الخميس، 31 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 57



- 57 - 

فقلنا الخليفة واحد، الخليفة هو مسمّى الله سبحانه وحضرة الذات، هو الله الأحد، لأنّه ما في الوجود سواه وحده لا شريك له، هو الأوّل الآخر، الباطن الظاهر، ما بطن إلاّ هو سبحانه، وما ظهر إلاّ هو، ولكنّه الوهم الذي قامت به الحياة، فإذا زال الوهْمُ بدا الوجود وجود الواحد الأحد، فإذا كان الله هو الباطن الظاهر والأوَّلُ والآخرُ، والعبد والربُّ، والخلْقُ والحقُّ، لزِمَ ظهورُه في مظهرٍ ذاتيّ، هذا المظهر الذاتيّ هو الخليفة، هو الإنسان الكبير، هو السيّد الصّمد، خليفة الله في أرضه، أي الظاهر بحقائق الموجودات جميعها، لأنّ الأرض هي محلّ ظهور الموجودات إلى وجودها. جميع الموجودات، كالأعداد مثالاً، برزت من العدد واحد (1)، فكلّما أضفت واحد نتج عدد آخر، وهكذا بلا نهاية، فجميع الأعداد مندرج فيها الواحد، فهو أصل الأعداد. فإسم الله تذوبُ معه كلّ الأغيار، لذلك نقولُ : لا إله إلاّ الله، لا موجود إلاّ الله ، لا فاعل إلاّ الله ، لا حيّ إلاّ الله، ففي حضرة الله تزولُ الأغيار وتتلاشى الأشياءُ من وجودها وتعودُ لموجدها وقيّومها. تفقدُ الأعدادُ نسبتها فلا يظهرُ فيها إلاّ الواحد الأحد. قل هو الله أحد. أحدية تمحو كلّ شيءٍ معها وكل غيرية وكلّ اثنينية.

فهو وهمٌ قامت به الحياة، وهمٌ شامخٌ متدرِّجٌ أقامتهُ الحقائق، وهم ٌ متفاوتٌ متوزِّعٌ على أشواطٍ وأطوار وطبقات ومراحل، تجلّت به اعتبارات الحوادث والحجب دون الحقيقة الكليّة المطلقة ودون تجلّي القديم، فلا يزولُ هذا الوهْمُ بكليّته إلاّ بتجلّي الأحدية، لذلك منعَ أهلُ الله التجلّي بالأحدية، لأنّ الأحدية ليس لأحدِ فيها قَدَمٌ سواه وحده لا شريك له، كما قال أهل العلم بالله تعالى. لأنَّ الأحدية أحدية عينٍ وذات وأحدية شهودٍ وظلٍّ، وذلك أنّ أهل الذات الخلفاء الأفراد صحّ لهم شهود هذه الحضرة به سبحانه، حيث لا إسم ولا نعت ولا غير، ولا تمايز ولا تعدّد، حيث المعنى واحد والحقيقة واحدة، إذ هم مشاهدون لهذه الحضرة بالله تعالى كما قال سبحانه {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فقوله تعالى (قُلْ) كما قال بعض أهل العرفان هو إثباتٌ لشهوده صلّى الله عليه وسلّم هذه الحضرة الأحدية، قل يا محمّد عن شهود ومعاينةٍ وتمكينٍ هو الله الأحد. ولكنّ حقائق الذواتِ (ذوات الخلفاء) وتحقّقاتها هي التي تشهدُ لكلّ شاهدٍ لهذه الحضرة هل هو أهلٌ وجديرٌ جدارة تامّة أن يتجلّى بها وتُنسب إليه ؟ بيدَ أنّ أرض التجليّات، التجليّات الحقيّة والخلقية هي امتحانُ هذه الحقائق وهذه التحقّقات، وهي الاختبارُ والشاهدات لهذا النبيّ وهذا الفرد وذاك الوليّ وذاك المحقّق هل وسعُهُ أن يملك جميع الحضرات ويتجلّى بها بتفاصيلها ويتمكّن فيها ؟ وأن يسعَ علمُهُ التّفاصيل والإطلاق ؟ وحيثُ أنّ الجميع وقفَ في ذلك المهمه وتلك المفاوز وتلك العقبة بالحيرة والعجز عن الإدراك وبالقصورِ عن الوسع المطلق فقد كذَّبتِ إذ ذاكَ الحقائقُ والتحقّقاتُُ والعلمُ والوسعُ والإطلاق والتقييد والإجمالُ والتفصيلُ هؤلاء المحقّقين والأفراد والخلفاء، فصاحوا بالعجز عن درك الإدراك ونادوا بالحيرة بين العلم والجهل، فقال صفوتُهم وحضرةُ جمعهم صلواتُ الله وسلامه عليه "لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك" وقال له الله تعالى {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} سورة طه :114. وقال الله تعالى {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [سورة الزمر:67]. فلا شيء يغيبُ عنه سبحانه، فما قدروا الله حقّ قدره، فوقعَ التحقيقُ هنا في النّسبة الصّحيحة لصاحب الأحدية والواحدية الأصليّ الذي ملكَ أرض التجليّات الواحدية من سماء الأحدية، فهي في قبضته لا يفوتُه منها شيءٌ لا قليل ولا كثيرٌ {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}. فافهم. فكان الخليفة : خليفة الله في أرضه هو الذي رجعتْ إليه الأحدية لأنّه هو حقيقة الواحدية، لأنّ التجليّات تجليّاته الذاتية، فلا يفوتُهُ منها شيءٌ، لأنّه عينُ التجليّات والتفاصيل والتقييدات والمحدودات المفاضة من سماء الذات، فشتّانَ بين المتحقّق بالخلْقِ والتبعية، وبين المتحقّق بالعينية والأصالة والسذاجة الذاتية. ولهذا منع أهلُ الله التجلّي بالأحدية لغير الله تعالى، يريدونَ لغير الخليفة لأنّه عينُ إسم الله سبحانه. لأنّ المنْعَ وقعَ بالنّسبة للأرض أرض التجليّات، فوقع المنعُ لتجلّي الأحدية إلاّ لصاحبها الذاتيّ الذي ثبتت لهُ بالوسع والعلم المطلق والخلافة الكاملة، {وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة-115). فهذا هو معنى قولهم منَعَ أهلُ الله التجلّي بالأحدية لأنّها لا تصحّ فيها قدَمٌ لأحدٍ سوى الله سبحانه عزّ وجلّ والله هو الواسع العليم. وهنا أضعُ اقتباساً جليلاً نفيساً للفرد المحقّق عبد الكريم الجيلي قدّس الله سرّه. قال في كتاب الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل في باب : "في الزبور" :

((... ألا ترى إلى قوله تعالى حيث أخبر عن سليمان أنّه قال {هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} فقال في جوابه : {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ} ثمّ عدّد ما أوتي سليمان من الاقتدارات الإلهية ولم يقل فآتيناه ما طلب لأنّ ذلك ممتنع اقتصاره على أحد من الخلق لأنّه اختصاص إلهي، فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه، وإليه الإشارة في قوله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} يعني الصالحين للوراثة الإلهية، والمراد بالأرض هنا الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقيّة والمعاني الخلقيّة وإليها الإشارة في قوله : {إنّ أرضي واسعة فإيّاي فاعبدون}. فإن قلت إنّ دعوة سليمان مستجابة باعتبار أنّ المملكة الكبرى لا تنبغي لأحد من بعد الله وهو حقيقة سليمان فقد صحّت الدعوة له فقد صدقت، وإن قلت : إنّ دعوة سليمان غير مستجابة باعتبار عدم قصر الخلافة عليه وأنّ ذلك قد صحّ لمن بعده من الأقطاب والأفراد فقد صدقت، فاعتبر كيف شئت، فلمّا علم داود امتناع قصر الخلافة عليه ترك هذا الطلب، فطلب سليمان تأدّباً إلهياً يريد تفرّده بالمظاهر الإلهية لتفرّد حقّه بها، وهذا ولو كان ممتنعاً فهو جائزٌ الطلب للوسع الإلهي والإمكان الوجودي، ولكن لا يعلم أحد صحّ له ذلك أم لا، وفي هذا المقام أخبر الحقّ تعالى عن أوليائه فقال تعالى : {وما قدروا الله حقّ قدره} و {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} فصار من هذا الوجه ممتنعا، فلهذا قال الصدّيق الأكبر : (العجز عن درك الإدراك إدراك). وقال عليه الصلاة والسلام : (لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك) . فتأدّب صلّى الله عليه وسلّم في طلب ما لا يمكن حصوله، واعترف بالعجز لكمال ربّه، وكان عليه الصلاة والسلام أعرف بربّه من سليمان، لأنّ سليمان عرف ما ينتهي فطلب حصوله، ومحمّدا صلى الله عليه وسلم عرف ما لا ينتهي فتأدّب عن طلب إدراك ما لا يدرك، أعني تأدّب فترك الدعاء بحصول ذلك لعلمه أنّ الله لم يجعله لأحد، وإنّه خصوصية فيه ذاتية استأثر الله تعالى بها عن سائر خلقه، فانظر بين من لمعرفته بربّه حدّ ينتهي، وبين ما لا حدّ لمعرفته بربّه ولا نهاية لها.)) انتهى.

فانظُرْ لهذا الكلام العظيم النّفس الجليل التحقيق، الموافق لما قلناهُ، فشرح الأرض بقوله : الحقائق الوجودية المنحصرة بين المجالي الحقية والخلقية. ثمّ ذكرَ أنّ الخلافة الكبرى هي خصوصية ذاتية استأثر بها الله تعالى عن سائر خلقه، وذكر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كانت معرفته بربّه كاملةً فلم يطلب إدراك ما لا يمكنُ إدراكه. ثمّ ذكر المظهر الذاتيّ الذي استوجبَ هذه الخلافة الذاتية الكاملة والمملكة الكبرى في الأرض، بقوله : ((فمتى ما ظهر الحقّ تعالى في مظهر بذاته كان ذلك المظهر هو خليفة الله في أرضه)). فهذا من أنفس الكلام وأعلمه. فسماء الأحدية قد شهدها الخلفاء والأفراد عليهم السلام كما ذكرنا، فمن كان صاحبها في التحقيق ؟ فهو الخليفة في الأرض. لأنّ الوجود هو وجود الله سبحانه جميعا، فلا شيء يخرجُ عن كونه ووجوده فافهم. فمسمّى الله ليس هو سوى الجامع لحقائق الأسماء. فكان لهُ خليفة في الأرض، يُطلقُ عليه خليفة في أرض الكثرة والعدد وليس هو سوى المعنى الأحديّ والحقيقة الكليّة المطلقة الغير مُدْرَكِ كنهها. فافهم.

وفي هذا المعنى الذي أشرنا إليه قال الشيخ الأكبر في قصيدته الرائعة الذائقة في مقدّمة الفتوحات واصفاً هذا الخليفة الختم :

ومتى وقعتَ على مفتِّش حكمةٍ... مستُورةٍ في الغضّة الحوراء
مُتحيّرٍ مُتشوّفٍ قلنا له... يا طالب الأسرار في الإسراء
أسرِعْ فقد ظفِرَتْ يداك بجامِعٍ... لحقائق الأموات والأحياء
نظرَ الوجودَ فكان تحت نعاله... من مستواهُ إلى قرارِ الماء
ما فوقه من غاية يعنُو لها... إلّاهُو فَهْوَ مَصِّرِفُ الأشياء
لبِسَ الرِّداء تنزُّهاً وإزارُهُ... لمّا أراد تكوّن الإنشاءِ
فإذا أراد تمتُّعًا بوجوده... من غير ما نظرٍ إلى الرّقبَاء
شالَ الرِّداء فلمْ يكنْ متكبِّرًا... وإزارَ تعظيمٍ على القرنَاءِ
فبدا وجودٌ لا تقيُّدُه لنا... صفة ولا إسمٌ من الأسماء

إنْ قيل من هذا ومن تعني به... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمُ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

فقال : أيّها الطّالب الأسرار في الإسراء، والإسراء هي سورة صاحب الإسراء والجسم الإسرائيليّ المهدي عليه السلام، وسورة واقع آخر الزمان، إذا ظفرتَ به فقد ظفرتَ بجامع حقائق الأموات والأحياء ومصرّف الأشياء. ثمّ أشارَ إلى ما كنّا نقوله عن حضرة الأحدية، فقال :

لبِسَ الرِّداء تنزُّهاً وإزارَهُ... لمّا أراد تكوّن الإنشاءِ

أي هو صاحبُ رداء التنزيه والتشبيه حينما تجلّت به حقائق الإنشاء والأكوان والموجودات ولاحت آثارُها وقامت حياتُها. فبه تجلّت. فلمّا ظهرَت تجليّاتُه تنزّهََ عنها وتنزّهَ سبحانه عن التشبيه، فهو الظاهرُ في التشبيه ولكن خفيَ ظهورُهُ تنزيهاً، وهو الباطنُ في سرادق التنزيه تعالى وجلّ عن الإدراك. {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [ البقرة : 115 ].


ثمّ قال :

فإذا أراد تمتُّعًا بوجوده... من غير ما نظرٍ إلى الرّقبَاء
شالَ الرِّداء فلمْ يكنْ متكبِّرًا... وإزارَ تعظيمٍ على القرنَاءِ
فبدا وجودٌ لا تقيُّدُه لنا... صفة ولا إسمٌ من الأسماء

فإذا أراد الشهود لوجوده من غير نظر إلى الرّقباء والعيون، شالَ رداء التعظيم، وهو رداءُ ظهورِه في عالم الكثرة، إذ هو الملك السّلطانُ ذو الكبرياء والجلال يُشارُ إليه بالبنان، هو السيّد الصّمد، هو الرّوح الأعظم، فقال شال رداء التعظيم والظهور فلم يكن متكبّراً على أقرانه من الأنبياء والخلفاء عليهم السلام أهل الشهود والخلافة والجمال الذين تحقّقوا بحقائق الولاية والخلافة، فلمّا شالَ الرّداء بدا وجودٌ من غيرِ تقييد ولا تمايزٍ لا صفة فيه ولا إسم ولا غيرية. مُنتهى الكرم والجود، ومُنتهى العظمة والتواضع لهذا الخليفة. الذي هو مالك الملك والعظيم في علاه سبحانه.

وهذا الذي كنّا نقوله عن الحضرة الأحدية وشهودها، فلا تمايز فيها ولا تقييد لظهور أو إسم أو نعت، فيشهدُها الأفراد المتحقّقون، لذلك قال الشيخ الأكبر "فبدا وجود لا تقيّده لنا" لنا نحنُ متكلّماً عن الأقرانِ والخلفاء وهو منهم، وإلاّ ما صحَّ لهُ هذا الوصف وهذا العلم الذي هو آخر العلمُ عند المحقّقين، معرفة صاحب هذا الأمر، فنسبَ الشيخ الأكبر في هذه القصيدة نفسه إلى شهود هذا التحقيق وأنّه خليفة محقّق وفي أبياتٍ أخرى يذكرُ ذلك تصريحاً. ولكنّهُ أثبتَ الأمر والحضرة والرّتبة لصاحبها بالأصالة، فهو يُعرّفُ به. فهذا ما ذكرناهُ حول حضرة الأحدية التي ارتفع فيها التعدّد والتمايز، فهو معنى واحد متعالٍ شامخٌ آخرُ درجاتِ المتحقّقين. فكانت أرضُ الواحدية والكثرة هي التي ثبتَت فيها عظمةُ الخليفة الختم وكبرياؤه وعلمه ووسعه وإطلاقه وملكه فافهم، فهذا نفس ما كنّا نشيرُ إليه يُثبتُه هنا الشيخ الأكبر. ثمّ يُعيِّنُ لنا من هذا المقصود بصاحب الإسراء وجامع حقائق الأموات والأحياء، وصاحب هذا الوجود المطلق بإطلاقه وتقييده، صاحب حضرة الأحدية وحضرة الواحدية. فيقول :

إنْ قيل من هذا ومن تعني به... قلنا المحقّقُ آمِرُ الأمراء
شمسُ الحقيقة قطبها وإمامُها... سرّ العباد وعالمُ العلماء
عبدٌ تسَوَّدَ وجهه من همِّهِ... نورُ البصائر خاتِمُ الخلفاء
سهل الخلائقِ طيّبٌ عذبُ الجنى... غوثُ الخلائق أرحَمُ الرُّحماء
جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء

إنّه خاتم الخلفاء. الخليفة. جلّ عن الكفؤ والنّظير إلى آخر القصيدة.


وهنا في هذا المقام نقتبِسُ اقتباساً جليلاً عظيماً سبق أن وضعناهُ، لكنّه جديرٌ بالإشارة إليه، لنفاسة ذكره وعلمه والإشارة إليه :

يقول الشيخ الأكبر رضي الله عنه في الفتوحات المكيّة :
(قوله إن الله خلق آدم على صورته:
فقد أدخله الجود الإلهي في الميزان فيوازن بصورته حضرة موجدة ذاتا وصفة وفعلا ولا يلزم من الوزن الاشتراك في حقيقة الموزونين فإن الذي يوزن به الذهب المسكوك هو صنجة حديد فليس يشبهه في ذاته ولا صفته ولا عدده فيعلم أنه لا يوزن بالصورة الإنسانية إلا ما تطلبه الصورة بجميع ما تحوي عليه بالأسماء الإلهية التي توجهت على إيجاده وأظهرت آثارها فيه وكما لم تكن صنجة الحديد توازن الذهب في حدّ ولا حقيقة ولا صورة عين كذلك العبد وإن خلقه الله على صورته فلا يجتمع معه في حد ولا حقيقة إذ لا حد لذاته والإنسان محدود بحد ذاتي لا رسمي ولا لفظي وكل مخلوق على هذا الحد والإنسان أكمل المخلوقات وأجمعها من حيث نشأته ومرتبته فإذا وقفت على حقيقة هذا الميزان زال عنك ما توهمته في الصورة من أنه ذات وأنت ذات وإنك موصوف بالحي العالم وسائر الصفات وهو كذلك وتبين لك بهذا الميزان أن الصورة ليس المراد بها هذا ولهذا جمع في صورة واحدة خَلَقَ الْإِنْسانَ ووَضَعَ الْمِيزانَ وأمرك أن تقيمه من غير طغيان ولا خسران وما له إقامة إلا على حد ما ذكرت لك فإنه الله الخالق وأنت العبد المخلوق وكيف للصنعة أن تكون تعلم صانعها وإنما تطلب الصنعة من الصانع صورة علمه بها لا صورة ذاته وأنت صنعة خالقك فصورتك مطابقة لصورة علمه بك وهكذا كل مخلوق ولو لم يكن الأمر كذلك وكان يجمعكما حد وحقيقة كما يجمع زيدا وعمرا لكنت أنت إلها أو يكون هو مألوها حتى يجمعكما حد واحد والأمر على خلاف ذلك فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك. )
انتهى.


فهذه الفقرة عظيمة دقيقة عميقة، من وقفَ عليها أدرك ما نُدندِنُ حوله، لأنَّهُ يتكلَّمُ عن الصورة الإنسانية، فافهم. لذلك أشار الشيخ الأكبر إلى قوله تعالى "خلق الإنسان ووضع الميزان". حتّى لا يغترَّ من لم يتحقّق بدرجات التحقيق في هذا التحقّق العظيم، فخطابُه هنا للمحقّقين الذين تحقّقوا بالصّفات السبع، وصاروا إلى مقام الخلافة فشهدوا ذواتهم هي الحقّ سبحانه، لأنّهم صاروا الى ما ذكره الحديث القدسيّ الصحيح الذي رواه البخاري : "فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَتِي يَمْشِي بِهَا". فنبّههم أن يقفوا على الميزان، فلا ينخدعوا بظاهر الصورة الإنسانية، لأنّها الصورة التي استوجبت الخلافة الكليّة، فينسبُوا لأنفسهم هذا التناظر والتكافؤ والتعادل، فقال تحقيقاً : ((فاعلم بأي ميزان تزن نفسك مع ربك ولا تعجب بنفسك واعلم أنك صنجة حديد وزن بها ياقوتة يتيمة لا أخت لها وإن اجتمعت معها في المقدار فما اجتمعت معها في القدر ولا في الذات ولا في الخاصية تعالى الله فالزم عبوديتك واعرف قدرك)) انتهى. فهي ياقوتة يتيمة مقابل صنجة حديد كما تساوتا في المقدار في كفّة الميزان فما تساويا في القدر والحقيقة، وهي صورة منفردة وهيكلٌ واحد لا نظير له ولا كفؤ ولا ندّ. والفقرة شرحت وفصّلت، وهذا من أنفس العلم وأنفس التحقيق.

وكذلك قال في القصيدة السابقة وصفاً لهذا الختم :

جَلَّتْ صفاتُ جلالِهِ وجمالِهِ... وبهاءُ عزّتِهِ عَنِ النُّظراء


وهنا يقودُنا الكلامُ إلى الخليفة الأعظم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فهو أعظمُ خليفة لله تعالى، أعظمُ خليفة للخليفة الأوّل. لأنَّهُ الذي جعلهُ الله الأنموذج الكامل والإنسان الكامل المتحقّق بحقائق الذات وتجليّاتها، فهو سيّد الخلق جميعاً، وسيّد الأوّلين والآخرين من الخلفاء والأفراد والأنبياء عليه وعليهم الصلاة والسلام، لذلك قال "إنّما الله المعطي وأنا القاسم". فمجموع ما تفرّقََ في المحقّقين والأفراد والخلائق أجمعين من كمالات وتحقّقاتٍ اجتمعَ فيه صلّى الله عليه وسلّم، فهو المتحقّق الأعظم بالأحدية الظلالية الشهودية، ثمّ الواحدية في أرض التجليّات والأسماء. لذلك ذكرنا أنّ الأحدية أحدية عينية، وأحدية شهودية، ثمّ الواحدية كذلك هي واحدية عينية وواحدية ظلالية أسمائية، فالعينُ والذات والأصلُ هو الخليفة، فجلّ عن النّظير بين المطلق الذي به تجلّت الأسماء، من ذاته، وبين القابل للتحقّق وإن جاد عليه الله تعالى بغاية التحقّقات، والقابلية الكبرى، فكان صلى الله عليه وسلّم قاسماً للعطاء بين القِدَم، وبين نقطة بداية الخلق والحدوث، فهو صلّى الله عليه وسلّم الجيبُ الحادث الكاملُ القابلُ لتجليّات القدم. كما سبق أن ذكرنا النّقطة البيضاء والنّقطة السوداء، فقلنا النقطة السوداء هي نقطة الإفاضة وبحر العلم وبحر الإطلاق والنقطة البيضاء هي نقطة القابلية والتجلّي، فافهم. لذلك فالمهدي هو صاحب الكتاب، أنزل عليه الكتاب، كتاب الوجود المطلق، كتاب الغيب المطلق، لأنّ الله علمه واحد أحد غير متغيّر فافهم. كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما عليه كان، فالمهدي هو صاحب الكتاب وهو الإمام المبين الذي أحصى الله فيه كلّ شيءٍ، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو القارئ لهذا الكتاب، هو القلبُ القارئ الجامعُ الأوَّلُ من كتاب العماء، فهو سيّدُ المتحقّقين وهو صاحبُ التمكين وهو الخليفة الأعظم للوجود والأكوان. فكان القاسم لما أعطى الله سبحانه على الموجودات والكائنات والحوادث. وكان هو رسول الله تعالى إليها، محمد رسول الله. صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. فرسول الله صلى الله عليه وسلّم هو أوّل المخلوقات وبه ظهرت المخلوقات والأكوان، ومن أجله خلقت. والخليفة هو الحقّ سبحانه. هو صاحبُ العماء والكتاب والإطلاق. فهيهات أن نُقارِنَ بين الخالق والمخلوق. فافهم. لذلك قال الله تعالى {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ * وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ *قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنتُكُمْ عَلَى سَوَاء وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُون} الأنبياء/105-109.
فكان المُرْسَل بالرّحمة إلى العالمين والخلائق أجمعين هو نبيّ الرحمة خليفة اسم الرّحمن صلى الله عليه وسلّم، ورسالتُه أنّ الله واحدٌ سبحانه لا إله إلاّ هو وحده لا شريك له، فهذه هي رسالة نبيّ الرّحمة صلوات الله وسلامه عليه. وهي التعريف برحمة الله الرّحمن الرّحيم سبحانه ووحدانيته المطلقة الجامعة. وإسم الرّحمن له من إسم الله جميع التحقّقات وجامع لجميع الأسماء، إلاّ أنّه صورة ذاتية ظلالية وليس ذاتية محضة وعينية، أي أنّه إسمٌ برزخٌ بين الذات والصّفات، جامع للأسماء جميعها المتجليّة من حضرة الذات، ولولا هذا الإسم لما تعرّفَ أحدٌ على الله تعالى أبداً، فهو واسطة الحدوث، وهو واسطة التعرّف، وهو مدينة العلم والتجليّات، فإسمُ الله هو مكّة العماء، وإسمٌ الرّحمن هو مدينة التجلّي، فافهم. وهناك تلحظُ الفرقَ في الأسماء، بين مكّة وكعبة السّجود وقبلة الأشباح ظاهراً، وباطناً قبلةُ الأرواح، وبين مدينة التجلّي والسّلوك والتحقّق والتشرّع، فمكّة للعرفان والأحدية والمدينة للتجلّي والواحدية. فكان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مولده بمكّة هجرتُهُ إلى المدينة، وكان المهدي مولده بمكّة وهجرته لبيت المقدس. النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مولده بمكّة العماء والأزل وهجرته لمدينة التجلّي والعلم والحوادث، والمهدي مولده بمكّة العماء وهجرته إلى الرّوح الأعظم، فالقدس حيث المسجد الأقصى هو رمز الرّوح. فكان المهدي صاحبَ الكتاب، هو العبدُ في مكّة العماء قبل نزول الكتاب أي الرّوح. والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم هو صاحب القرآن، الذي أنزل عليه ليقرأ كتاب الرّوح. فهو العبدُ في مكّة العماء، ولولا هذه المكيّة لما صحّت له قراءة كتاب الرّوح، فالمكيّة هي الأميّة، هي العبدية وهي أعلى درجات التحقّق، فالعبدية هي العبودية المطلقة المحضة. العبدية أعلى من العبودية، لأنّ العبودية اشترك فيها المتحقّقون بالعبودية بنسبها المختلفة، أمّا العبدية فهي الأمّية هي آخر منازل العبودية ونهاياتها. قال الله تعالى
{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الإسراء/1. وقال الله تعالى  لْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجًا.} الكهف/1.
فانظُرْ كيفَ نالَ العبدية سيّدنا محمّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، نالَها بالأحمدية، فغاية العبدية هي الأحمدية، أي نالها في مقام ختم الولاية، بالمهدي، فصاحب الإسراء في التحقيق هو المهدي الخليفة، فغاية العبدية نالها الإنسانُ الكامل الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه لذلك فاز بالقرب من ربّه غاية القرب، والحمدُ والمقامُ المحمود كذلك ناله بالأحمدية في مقام ختم الولاية بالمهدي، فالآية في التحقيق تعنتُ المهدي، فافهم. فأحمد هو المهدي في مقام العبدية المحضة، فكان سيّدنا محمّد هو أحمدُ الخلق لربّهم بهذا الشرف العظيم الذي نالَه.
 وقال الله تعالى {الرحمن علّم القرآن}. الرّحمن إسم ذات، له هذه النّسبة المكية الذاتية، وله نسبة الصّفات والمدنية، وهو صورة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الرّحمانية التي خلق الله عليها آدم عليها السلام. والصورة الرّحمانية هي صورة الله سبحانه. فقال صلّى الله عليه وسلّم "خلق الله آدم على صورته" وقال "خلق آدم على صورة الرّحمن". فكلاهما صحيحٌ ودقيق وله دلالاته فافهم.


يتبع ..