الجمعة، 11 أكتوبر 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 55


 - 55 -

{أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} الكهف/9-10.

أم حسبتَ أنّ أمر هؤلاء الفتية عجَبٌ بما وجدُوهُ في كهفهم ورقيمهم وأمرِ لبثهم وحقائقهم العظيمة، كلاَّ كما قيل إذا عُرِفَ السّبب بَطُلَ العَجَبُ من وجهٍ، من وجه حقيقتهم ونسبتهم العظيمة القائمة بالله تعالى، وما انتسب لله تعالى فأيُّ كرامةٍ تتجاوزُهُ أو تسخيرٍ يقِفُ دونهُ ؟ إنّما خلقنا هذا الإنسان وسخّرنا له كلّ شيءٍ، فمن كان لنا كُنَّا له وأيَّدناهُ من عندنا، قال سبحانه {وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية/13). فإذا عُرِفَ السّبب بَطُلَ العجبُ من وجه القدرة والكرامة والنّسبة لله تعالى وزادَ العَجَبُ من وجهٍ آخر، فحُقَّ لك أن تعحب من أمرهم لما أولاهم الله به من عناية وحفظ وتعهُّدٍ، فاقَ المقاييس البشريّة والعقول الترابية، {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} (البقرة/105).

فلمّاَ ضاقتْ عليهم الأرضُ بما رحبتْ، ولا بدّ أن تضيقَ بهم الأرضُ لأنّ قلوبهم شمّت ريحَ الرّحمن، ومن شمّ ريح الرّحمن جفى قلبُهُ لا محالة الأكوان والأوطان، واستوحشَ من أهلِ الدّنيا ولاحتْ عليه علاماتُ الغربة وأماراتها، وتغيّرتْ مناظيرُهُ للدّنيا والحياة، وفُتِحَتْ لهُ في قلبه نافذة إلى عالم أوسع وأرحب وأقوم ، إلى عالم الحقّ الموجود وحده لا شريك له، فغُمَّ عليه ممّا كان فيه، وبدأ ينزوي عن مناظيره السّابقة الماديّة، وليس بالضرورة انزواء جسدياً، بل هو انزواء شعوريّ.
فلمّا ضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت أوَوْا إلى الكهف كهف القلب وكهف الملكوت المواجه لنافذة قلوبهم التي فتحت لهم فيها، وقالوا ربّنا آتنا من لدنك رحمةً، وتكرّم علينا بالنَّفَس الرّحمانيّ بعدما أذقتنا شذًى من نَسيمِه وأوردْتَ علينا نفحةً من هبوبه، فما عادَ لنا صبرٌ على فراقه أو طاقةٌ أن نتوجّه إلى غيره، كما قال الإمام ابن الميلق الشاذلي الشافعي رضي الله عنه (731-797 هـ). في قصيدته المنفوحة :


من ذاق طَعْمَ شراب القوم يدريه ... ومن دراهُ غداً بالرّوح يشريه
وقطرةٌ منه تكفي الخلْقَ لو طعِموا ... فيشطحون على الأكوان بالتيه

فمن ذاقَ نفحةً من النّفس الرّحمانيّ لا بُدَّ أن يحصلَ له جذبٌ إلى حضرة الله سبحانه، وتبدأُ رحلة أشواقه ولواعجه وصبابته المنفردة، أشواق بداياتُها لا تُشبهُ الأشواق الظاهرة، بل هي أحوالٌ من الغربة العظيمة ورحلة قهرية كبرى لأنّ روحه حوّلتْ وجهتها وتولَّهت بربّها وقلبُهُ غيّرََ تعلّقه بل استهلكته حضرة الله سبحانه في التعلّق، ولكنّه لا تتنزَّل حقيقة المشاهد والأحوال التي يُكابِدُها بَعْدُ على حضرة شهادته وعالم ملكِهِ ليعيَها ويُدركَها، ولهذا سمّوا المجاذيب لأنّهم مجذوبون من غير شعورٍ منهم لله سبحانه والله تولّى جذبهم إليه وأحوالهم، ولا يُدركون حقيقة تلك الأحوال ويفهمون تلك المنازل والمشاهد التي مرّوا بها إلاّ في النّهايات. فاختصرَ الله سبحانه دعاء هؤلاء الفتية في قوله : ربّنا آتنا من لدنك رحمةً، لأنّ السرَّ كلّ السرّ في النّفس الرحمانيّ والرّحمة، فالقلبُ الذائقُ الجامعُ لهذه الأحوال العظام وهذه الرّيح التي لا تُعادلها رياحُ الحوادث والخلْق هو القلبُ الرّحمانيّ، فدعَوا ربّهم : ربّنا آتنا من لدنك رحمةً ورُدَّنا يا اللهُ بفضلك ومنّك من فرقنا إلى جمعنا، وأخرجنا من وهمنا إلى حقيقتنا التي هي وجودُك، أخرجنا من وهْمِ اعتقادِ وجودنا إلى التوبة المطلقة من وجودِنا فلا نشهد موجوداً إلاّك يا عظيمُ هناك عند مقام الجمع وبرزخ الرّحمة وبحر القدم وأين الحادث من القديم يا عظيم ؟ سبحانك لا إله إلاّ أنت وحدك لا شريك لك فلا تكلنا إلى أنفسنا ولا تكلنا إلى غيرك، وتداركنا برحمانيتك لنتحقّقََ بصفاتِكَ وأخلاقك فتُمحقَ صفاتُنا وأخلاقُنا المذمومة الموصوفة بكلّ نقصٍ وعجزٍ وعدمٍ. آتنا من لدنك رحمةً كما وجد موسى عليه السلام عبداً آتاه الله من لدنه رحمةً وعلما، فسبقت الرّحمةُ العلم، فبالرّحمة نعلمُ بك {الرحمن علّم القرآن}. آتنا من لدنك رحمةً لنعثرَ على برزخ البحرين ومجمعهما، وقد فتحت لنا إلى هذا البحرِ نافذةً فغيّبتنا عن ذواتنا، فجُدْ علينا برحمتك فنتحقّق بعلم الحقيقة والشريعة، ونشهد بحر القدم وبحر الحادث بك يا ربّنا، وهيّئ لنا من أمرنا رشداً لنبقى بك ونتأيّدَ بكَ عن نفوسنا وزيغنا، ببقائكَ وفنائنا. بحياتك وموتنا، بوجودك وعدمنا، بحولك وقوّتك وعجزنا، بغناك وفقرنا، بعلمك وجهلنا.

{فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدً} فاستجبنا لهم دعاءهم وطلبهم، فضربنا على آذانهم في الكهف، وصرفنا مصارفَ قلوبهم عن غيرنا، ووجّهنا أسماع قلوبهم ومنافذها نحونا وتجليّاتنا حتّى لا يقِفُوا على غيرنا فيُفْتَنُوا، فظاهرهم أيقاظٌ وباطنُهم نيامٌ، ظاهرُهم في عالم الملك والشهادة وباطنهم في عالم الملكوت عند الله تعالى يتعهدهم سبحانه. ظاهرهم صحوٌ وحقيقتهم سكر وجذب، وعلامة كونِهم عند الله تعالى يتعهّدهم في السّماء قبل أن يستيقظوا ويرجعوا الى مقام الصّحو والبقاء به سبحانه، قوله سبحانه {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا}. مدّة لبثهم المعجزة، فقال ضربنا على آذانهم سنين عددا، ظاهرها عدد معلوم قليل كما هو حساب عالم الملك والشهادة، وحقيقة لبثهم عند الله تعالى {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا}. فلبثوا بأيّام الله تعالى يوماً أو بعض يومٍ كما ذكروا ذلك بعد استيقاظهم وصحوهم {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ}. فكانت ثلاثمائة سنين مدّة لبثهم هي بعض يومٍ عند الله، في عالم الملكوت. {وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47]. أمّا عدم تحقيق الفتية لمدّة لبثهم فذلك راجعٌ للرّسوخ، فبقدرِ الرّسوخ والتحقيق يكونُ المرءُ علمُه محقّق، والله أعلم. ولذلك قالوا يوماً أو بعض يومٍ وقال الرّاسخون منهم ربّكم أعلمُ بما لبثتم، ففوّضوا فتفويض العلم والمشيئة لله تعالى من علامات التّحقيق. فكلّما زادَ العلم والتّحقيق والرّسوخ زادَ التفويض لله تعالى في العلم والمشيئة، لأنّهما له بإطلاق فالعلمُ علمُ الله تعالى، والمشيئة لله وحده، وإن كان هؤلاء المحقّقون نوّاباً لهُ، ألا ترى أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ردّ المشيئة والعلم في حديث المراحل الزّمنية للأمّة المحمدية، في حديث حذيفة رضي الله عنه "تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها..."، ففوّض الرّفع لعلم الله تعالى ومشيئته المطلقة في جميع المراحل إلاّ مرحلة الخلافة الإلهية في آخر الزّمان فما ذكر تفويض المشيئة، لينبّهك يا مؤمن أنَّهُ هو الذي في الأرضِ إله كما هو في السّماء إله، وهو الظاهرُ بالصورة الآدمية في آخر الزّمان فكانت مشيئتُهُ واحدة "خلق الله آدم على صورته". لتعرفَ قدرَ هذا المهديّ فهو الدرّة اليتيمة، فتعالى أن يتساوى الخالق بالمخلوق في القدْر. وإن تساووا في الظهور والإنسانيّ ومظهر الخلافة فما استووا في القدر والحقيقة. فإلى الخليفة المنتهى والعلم والإمامة والمشيئة والحقيقة والتّصريف. ولكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.

ولستُ أزعُمُ علماً بحقيقة تلك المدّة واللّبث ولماذا خُصّصتْ بذلك القدر، فهذا علمٌ له أهله من أهل التّحقيق، وما نحنُ سوى مُقتاتين على هؤلاء العارفين بالله تعالى، وهم لا يخرجون هذا العلم وتفاصيله، فهو لأهله، وإن صدرت منهم بعضُ الرَّشحات فبقدَرِها وللضرورة.
ولكن يبدو لي اختلاف قولهم يوماً أو بعض يومٍ، راجعٌ أنّ هناك منهم من يلبثُ يوماً كاملاً من أيّام الله تعالى، وهو تحقيقاً المهدي عليه السلام. وهذا مذكورٌ بطريقة غير مباشرة في حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي رواه مسلم في صحيحه عن مدّة لبث الدجّال : (أَرْبَعُونَ يَوْمًا ، يَوْمٌ كَسَنَةٍ ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ..). فذكر بعض العارفين بالله أنّ يوم كسنة هو اليوم الذي يتقابلُ فيه المهدي في جذبه مع إبليس (وإبليس روح الدجّال) في المواجهات ومداخل النّفس، أي اليوم الذي يتقابل المهدي مع الدّجال في ثوبه الإبليسيّ في حضرة الربّ سبحانه في عالم الملكوت وهو يوم من أيّام الربّ سبحانه، فكان من جنس السنة، فكان لبث المهدي في الكهف مدّة يومٍ. ثمّ يوم كشهر وهو يوم من جنس ليلة الحضرة المحمديّة، "ليلة القدر خير من ألف شهر" فذكر هنا الليلة المحمديّة من جنس الشهر. ويوم كجمعة أي كأسبوع وهو اليوم المعبّر عن أيّام الأسبوع السبعة أي نسبةً للسّموات السبع والله أعلم. ثمّ باقي الأيّام كسائر أيّامنا. وكونها أربعين يوماً لأنّ المهدي لا يبلغُ الكمال إلاّ عند الأربعين من عمره. فكانت أربعين يوماً بمقاديرها المختلفة. فهذا علمٌ فوق العلوم الظاهرة. واعلم أنّ العلم لا ينتهي ومطلق عند الله تعالى. لذلك قال الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام "لو شئتُ لأوقرت سبعين بعيراً من تفسير سورة الفاتحة"، وفي رواية (لو شئتُ لأوقرت سبعين بعيرا من باء بسم الله الرحمن الرحيم). فهذا العلمُ من علم الله تعالى اللّدنيّ الذي يُعلّمه أولياءه. وعلمُ الله تعالى مطلق بلا نهاية.

ثمّ لتعلمَ حقيقة هذا الخاتم الذي ردّ الله إليه حقائق الأمور، فظهرَ بحقائقها على الواقع مترجمة بآثارها في الأكوان، ليُعْلَمَ لأهل البصائر والعلم أنّه الذاتيّ الذي انعكستْ سيرتُهُ على الأكوان، فهو القطب الحقيقيّ، صاحب التّصريف الحقيقيّ، وليس صاحب التصريف سوى الله سبحانه. ولذلك ما فوّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم -في حديث حذيفة- المشيئة والعلم في مرحلة حكم هذا القطب في آخر الزّمان ليدلّك أنّه القطب المتصرّف ويفعل ما يشاء وإليه يرجعُ الأمرُ كلّه. ولذلك كان علَم الساعة فهو صاحبها في الأساس. وجميع أشراط السّاعة الكبرى هي من آثار سيرة المهدي عليه السلام وظهوره.

ولستُ أدري لماذا كانت المدّة ثلاثمائة سنة التي ذكرها الله تعالى سبحانه وعلاقتها بالحقائق، ولكن يبدو لي -والله أعلم- أنّ هذا العدد من السّنين، له علاقة بالعدد ستمائة، لأنّ الله تعالى قال {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ}. فقيل أنّهم كانوا يتقلّبون في السنّة مرَّتين، مرَّةً ذات اليمين ومرّة ذات الشمال، كي يُروّحَ الله عنهم، تارةً يلتفتونَ إلى الجهة الحقيّة وتارة يلتفتون إلى الجهة الخلقية، تارةً إلى الفضيلة والنّور والجمال والبسط والرّوح، وتارةً إلى الطّبع والكثافة والجلال والقبض والنّفس. ومن هنا صارَ العدد ستمائة تقليبة، ثلاثمائة إلى اللّطافة والحقيّة وثلاثمائة إلى الكثافة والخلْقية. وسرّ هذا العدد والله أعلى وأعلم، هو حرف النّون، الذي عبّرََ عن الدائرة الوجودية، فإذا اعتبرنا الوجود دائرةً، نصفها حقّ ونصفها خلق، كما ذكر الله "قاب قوسين أو أدنى"، فهما قوس الحقية وقوس الخلقية، ولكلّ إنسانٍ هذه الصورة "خلق الله آدم على صورته"، أي نصفه روح وغيب ونصفه جسم وحسّ، والنّون مُعبِّرٌ عن هذه الصورة كما أشار إلى ذلك الشيخ الأكبر، أنّ (ن) رسمُهُ نصف دائرة، فكانت نصف الدائرة المشهودة المحسوسة في عالم الحسّ والملك والشهادة هي رسمُ (ن) الظاهر، وأمّا النّصف الثاني الغيبيّ والقوس الحقّي فهو الغير مشهود لنا وغير مرسوم وغير ظاهر في الرّسم، اي القوس الأعلى فتأمَّلهُ (ن)، فكان النّون معبّر عن القوسين، قوس الغيب وقوس الشهادة. القوس الظاهر السّفلي هو قوس الشهادة، والقوس المخفيّ المستور الأعلى هو قوس الغيب. لذلك كانت نون، رسمها نونان : نون ثمّ واو ثمّ نون. فكلّ شيءٍ من الله بقدر وتقدير فاعلم.
والحروف التي جاء القرآن بلغتها ورسمها لها أسرار لا محالة، فهذا تقدير العزيز العليم الخالق سبحانه.
فالنّون في حساب الجمل عددها خمسون، وخمسون هي عددٌ مميّز منه سبحانه لذلك شرع الصّلوات خمسين صلاةً ابتداءً ثمّ خفّفها الله على حبيبه وصفيّه صلّى الله عليه وسلّم خمساً. كما قال صلّى الله عليه وسلّم "فراجعت ربيّ فقال هي خمس وهي خمسون لا يُبدَّل القول لدي". وحتّى اختصارها إلى خمس رجعت إلى عدد الهاء الذي عدده خمس، وهي هاء الهويّة -ذكر ذلك الشيخ الأكبر- فنابت الهاء عن النّون، رحمة من الله سبحانه بأمّة حبيبه صلّى الله عليه وسلّم. فالحاصلُ أنّها خمسون، قيل هي متعلّقة بالهمّة والأقلام الكاتبة، فالنّون مذكور مع القلم، قال الله تعالى {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ}. فكانت خمسون من كلّ جهةٍ، والجهات ستّ في الكون، فهي نون: نون الغيب ثمّ واو الجهات ثمّ نون الشهادة، فالواو عددها ستة. فانظر لهذا الإحكام، فإذا ضربنا خمسون في ستّة حصل لدينا ثلاثمائة، هذا بالنّسبة لنون واحدة، وهما نونان، نون الشهادة والحسّ والكثافة والخلْق، ونون الغيب والرّوح واللطافة والحقّ. فصار لدينا ثلاثمائة مرّتين، فصارت لدينا ستمائة. وهي تمامُ الهمّة الكاملة التي يتواصلُ فيها الرّوح بالجسم، والغيب بالشهادة، والقلبُ بالرّوح. وهو عدد أجنحة الرّوح الأمين، أجنحة سيّدنا جبريل عليه السلام. جاء عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل له ستمائة جناح) رواه البخاري ومسلم. فافهم، فإنّ الرّوح عند نزوله قلب العبد الكامل، فذلك يدلُّ على كمال العبدِ واستعداده الكامل للتلقّي من الرّوح، وانفتاح كلّ نقاط التواصل والبورت والمنافذ بين الحقّ والعبد، فهذا علامة الهمّة الكاملة التامّة. فيصيرُ الإنسانُ روحاً في حقيقته وإن بدا على الهيئة البشريّة. فكانت ستمائة تقليبة، نصفها ذات اليمين لجهة الغيب والرّوح، ونصفها ذات الشمال لجهة الشهادة والحسّ والطّبع. فهي ترقّيات وتهيئة للاستعدادت الذاتية للقلب أن يكون محلاًّ قابلاً لنزول الرّوح عليه. ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)﴾. [سورة الشعراء]. وهذا مصداق قول الله تعالى في الحديث القدسيّ (ما وسعني لا سمائي ولا أرضي ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن).

يتبع ..