الأحد، 29 سبتمبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 52



- 52 -

أصحاب الكهف والرّقيم

سورة الكهف هي سورة الذاتيين أهل الجذب لحضرة الذات، فتية الكهف، وفتى موسى عليهما السلام، من الفتوّة، وهم العصابة الأقدسية أهل الصفاء الذاتيّ، فذكرت السورة في بداياتها صفاتهم وعلاماتهم ومشربهم، فابتدأت بالحمدلة ، والحمدُ للحقيقة بخلاف البسملة فهي للشريعة كذا قال أهل العرفان، وعلامة دلالتها على الشريعة باؤها التي كانت مبدأها فكانتِ الباء باء الاستعانة بالله والاستمداد منه سبحانه أي باء الخلق والحوادث، وباء الحجاب لأنّ حروف البسملة كلّها نورانية ما عدا حرف الباء فهو ظلماني، والمقصود بالحروف النورانية هي الحروف المقطّعة في فواتح السور، وهي أربعة عشر حرفاً أي نصف حروف الأبجدية، وكونُ عددها شطراً دلالةً على قوس الحقيّة وقوس الخلقية من الدائرة الوجودية، فالحروف النورانية هي الدّالة على قوس الحقيّة وعلى عالم الملكوت، والحروف الظلمانية دالة على قوس الخلقية وعلى عالم الملك والشهادة، فكان الباء ظلماني ليدلَّ على حجاب الحوادث والبشرية وحجاب الخلقية، كما حجبتْ بشرية الأنبياء والأولياء خصوصياتهم وحقائهم وبواطنهم وكما حجبَ الظهور البطون، فدلّتْ على الشريعة بظهور الخلق ووجودهم، وإن كانت البسملة دالّة على الحقيقة في الشريعة، لأنّ الباء هي باء الاستعانة بالله والاستمداد كما ذكرنا ولكنّها دالّة على الخلقية والنّفس، كما قال بعضُ العارفين "بسم الله الرحمن الرحيم" هي للعارف بمقام "كن" بالنسبة لله سبحانه، فهي هنا حقيقة، وكونُها تميّزتْ عن كلمة كن فهي حقيقة في شريعة، لذلك كان العارف يقول "بسم الله الرحمن الرحيم" والمحقّق المقرّب يقول "كن" كما قالها صلّى الله عليه وسلّم "كن أبا ذر"، لأنّه نائبٌ عن الله سبحانه متحقّق بالإسم الأعظم. والحمدُ للحقيقة لأنّ القائم بحق الحمد هو صاحب الحقيقة ولأنّ الحمد اختصّ بالبطون والظهور لُحُوقاً، فاستوفى البطونُ حقيقةَ الظهور، فاستوفى الحمدُ حقيقة البطون والظهور جمعاً وتفصيلاً.

فذكرَت السورة ابتداءً رئيس الفتية وسيّدهم {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا}، وهو المهدي عليه السلام، القائم بحقّ حمد الله على التحقيق، لأنّ الحمد اختصّ لله سبحانه وحده لا شريك له، فهو الحامد والمحمود والحمد، فنعته بالعبدية في مقام الذاتية قبل نزول الكتاب بسبق لفظة عبده لفظة الكتاب. والكتاب هو الإمام المبين الذي أحصى فيه الله كلّ شيء هناك في كنه العماء قبل أن يخلق الخلق، فكان هذا العبد متعلّق بالذات قبل نزول الكتاب عليه، فهو ذاتيّ محضٌ فحقّ لهذا العبد الذاتيّ أن تعود إليه الأعيان في العماء ويكونَ عينها وأن يكون الحامد والحمد والمحمود، كما قال صلّى الله عليه وسلّم "كان الله ولا شيء غيره" وتُكمَّلُ تحقيقاً "وهو الآن على ما عليه كان"، ثمّ تنزّل الحمد على عبده ونبيّه سيّدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم وذلك بالتخصيص له أن جعله مظهر الجمع والفرق، مظهر الجمع ابتداءً بنزول الرّوح على قلبه، ومظهر الفرق تفصيلاً بالتجلّي الدائم عليه، فأنزل عليه القرآن جملةً، ثمّ فرقه عليه، فصار حامداً بالله جمعاً وتفصيلاً غير متناهٍ تبَعاً للتجليّاتِ المفاضة عليه، إذ لا نهاية لتجليّات الله سبحانه، لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك"، فلا نهاية لتجليّات الله سبحانه وعلمه. ثمّ تنزّل الحمدُ على الفتية المطهّرين أهل الكهف، أولياء الله تعالى. فكانوا مطهّرين نسبة لكهفيتهم وغربتهم ، وهو كهف العماء والحضرة الذاتية، ذكرهم الله تعالى في قوله : {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ ( 77 ) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ ( 78 ) لا يَمَسُّهُ إِلا الْمُطَهَّرُونَ ( 79 ) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ( 80 )} وهم أهل القرآن خاصة الله تعالى. فكان المهدي رئيسهم لأنّه خصّ عليهم بنزول الكتاب عليه، وخصّوا هم بالطّهارة لمسّ هذا الكتاب المكنون. فاشتركوا في نزول القرآن عليهم وكان سيّدهم وأكملهم وقدوتهم هو صاحب القرآن النبيّ المجتبى صلى الله عليه وسلّم، فجميعهم نسبتهم للرحمانية في قوله تعالى {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2)}، على خلاف المهدي عليه السلام فنسبته لله فهو صاحب الإسم الأعظم مُطَهَّرٌ تماماً عن الصّفات، وهم ذاتيون صفاتيون. فالمهدي ذاتيّ محض لا تعلّق له بالصّفات، تعلّق بالذات قبل نزول الكتاب عليه، بخلاف غيره من الذاتيين والمطهّرين هُمْ ذاتيون بمسّ الكتاب بعد نزوله ومطهّرون قبل نزول القرآن عليهم، فالمهدي سرّهم وحقيقتهم وذاتهم في التحقيق. لذلك كان المطهّر المحض الفرد الجامع لا نظير له ولا كفؤ. فحَمْدُ المطهّرين حمْدَ الأسماء والصّفات، وحمد المطهّر المهدي حمد الذات وسرّ الذات. فلولاهُ ما حمد الحامدون الله سبحانه. فبه حمد الحامدون، إذ هو الظاهر بالأعيان وعين هويّتها. كما لولا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما تعرّف الخلق على الله سبحانه. فافهم هذ الكلام فهذا تحقيق، رغم غربته وإنكاره.

إنّ علامة هؤلاء الفتية أنّهم مجذوبون لحضرة الله تعالى ابتداءً، لذلك خصّوا بنعت أصحاب الكهف، فهم أصحابُ الكهفِ ابتداءً، وحتّى انتهاءً عند مقام بقائهم بالله فهم الكهفيون مذهبُهم في التصريف مذهبُ الخضر عليه السلام، ما ظهرَ تصريفهم للنّاس، كما لم يظهر تصريفُ الخضر للنّاس، لأصحاب السفينة رغم أنّه أنقذهم، وقتل الغلام رغم أنّه كان سببا في تصريف الموت إليه، وبناء الجدار وستر كنز اليتيمين الى حين يبلغا رشدهما بتقدير محكم أحكمه الله سبحانه وعلِمَهُ الخضر علما لدنياً من الله.

فلمّا جذبوا لحضرة الله أنكروا أحوال النّاس وأنكر النَّاسُ أحوالهم، فما وسِعَهُم سوى الكهف ساتراً لأحوالهم، يتقّلبون ذات اليمين وذات الشمال وكلبهم باسطٌ ذراعيه بالوسيط، {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}. فَهُمُ الغرباء في هيئتهم عند الجذب، وهم الغرباء في أحوالهم وقلوبهم لم تسَعْهُم الدّنيا ولم يسَعُوها، لأنّهم مطهّرون مرادون مجذوبون قبل خلق الدّنيا، أصفياءٌ ، كما ذكرنا صحّ لهم مسّ الكتاب المكنون فهم مطهّرون بعد نزول الكتاب المكنون على العبد المحض المهدي وقبل نزول القرآن، لذلك خرجوا عن الأكوان. يتقلّبون في أطوار القبض والبسط، ذات اليمين وذات الشمال، ويسمّون المجاذيب العقلاء، يحسبهم النّاس عقلاء فلا تبدو عليهم علامات الجذب التي اشتهر بها المجاذيب الخارجون عن أطوارهم الذين يسمّيهم النَّاسُ الدراويش، ولكنّهم مجاذيب في حقيقتهم والنّاس لا يشعرون بهم وبجذبهم، {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ}، تحسبهم في حال الصّحو وهُم في سُكرٍ وجذبٍ تامّ، يتقلّبون بين الجمال والجلال، يتجلّونَ بالأضداد كما تجلّى الأصْلُ به، لأنّهم مرادون للخلافة والولاية الكبرى والتحقّق بالإسم الأعظم فهُم يُحاكُونَ أرواحهم المجذوبة عند الله سبحانه وتعالى. فافهم.


القهرُ سمْتُهم قبل الكمال والتحقّق والصّحو، {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}، مجذوبون حتّى النّخاع مشاهدون لتوحيد الله سبحانه، والنّاس منكرةٌ عليهم، فيكادونَ يموتونَ قهراً وأسفاً من شدّة الإنكارِ عليهم، الآية تصفُ حال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعلّك باخعٌ نفسك، لعلّك قاتل نفسك اسفاً عليهم،  وتصِفُ حال الفتية المطهّرين بالتبعية، وتصِفُ حالَ سيّد الفتيان ورئيسهم المهدي الذي يكادُ يموتُ أسفاً وقهراً من شدّة الإنكارِ عليه، إذ هو مشاهدٌ لحضرة التوحيد، وغيرُهُ يريدُ أن يشرك بالله شريكاً وندّاً، لذلك سبق الآية السّابقة قوله تعالى {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَّا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا * فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا}، فهو باخعٌ نفسَه من شدّة إنكارِ حتّى ممّن يزعمون أنّهم خواصٌ، وهُم ليسوا بخواص فالخواصّ هم أهلُ الكهف الذين عاينوا هذا التوحيد وعرفوا الله سبحانه، فالمهديّ باخِعٌ نفسَه كيفَ غفلوا عن هذه الشمس الواضحة بالنّسبة إليه وبالنّسبة للحقيقة اللاّئحة بأعلامِها ودلائلها، كيف غفلوا وأشركوا وجعلوا لله ندّاً وولداً، كنايةً على الشراكةِ في الجمال والكمال والصّفات، ولا كامل ولا جميل وموجود تحقيقاً إلاّ الله تعالى، فالمهديّ سيّد الفتية بإطلاق، لأنّه مولِدُهُ بمكّة ونشأتُهُ فيها فلا يرى أحداً مع الله تعالى مطلقاً. فهو سيِّدُ الموحّدين، إذ أحوالُه كلّها جذبٌ كاملٌ لحضرة الله سبحانه.
{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا *هَؤُلاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. إنّهم فتية آمنوا بالله تعالى ودخلوا حضرة الجذب، فزدناهُم هدى وربطنا على قلوبهم، فصاحُوا ربُّنا ربُّ السمواتِ والأرض لن ندعو من دونه إلهاً ولن نجعل له شريكاً، وهؤلاء قومُنا اتخذوا الأنداد والشركاء مع الله فحُجِبُوا بغيره عنه وعن شهوده، إنّهم الموحدّون بالله سبحانه هؤلاء الفتيةُ، فلا يرونَ غيره، لذلك يظهرُ بعضُ الشَّطحِ في كلامهم، إذ هو شطحٌ عند غيرهم، بينما هم غارقون في عينِ التوحيد ما رأوا غير الله تعالى، ومن رأى الله تعالى لم يرَ نفسَهُ، فهو مفقودٌ. فيستغربون من غيرِهم إشراكَ الجمال والجلال والكمال مع الله تعالى ونسْبِ ذلك لغيره سبحانه. بينما يستغربُ غيرُهم حالهم وشطحَهم ودعاويهم التي يرونها دعاوي، فانظُرْ إلى هذا العجب العُجاب، وإلى غربتهم، {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا} فلا عجبَ مع قدرة الله تعالى وآياته وحكمته، وهمُ العجبُ حقّاً، فحقّ لكَ أن تعجبَ من أمرِهم، غرباءٌ قد استنكرهم النَّاسُ، بينما هم عند الله الوجهاء والموحدّون والصّادقون والمرادون ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.

أمّا قوله تعالى {
أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ}، فصاحبُ الرّقيم هو سيِّدُهم، هو صاحبُ الكتاب، المهدي الذي أنزِلَ عليه الكتاب فشاركهم في الكهفية، وما شاركوهُ في الرّقم والرّقيم، فهو المخصوصُ بنزولِ الكتاب عليه، أي أنّهم هم أهلُ الشهود والعيان المعايِنُونُ لرقيمِ الكهفِ والعماء، والمهدي هو صاحبُ الرّقيم وذاتُ ذواتِ المرقوماتِ وهي أعيانٌ في علم الله وعمائها، فهو صاحبُ الرّقيم. وهو صاحبُ الكهفِ. فافهم هذا العلم، وعند الله المزيد.

يتبع ..