الجمعة، 23 أغسطس 2013

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 47




- 47 -


من قرأ مقالاتنا في هذا الباب عن حامل لواء الذات صاحب الإسم الأعظم من بدايتها وصبر عليها ، وفهم بعض ما أشرنا إليه ، إذا فاته الكثير يفهمُ على الأقلّ الكثير من مشاهد العلم ، العلم الذي دوّخَ السّالكين والعارفين والمسلمين وغيرهم ، علم الحقيقة، يفهمُ عنوان الحقيقة، وصاحبها. أمّا الحقيقة وعلمها فهذا بحرٌ لا نفاد له ولا ساحل، صفتهُ الإطلاق كما كان الله تعالى صفتُه الإطلاق، فمهما رأيتَ عارفاً أو عالماً بالله حتى من هؤلاء المقرّبين الذين حازوا مقام الخلافة الجامعة فعلمُهم إنّما هو بالله تعالى، بمعنى مهما فاضَ به من علمٍ وتأويلٍ فالله لديه المزيد في حيثية أو مسألة أو موقفٍ، فعلمُ الله لا ينتهي، وليس ذلك إلاّ لله سبحانه وليس ذلك إلاّ للخليفة إذ هو خليفة الله في أرضه، فهو ذاتُ الله تعالى في أرضه، ولهذا قال الله تعالى {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} (يوسف-76). فوق كلّ ذي علمٍ و كلّ ذي تحقيقٍ عليمٌ، فهذا فضلُ الله تعالى وأمدادُهُ لا تنتهي ومزيدُهُ لا يحدّ سبحانه وتعالى. ولهذا تميّزَ المهدي الخاتم بالعلم المطلق، فكان صاحب علم الكتاب الذي صفتُه الإطلاق، ولهذا قال سيّدنا المسيح عليه السلام (نحنُ علينا التنزيل والمهدي عليه التأويل) ذكرها الشيخ العارف بالله عبد الرزاق الكاشاني قدّس الله سرّه في تفسيره الإشاريّ التأويلات. أمّا النّص الأصليّ فقد ورد في الإنجيل ((ابن الإنسان ذاهب والبارقليط من بعده يجئ لكم بالأسرار ويفسر لكم كل شيء وهو يشهد لي كما شهدت له فإنّي أجيئكم بالأمثال وهو يأتيكم بالتأويل)) انتهى. والبارقليط أو الباركليس هو المهدي عليه السلام، ونظير هذا النّص في القرآن الكريم قوله تعالى {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} ﴿الرعد-43﴾.

ويقول الشيخ الاكبر قدس الله سره حول هذا الذي ذكرناه في العلم -في كتاب الفصوص- :
(...وليس هذا العلم إلّا لخاتم الرّسل وخاتم الأولياء ، وما يراه أحد من الأنبياء والرّسل إلّا من مشكاة الرسول الخاتم ، ولا يراه أحد من الأولياء إلّا من مشكاة الولي الخاتم ، حتى إنّ الرسل لا يرونه -متى رأوه - إلّا من مشكاة خاتم الأولياء ، فكيف من دونهم من الأولياء ؟ وإن كان خاتم الأولياء تابعا في الحكم لما جاء به خاتم الرسل من التشريع ، فذلك لا يقدح في مقامه ولا يناقض ما ذهبنا اليه ، فإنّه من وجه يكون أنزل ومن وجه يكون أعلى. وقد ظهر ظاهر شرعنا ما يؤيّد فضل ما ذهب إليه فضل عمر في أسارى بدر بالحكم فيهم ، وفي تأبير النّخل. فما يلزم الكامل أن يكون له التقدّم في كلّ شيء وفي كلّ مرتبة، وإنّما نظر الرجال الى التقدّم في رتبة العلم بالله : هنالك مطلبهم . وأمّا حوادث الأكوان فلا تعلّق لخواطرهم بها ، فتحقق ما ذكرناه .) انتهى. فقِفْ على هذه الفقرة بالتدقيق، فقد قال الشيخ الأكبر أنّ حكم المهدي الخاتم بشريعة خير الخلق والرّسل صلى الله عليه وسلّم لا يجعلُه أدنى في الرّتبة والعلم، لأنّ الحقائق قامت على هذا النّحو، وقد ذكرنا ذلك في ثنايا المقالات، أنّ مقام البقاء وبرزخ الرّحمة هو مقامُ الخلق من حيث بقائهم بالله تعالى، فكان التشريعُ والحجابُ صادرٌ من هذا المقامِ وهو مقام خير خلق الله تعالى المبعوث رحمة للعالمين ورسول الله إليهم، وهو شفيعُ الخلق أجمعين في مقام الرّحمة والبقاء، إذ الدّنيا قامت على هذين الأساسين : لا إله إلاّ الله ، محمد رسول الله ، وجميعُ الخلق دخل في المقطع الثانيّ لهذه الشهادة أي دخلوا في شفاعة الرّسول وواسطته ومشكاته ليشهدوا حقيقة التوحيد : لا إله إلاّ الله. فلهذا جاء الشرعُ والنبوّة من هذا المقام مقام الشفاعة والقدوة والواسطة إلى الله تعالى، قال سبحانه {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّه فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّه وَيَغْفِر لَكُمْ ذُنُوبكُمْ وَاَللَّه غَفُور رَحِيم} [آل عمران:31]. فكون الخاتم والخليفة جاء حاكماً بشرع خاتم الرّسل فهذا لا يعني أنّ الخاتم والخليفة دونه، فافهم، بل جاء الخاتم والخليفة للحكمِ بهذا الشرع وتفصيله وإقامة العدل المطلق به، فكان الدّاعي والمشرّع هو الرّسول وكان الحاكم والقائم بحكم هذا الشرع هو الخاتم الوليّ. فلمّا كان الخليفة هو صاحب الكتاب فقد كان الحاكم به صاحب التصريف والعدل والعقاب والجزاء والثواب. وكان علمُه مطلقاً. وكان الرّسول صلى الله عليه وسلّم القارئُ لهذا الكتاب باسم الله (الكتاب الذي أنزل على المهدي) ولذلك أنزِلَ عليه القرآنُ ليُعلّم النّاس القرآن والقراءة باسم ربّهم. ولهذا قال الشيخ الأكبر في الفقرة السابقة من الفصوص : ((فما يلزم الكامل أن يكون له التقدّم في كلّ شيء وفي كلّ مرتبة، وإنّما نظر الرجال الى التقدّم في رتبة العلم بالله : هنالك مطلبهم . وأمّا حوادث الأكوان فلا تعلّق لخواطرهم بها ، فتحقق ما ذكرناه)) انتهى.

فقال تحقّق ما ذكرناه، يُخاطب أهل العلم والعرفان بالله تعالى لقربهم من هذا العلم ومعانيه وأذواقه، فقال تحقّق أيها الوليّ بما ذكرناه، فعدم الظهور والشهرة في الأكوان لا يلزمُ منهُ التأخّر، إذ عدمُ الشهرة (وأقصد هنا شهرة المهدي عليه السلام) ما وقعَ إلاّ في باب التخصيص والتقييد بالمظهر الإنسانيّ، أمّا في عالم التشريع والعقائد فالكلّ مقرٌّ بتقدّم الخاتم الوليّ الخليفة، إذ ليس هو إلاّ الله سبحانه وتعالى، فافهم. ولمّا كان الأمرُ من باب الأسرار والكتم، فنبّهك من طريق أخرى ، وقال أنّ الرجال وأهل التحقيق نظروا الى العلم بالله ولم تتعلّق خواطرهم بالأكوان وما وقع فيها من تشهيرٍ وظهورٍ لحكمة قدّرها الله تعالى وأرادها، وهو كذلك، فالعلمُ المطلق لله وحده سبحانه. تعالى الله عمّا يشركون. وبالتاليّ فالعلمُ المطلق للخليفة. فافهم.

وجاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم ((..فَأَنْطَلِقُ حَتَّى أَسْتَفْتِحَ بَابَ الْجَنَّةِ ، فَيُفْتَحَ لِي فَأَدْخُلُ وَرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عَرْشِهِ ، فَأَخِرُّ لَهُ سَاجِدًا فَأَحْمَدُهُ بِمَحَامِدَ لَمْ يَحْمَدْهُ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي ، وَحَسِبْتُهُ قَالَ : وَلا أَحَدٌ بَعْدِي ، قَالَ : فَيُقَالُ : يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ ، قُلْ نَسْمَعْ ، وَسَلْ تُعْطَهْ ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ ..)). فانظر في قوله صلى الله عليه وسلّم : فأحمدُه بمحامد لم يحمده بها أحد قبلي ولا أحد بعدي. وهذا لأنّ العلم غيبٌ عند الله تعالى يلهمُ الله منه المزيد لعباده، فاختصّ حبيبه صلى الله عليه وسلم يومَ الشفاعة بالمقام المحمود، فيحمدُ الله بمحامدٍ لا يحمدُ بها أحد سابقٍ أو لاحقٍ، بل يُلهمُها الله نبيّه وحبيبه صلى الله عليه وسلّم في ذلك المقام في ذلك الوقت، وقد ذكر الشيخ الاكبر في الفتوحات كيف أنّ الله أعطاه مفاتيح العلم، وكان ممّا وقف عنده ولم يعلمه ، محامد النبيّ صلى الله عليه وسلّم الخاصة به في مقام الشفاعة. وهكذا، ففوق كلّ ذي علمٍ عليمٍ. والعليمُ المطلق سبحانه هو المولى عزّ وجل.

ثمّ هذا الختمُ، مقامُهُ في الظهور هو الإطلاق وأخلاق الله تعالى بالأصالة، فأخلاقُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هي القرآن، وهي أخلاقُ الله تعالى، وهذا هو مقامُ الجمعُ ومقام القراءة باسم الله تعالى، فهذا المقام هو مقام صاحبها الأوّل، هي أخلاقُ الله تعالى لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "تخلّقوا بأخلاق الله". وكلّ السّلوك وكلّ التشرّع وكلّ الرّسالات جاءت من أجل هذا التحقّق والتخلّق، أي التخلّق بأخلاق الله تعالى، فهذا هو السّير إلى الله، وهذه هي حقيقة السّير، فالسّيرُ وقعَ من دائرة النّفس إلى حضرة القدس، لأنّ الوجود هو وجودُ الله تعالى، وبالتّالي فكلّ وجودٍ جزئيٍّ هو مناقضٌ للحقيقة والأصلِ، أي كلّ إثبات وجود مع الله هو سببُ الشّقاء الذي يعيشُه النّاس، فسببُ الشّقاء في حقيقته، أنّ المخلوق الممكن الوجود الذي هو بين حضرتي الإمكان، لهُ وجهتين وإمكانين، فإذا التفتَ إلى عدمِه شعرَ بالألم والحرمان والشقاء، فكان مشهد الألم والشقاء نابع من هذا المشهد، وإذا التفتَ إلى وجودِه أي إلى حقيقته وهي وجودُه بالله تعالى هبّت عليه نسائمُ الفرح والنّعمة والرّضا، ذكرَ هذه الحقيقة الشيخ الأكبر في الفتوحات المكيّة، وهي نفيسة وتشرحُ لنا حقيقة العذاب والعناء والحرمان وما سببه ومصدرُه، فسببُ ذلك هو النّفس، النّفس الجزئية الخاصّة بكلّ مخلوق، لأنّ الله سبحانه ما خلق الدّنيا عبثاً ولا اعتباطاً، قال الله تعالى (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [آل عمران: 191]. وقال سبحانه {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ} [المؤمنون: 115]. فانظُرْ إلى حقيقة الخلق في قوله تعالى، فهي الرّجوع إلى الله تعالى، وليس رجوع الحساب فقط كما يُفهمُ ظاهراً، بل هو رجوعُ الحقائق، فهذا هو سببُ الخلق، خلق الله الخلق ليرحمهم بهأ أي ليرجعوا إليه في مقام البقاء والرّحمة، فيشهدوهُ به، ومن أجلِ ذلك كلّه تجلّتِ الأقدار والمعلومات، أي اصلها كما ذكرنا الرّحمة، فهي في دوائر الرّحمة سواء كانت ظاهرةً أو كانت باطنةً وظاهرها العذاب والشقاء والبلاء. فافهم.

فقلنا إنّ حقيقة السّير إلى الله، أي حقيقة التديّن والدّين هو السّير من النّفس إلى حضرة القدس، وما من تديّنٍ غفلَ عن هذه النقطة الجوهرية الأصلية الاساس التي قامَ عليها وجودنا، وجاءت الرّسالات من أجلها فهو تديّن ناقصٌ مغشوشٌ مبتورٌ عن وجهته الحقيقة، ضائعٌ ليس لهُ أساس، لأنّهُ سيتوجّهُ إلى مراسي أخرى، وبالتالي فهي مراسي غير التي أرادها الله تعالى، وعليه فنسبة النّفس والشيطان فيه كبيرة، ونسبة الانحراف فيه كبير.

فأساسُ الدين هو التخلّق بأخلاق الله تعالى، التخلّق بالقدر الممكن والمستطاع، قال الله تعالى
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. على قدرِ الاستطاعة والوسع، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} (سورة البقرة). لذلك أمرَ الله تعالى بإقامة الصلاة وجعلها عمود الدين، فالصلاة كما كانت عمود الدين في الظاهر أي ظاهر العبادات، فهي عمود الدين والولاية فالصلاة باطناً هي الصّلة بالله تعالى، أي أقِمْ الصلة بينك وبين الله تعالى، ولا تجعلْ تديّنك فارغاً ومغشوشاً ولا يصلُك بربّك، فالسرّ كلّ السرّ في تلك الصّلة بالله تعالى. وما دام العبدُ موصولاً بالله فهو مجذوبٌ إلى حضرته سائرٌ إليه وسالكٌ في طريق التخلّق بأخلاق الله تعالى، قال الله تعالى {اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 257]. فما دُمتَ موصولاً بالله فأنتَ في ولايته ومن كان الله وليّه ما زالَ يخرجُ من الظلمات إلى النّور، من ظلمات النّفس إلى نور الله تعالى، من ظلمات وجوده العدمي إلى نور وجود الله تعالى الحقيقيّ.
ومن لم يكن في ولاية الله تعالى ولم يُقِمْ تلك الصّلة به فهو في ولاية الطّاغوت يخرجونه من النّور إلى الظلمات، شعر بذلك أو لم يشعر. وهو شاعرٌ بذلك لا محالة.

أمّا الحجُّ فهو في الباطن الكمال، لأنّه تضمّن شعار حقائق البقاء بالله تعالى، ألا ترى إلى أركانه كيف عبّرت عن حقائق الكمال ومحطّات طريقه، من الوقوف بعرفة وهو الدخول الحضرة الأحدية والجذب إليها لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "الحجُّ عرفة". فأصلُ الحجّ والكمال هو الوقوف بعرفة، والدخول لحضرة الأحدية. والسّعي بين الصفا والمروة  : وهو شهودُ الله تعالى في الجمال والجلال، في الأضداد وأنّ كلّ ما جاء من أقضية وأقدار فهو من الله تعالى سواء كانت منحاً أو محناً، وبالتالي أنّ أصلها خير ورحمة، لذلك قال الله تعالى واصفاً أهل التقوى وهمُ المتحقّقون بحقيقة التقوى {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْرًا}. فرأوا جميع ما نزل بهم خيراً، إذ جميع ما ينزلُ بالعبدِ من الله تعالى. والطواف سبع أشواط : وهو التحقّق بالصفات السبع الأمّهات. فالحجّ هذا باطنُه، فهو حجّ الكمال والبقاء بالله تعالى. لذلك كان لمن استطاعَ إليه سبيلاً، ولم يكن فرضاً على الجميع. وفي هذا المعنى قال الله تعالى
﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ..﴾. (آل عمران-102).
ولِعِلْمِ الله تعالى أنّ القابليات والوسع والطاقة ليست متكافئةً خفّفََ وقال
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، لكنّ التقوى الكاملة هي حقّ التقوى وهي تقابلُ الحجّ الذي هو ركن المستطيعين أي الكمال والبقاء بالله تعالى. فهذه حقائق.

يتبع ..