السبت، 5 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 54



       - 54 -


{وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا}
فالحديثُ عن القلبِ هو أحسنُ الحديث، لأنَّ جوهر السّلوك والطّريق بهذا القلب، ولا نُريدُ الكلامَ عنهُ كلاماً عامّاً، بل نُريدُ اللّفتََ إلى حقيقة هذا القلبِ، فالسرّ كلّ السرّ في القلبِ، لذلك يعرِفُ السّبعة الأعلام ومعهم الخاصّة عند الكعبةِ يعرفونَ المهدي عليه السلام، يعرفونَهُ بسرّ القلبِ، فإنّ أصحاب المهدي الذين يبايعونه البيعة الأولى عند الكعبة بين الرّكن والمقام هم خاصّة الله تعالى وأهل كشفٍ إلهي وأهل علمٍ بالله من أعلمِ أهل الأرض بل أعلمُ أهلِ زمانهم وأصدق أهل زمانهم وأعلمهم علماً بالشريعة والحقيقة، مؤيّدون بروح القدس، فيعرفون المهدي برؤيته، بعلاماته وسمته اللاّئحِ على ظاهره ووجهه، فوجهه من أحسنِ النّاس صورةً وسمتاً، سمتُه وملامحُهُ دالّةً على فتى الرّقيم مرقومٌ بالعزّة والجلال ومرقومٌ بالرّحمة والصّفاء، وكذا فإنَّهُم يعرفونَهُ بقلبه وسرّه، وهذا هو سرُّ المهدي، يعرفُه الأكابر بقلبِهِ. فإنّ القلبَ إذا أردتَ مثالاً بسيطاً لمعرفة حقيقته فهو المعبّر عن الذات السّاذج، فأهلُ التحقيق من عباد الله المقرّبين وسِعَت قلوبُهم الحقّ سبحانه كما جاء في الحديث القدسيّ وذلك بنزول الرّوح على قلوبهم، كما نزلَ الرّوح الأمين على قلب سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم، فكان سيّد الجمع والقرب من الله تعالى هو صاحب القلب الجامع القارئ بالقرآن خليفة إسم الرّحمن المبعوث رحمةً للعالمين، وقلوب جميع الأنبياء والأولياء عليهم السلام تليهِ في القربِ من ربّه بحسبِ ما كتب الله لكلّ فردٍ منهم في الأزل، ولكنّهم نازلونَ ببرزخ الرّحمة فذاك هو مقام الجمع.
أمّا قلبُ الخاتم المهدي فهو الرّوح بعينه، أي أنّ قلبَ الخاتم المهدي لو مثَّلناهُ تمثيلاً لوجدت مكتوباً عليه الإسم الأعظم "الله". فهو عين الإسم الأعظم، أي أنّ المهدي سرّ الرّوح، فقلبُهُ هو سرّ الرّوح بالأصالة. فإذا رآهُ الأكابر عند الكعبة عرفوهُ، لا يخفى عليهم، كما لم يخْفَ عليهم حالُُهم القائم بالله سبحانه وشهودهم لتجليّاته وبقائهم بالله تعالى بين معاينة الأحدية والواحدية، بعروجهم الذاتي والرّوح النّازل في قلوبهم، فهم يطلبونَ الله تعالى في كلّ حالٍ وأمرٍ ولذلك إذ رأوا المهدي رأوا صاحب اللّطيفة الذاتية لا يخفى عليهم أبداً، رأوا حقيقتهم وروحهم وذات ذواتهم، كما أحبّ سيّدنا يعقوبُ ابنه سيّدنا يوسف عليهما السلام وتعلّق به تعلّقاً عظيماً، لأنَّهُ شهدَ قلب ابنه يوسف فرآهُ أصفى وأقرب إلى الله منه، فأحبَّ الله في يوسف عليه السلام، أحبّ مزيدَ تجليّاتِ الله عليه بقربه من يوسف، فافهم. فلا تظنّ أنّ الأنبياء عليهم السلام يفتقدونَ لدواعي غير خالصة لوجه الله تعالى، بل أحوالُهم كلّها لله تعالى وهم أصفى العباد وأنقاهم وأقربهم لله تعالى. لذلك من وقف على قصّة يوسف في القرآن عرفَ كيف رقّى يوسف أباهُ عليهما السلام في درجة المشاهدة والتلقّي عن الله تعالى بعد ذلك، فكان ابنَهُ وكان أيضاً شيخه، ولله الأمرُ من قبلُ ومن بعد. وهكذا كلُّ قلبٍ لهُ سرُّهُ فقلبُ النبيّ هو الإسم الثاني "الرّحمن"، والرحمانية هي أعلى مراتب الوجود، هي مقام الجمع وهي مرتبة الصّفات والكمالات، فكان قلبُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عليه مدارُ الكمالات الإلهية والصّفات الربّانية والأخلاق العليّة، لذلك جعله الله الطّريق إليه والباب الأوحد، إذْ إذا لم تبلغ رتبة الصّفات والكمالات ومقام الجمع لا يُمكنُ أن تقرأ كتاب الوجود وتشهد حقائق الولاية والتفصيل، فتعرفَ الله تعالى بشهود أسمائه وصفاته من مقام الجمع ومقام القلبِ القارئ بالله تعالى، فقلبُ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو القلبُ القارئ في مقامِ الجمع والتوحيد لكتاب الوجود وتفصيل التجليّات المتجليّة من الذات، فافهم، لذلك نزل عليه القرآن، والقرآن من القراءة، فكانت قراءة خاصّة فوق القراءة العادية، فزيادة الحروف زيادةٌ في المعنى وتخصيص وتمييز، والخلاصة هو قرآنٌ للكتاب المكنون الذي لا يمسّه إلاّ المطهّرون، الذين تطهّروا من الدّنيا والنّفس والأنا والفرق، فصاروا إلى مقام الجمع والقراءة بالله تعالى، القراءة باسم الله الأعظم "الله"، فهذه هي رتبة إسم الرّحمن، فللرّحمن الرّتبة الوجودية الأعلى، لذلك كان أكمل الخلق وقدوتهم وسيّدهم ورسولهم هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مظهرُ اسم الرّحمن ومجلاه في حقائق العبودية والربّوبية، ولهذا خُصّ بالصلاة عليه كما سبق أن ذكرنا، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]. فالصّلاة هي التجلّي عليه، فهو صاحبُ المقام المخصوص بالتجليّات بتمامها وكمالها، هو صاحبُ التمكين الرّاسخ والكمال التامّ، اصطفاهُ مولاهُ سبحانه في الأزل، قال «كنتُ نبيًا وآدم بين الروح والجسد» ، وقال : «إني عند الله لمكتوب خاتم النبيين، وإن آدم لَمُنْجَدِلٌ في طِينَتِهِ». فهذا هو مقامُ النبوّة، فالنبوّة من الإنباء والاستنباء، إنباء الخلق بالرّجوع إلى ربّهم وإنبائهم برسالته إليهم ليعبدوه ويعرفوه سبحانه. ففي رواية : أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وآله وسلم : متى استنبئت؟ قال : (( وآدم بين الروح والجسد حين أخذ مني الميثاق )). فكان صلّى الله عليه وسلّم نبيّاً في أمّ الكتاب، لأنّ الله ما خلق الخلق إلاّ ليرحمهم، فجميع أبواب العلم وجميع أبواب الخلْق وجميع أبواب الأقضية والأقدار متعلّقة بالرّحمة، وُلِدَتْ من رَحِم الرّحمة، فالتفصيل كلّه قائمٌ بالرّحمة، فكانَ النبيّ بالأصالة هو نبيّ الرّحمة المبعوث رحمةً للعالمين، فهو نبيُّ الأنبياء، وهو خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلّم، والخاتم والختْم هو الذي ختمَ الأمرَ واستوفاهُ إلى أقصاهُ ونهايتِه وحدِّه، فلا زيادة عليه ولا شيء بعده في ذلك الختم. كما تَختمُ رسالةً أو حساباً فلا يَقدِرُ أحدٌ أن يضيف عليه أو يزيد، ويُقالُ مختومٌ. ولهذا في القرآن العظيم تجدُ ذكر الأنبياء عليهم السلام إذا خاطبهم المولى سبحانه عزّ وجلّ : يناديهم بأسمائهم، يا موسى ، يا عيسى ، يا داود ، يا يحيى ، يا إبراهيم، بينما النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا خاطبه المولى سبحانه خاطبه بقوله : "يا أيّها النبيّ". ذكر هذه اللّفتة العالية الشيخ الشعراوي رضي الله عنه، وهي حقّ. والقرآنُ كلّه حقّ وصدق ودقيق في عباراته وألفاظه، فهو مطلقٌ في معانيه ودلالاته لأنّه كلامُ الله تعالى سبحانه عزّ وجلّ، فالنبيّ هو نبيّ الأنبياء وخاتم النبوّة، رسولُ الإنباء وصاحب مقام النبوّة، فقامت الشهادة على طرفين : لا إله إلاّ الله، محمّد رسول الله. ثمّ لاحظ هنا إنّ الله تعالى ما تسمّى بالنبيّ، كي لا تُشركَ بالله تعالى ولا تعتدي على مقامِ التوحيد، فالنبيّ صلّى الله عليه وسلم هو رسولُ الله تعالى، وإن كان متحقّقاً صلّى الله عليه وسلّم بكمال الصّفاتِ والأخلاق الإلهية كما ذكرنا وكان مظهراً للذات ومجلًى للأسماء والصّفات. ولكنّ الله تعالى تسمّى بالوليّ، فهل ترى في ذلك صُدْفةً أو عبثاً ؟ إنّما ليعرفَ العارفُ أنّ الولاية هي الأصل، لذلك قال أهلُ التحقيق من الأكابر أنّ الولاية هي الوجهة الإلهية للنبوّة، وقالوا : النبوّة دون الولاية وفويق الرسالة، لأنّ النبوّة خصوصية ذاتية، والرسالة وظيفة زائدة. ولكن كلّ نبيّ وليّ وليس كلّ وليّ نبيّ، فحصلت هنا خصوصية الأنبياء زيادة تخصيص. وكلّ رسول نبيّ وليس كلّ نبيّ رسول. فحصلت هنا خصوصية الرّسل زيادة تخصيص. وعليه فالعبودية قامت على الولاية، لأنّ الولاية عامّة، والنبوّة خاصّة، وهنا نعرفُ تمام العرفان والتّحقيق أنّ خاتم الأولياء هو صاحبُ العبودية المحضة المطلقة، لأنّ العبودية تعلّقت بالولاية، فكان خاتم الولاية، هو الذي ختم الولاية واستوفاها إلى نهايتها وحدّها وغايتها وأقصاها، ولا وليّ في الحقيقة سوى الله تعالى، فالله هو الوليّ كما جاء في الآية الكريمة، فكان خاتم الولاية هو العبدُ المحض في مقام العبودية، وهو صاحبُ الربّانية المثلى والأخلاق الإلهية العليا في مقام الخصوصية والربّوبية. فافهم هذا الكلام، فهو بسيطٌ واضحٌ لا لُبْس فيه. كونُ مصطلح خاتم الولاية لم يظهر تشريعاً، لأنَّهُ مكتومٌ، معرفتُهُ من الأسرار التي تَنْقُضُ الكثير من الحكمة التي أوجبها الله تعالى في عالم الحكمة، لذلك كان ظهورُهُ في ختام الدّنيا وآخر الزمان ومقروناً بالساعة والقيامة، وجاءَ الأمرُ لبعض أكابر الأولياء بإذنٍ من الحضرة العليّة حضرة الله سبحانه، وبإذنٍ من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يكتبوا حقائق هذا الختم المعظّم، ويبيّنوا مرتبته من أجله، ومن أجل أن تظهر الحقيقة في ختام الدّنيا ويظهر صاحبها. فقد ذكر الشيخ الأكبر أنّ كتاب الفصوص أملاهُ عليه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فكتبه إملاءً من حضرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقال الشيخ الأكبر رضي الله عنه في كتابه فصوص الحكم :"وكذلك خاتم الاولياء كان وليا وآدم بين الطين والماء ، وغيره من الأولياء ما كان وليّا إلّا بعد تحصيله شرائط الولاية من الأخلاق الالهية في الاتّصاف بها من كون الله تعالى تسمّى "بالوليّ الحميد" . فخاتم الرسل من حيث ولايته ، نسبته مع الخاتم للولاية نسبة الأنبياء والرّسل معه ، فإنّه الوليّ الرسول النبي." انتهى. فانظُر قوله كان خاتم الأولياء ولياًّ وآدم بين الماء والطين كما هي نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بالنّسبة للأنبياء، فولاية الخاتم بالنّسبة لغيره من الأولياء هو الوليّ بالأصالة، وما من وليٍّ إلاّ وحصّل "الولاية" بتحصيل شرائطها عن طريق الرّحمانية والتحقّق بمقام الجمع ليقرأ حقائق الولاية وباسم الله تعالى اي باسم الوليّ الذاتيّ، وهنا قوله غيره من الأولياء هم جميع الأولياء بما فيهم الأنبياء، فافهم، فالأنبياء أولياء كذلك، وقلنا أنّ الولاية هي أصلُ العبودية وهي الوجهة الإلهية للنبوّة، فكان صاحبُ الوجهة الإلهية المثلى والعبودية المحضة والولاية الحقّة المختومة هو خاتم الأولياء الوليّ الذاتيّ، ثمّ عيّن لك السرّ لتفهم فقال : "من كونِ الله تعالى تسمّى بالوليّ الحميد"، فالوليّ هو الله تعالى سبحانه، فهذا هو معنى ختم الولاية، أي خَتَمَ مُسمَّى الولاية واستوفى حقائقها ومعانيها ودلالاتها فما فوقه زيادةٌ. فهو الوليّ بالأصالة والخاتم، لذلك نعتَ لك حقيقة ولاية خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام مقابلة لولاية خاتم الأولياء، فقال إنّ ولاية خاتم الرّسل أي النبيّ الخاتم صلى الله عليه وسلّم بالنّسبة لولاية خاتم الولاية، كما هي نسبة نبوّة الأنبياء بالنّسبة لخاتم النبوّة. فنبوّة الأنبياء قائمةٌ بتحقيق شرائط النبوّة، إلاّ النبيّ المحض الخاتم الذي كان نبيّاً وآدم بين الماء والطّين، فنبوّتهم تابعةٌ لنبوّته في الأصل والحقيقة فهو نبيّ الأنبياء كما شرحنا من قبل، وكذلك ولاية خاتم الولاية فولاية خاتم الأنبياء تابعة لولاية خاتم الأولياء وما قامت إلاّ بتحقيق شرائط الولاية بالله تعالى سبحانه، بخلاف الوليّ الخاتم فولايته أصيلةٌ من الأزل، إذ الوليّ هو الله سبحانه، فافهم هذا الكلام. فهذا تحقيق، وغيرُ هذا الكلام تزييفٌ واعتداءٌ على الحقائق.

فقلنا قلبُ النبيّ كان القلب القارئ وقلب الرّحمة مظهرُ اسم الرّحمن أصالةً، وكذا قلوب الأفراد المطهّرين من أفراد بني آدم استوى عليها اسمُ الرحمن، لذلك قال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورة الرّحمن". ولكنّهم تفاوتوا في التحقّق بحقائق الرّحمن، واسم الرّحمن واسطة التحقّق بالإسم الأعظم، فبطونُ اسمِ الرحمن هو الإسم الأعظم "الله" الدّال على الذات.

لذلك لو تأمّلت سيرة الأكابر من أهل الله تعالى عموماً لوجدتها سير فيها الصّلاح وأشائر الحفظ والعناية والقرب ظاهرة عليهم من صغرهم، كما عرف النّاس اليوم الأوّل من رمضان برفض الشيخ الجيلاني قدّس الله سرّه وهو رضيع أن يرضع من ثدي أمّه، فلم يكن يرضع في نهار رمضان. والشيخ أحمد البدوي قدّس الله سرّه له هذا الصلاح وهو غلام، وكذا سير الصّالحين و الأكابر لهم من هذا الحفظ الإلهي الظاهر، الدّال على صلاحهم. وذلك أنّ جميع الأولياء ما حصّلوا الولاية إلاّ بتحصيل شروطها، وهي مقام الجمع الرّحمانيّ، بنزول الرّوح على القلب، فانعكس ذلك على سيرهم، فأرواحهم اقتربت من هذا البرزخ الرّحماني حفظاً كما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. فالقربُ بقدرِ القربِ من سيّد الخلق صلّى الله عليه وسلّم، وكذا سير الصّحابة رضوان الله عليهم. فالرّحمانية هي مقام الجمع، لذلك خرج منها الأكابر، أمّا الأنبياء فلهم العصمة قبل النبوّة وبعدها، وأمّا الأكابر فلقربِ أرواحهم من هذا البرزخ الجامع برزخ الرّحمة والأخلاق الإلهية، ظهرت عليهم ملامح القرب والعناية قبل تحقّقهم بشرائط الولاية.

بخلافِ المهدي عليه السلام، فكان صاحب الرّحمة، لأنّ الخلْق برزوا بالرّحمة أصلاً، والخليفة حقيقتهم الجامعة، فكانت الرّحمةُ صفتُه العظمى، ولكنّه عند جذبه تميّز عن جميع الأكابر بمحاكاته للأضداد والتلوّنات الفرقية الخلقية، لأنَّهُ في مقام التركيب العنصري والطيني، فعكسَ حقائق العناصر والخلق، لأنّه الخليفة الظاهر بهم في عالم الحقائق، فانظُرْ الفرقَ بين المهدي وغيره من الأكابر والأنبياء فلهم الحفظ البرزخيّ الرّحمانيّ، ولهُ الأصلُ الجامعُ الذي تجلّى بالأعيان والأضداد، لذلك ذكرنا أنَّهُ صاحبُ الرّقيم الأصليّ، فلمّا كان في كهفيّته وجذبه حاكى رقيمَهُ الأصليّ، فظهرَ برُقومِ ما تجلّى بهِ في الأصلِ فافهم، فكانَ رقيمُهُ حجاباً عليه أن يعرفَهُ أهلُ الدّعاوى من المنتسبين للطّريق، وحجاباً لهُ كذلك أن يُعرفَ من غيره، وهو قطب الأعاجب وقطب الحقائق وقطب الوجود، صاحب الكهف والرّقيم، لذلك عرّفه الشيخ الأكبر في فصل (لؤلؤة التحام اليواقيت وانتظام المواقيت) بقوله : ((فكان ياقوتة حمراء ، تجوّفت لها ياقوتة صفراء ، فأودعها سبحانه فيها وختم عليها بخاتم : "إن الساعة آتية أكادُ أخفيها")) انتهى. فهو في عهد التركيب العنصري ياقوتة صفراء، ثمّ عند الجذب تتعرّف الياقوتة الصفراء فيه بالياقوتة الحمراء التي هي ياقوية الحقيّة والخصوصية، وهناك يظهرُ بالحقائق الخلقية والأناوات الفرقية التي تجلّت منهُ في الأدوار والنّشآت الإنسانية المختلفة منذ عهد آدم عليه السلام، ثمّ ختاماً يظهرُ الختمُ المعظّم بعد الانسلاخ من التركيب العنصري وسقوط حجابه، قال الشيخ الاكبر في نفس الفصل (( فلمّا التحقت الحقيقتان والتفّت الرقيقتان زهرت الأفلاك واعتصمت الأملاك ، وظهرت الرّجوم لمن أراد الهجوم ، وتنزّل الروح الحقّ والكلم الصّدق ، ثمّ اختلت الياقوتتان في الظلمات لتعاين الصفراء ما غاب عنها من الآيات فعندما اجتمعت الصّفراء بأختها كانت لها بنتا ، ثمّ ارتقت إلى من كانت له بيتا فأكرمت الأمُّ مثواها وحمدت مسواها ، فتطلّعت الحمراء خلف حجاب الكتم ، فإذا هي بنور الختم فخاطبه بلسان الإستنباء أنا خاتم الأولياء ومقدّم جماعة الأصفياء.)) انتهى. فهذه هي حقيقة هذا الخاتم مقدّم جماعة الأصفياء، فهو صفيّ الأصفياء سيِّدُ الصّفاء ووليّ الأولياء، فافهم.
ثمّ يقولُ الشيخ الاكبر في نفس الفصل في ختامه : ((فإنّ القصد في هذا الكتاب هو معرفة الخليفة والختم وتنزّل الأمر الحتم فنقول : فرجع عوْدُهُ على بدئه في ليله وأدرك صلاة الصبح مع أهله، فتسوّد ذلك الجسدُ على أمثاله ممّن تقدّم أو تأخّر من أشكاله ، لمّا كانت مادة الحقيقة الأصلية والنّشأة البدائية إليه اسمه من ذاتها وإلى غيره من صفاتها.)) انتهى. فاقرأ إن شئت أنّ مادة الحقيقة الأصلية والنّشأة البدائية اسمهُ من ذاتها، أي اسمُه "الله" صاحبُ الذات، وغيرهُ من صفاتها أي إسم الرّحمن. فجميع الخلق انبثقوا من برزخ الرّحمانية، إلاّ هذا الخاتم فإليه الإسم الدّال على الذات، فتسوّد جسمه وهيكله على جميع الهياكل الإنسانية، فهو الذي قام فيه الحقّ لطيفة ذاتية. كما قال الشيخ عبد الكريم الجيلي قدّس الله سرّه في كتابه "الإنسان الكامل"، يصِفُ حقيقة المهديّ الخاتم الوليّ: ((فقد سبق أن قلنا أن الحقّ إذا تجلّى على عبده وأفناه عن نفسه قام فيه لطيفة إلهية، فتلك اللّطيفة قد تكونُ ذاتية وقد تكونُ صفاتية، فإذا كانت ذاتية كان ذلك الهيكل الإنسانيّ هو الفرد الكامل والغوث الجامع، عليه يدورُ الوجود، وله يكون الركوع والسجود، وبه يحفظ الله العالم، وهو المعبّر عنه بالمهدي والخاتم وهو الخليفة، وأشار إليه في قصة آدم، تنجذبُ حقائق الموجودات إلى امتثال أمره انجذاب الحديد إلى المغناطيس، ويقهر الكون بعظمته ويفعل ما يشاء بقدرته، فلا يُحجبُ عنه شيء، وذلك أنّه لمّا كانت هذه اللطيفة الإلهية في هذا الوليّ ذاتاً ساذجاً غير مقيّد برتبة لا حقيقة إلهية ولا خلقيّة عبديّة، أعطى كلّ رتبة من رتبة الموجودات الإلهية الخلقية حقّها، ...)) انتهى. فانظُر إلى هذا الكلام العظيم الجريء الذي لا فوقه عن الخليفة المهدي، فهو صاحبّ اللطيفة الذاتية، قام فيه الحقّ لطيفة ذاتية وفي غيره قام الحقّ لطيفة صفاتية نفس ما ذكره الشيخ الأكبر، فكان المهدي الهيكل الإنسانيّ الكامل الذي استوجب الركوع إليه والسّجود، وباقي الصفات التي ذكرها فهي صفات العظمة والكبرياء، صفات لا تليق إلاّ بذي الجلال والعظمة والكبرياء سبحانه في جبروته وعزّته. إذ لمّا قال الله في الحديث القدسيّ (ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن). فافهم أنّ الله تعالى سبحانه بجلاله وكماله وعظمته ما وسعته السّماءُ ولا الأرضُ، ولكن وسعَهُ قلبُ عبده، فمن هذا العبد الذي وسعَ قلبُه الله تعالى بالذات، فكان هو سرّ الرّوح الأعظم، وهو عين الذات والقائم والسيّد الصّمد الذي لا كفؤ له ولا ندّ تعالى الله في عليائه وكبريائه ؟ من هذا العبدُ؟ فالإنسانُ هو حاملُ السرّ الأعظم، لذلك كان الهيكل الإنسانيّ للخليفة هو العبدُ الكامل المحض المطلق حقيقة الحقائق والغوثُ الجامع والفردُ المحقّق، العبدُ في مقام العبودية والخليفة في الأرض، وهو الربّ والحقّ سبحانه في السّماء وفي مقام الربّانية المثلى والأخلاق الإلهية العليا بالأصالة، فهو صاحبُ أخلاق الله تعالى. ولذلك كان اسمُهُ "عبدُ الله". أي عبدُ الله سبحانه الذي ما وسعتهُ أرضُهُ ولا سماؤه ولكن وسعَهُ قلبُ عبده. فافهم هذا التحقيق العظيم.

ونقتبِسُ هنا كذلك أبياتاً من قصيدة الشيخ الأكبر عن الختم المعظّم أوردها في مقدّمة الفتوحات المكيّة :


إنْ قيلَ من هذا ومن تعني به... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمِ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

فانظُرْ بما وصفهُ هنا : خاتم الخلفاء، وذكر أنّه عبدٌ تسوّدَ وجهه من همّه، فمن هذا العبد الذي تسوّد وجهه من همّه ؟ إنّه خاتم الخلفاء في مقام جذبه قبل أن يكمل وينسلخ من تركيبه العنصريّ، تسوّد وجهُهُ من همّه وشدّة ما هو فيه من قهرٍ وجلالٍ وحالٍ، كما وصف الله تعالى أصحاب الكهف : {لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا}

لولّيت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا، لحالهم والعظمة التي تكتنِفُهم في بواطنهم، فما احتملت ظواهرهم قبل التأييد والخروج إلى إطلاق الرّوح، لذلك كان المهدي وهو الخاتم، أشدّهم قهراً وحالاً وغربةً وعجباً، فهو صاحبُ الكهف والرّقيم، باطنُه عظيمٌ من عجائبِ الأحوال. وظاهرهُ يوحي بالغربة والقهر، لا يؤبه له أشعث أغبر.

ثمّ تأمّل هذا الخاتم كيف وصفه : أنّه لا نظير له ولا كفؤ في صفات جماله وجلاله. فهو صاحبُ الإطلاق وصاحبُ الملك وصاحب العلم وسرّ العباد ونور البصائر والسيّد الصّمد رغم أنفِ الحسود والمكابر والمعترض.


يتبع ..