الجمعة، 23 أغسطس 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 48



- 48 -

فقلنا أنّ هذا الختمَ العليّ الخليفة مقامُهُ في الظهور هو الإطلاق وأخلاق الله تعالى بالأصالة، إذ هو عينُهُ ليس غير. ولكنّ الختمَ المجذوبَ القطب المكتوم قبل الظهور والمبايعة بين الرّكن والمقام، أحوالُهُ هي الحقائق الفرقية والقوالب الخلقية فيتلوّنُ بها كما تلوّنَ الذات الساذج بها، فيظهرُ بأحوالِ جميع الخلقِ متلوّناً بها بحسبِ مقامِه ومنازلِهم وحقائقهم، فيظهرُ بالأضداد، ويظهرُ بالأنا والنّفس الجزئيّة ظاهراً، لأنّه يُمثّلُ العماء والكنزية، والذات الساذج وماهية الحقائق، فهو حقيقتُها وذاتُها، فيظهرُ بها في جذبِه وكتمه قبل ظهورِه، ولذلك تظهرُ الحضرات الثلاثة التي ذكرناها : حضرة شمس المغرب وهي حضرة الإسلام الظاهر فيجمعُ المؤمن الصّادق والمستدرج المغبون ، ثمّ حضرة الدجّال وبها يتميّزُ الصّادقُ من المستدرج المغبون، ثمّ حضرة التقديس بنزول روح الله المسيح عليه السلام على الأرض. ومن هنا تفهمُ حضرة إبليس والدجال ولماذا ظهرتْ، ولماذا كان إبليس يُمثّلُ حضرة التلبيس والنّفس الجزئية القاطعة عن الله تعالى. ولماذا كان إبليس عارفاً خبيراً أستاذاً معلّماً في التلبيس النّفسي والإغواء والمكر والخديعة. وذلك إنّما صحَّ لهُ بحضرة الخليفة، فافهم.

صحَّ لَهُ من حضرة هذا الخليفة المجذوب الذي ظهرَ بالحقائق النفسيّة والفرقية لكلّ القوالب الخلقية. فكان الشيطانُ لا يُفارقُ سالكاً وصالحاً حتّى تموتُ نفسُهُ كاملةً، ويحيا بالله تعالى ويصيرُ إلى مقام البقاء بالله تعالى. وهذا قد ذكرهُ إبليس في قوله تعالى {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}. فاستثنى العباد المخلَصين وهم الذين أخلصهم الله إليهم أهل البقاء به الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ابداً. فهم يسعون بالله ويبصرون بالله ويسمعون بالله تعالى فحركاتهم وأنفاسهم بالله تعالى. لأنّهُ لا وجودَ لهُ إلاّ في مقامِ النّفسِ الجزئية، ولا وجودَ لهُ في مقام الجمع والبقاء بالله تعالى. وهذا الذي ذكرناهُ أنّ الإنسان ما دامَ باقياً مع نفسه وملتفتاً لرغباتها وشهواتها ونزغاتِها فهو يعيشُ في ولاية الطاغوت، وهذا الطاغوت هو الشيطان وجنوده. ومهما زعمَ المرءُ أنّهُ بارعٌ إذا لم يكنْ التفاتُهُ لله تعالى وإلى الوجود الحقيقيّ التفاتاً قلبياً فهو في حزبِ الشيطانِ، لأنّهُ في دائرة النّفس والوجود الظلمانيّ. فما ثمّة إلاّ وجودين، وجودٌ حقيقيّ ووجودٌ وهميّ، الوجودُ الحقيقيّ هو مصدرُ الخير والنّعم والرّضا والجمال والإطلاق، الوجودُ الوهميّ هو مصدرُ الحرمان والعناء والشقاء والعذاب.
وإن كانَ الجميع من أقضيةِ الله وأقدارهِ في عالمِ الحقائق، ولكنّها الحقيقة المطلقة الكبرى الحاكمة، فإمّا تختارَ الوجود الحقيقيّ الذي هو مصدرُ النّعمة الذي أنتَ فيها، وهي نعمٌ لا تُحصى ولا تحدُّ إطلاقاً، أو تختارَ الوجودَ النّفسيّ الذي هو عناءٌ لروحكَ وبالتاليّ ينعكسُ العناء والشقاء والضّنك على النّفس شعرَتْ بذلك أو لم تشعر أنّه انعكاسٌ لتوجّهها القلبيّ. قال سبحانه {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى}. (سورة طه). حكمة الحياة وحقيقتها المطلقة اقتضتْ هذا، فما كانتِ الدّنيا عبثاً. ولهذا قال المشايخ المربّون وأهلُ التحقيق "من لم يكن لهُ شيخٌ فشيخُه الشيطان" لأنّ العلمَ والتحقيق يفيدُ ذلك. إنّهُ ليس احتكارُ للحقّ، فالتصوّف أو السّلوك الى الله تعالى ما كان تحزّباً وطائفةً، بل هو الرّكن الثالث من أركان الدين، ركنُ المراقبة ركنُ المحاسبة، فلو كنت تاجراً ولم تعتمد المحاسبة والمخالصة والمراقبة لبضاعتك وتجارتك وأموالك وحركتها، فأنت تاجرٌ مفلسٌ فاشلٌ، وستضيعُ تجارتُك. وهكذا فركنُ مراقبة النّفس وتصحيح خواطرها النّفسية، وتفتيشها ومراقبة نيّتك لله تعالى هو السّلوك والتصوّف، نريدُ روح التصوّف وحقيقتُه، وليس التصوّف بما شاعَ اليوم والمنتمين إليه، فأغلبهم شوّهوا هذا التصوّف، وداخله الأدعياء والمزيّفون، لا علاقة لهم بالتصوّف من كونِه طريقاً إلى الله تعالى، وبوصلةً يستهدي بها المستهدون، بل صارَ تصوّف الكثيرين اليوم (إلاّ قلّة ما زالت تحافظ على العهد وتحملُ الأمانة) قلتُ صار تصوّف الكثيرين اليوم علامةً على الحظوظ والدّنيا والمصالح والمناكح والأرزاق فضلاً عن مخالطتهم أهل الظلم وولاّة الظلم ومشاركتهم ظلمهم. فهذا تمصوف وليس تصوّف. نحنُ نتكلّمُ عن التصوّف الذي كان معروفاً عند السّلف الصالح والخلف الصالح، طريق الله تعالى. هذا هو الذي أردناهُ أنّ المرء بحاجةٍ إلى سالكٍ واصلٍ شيخٍ قطع الطريقَ وسارَ إلى الله فعرف المفاوز، فرجع دالاًّ إلى الله مأذوناً من الله تعالى. فهذا الذي خرجَ من نفسه وصار الى مقام البقاء بالله تعالى، لم يَعُد للشيطان عليه سبيل، فصار عارفاً بمسالكِ الشيطانِ جميعها، مستشرفاً لمداخل النّفس ومفاوزها ومهالكها وعيوبها. هذا هو الشيخُ.

لأنّنا قلنا أنّ الدّين أصلُهُ هو الوجهة إلى الله، والتخلّص من النّفس الجزئية، وهذا هو معنى الولاية، الولاية هي الصّلة بالله التي تجعلُك سالكاً لتخرجَ من الظلمات الى النّور، إلى الحقّ تعالى. فمنطقياً وبديهياً من عرفَ هذا المعنى واقتنعَ به، يعرفُ أنّ الدّربَ يلزمُهُ دليلٌ.

وعليه فمهما زعمَ المرءُ براعتهُ أنّه سفَّانُ نفسِهِ إلى برّ الأمان والوصول، فهو واهمٌ، لأنّ النّفس بحرٌ خضمٌّ، جميع التكليف والدّنيا قامتْ على النّفس فقط، وهذا ما كنّا نشرحُهُ، أنّ الدّنيا بها تجلّت الحضرات النّفسية الجزئية والأنا البشريّة، وإبليس قرصانٌ ماهرٌ قطع طريقَ رُبَّاْنٍ مهرةٍ وأهل حذق، وعليه فمن لم يكن توجّهه القلبيّ صحيح إلى وجودِهِ الحقيقيّ فهو متوجِّهٌ إلى الوجود الوهميّ، وبالتالي غارقٌ في بحر النّفس وتلبيس الشيطان. لهذا كان الشيخ، وإن لم يوجد الشيخ وهو الأساس، فالرّفقة الصالحة المؤمنة التي تقتبسُ من الحقّ مُعيناً على الطّريق. الأهمّ أن يعرف الإنسان أنّ الطريق، يلزمُهُ وجهةُ سير. ومن عرفَ وجهةَ السّير وحقيقتها، ونوى السّفر، لا محالة يقصدُ شيخاً عارفاً بالطّريق. يقصدُ دليلاً ماهراً.

أرأيتَ لو نويتَ السّفر إلى بلادِ وذهبتَ تسألُ عن القوافل التي تسافر إليها، فأيّ القوافل تختار ؟ فلو اخترتَ قافلةً بلا دليل فهذا خطرٌ واضحٌ أنّكم قد تتيهون. ولكنّك ستسألُ عن القافلة التي تعرفُ الطريق وسافرت من قبل، ولها دليلُها. فإذا عرفتها صاحبتها لا محالة. فكيفَ إذا عرفتَ مبدئياً أنّ قوافلاً لا تُحصى ولا تُعدُّ ذهبتْ ولم تصلْ إلى مقصودِها. فذلك يزيدُكَ احترازاً واحتياطاً فكيفَ إذا قطعَ الشكّ عندك باليقينِ أهل السّير والوصول فقالوا مجمعين : "من كان بلا شيخٍ فشيخُه الشيطان" وقالوا "والله ما أفلح من أفلح إلاّ بصحبةِ من أفلح" هكذا قسماً بالله وجزماً لا ريبَ فيه. يريدونَ الوصول إلى برّ الأمان والفلاح. وقال الله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} (التوبة-119). كونوا مع الصّادقين الذين توجّههم دائماً صحيح صادق، وعليه فهؤلاء الصّادقين ليسوا هم سوى أهل الوصول وأصحاب الجمع الذين خرجوا من دائرة التلبيس النّفسي، هم العباد المخلَصين، فافهم. الذين ليس للشيطان عليهم سبيل. فنظامُ الحقيقة والسّير إلى الله تعالى نظام قاعديّ ثنائي : صفر، واحد. فالتّقوى يُعينك عليها المتّقين. ولو سُقنا لك أقوال أهل التحقيق والطريق في هذا المجال، لعرفتَ كيفَ هو جزمُهم وأدهشكَ، بل فاق الجزم.

فقلنا لمّا كان المجذوبُ عاكساً للنّفس الجزئية ظاهراً، فقد ظهرَ بالأضدادِ والتلوّناتِ، ولكنّهُ باطناً صادقٌ تمامَ الصّدق، لأنّه حقيقةُ جميع النّاس والخلق في هويّته وذاته، فهو الأصلُ. وعليهُ فقد كانَ توجّههُ القلبيّ لله دائماً لا يحيد، وليٌّ لله تعالى في كلّ موقِفٍ وفي كلّ تجلٍّ وفي كلّ نفَسٍ ولحظةٍ، إنّهُ الوليّ بالأصالة، كان وليّاً وآدمُ منجدلٌ بين الماء والطّين. فحالتُهُ القلبية هي : واحد. لا تتزحزح، لأنّه عينُ الواحد الأحد في ذاته وسرّه، فافهم.

ولذلك سيتواجهُ مع إبليس في حربٍ نفسيةٍ كاملة شاملةٍ في جميع مداخلِ النّفسِ الممكنةِ، ويغلبُ إبليس فيها، لأنّهُ هو الأصلُ، حيثما لبّسَ إبليس ليقطعَ الصّلة بين المجذوب وربّه، فالمجذوبُ صلتُهُ قائمةً أبداً، قلبُهُ متوجّهٌ لله تعالى لا ينصرِفُ ولو لحظةٍ عن الله تعالى، لأنّهُ العبدُ الذاتيّ. وهذا من مكرِ الله بإبليس، وعدم فهمه الفهم الحقيقيّ لهذا الخليفة، فهو يظنّهُ من جنسِه، وجنسِ من ظهرَ قبلهُ يسهلُ خداعه. لذلك سيمكرُ الله بإبليس والدجّال أعظمَ مكرٍ، ويُغلبانِ ويوليانِ الدّبر ويهلكان بهذا الخليفة. فكانَ المجذوبُ هو الذي يقضي في ليلة إصلاحه على روح الدجّال والتدجيل في العالم، وهو إبليس فيقضي عليه المهدي ليلة إصلاحه. وينعكسُ ذلك ظاهراً في الخلافة الظاهرة بموتِ الدجّال على يدِ روح الله المسيح بن مريم عليهما السلام بعد نزوله. فالمهدي يقضي على إبليس روح الدجّال، والمسيح يقضي على الدجال بشخصه البشريّ المفتون السّامري عليه لعنة الله وخزيه.


يتبع ..