعفو من العقوبة، لأنّ العفو قد يقعُ قبلَ الرّضا، قد يعفو الله سبحانه، ولو لم يرضى، فإذا تعذّر الرّضا، فعلى الأقلّ أن يقعَ العفوُ وتُمحى وتُرفعَ العقوبة بالعفو. ولهذا خصّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ليلة القدرِ بسؤال العفو، اختصاراً لأمّته والعباد فيما يُحقّق لهم دفع العقوبة وجلبِ الخير كلّه، فالعفو أسرعُ وأنسَبُ، "اللّهمّ إنّك عفوّ كريمٌ تحبُّ العفو فاعفُ عنّي". فإذا عفا الله جاءت بعده الملحقات ..
قال الله تعالى {... أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133]. فتدرّج الله سبحانه في درجات الإحسان، وجعل كظم الغيط قبل العفو والعفو قبل الإحسان. ولعدم الإطالة لا نريدُ إيراد تلك القصّة للجارية النبيهة التي لمّا علمت من مالكها حسن خلقه وتقواه ومعدنه الطيّب، صبّت عليه صحن الحساء ( ولعلّه كان ساخناً )، فغضب فقالت والكاظمين الغيظ فكظم غيظه وهدأ غضبُه، ثمّ قالت والعافين عن النّاس، فقال عفونا عنكِ، ثمّ قالت والله يحبُّ المحسنين فقال أعتقناك لله فاذهبي فأنت حرّة. فقلنا : أسبق النبيّ الرّضا لأنّه مانعٌ للسّخط الموجب للعقوبة، ثمّ أتبعه بالعفو المانع للعقوبة. ثمّ ختم النبي الاستعاذة بذات الله منه، أعوذ بك منك. وذلك أنّ معرفته صلّى الله عليه وسلّم بالله تدرّجت به إلى الاستعاذة الذاتية فإنّ معرفة الله تُوجِبُ الخشية منه، قال صلّى الله عليه وسلّم " أنا أعرَفُكم بالله وأشدُّكم له خشية ". فساقَ بعد ذلك وصفَ الله سبحانه بما لا يتناهى من علمه وتجليّاته، ولا يُدركُ من ذاته سبحانه، بعد الاستعاذة الذاتيّة، للمناسبة .. فهذا دعاءٌ عظيمٌ جمَعَ من العلم بالله ما جمَعَ، وفيه من الخيرِ ما فيه، كذلك في الاستعاذة في جميع المقامات ذاتاً وصفاتٍ وأفعالاً. تماماً كما هو التوحيد متدرّجٌ أفعالٌ وصفات وذات. ولكلّ مقامٍ ما يبعَثُ من التحقّقاتِ فيه تشهدُ عليه تلك التحقّقات، كما قال بعض العارفين من وحّد الله في الأفعال توكّل، لعلمه أنّ الأفعال كلّها من الله سبحانه، ومن وحّد الله في الصّفات رضيَ وسلّم، لمعرفته بصفاتِ الله سبحانه، ومن وحّد الله بالذات، فهذا قد غابَ في الذات فهو محقّقٌ من المحقّقين. والله أعلى وأعلم.