الجمعة، 2 أغسطس 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 44




- 44 -

فقلنا نزل القرآن في ليلة القدر، فكان القمرُ رمز القلب الذي تنزلُ فيه الرّوح، والرّوح رمزها الشمس، فكان نور القمر عاكساً لضياء الشمس، فيشعُّ على ليلِ الأرض بقدَرِ. ولولا ليلة القدر لما حسنَ لأحدٍ أن يقرأ القرآن ويتحقّق بمقام الجمع، إذ النّهار هو مقام الجلال بضياء الشمس الأحديّ، وضياء الشمس للواحدِ الأحد وحده سبحانه، فخرجَ الخلقُ ببرزخ الرّحمة الذي هو ليلة القدرِ بنزول القرآن ونزول الروح على القمر الذي هو رمز القلب، فافهم.

فالقمرُ حين يعكسُ ضوء الشمس يكونُ في مقامِ الجمع لنورها وضيائها وحقائقها والتحقّق بأخلاقها وصفاتها من غير حلول ولا اتّحاد، ولا اتّصال ولا انفصال، فافهم، فهذا هو مقامُ الصّفات. وكان برزخ ليلة القدر وليلة الأقدار الوجودية وبرزخ خروج الخلق الى الظهور والأكوان وقمرها البدريّ وقمرها الأسنى والأعلى هو سيّد الخلق صلوات الله وسلامه عليه، فمثّلَ هذا المقام القمريّ العربيّ الخصوصيّ الأعلى، الذي هو أعلى مقامات الخصوصية والعبودية والتحقّق بكلّ حقائق الرّوح الأعظم. فافهم.

وصارَ كلّ قلبٍ محمديٍّ متحقّق بهذا النزول وهذا الانعكاس هو وراثٌ وهو خليفة لكن في دائرة الخلق ، لذلك كان المحمديّون هم القمريون العرب بهذا الاعتبار، وكان الخليفة حامل سرّ الذات والأحدية هو رمز الشمس لأنّه عين الرّوح الأعظم، إذ الرّوح الأعظم هو تجليّاته من مقام الأحدية والهويّة الغير مدركة. فكان الخليفة أعجميّ بهذا الاعتبار شمسيّ والشمس حسابها سنويّ، وحساب الربّ عبّر عنه بالسّنين خلاف ليلة القدر التي عبّر عنها بالشهور كما ذكرنا. فصاحبُ مقام الإسم الأعظم والربّانية المثلى المسمّى بالعبد المحض في مقام العبودية والمسمّى "الله" في مقامِ الربّوبية والألوهية هو الخليفة القائم بأمر الله المهدي عليه السلام. فهو المعني بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} سورة الفتح-10. فهو الإمام الذي استوجبَ البيعة بسرّه المطلق، وغيرُهُ نائبٌ في مقامِ النيّابة، فإذا كان خير خلق الله صلوات الله وسلامه عليه في مقامِ النيّابة عن الله سبحانه، فغيرُهُ بالضرورةِ نائبٌ. ولمّا كان صاحب الإسم الأعظم خليفة الإطلاق وحقيقة الحقائق، فقد صارَ هذا السرّ بالنيّابة للإنسان، وهم أفراد بني آدم المتحقّقين بالخلافة والوراثة إذ قال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته".




قال الشيخ عبد الكريم الجيلي قدّس الله سرّه في فصل (الملك المسمى بالرّوح)
في كتاب (الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل)

(الحقّ المخلوق به: هو الملك المسمى بالرّوح، وهو المسمّى في اصطلاح الصوفية: بالحقيقة المحمدية. نظر الله تعالى إلى هذا الملك بما نظر إلى نفسه، فخلقه من نوره، وخلق العالم منه، وجعله محل نظره من العالم. ومن أسمائه: أمر الله، وهو أشرف الموجودات، وأعلاها مكانة، وأسماها منزلة، ليس فوقه ملك، وهو سيد المقربين، وأفضل المكرمين. أدار عليه رحا الموجودات، وجعله قطب فلك المخلوقات، له مع كل شيء خلقه الله تعالى وجه خاص به يلحقه) انتهى.

وقال في نفس الفصل
(ثمّ اعلم أنّه لمّا خلق الله هذا الملك مرآةً لذاته لا يظهر الله تعالى بذاتِه إلاّ في هذا الملك وظهوره في جميع المخلوقات بصفاته، فهو قطبُ العالم الدنيوي والأخروي..) انتهى

وقال في نفس الفصل متحدّثاً باسمِ الرّوح الأعظم بطريق التلويح والرّمز للتعريف به :
(وأما المحتد والمكانة فاعلم أني كنتُ عينا مشهودا كان لي في الغيب حكما موجودا، فلما أردتُ معرفة ذلك الحكم المحتوم ومشاهدته في جانب الأمر المحكوم، عبدتُ الله تعالى بذلك الإسم كذا وكذا سنة وأنا عن اليقظة في سنة، فنبّهني الحقّ سبحانه وتعالى وأقسم باسمه وآلى أنّه (قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها) فلما حضرت القسمة وأحرزت ما أعطاني الإسم، أعني باسمه، زكّتني الحقيقة المحمدية بلسان الحضرة الرسولية، فقال عليه الصلاة و السلام (خلق الله آدم على صورته) ولا ريب في هذا ولا كلام، و لم يكن آدم إلا مظهرا من مظاهري أقيم خليفة على ظاهري فعلمتُ أنّ الحق جعلني المراد والمقصود من العباد، فإذا بالخطاب الأكرم عن المقام الأعظم: أنت القطب الذي تدورُ عليه أفلاك الجمال، والشمس التي تمدّ بضوئها بدر الكمال. أنت الذي أقمنا له الأنموذج، وأحكمنا من أجله الأمر فتوّج، المراد بما يُكنّى عنه هند وسلمى أو يلوّح عنه عزّة وأسما، فالكلّ إلاّ أنت يا ذا الأوصاف السَّنيّة والنعوت الزكيّة، لا يُدهشك الجمال ولا يُرعشك الجلال ولا تستبعِدُ استيعاب الكمال، أنت النقطة وهي الدائرة، وأنتَ اللابسُ وهي الثيابُ الفاخرة.) انتهى.

فهو هنا يعرّفنا بهذا الرّوح الأعظم، فهو المهدي الخليفة عليه السلام، ويتساءلُ الرّوح في هذا الكلام التمثيليّ لماذا أخفيَ مقامُه وهو حقيقة الحقائق ؟ فيُجيبُ الله سبحانه - وكلّ هذا الكلام تقريبيّ تمثيليّ فقط- فافهم. لتعلمَ ما ذكرناهُ عن حقيقة النّهار والليلّ، فلولا وجود القمر والليل، لما تعرّفَ أحدٌ إلى هذه الشمس، إذ النّهارُ للجلال، والشمسُ أحديةٌ ولا قمرَ عاكسَ لضيائها، ومتحقّقاً بحقائقها. ولهذا أُخفيَ مقامُه، فهو المقامُ الأوّلُ المطلق. فهو صاحبُ اليوم الذي انبثقتْ منه ليلة القدر، فليلةُ القدرِ تابعة ليوم هذا العبدِ الذاتيّ. فافهم.

قال الشيخ الجيلي في نفس الفصل
((قال الروح: فقلتُ: أيها السيّد الكبير والعلام الخبير نسألك بالتأييد والعصمة، أخبرني عن درر الحكمة وبحر الرحمة بأن جَعَلْتَ صدَفَها سوائي وما انعقدَتْ سوى من مائي، و لم وُسِم طيري باسم غيري وكتم هذا الأمرُ رأسا فلم يعلم لحديدته بأسا؟
فقال: اعلم أنّ الحق تعالى أراد أن تتجلى أسماؤه وصفاته لتعرِفَ الخلقَ ذاتَهُ، فأبرزها في المظاهر المتميزة والبواطن المتحيزة وهي الموجودات الذاتية المتجلية في المراتب الالهية، ولو أطلق الأمر كفاحا لهذا العبد سراحا، جُهَلت الرتب، وفقدت الإضافات والنّسب، فإنّ الإنسان إذا أُشهِدَ غيرَهُ فقد استوعبَ خيرَهُ وسهل عليه الاتباع وأخذ في ذلك ما استطاع فلهذا أرسل الله الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام بكتابه المبين وخطابه المتين، يترجم عن صفاته العليا و أسمائه الحسنى، ليُعْلَمَ أنّ ذاته لها التعالي عن الإدراك فلا يعرفها غيرها ولا إشراك، ولهذا أمرنا السيّد الأوّاه فقال (تخلّقوا بأخلاق الله) لتبرز أسراره المودعة في الهياكل الإنسانية، فيظهر بذلك علوّ العزّة الربانية، ويعلم حقّ المرتبة الرحمانية، ولا سبيل إلى معرفته بحسب حصره إذ هو القائلُ عن نفسه (وما قدروا الله حقّ قدره). هذا درّ الحكمة وبحر الرحمة. وكون الصدف سواك، وما انعقدت دراريه إلّا من ماك، فهو القشر على اللّباب، لئلا يرتقي الى الحكمة وفصل الخطاب سوى من أهّله لذلك في أم الكتاب. وأمّا وسم طيرك باسم غيرك فلاستيعاب خيرك. وأما كتم الأمر لعدم الطاقة على خوض هذا البحر، فإنّ العقول تقصر عن الإدراك، ولا محيص عن قيدها والانفكاك. وهذه الجملة قشور العبارات، وقبور الاشارات جعلناها عن الوجه نقابا، لتحجبه عمن ليس من أهله حجابا، فافهم إن كنت مدركا خطابا))انتهى.

فكلّ الكتمِ قامَ من أجلِ هذا العبد، الذي هو سرّ الأسرار وحقيقة الحقائق. وهو إمامُ الأئمّة، إذ محلّه خارج الخلق ولغته غير لغتهم مطلقاً. فهذا هو العبدُ الأعجميّ الشمسيّ العربيّ. برزخُ البرزاخ وحقيقة الحقائق.


يتبع ..