الجمعة، 16 أغسطس 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 46




- 46 -


أمّا وصفُه صلّى الله عليه وسلّم للمهدي أنّهَُ "في خدّه الأيمن خال".
فهذه هي الشهادة الكبرى على المبايعة الأولى والسيّادة العليا التي ليس فوقها سيادة والإمامة الكبرى التي ليس فوقها إمامة.

فالخالُ في الخدّ الأيمن لهُ تلك الدّلالة، فهو علامةُ نقطة الذات، النقطة السوداء. وهو رمز البيعة والميثاق مع الله تعالى كما كانَ الحجرُ الأسود رمزاً للعهد والميثاق الذي أخذه الله من أرواح بني آدم، من أنبيائهم وأوليائهم وسائر البشر.
فالحجرُ الأسود يمينُ الله في أرضه، وانظر كيف يلوّحُ له المسلمون كعلامة ورمزٍ لتجديد العهد مع الله تعالى، فكانَ الخالُ في يمينِ خدّ المهدي عليه السلام له هذه الدّلالة على كونِهِ يمينُ الله في أرضه، فمن بايعهُ فقد بايعَ الله تعالى. فهذا هو الإمامُ والسيّدُ المبايعُ بالأصالةِ في قوله تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}.


قال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في كتاب "عنقاء مغرب في معرفة ختم الأولياء وشمس مغرب" المخصوص بتفصيل حقائق هذا الإمام الأعظم بإذن من حضرة الله تعالى سبحانه، قال  "ولمّا قال وكانت علامة أيمن الخدّ وكونه يمين الواحد المالك فمن ثبتت له تلك العلامة فقد صحّت له الإمامة." انتهى.

ولذلك قال الشيخ الأكبر في فصل (إثبات الامامة على الاطلاق من غير اختلاف) من نفس الكتاب "عنقاء مغرب":
(... فقد صحّت المبايعة للخليفة وفاز بالرتبة الشريفة وإنْ توجّه إعتراض فلا سبيل إلى القلوب المنعوتة بالمراض، و لمّا كان الحقّ تعالى الإمام الأعلى والمتبّع الأولى قال :
{إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}
ولا ينال هذا المقام إلاّ جسم بعد النبي المصطفى الأعظم صلى الله عليه وسلم إلّا ختم الأولياء الأطول الأكرم)
انتهى.

فهذا هو الإمام الأعلى والمتبّع الأولى ولذلك فقد استوجبَ البيعة بين الرّكن والمقام، ركن الحجر الأسود ومقام الخليل عليه السلام، فهذا يمينُ الله في أرضه صحّت له المبايعة والعلامة والإمامة بين ركنِ الله الشديد الذي لا يُضام، ومقام الخلّة كما قال الشيخ الأكبر في عنقاء مغرب :

قال : "ولمّا كانت المبايعة لهذا الإمام بين الركن والمقام وليس له وراء ذلك مرمى لرام" انتهى.
وقال : "كذلك إذا كان واقفاً بين ركن الخلّة، وركن من رام بأضيافه سدّ الخلّة، الذي قال فيه صلّى الله عليه وسلّم في صحيح الخبر "رحم الله أخي لوط لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد" خطاباً لجميع البشر، هنالك يوصفُ بعند ذي العرش مكينٍ، مطاعٍ ثمّ أمين، وتعقدُ له مبايعة التعيين في الحرم المنيع والبيت الرفيع." انتهى.

هنالك يُشهدُ له ويبايعُ على أنّه الرّوح الأعظم، والإمامُ الأعلى الأكرم خليفة الله في أرضه. والأرض في اصطلاحها الحقيقيّ العلمي هي أرض التجليّات الحقيّة والخلقية من سماء الذات.


قال الشيخ العارف بالله إسماعيل حقّي رضي الله عنه في تفسير روح البيان :

في قوله تعالى { وَجَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } الإسراء 12

قال ( فالمراد بآية الليل والنهار والقمر والشمس - روى - ان الله تعالى خلق كلا من نور القمر والشمس سبعين جزأ ثم امر جبريل فمسح بجناحة ثلاث مرات فمحا من القمر تسعة وستين جزأ فحولها الى الشمس ليتميز الليل من النهار اذ كان فى الزمن الاول لا يعرف الليل والنهار فالسواد الذى فى القمر اثر المحو وهذا السواد فى القمر بمنزلة الخال على الوجه الجميل ولما كان زمان الدولة العربية الاحمدية قمريا ظهر عليه اثر السيادة على النجوم وهو السواد لانه سيد الالوان كما ظهر على الحجر المكرم الذى خرج ابيض من الجنة اثر السيادة بمبايعة الانبياء والاولياء عليهم السلام وجعل الله شهورنا قمرية لا شمسية تنبيها من الله للعارفين ان آياتهم ممحوّة من ظواهرهم مصروفة الى بواطنهم فاختصوا من بين جميع الامم الماضية بالتجليات الخاصة.) انتهى.


فهذا الكلام نفيسٌ في الإشارة إلى الخال على الوجه الجميل وزمان الدولة العربية الأحمدية، من كونِ أنّ الأحمدية ظهرت ببعثة النبيّ أحمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله، فكان عهد الأمّة المحمديّة عربياً قمرياً كما ذكرنا أحمدياً مصداقاً لقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم "لن تهلک اُمّة أنا أوّلها، ومهديّها وسطها، والمسيح بن مريم آخرها." العمدة وعقد الدرر.

فانظر لهذا الحديث الشريف الذي ذكر المهدي في وسطها مع أنّ المهدي هو الخليفة الذي يحكم خلافة آخر الزمان ويُزامنُ نزول المسيح عليه السلام. فالإشارة المرادة في ذكر المهدي في وسط الأمّة هي الأحمدية التي ظهرت ببعثة سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ}.

المهدي هو قطب الأقطاب والجميعُ نائبٌ عنه في الخلافة الإنسانية، فهو خليفة الله في أرضه، خليفة الله في أرض تجليّاته الحقيّة والخلقية فافهم. فما من نبيٍّ أو وليّ حاز الخلافة كان نائباً عن هذا القطب وهذا الخليفة الأوّل.

والحديث خصّص ذكر المهدي في وسط الأمّة، لأنّ الأحمدية ما تجلّت في الأرض إلاّ ببعثة خير الخلق وصفوتهم عند الله تعالى رسول ربّ العالمين إلى خلقه سيّدنا محمّد أحمد صلى الله عليه وسلم.

قول الشيخ العارف بالله إسماعيل حقّي رضي الله عنه في تفسير روح البيان
"فالسواد الذى فى القمر اثر المحو وهذا السواد فى القمر بمنزلة الخال على الوجه الجميل ولما كان زمان الدولة العربية الاحمدية قمريا ظهر عليه اثر السيادة على النجوم وهو السواد لانه سيد الالوان كما ظهر على الحجر المكرم الذى خرج ابيض من الجنة اثر السيادة بمبايعة الانبياء والاولياء عليهم السلام"

فهذه إشارة إلى الخال في وجه المهدي عليه السلام من طريق الإشارة والتلميح لأهل العلم بالله تعالى، أنّ القمر الذي استوعبَ ضوء الشمس كان بمثابة القلب الذي نزل فيه الرّوح، فكان القمرُ بمنزلة الذات والشمس بمنزلة الصّفات. كما وقف الرّوح عند سدرة المنتهى واخترق الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم، فالحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم اخترقَ في الحقيقة إلى سرّ الروح، وانظُر في التفاسير في آيات النجم الأولى كيف يفسّرها السّلف والخلف على رؤية الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم للرّوح بهيئته، لجبريل عليه السلام الذي هو تعيّنٌ ملائكيّ للروح الأعظم كما تعيّن الرّوح الأعظم في الخليفة بالمظهر الإنسانيّ، كما أنّ التفسير شمل ذكر رؤية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لربّه، فما كانت الرؤية واقعةً إلاّ على الرّوح الذي هو الحقّ تعالى فافهم، أمّا هوية هذا الرّوح وكنهه فهو من الغيب المطلق، لا يعلمُهُ أحدٌ من الخلق، لا يعلمُهُ إلاّ هو سبحانه عزّوجلّ.
فإنّ غاية معرفة الخلق أنبياءً وأولياءً ما عدا الخليفة صاحب الذات، معرفتهم وشهودهم توقّفَ على عالم الأسماء والصّفات. فافهم. وقد ذكرنا هذا مراراً وتكراراً.

وانظر كيفَ قرنَ الخال في الوجه الجميل بالحجر الأسود الذي كان رمز البيعة لله تعالى، وألمحَ إلى السيادة الأحمدية، فهذه إشارةٌ واضحةٌ لأولي الألباب، ثمّ لنعلمك أنّ صفات المهدي وشمائله ماكانت عبثاً وصدفةً كما يظنُّ البعض، بل هو تقدير العزيز العليم، فكان الخال في الخدّ الأيمنِ علامةً على نقطة الذات، ونقطة الهويّة المجهولة، التي منها تجلّت الرّوح.

وقولنا أنّ القمر كان مستوعباً لضياء الشمس، كما كان القلب مستوعباً لنزول الرّوح فيه، كما قال الله تعالى في الحديث القدسيّ (( ما وسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن )) فهذه هي الصورة التي خلق الله عليها آدم وبنوه. فافهم، وهي مقام الشهود الذاتيّ وبرزخ الرّحمة المتوسّط بين مقام الذات ومقام الصّفات، وقد شرحنا ذلك.

وقلنا أنّ مقام القلب في الحقيقة هو للخليفة باعتبار الرّوح الأعظم تجليّات ذاته، فخلق الله برزخاً أهّل الإنسان : آدم وبنوه أن يكونوا على صورة الخالق سبحانه الصورة المعنوية فيَسعَ القلبُ تجليّات الحقّ سبحانه فافهم. وإنّما مقامُ القلبِ بالأصالة للرّوح القدسيّ للخليفة، لأنّ العروج وقع لسرّه ولذاته، فافهم. ما عرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سوى الى سرّ الرّوح، لذلك ما كان للرّوح -باعتباره تجلٍّ- أن يخترقَ إلى سرّه، فمقام السرّ هو مقام شهود الواحدية والأحدية، وهذا مقامٌ لا يقبلُ الاثنينية فافهم. وبهذا حصلتِ الخلافة للإنسان، ان يصبح قابلاً لتلك الأحدية وشهودها، لكنّه في مقام المثلية والشهود لا مقام العينية والأحدية الحقيقة. فما ثمّ إلاّ الله سبحانه. فهذا علم التحقيق ولذلك كان الكتمُ واجباً، فمن عرف هذه الحقائق صعقته، وطاشَ عقلُه، فهذه حقائق ذوقية شهودية سلوكية.

ولتعلم أنّ الله تعالى خلق النّاس قابلياتٍ متفاوتة ومراتبٍ، لهم محاتدهم إلى ربّهم، كالصّناديق التي هي نقطة قابليتهم ومرجعهم، فهناك من كان صندوق قابليته ذاتيّ، وهناك صندوق قابليته صفاتيّ وهناك صندوق قابلياته أفعالي، فمن كان صندوق قابليّته صفاتيّ يستحيلُ عليه أن يقبل حقائق الذاتيين، وهكذا، فالوسع غير موجود، بالتالي لو اطّلع على حقائق الذاتيين فقد يُنكرُها حتى لو كان من الصالحين، ألا ترى قول الله تعالى {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا}. يقول بعض أهل العرفان عن هذه الآية أنّها إشارةٌ لكونِ من كان من جنس الأنصار أي الصّفاتيين لا مقام له في حضرة الذات، لأنّ قابلياته ومقامُه لا يقبلُ ذلك فوجبَ عليه العودة بعد دخوله حضرة الذات إلى مدينة الصفّات فهناك مقامه، قال الله تعالى {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ}. وفي الأخير هي محاتد تعودُ بأصحابها الى ربّهم، فما ثمّ إلاّ الله موجوداً على التحقيق، فالعبرةُ أنّ الخلق محاتدُهم تعودُ بهم إلى برزخ الرّحمة، ليشهدوا تجليّات الله تعالى من هذا البرزخ الرّحمانيّ الذاتيّ. فطوبى لمن سعد عند ربّه جلّ وعلا.

ثمّ تأمّل الكعبة وستارها الأسود وعلى ركنها الحجر الأسود، فذلك رمز الخليفة الذي هو قطب الأرواح، ويمينُ الله في أرضه فكان عليه خال في خدّه الأيمن كما الكعبة التي هي قبلة في ركنها حجر البيعة والميثاق.

لذلك قال الشيخ الأكبر في عنقاء مغرب ما نقلناهُ : "ولمّا قال وكانت علامة أيمن الخدّ وكونه يمين الواحد المالك فمن ثبتت له تلك العلامة فقد صحّت له الإمامة." انتهى.

نعم من ثبتت له تلك العلامة فقد صحّت له الإمامة المطلقة العليا.

يتبع ..