السبت، 26 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 56



- 56 -

قال سبحانه عزّ وجلّ :
- إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا
- فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا
- ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا


فأجمل القصّة هنا : أوى الفتية إلى الكهف وطلبوا الرّحمة والرّشد، فاستجاب الله لهم فضرب الله على آذانهم كي لا يلتفتوا إلى الدّنيا التفات توجُّهٍ وطلبٍ، فكأنّهم في الدّنيا يعيشون كما يعيشُ النّاس ظاهراً، وبواطنهم مضروبةٌ عنها ملتفتون إلى ربّهم فقط. ثمّ بعثهم الله بعد استيقاظهم وصحوهم من سُكرِ الجذبِ، وبعد بلوغهم الكمال والرّشد، أو بعد عودتهم إلى السّلوك والتفصيل والرّشد.

ثمّ فصّلَ أكثر في أحوالهم أثناء وجودهم في الكهفِ بما يبدو وصفاً قليلاً، وهو وصفٌ عظيمٌ استوفى جانب الحقائق عند أرباب العلم والحقّ، ونحنُ هنا نقتبِسُ من أهل العرفان وشيءٌ من قراءتنا في الآيات.

قال سبحانه {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُّرْشِدً}.

فلمّا أوَوا إلى الكهف، أي جعلوهُ ملجأً لهم ومأوى بعدما ضاقت بهم الأرضُ وانصرفتْ قلوبُهم عن دنيا النّاس، وتكرّرَ الفعل (أوى) فقال وصفاً لهم : إذ أوى الفتية إلى الكهف. ثمّ قال في تفصيل قصّتهم وهم يتحاورون بينهم : {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِه ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا}. فالإيواء مذكور في القرآن في عدّة مواضع وهو يعني المسكن والملجأ والعناية والتعهّد والكفاية، فقد اعتزلوا عبادة غير الله تعالى واعتزلوا ما يعبدُ النَّاسُ إلاّ الله تعالى سبحانه، فكان هنا مفهومين في الجملة، فدلّ أنّ هؤلاء الفتية قبل لجوئهم للكهف، قد فتحَ الله عليهم نافذة الشهود الكلّي، نافذة الجذب إلى الحضرة الأحدية، فهذا الكهفُ لا يدخلُهُ إلا مجذوب لحضرة الأحد سبحانه، فلمّا شهدوا أحدية الأحد سبحانه، وهي أولى مراتب الجذب في سير التدلّي، فالطريقُ كما قال أهلُ العرفان طريقانِ: طريق تدلّي وطريق تدنّي، التدلّي يكونُ من الأعلى إلى الأسفل، والتدنّي يكونُ من الأسفل إلى الأعلى.

وكلاهما طريقانِ للكمال، واختلفت الطَّرائقُ، واختلف المدارسُ، واختلفَ السّالكونَ طريق الله تعالى بحسبِ ما سبقتِ العناية لهم، وما ترتَّبتْ أسبابُ سيرهم، فكان المجاذيب ابتداءً هم أهلُ طريقة التدلّي، لأنّهم مجذوبون ابتداءً جذب الذات، وكان المجتهدون المجاهدون السّالكون بالمجاهدات والهمم همُ أهلُ طريقة التدنّي. الفضلُ لا يُمكنُ حصرُهُ في طريقٍ لأنّ كلاهما طريقانِ للوصولِ والكمال، وفي حضرة الكمال اختلفتْ عطايا الواحد الأحد سبحانه لعباده، وكلّ وما أعدّ الله له من رزقه وسابق العناية الأزلية.

لكن المعلومُ أنّ طريقة التدلّي والجذب ابتداءً هي طريقة أكابر الأكابر، أي هي التي أجراها الله على أكابر آل البيت عليهم السلام. وقد كان ختم الولاية مجذوب الابتداء من أهل طريقة التدلّي، فهي الأكملُ، لأنّها محضُ فضلٍ من الله ووهبٍ واجتباءٍ خالص. وكلا الطريقان اجتباء، ولكنّ طريقة التدنيّ جرت بطريق الأسباب والعزائم والمجاهدات، والثانية جرت بطريق الاحتباء الخالص والجذب الكلّي التامّ. طريقة التدلّي يبدأُ السالك بدخول الحضرة الأحدية، حضرة الذات، ثمّ ينزلُ إلى حضرة الصّفات، ثمّ ينزلُ إلى حضرة الأفعال. طريقة التدنّي يبدأ السّالك بشهود لا فاعل إلاّ الله سبحانه، ثمّ يدخل حضرة الصّفات، ثمّ يدخل حضرة الذات، فهي آخر منازله. فيبدأ الأوّل من حيثُ ينتهي الثاني، والعكس. ولاحظ كلاهما ذاتيين، من أهل الذات. ولكن أهل الكمال تفاوتوا في التّحقيق والتحقّق.وكمثال على طريقة التدنيّ والمجاهدات هي ما خطّه الإمام الغزالي حجّة الإسلام رضوان الله عليه في كتابه الإحياء الذي رصد طريقاً للمجاهدة والإستقامة حتّى تلوح على العبدِ علامات الاعتدال والوصول والتخلّق. فإذا وفّق فتح للعبد، وجذب إلى حضرة الذات. ومن طريقة التدنّي طريقة النقشبندية الصّديقية التي هي طريق التحقّق الصفاتيّ، صفة صفة، تخلّي ثمّ تحلّي، حتّى يتحقّق العبد بدلالة الشيخ الكامل الواصل بخلاف المستدلّ بكتاب الإحياء فهو في واقع في جهد مضاعف أضعاف مضاعفة، وبوجود الشيخ يختصرُ للسّالك الجهد والتحقّق والدّلالة للتحقّق بالصّفات. أمّا طريقة التدليّ فهي كمثال طريقة الشاذلية، أي في مجملها هي طريقة جذب ابتدائيّ، والجذب ابتداءً طريقته تُسمّى طريقة الشكر، لأنّ العبد يُجذبُ ابتداءً، فإذا عادَ إلى الصّحو عاد شاكراً بكلّيِّته، بعدما ذاق وشاهد نعم الله عليه وعرفه معرفةً حقّة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم (أفلا أكون عبداً شكوراً). والطّرق المسلّكة بين الطريقين، والسّالكون بين الطريقين، كلّ لما أولاه الله وبما سبقت له العناية.

فقلنا فتح الله لأهل الكهف شهوداً ودخولاً لحضرة الأحدية، فما رأوا إلاّ الله تعالى، فاعتزلوا العباد وما يعبدون جميعا، إلاّ الله سبحانه وعبادته، وفي الجملة مفهوم آخر: اعتزلوا العباد، وقد علموا وشهدوا أنّهم ما يعبدون إلاّ الله تعالى، برغم اختلاف عباداتهم، فهم ما عبدوا إلاّ الله تعالى، أي أنّ الفتية شهدوا حضرة الأحدية، فعرفوا أنّ القومَ مهما عبدوا لن يعبدوا إلاّ الله سبحانه، لأنّه لا موجود إلاَّهُ، فكيف يعبدون سواه، ولكنّ النّاس لا يُدركون ذلك. فهذه هي الحقيقة، فما عبد النّاس إلاّ الله مهما عبدوا غيره في عالم الأسباب والكثرة، فليستِ الكثرة سوى تجليّاتِ أحديّته سبحانه. بل هو العابدُ والمعبود، ألا ترى قوله تعالى في سورة الفاتحة : {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. فهذا كلامُ الله تعالى، وكان الله ولا شيء غيره، وكان الله ولا شيء معه، فالكلامُ هنا كما قال أهل العلم بالله تعالى : هو كلامُ الله بلسانِ الخلق والعباد، إيّاكَ نعبدُ، فهو العابدُ بلباس الخلق، فافهم. فليس حقيقة الخلق سوى الحقّ سبحانه، فالخطابُ واضحٌ، ثمّ وضّحَ لخلقه طريقَ الاستعانة في العبادة بقوله سبحانه : إيّاك نستعين. أي يا عبادي لستُم سوى ظلالاً لحقيقتي وقيوميّتي، فإنِ أردتُم عبادتي، فاستعينُوا بي وبحولي، فكما كنتُ حقيقتكم وسرّكم وإرادتكم الباطنة فيكم، فأنا حقيقتُكم الدَّالة لكم على طريق عبادتي واستعانتي، فاستعينوا بي واعبدوني بي، بحولي وقوّتي وحقيقتي الموجودة فيكم، فهذه هي الحقيقة، لذلك من ظنَّ أنّ العبادة طقوسٌ وطاعاتٌ مُفرغَةٌ من رُكنِها الحقيقيّ وهو جزء الاستعانة بالله تعالى، فهو واهمٌ مشركٌ من حيث لا يدري، ناسبٌ لنفسه الفعل والقيومية والدلالة، فكيفَ تصحُّ عبادتُهُ وهي قائمةٌ بتلك النّسب القادحة في التوحيد له سبحانه ؟ من كرِمِ الله تعالى أن جعلَها عباداتٍ مسجّلة في سجلِّ القيام بتكليفها بحسبِ نسبة الاستعانة فيها والخشوع والخضوع والاستمداد،  بيدَ أنّ صاحب هذه العبادات النّاسب لنفسه الفعل والقيومية لم يقُمْ بحقيقتها، لأنّ حقيقتها أن تكونَ العبادةُ توحيداً، والتوحيدُ فيها أن تشهدَ الفعلَ لله تعالى والقيومية له وحده لا شريك له والدلالة منه، فاستعنه متبرِّئاً من حولك وقوَّتك وفعلك ونسبِ الفعل لنفسك وجهدك ونشاطك وشطارتك. أي بقدرِ استحضار الله سبحانه فاعلاً ومُعيناً في عبادتك فأنت مقتربٌ من حقيقة العبادة، فما العابدُ إلاّ هو في الحقيقة فأكمِلْ الحقيقة بشطرها الآخر لتتمّ لك الحقيقة بشطريها، فاجعلهُ -عزّ وجلّ- حقيقة عبادتك ومُعينك في عبادتك، واستعنهُ سبحانه، فالشريعة عبادته والقيام بأمره، والحقيقة استعانته في هذا الأمر وهذه العبادة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي وَقَالَ مَرَّةً: فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَل)). صحيح/ رواه جمهرة من المحدثين والصحاح. فالفاتحة جسّدت حقيقة الصّلة بين العبد والمعبود، كما كانت حقيقة الوجود شطرٌ عبدية وشطر حقيّة وربوبية. شطرٌ خلقية وشطر حقيّة.


الحمد لله ربّ العالمين : فكأنّ الحمد قام لله تعالى بربوبيته للعالمين، فحمد نفسه بنفسه إعلاناً بإسقاط العالمين من القيّومية والوجود الحقيقيّ، وأثبت وجودهم بحمدِه وربوبيته لهم لتعود حقائقهم وتفاصيلهم وحيواتهم إليه وحده لا شريك له قبل وجودهم، فوجودهم مجازيّ إمكانيّ مُحدثٌ اعتباريّ، مُتَوَهَّمٌ، فهذه آيةٌ معجزةٌ في الحقائق وحدها، من وقفَ عليها وقفَ على حقيقة العقائد وحقيقة التوحيد. فالله هو الموجود وهو الربّ الذي قام بربوبية العالمين والمخلوقات، فأثبت أحديّته باسمه الدّال على ذاته ليُعلمك أنّه هو الله حقيقة الحقائق وهو المُسمّى الحقّ والخلق. فكان إسم الله هو الإسم الجامع. الدّال على الواحدية بقوسيها الحقّي والخلقي، وقولنا الواحدية لأنّها الوحدة الجامعة للكثرة، والجامعة للشقّين، لذلك قال سبحانه وتعالى : {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}. غافر/16. فأتبع اسم الله باسم الواحد ثمّ اسم القهّار. فكان إسم الواحد هو المدخل على إسم الله وعلى معرفته، وكان القهرُ هو طريق شهود واحديته، لذلك اعتبر بعض المشايخ الذكر باسم القهّار من أسماء الوصول والتقدّم. لأنّ القاهرية إذا نزلت على العبد، وتجلّى عليه اسم القهّار لاحت له أعلام الواحدية، والواحدية هي علامة التحقّق بالإسم الأعظم. فإذا عرفتَ هذا، عرفتَ أنّ اسم الله له خليفة، هو حامل سرّه، جمع بين هذه الشقّين الشقّ الحقّي والشقّ الخلقيّ، خليفة له البطون والظهور حقيقة، هو معنى ومجلى اسم الله، وإلاّ فاسمُ الله قد جمع الشقّين فافهم. وكان دالاًّ على الواحدية والأحدية. فكان الإنسان هو الخليفة لهذا الإسم الحامل هذا السرّ المعظّم، هو عين اسم الله، بذاته هو الخليفة المهدي الخاتم. الوليّ. وهو الرّوح في مستوى الرّوح، لأنّ الروح الأعظم هو الروح المتجلّي بالوترية والشفعية، الوحدة والكثرة. فافهم. فهذا تحقيق التحقيق.

والخليفة واحد، الخليفة الأصليّ والوليّ الخاتم، وما عداهُ من الخلفاء الأفراد الكمّل هم خلفاء لهذا الخليفة. فهو صاحب السرّ الأوّل والذات والإسم الأعظم. وما عداهُ نائبٌ ووارث لخليفة إسم الرّحمن الذي هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. فافهم ما ذكرناهُ.
لذلك نعتَ الله سبحانه تعريفاً بصاحب هذا الإسم، لمّا سألوا النبيّ صلى الله عليه وسلّم عن الله. فقال الله تعالى : {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. قل يا محمد هو الله أحد. هو، وإسم "هو" أخصّ من إسم الله، لأنّه دلّ على الذات الساذج. هو،
ضمير غائب ومجهول، تعالى أن يُعرف أو يُدرك سبحانه، عزّ وجلّ عن الإدراك، لا يُدرِكُه سواه وحده لا شريك له، قل هو الله. الله : الإسم الجامع الدّال على الذات، قل هو الرّوح الأعظم، قل هو الخليفة الخاتم، قل هو الله أحد. هو أحد في أحديّته، لا موجود سواه، وجميع ما تراه إن هي إلاّ اعتباراتٌ قائمة به ولا انفصال بين ذاته وصفاته، فالحمدُ لله ربّ العالمين. ثمّ تنزّلَ في الخطاب فقال : الله الصّمد، هو السيّد الصّمد الذي استغنى عن غيره، وصمدت إليه المخلوقات والكائنات وافتقرت إليه، لم يلد ولم يولد، هو الأوّل الآخر الباطن الظاهر، لم يلد ليس آدم ولم يولد ليس عيسى بن مريم عليهم السلام. ولم يكن له كفؤا ولا نظيراً ولا ندّاً أحد.

يتبع ..