الأربعاء، 2 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 53



 - 53 -

{نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}

إنّهم فتية آمنوا بربّهم، إنّهم فتية من الفتوّة، وهم أهلُ الجذب لحضرة الذات لصفائهم، فما ركَنُوا لشيءٍ، لأنَّ قلوبَهم ذاتية ما وسعها إلاّ الله سبحانه، ومن وسِعَ قلبُهُ الله فأنّى يطيبُ بشيءٍ مهما كان هذا الشيء وهذا العطاء، لا مقامات ولا منازل ولا دنيا ولا جنان مهما غلا وعلا إلاّ وجه الله سبحانه "ليس كمثله شيء"، قلوبُهم تطلبُ الله سبحانه وكلُّ شيءٍ تنزَّهَ عنهُ وجهُ الله سبحانه، {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}. البقرة/115. فما دلّت الأشياء عندهم والمشارق والمغاربُ إلاّ على وجه الله سبحانه فما وقفوا عندها، بل هُم يريدون وجه الله لذلك قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلّم في نفس السورة {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} الكهف. يريدون وجهه، الذي لاحت منه الكمالات والجمالات والدّلالات والتجليّات، يريدون الله سبحانه، مُنتهى الصّفاء، لذلك فقلوبُهم ارتفعت عن جميع الحظوظ والمنازل والمراتب والمقامات والتصنيفات، اجتباهُم ربُّهم للصّفاء ، لوجهه، لحضرته. كالملك العظيم الكريم قسّم العطايا والغنائم والأرزاق والحدائق والقصور على الذين أدّوا عملهم ووظائفهم على أحسن وجه كما أمرَ وكما طلب، ثمّ ترك زمرةً من الحاشية عنده بعد أن ذهبَ كلُّ عامِلٍ وقائدٍ وراعٍ إلى هداياه وعطاياهُ فرحان بها، فقال لهم أمّا أنتُم فقد اجتبيتُكم لحضرتي وصحبتي ومنادمتي فمكانكم عندي ذلك أنَّ هؤلاء عملوا وأحسنوا العمل محبّة للملك لا طلباً لشيءٍ، بل طلباً لمحبّته ومعيّته، فلو أرسلهم مع ذوي العطايا والهدايا ما يكونُ قد وفَّاهُمْ مطلبهم وأجرهم ولا شكرهم على عملهم وسعيهم. ولله المثل الأعلى فهؤلاء آثرهم الله بحضرته وقربه وأهداهم فوق ذلك خزائن مملكته لا يُمنعُ عنهم شيءٌ. كما جاء في الحديث الصحيح ((فَيَقُولُ : " أَيْ عِبَادِي سَلُوا " . فَتَقُولُ نَسْأَلُكَ رِضْوَانَكَ . قَالَ : فَيَقُولُ : " قَدْ رَضِيتُ عَنْكُمْ " . فَيَسْأَلُونَ فَيُعْطِيهِمْ مَا سَأَلُوا وَأَضْعَافَهَا ، فَيُعْطِيهِمْ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ . ثُمَّ يَقُولُ : " أَلَمْ أُنْجِزْكُمْ عِدَتِي ، وَأُتِمَّ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، وَهَذَا مَحَلُّ كَرَامَتِي ")) . ذكر الشيخ الجيلي رضي الله عنه بما معناه فإنّ الله يسألهم سلُوا، فلا يسألون سوى الرّضوان وما خطر على بالهم من النّعيم، فَيُعطيهم الله ذلك وأضعاف ذلك، ولكنّهم لم يسألوهُ فوق ذلك، لأنّهم عاشوا حياتهم على ذلك المطلب وتلك الغاية وهي شريفة وعالية جدّاً، وما خطر على بالهم أن يكونَ فوق الرّضوان ما يُسأل، فكان هناك من هو أعلى منهُم الذين ما طلبوا غير وجه الله سبحانه. وهم هؤلاء الذاتيون أهل الحضرة وأهل المحبّة، فما جزاهم ربّهم سوى نعيم الحضرة وجنّة القرب، وانظُر في تقسيمات الجنّة ودرجاتها لتعلَمَ أنّها ثمانية درجات، أعلاها المقام المحمود والوسيلة ولا تنبغي إلاّ لعبدٍ واحدٍ وهو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صاحب المقام المحمود سيّد الأوّلين والآخرين وشفيع الخلق عند ربّه. ولو وقفنا على آياتِ سورة الرّحمن لوجدنا كيف اختلفَ العلماء والمفسّرون في تقديم أيّ الجنان هي الأعلى والأقرب، وذهب الجمهور أنّها المذكورة في الترتيب الأوّل لما ذكرَ الله فيها من تفصيلاتٍ كثيرةٍ، بينما ذهبَ حبرُ الأمّة ابن عباس رضي الله عنه وغيرُه من أمثال الشيخ الأكبر والقاشاني في تفسيره التأويلات وابن عطية وغيرهم أنّ الجنّة الثانية في الترتيب "مدهامتان" هي الأعلى والأقرب، ولا أريدُ التفصيل هنا، ولكنْ في هذا الاختلاف إشارةٌ أنّ عدم تمييز "المدهامتان" على كونِها جنّة القرب وفوق التي تسبقها في الترتيب، هو نفس ما ذكرناهُ من كونِ عامّة المؤمنين وخواصهم (إلاّ خاصة الله سبحانه) ما خطر على قلوبهم أصلاً هذا النّوع من القرب الذي هو فوق الرّضا. فهما جنّتان جنّة الذات وجنة الصفات كما ذكر ابن عباس، وهي منازل المقرّبين من الرّسل والأنبياء والأولياء ومنهم الملامتية أهل القرب، ومن علاماتها قوله تعالى {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} الرحمن/72. فهي خيام الفردانية بين الأحدية والواحدية، أخفاهم الله عن غيرهم أن يعرفهم. وحورُها لا تتعرَّفُ إلاّ على الكامل والذاتيّ الفرد الذي قطع مفاوز الطريق وتجاوز البحار بحار الأفعال وبحار الصفات إلى بحار الذات. مقاييس جمالها وحبّها عالية جدّاً، ولا تنظُرُ إلى غيرِ الأصفياء الذاتيين.

قال الله تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلا * وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا}. فكانت زينة الأرض والدّنيا اختباراً للنّاس أيّهم أحسنُ عملا، والله لا ينظُرُ إلى صوركم ولا إلى مظاهركم وتزيّنكم وتقعّركم بين بعضكم بعضٍ بل ينظرُ الى القلوب والأعمال وحقيقة الأعمال الموزونة بمكيال المحبّة والصّدق، لنبلوهم أيّهم أحسنُ عملاً ، أي أشدُّهم صفاءً وطلباً لوجهنا، أيّهُم ارتفع عن الحظوظ والوجاهات ظاهرها وباطنها، فكلّها تجليَّاتُه سبحانه، فما جانَسَ شيءٌ ذاته سبحانه، فهذا هو أصلُ التسمّي بالتصوّف، إنَّهُ الصّفاء، ودَعْكَ من أهلِ الحظوظ الذين شابهوا أهل التصوّف في النّسبة الإسمية والرّسمية فهُم يطلبون الحظوظ والوجاهاتِ في أيّ شيءٍ يجدونَ فيه الوجاهة والحظوظ والمناصب، فإذا قلتَ التصوّف كما هو الواقع، فهو أنفارٌ وأنفارٌ بلا عدد، دوائرٌ وراء دوائر، كلّهم يزعمُ التصوّف، أمّا التصوّف الحقيقيّ المشتقّ من الصّفاء وإرادة وجه الله تعالى فهو الصّفاء وترك ما سوى الله سبحانه. يشهدُ بذلك عليه الوصول إلى بحار الذات، ولقاء حور الذات. قال الشيخ الرائد محمد زكي إبراهيم رضي الله عنه في رسالته المشهورة المعطّرة بريح الحقّ وروح القدس : ((يا ولدي: إذا قيل: إنَّ التصوف من (الصفاء)، فقد أصبح اسم التصوف أعظم من أن يكون له جنس يشتق منه، لأن الشرط في الاشتقاق: التجانس ، والموجودات كلها: ضد (الصفاء)، إنَّها كدر (إلا ما كان لله)، ولا يشتق الشيء من ضدِّه.)) انتهى.
نعم إذا كان التصوّف من الصّفاء فأين مشتقّ الصّفاء ؟ لذلك ابتلى الله النّاس بزينة الحياة الدّنيا، وزيّنَ الأرض، أرضَ النّفس والفرقِ بالعطايا والمقامات وراء بهرج الدّنيا الظاهر فقلّما يسلَمُ من هذه الدّنيا إلاّ الصّديقون والأصفياء الذين ربط الله على قلوبهم، فانظُر قوله تعالى {وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}. فقال ربطنا على قلوبِهم، أي جذبناهم إلى حضرة ذاتنا فلم تلتفتْ قلوبُهم لغيرنا، فما زالتْ قلوبهم مجذوبة لحضرتنا وذاتنا حتّى تجاوزوا كلّ الظلمات والبهارج والعوائق والأغيار ووصلوا إلى الصّفاء وصلوا الى الواحد الأحد سبحانه. لا إله إلاّ الله، لا موجود إلاّ الله ، لا شيء يستحقُّ الطّلب والتوجّه إلاّ الله ، فافهم سرّ هذه القلوب، فالقلبُ هو بيت الربّ سبحانه، وتفاوتَ الإنسانُ بالتعرّفِ على حقيقة قلبه، والكشف عن الحجب التي حالت بينه وبين من يغذّي قلبه بالحياة والنّعم جميعها، لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم ((إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)). رواه البخاري ومسلم. وقال الله تعالى في الحديث القدسيّ (ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). فهذه هي قلوب الأصفياء ما وسعها السّماء ولا الأرض، فما جانسَ صفاءها شيءٌ فما وقفتْ على شيءٍ مهما كبر عطاؤه ومقامه، حتّى وسعتْ قلوبها ربّها، وصار القلبُ عرشَ الله سبحانه. فابحثْ عن قلبِكَ أيّها العبدُ ولذ بالله سبحانه وحده لا شريك له، فلمّا كانتِ السّمَاءُ والأرضُ على سعتها لم تسع جلاله سبحانه وتجليّاته، فلا تُتعبْ نفسك بالبحث بعيداً، ولكن ابحث عن الله سبحانه في قلبك، ولا بدّ لك من مرآةٍ نقيّة ترى بها الطريق إلى قلبك، إلى ربّك "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"، وهذه المرآة ليست سوى القلوب التي وسعت الحقّ سبحانه، قال صلّى الله عليه سلّم "المؤمن مرآة المؤمن". فإذا كان قلبُك لم يصلْ بعدُ لحضرة المؤمن سبحانه فابحث عن العبد المؤمن الذي وسع قلبُه الحقّ سبحانه ((ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)). فهناك مطلبُك وكهفُكَ.
ودليلُك إلى هذا العبد الواصل هو قلبُك مرّة أخرى وصدقُك، فقِفْ بالباب ولا تهجرْ تلك الأعتاب حتّى يُؤذن لك بالدّخول، وقلْ عبدٌ آثمٌ ضائعٌ ضيّعَ الدّليل وضيّعَ الطريق ومشفِقٌ من نفسه وحظوظها والسّراب الذي لاحتْ مراياهُ في ذاك الطّريق المهجور الذي درست معالمه، فما بقيَ في الأرضِ سوى عبيد الطّبع وعبيد الهوى الدّونيّ وعبيد المتع والوجاهات، فتبرّأ من حولك بكثرة قولك لا حول ولا قوّة إلاّ بالله تعالى، واستغفر لذنبك صبحاً وعشيّاً، وصلِّ على من صلاتُه نورٌ الذي من صلّى عليه مرّة، صلّى عليه الله عشراً وقد قال سبحانه {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ۚ}.

يتبع ..