الاثنين، 16 نوفمبر 2015

حامل لواء الذات القائم بحقّ حمد الله المهدي 78

كتب يوم : 13/11/2015




في الكون جمال محيّر، أنا أتحدّثُ عن جمال الإنسان، فهذا ما نشهدُه في السعة والإبداع والألوان والتنوّع، وما زال الإنسان يبدعُ في كلّ مجالِ يتجدّد، ويجدّد في كلّ مجال، وما زالت تتوالد العلوم والفنون والمجالات. فالإنسان محطّة مركزية لشهود إبداع الخالق سبحانه، كلّ ذلك التجدّد والتنوّع والجمال الجاري على أفراد الخلق والنّاس، ليست سوى مسرح جميل قدرته وبديع صنعه وجماله سبحانه المعجز المحيّر.

وبمناسبة الحديث عن الجمال فإنّ هذه الموسيقى الصوت الطبيعي الصّادر من أوتار مصنوعة ومعازف مبدعة كيف حرّمها من حرّمها وهي مسرحٌ من مسارح الجمال الصّوتي العظيم ؟ بل حرّمها أهل الرّسوخ عند اقترانها بالفسوق ومظاهره. وإنّه من يقتل ويفسد في الأرض باسم الكتاب والسنّة فهو أقبحُ عند الله تعالى ممّن يفسق في أوكار الغناء والمعازف. فهل يُحرّمُ اتباع الكتاب والسّنة ؟ بل يُحرّمُ الفهم المنحرف والمذهب المعوجّ.

ومن الحُمْق أن يَنسبَ الإنسانُ لنفسه شيئاً، وهو مخلوقٌ من العدم، فمتى كان لك شيءٌ ؟ إنّما الله خلق سبحانه ما خلقَ من أعمالٍ وإبداعاتٍ وأجراها ونسبها لخلقه، وليست سوى شواهِدٍ على كماله وجماله وقدرته وبديع صنعه، ومن أجلِ ذلك بعث الله الرّسل إلى النّاس أن يشهدوا في النّعم التي لا تُحصى المُنعمَ سبحانه، ويوحّدوه ولا يكفروه، ولا يشركوا به، وكيف يشركون به أو يكفروا به وهم والعدمُ سواء ؟
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " كان الله ولم يكن شيء معه" وفي رواية "ولم يكن شيء غيره"، وفي رواية "ولم يكن شيء قبله". كلّها روايات صحيحة. 

وهذا الحديث الشريف وحده يقيمُ الأدلّة على وحدانيته سبحانه، وعلى عدمية ما سواه، كان وحده سبحانه فخلق المكان، فالمكان مخلوق وموجود، وهذا يعطينا تنزّهه سبحانه عن المكان ولا شكّ، فقد كان سبحانه قبل المكان. وخلق الزّمان، وهذا يعطينا تنزّهه عن الزمان سبحانه ولا شكّ، فقد كان سبحانه وحده فخلق الزمان كما خلق المكان فالزمان مخلوق مثله مثل المكان. وأوجدَ الأشياء والمخلوقات والكائنات، فأين كانت قبل وجودها؟ كانت في العدم. فهي مخلوقة من العدم، ومن كان العدمُ قبله فهو قائمٌ بغيره، وسيظلّ قائماً بغيره، فتلك حقيقته لأنّه موجود من العدم. وهو كذلك أقربُ للوهم، بل هو عينُ الوهم، وكيف لا يكون وهماً إذا كان هذا الموجود وهذا المخلوق قائماً في حيّز مكانيّ وزمانيّ مخلوقين من العدم ؟ فهما حيّزان معدومان وهميان. وبالتالي فكلّ ما فيهما وهميّ.
كلّ موجودٍ من عدم فهو قائمٌ في حيّز اعتباريّ يُسمّى وجود، فالعدم حيّز اعتباريّ، نشأ ليدلّ على عدمية المعدومات وعدم وجودها، وبالتّالي الذي يقابلِهُ إذا صدرَ عنه ولا شكّ هو وجود اعتباريّ، فكلّ ناشئٍ من العدم فوجوده اعتباريّ وهميّ وليس حقيقيّ. فهل وُجِدت هذه الموجودات وزاحمت وجود الله سبحانه ؟ تعالى الله عن ذلك. بل وجوده سبحانه قائمٌ بذاته منزّه عن كلّ شيءٍ، منزّه عن المكان والزّمان والمقاييس التي نشأت عنهما. 


فالأينُ والمتى والكيف كلّها مقاييس وضوابط تعلّقت بالأشياء بعد وجودها من العدم. في حيّز المكان والزمان. والله سبحانه ليس كمثله شيء قال الله تعالى "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير". فالأشياء كلّها والموجودات تنزّه عنها سبحانه وعن مماثلتها وعن مقاييسها. وهنا وقفَ العقلُ عاجزاً عن إدراك الله وذاته، فالعقلُ مسرحه الموجودات. لا ذات الخالق البارئ سبحانه. فوقف هذا العقلُ ببديهياته وأبجدياته وأساسياته عند حدود التنزيه، فنزّه الخالق سبحانه وأعلن العجز عمّا هو فوق ذلك.
والوجودُ الأحديّ هو لله سبحانه، وهذا الوجود الأحديّ ما تولّد منه وجودٌ يُزاحمه في طبيعة الوجود، فسبحانه لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحدٌ. فأحديّته سبحانه ثابتة بينما أحديات الغيرِ وهمية، وأحدية وجوده ثابتة ومنزّهة عن سائر الموجودات، فلم يلد وجوده وجوداً غيره، ولم يولد سبحانه من وجود غيره. فما موجودٌ قائمٌ بذاته وحقيقيّ سواه. كذا حكمت السورة الصّريحة ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ).
وهو صمد سبحانه صمدت إليه الموجودات والمخلوقات والكائنات جميعها، وهو الحيّ القيوم قامت الأشياء بقيوميته، واستمدّت حياتها من حياته. فقد صارتِ الأشياءُ والموجودات ليست سوى أصداءِ تجليّاته وآثارٍ أسمائه وصفاته كالظّلال. وضرب الله لنا الأمثال. وما زالت تتغيّرُ أعراضُها بتغيّر أحوالها وانفعالها بتجلّي الأسماء عليها. والأسماءُ ترجِعُ لمسمّاها سبحانه الواحد الأحد. ومن هنا قال الله تعالى ﴿وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾. فما من شيءٍ إلاّ وخلفه وجه الله سبحانه، فهو ظلٌّ وطيفٌ وأثرٌ لتجليّات أسمائه وصفاته سبحانه. فجميعُ هذه المخلوقات والمشهودات وجودُها وهميّ اعتباريّ وحسب. غيرُ قائم بذاته.


وإذا كانت حقائق المخلوقات وهمية فكيف يصحّ أن تنسبَ لنفسها شيئاً من عملٍ أو إبداع أو تفكير أو نعمة أو إيجاد ؟؟؟ بل قيامها وحياتها ووجودها وإبداعها وأعمالها وكلّ شيءٍ متعلّق بها قائمٌ بموجدها وخالقها. قياماً ذاتياً كليّاً، فهي وهمٌ، وهي موجودة اعتبارياً في قفص الخلقية. أوهامٌ تترى بعضها فوق بعض، كذلك خلق الأكوان والوجود والحياة سبحانه، وجعلها مسرح جماله وصفاته وتجليّاته وصنعته. وجعل الإنسان خليفةً في هذه الأكوان والمخلوقات، وجعله آخر مخلوق في عالم الكثافة والإيجاد، وأوّل مخلوقٍ في عالم اللّطافة والسرّ. فالإنسانُ مختصر العالم. وجعله بذلك على صورة الخالق سبحانه، ليعودَ إلى نقطة الانفلاق، ومركز الإشعاع والتدفّق، فيشهد بالله سبحانه تلك البدائع والخلائق والأكوان من صنع الله سبحانه ويوحّده ويفرّده في مسارح التفريد والتوحيد. وجعل الحقائق أزواجاً، كما جعل الخلائق أزواجاً، كذا اقتضتِ حقيقة الانشطار والخلقية، فالخلقية صورة التجليّات، وآثار الأسماء المقدّسة. فالأثرُ يتبعُ المؤثّر، والإسمُ يتبعُ المسمّى، والصفة اقتضتِ محلاّ لجريان أثرها. فما ظهرَ اسمُهُ الخالق لولا مخلوقات، وما ظهر اسمه الرزّاق لولا المرزوقين، وما ظهر اسمه النافع لولا منتفعين، ولا ضاراً ولا محيياً ولا مميتاً، ولا مصوّراً ولا موجداً لولا محلاًّ لهذه الأسماء والصفات يتجلّى فيه أثرها، فظهور أسماء الله وصفاته كان مسرحهُ الخلقُ. فتشكّلتِ النّسب، بحقيقة الزوجية، وظهرَ السّفلُ والعلوّ، والكمال والنّقص، والعدم والوجود، والضعف والقوّة، ..الخ. فكانت الزوجية قائمةً على ثنائية الفعل والانفعال، كما قامتِ الحياة ونشأتِ ابتداءً وانتهاءً على هذه الثنائية فعل وانفعال، مؤثّر وأثر، حقّ وخلق. وكانتِ ثنائية الروح والجسم هي ثنائية العلوّ والسّفل، ثنائية الكمال والنّقص وهي ثنائية الحقيقة والوهم. فالسرّ بدأ بنفخة الرّوح الإلهي، والجسم انتهى باحتواء الموجودات على اختلافها في العالم، فركنَ الجسمُ بكثافته إلى الموجودات الحسيّة وإلى الوجود الوهميّ الفاني وركنتِ الرّوح إلى حقيقتها ونافخها سبحانه. فدارت رحى صراع النّفس الإنسانية بين الرّوح واللّطافة والجسم والكثافة، وما دارتِ هذه الحربُ إلاّ لمّا صادرتِ النّفس باعتبارها نفساً جزئية ناقصة ركونها للجسم ومتطلّباته ورغباته، صادرتِ المدارك والفهوم والمشاعر والأحاسيس لنفسها، وعلّقتها بها وأغفلت أن تًعلّقَ النّعم والمدارك والمشاعر والأحاسيس بخالقها وحقيقتها الأصلية التي منها جاءت، وشهود المنعم سبحانه، فأشركتْ وصادرت مشاعر التعظيم والتمجيد والحبّ والتعلّق والتقرّب والطاعة التي أشرقتْ في القلبِ بسببِ نزول الرّوح فيه، صادرت النّفس ذلك لنفسها وحوّلتِ وجهة تلك المشاعر والأحاسيس القلبية من أصلِها التي كانت متوجّهة إليه وهو المنعم الموجد الخالق سبحانه، حوّلتها لنفسها ولمتعلقاتِها ورغباتها وكفرتِ المنعم سبحانه، وصادرت المدارك والمفاهيم والفكر التي أشرقتْ في العقل لمّا نزل الرّوح فيها، فهي متوجّهة أوّلا وأصلاً للأصل سبحانه والمنعم، فكفرته وأشركت به ووجّهتها لنفسها ومتطلّباتها ومصالحها كذا قال بعض الصالحين يشرحُ مصادرة النّفس الترابية لحقيقة المشاعر والمدارك لنفسها بدل أن ترجعها للأصل. ومن هنا نشأ الصّراع الإنساني، ونشأ الخير والشرّ في الإنسان، والحقّ والباطل في حياته، فكانتِ النّفسُ بركونها للدّنيا ورغباتها ومتطلّباتها هو ركونٌ للجانب المظلم البعيد عن نقطة النّور ونقطة الشهود ونقطة التوحيد لله سبحانه، وإرجاع الأشياء والحقائق لأصلها، وكانت النّفس بركونها للرّوح وأنوارها وعرفانها وأسرارها هو ركونٌ لله سبحانه الخالق المنعم وشهوده وحده لا شريك له أنّه الموجد والموجود والقائم بذاته وما سواه قائم به. 

ولذلك قال سيدنا جبريل عليه السلام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ((أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك)). في شرح الإحسان أن يعبد العبدُ الله على طريقة الفناء محاولاً شهود الله سبحانه في كلّ شيءٍ من غير أن يغيب عنه (كأنّك تراه)، فإذا فنى عن نفسه (فإن لم تكن) رآهُ سبحانه في الأشياء رؤية عين وحقّ يقين، ورأى بعين اليقين أنّ الأشياء قائمة به سبحانه، فهو بذلك رجع لأصله رجع للرّوح العارفة بالله الشاهدة له، فالفناء عن النّفس يعني الفناء عن ذلك الوجود الجزئيّ الترابيّ والماديّ المتعلّق بالمادة والتراب ومتطلّبات الجسد وشهواته ورغباته، فهو لم يكن ولم يعد وفنى عن نفسه، فإن لم تكن : تراه، فستراه. لأنّك حينها ترى الله بالله سبحانه، كما رأى سيّد الخلق سيّدنا محمد ربّه عند عروجه لسدرة المنتهى صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه. وعلى قدمه صلى الله عليه وسلم يسيرُ الورثة والمتحقّقون. قال الله تعالى ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) آل عمران-31 . وطريقُ الحبيّة من الله تنتهي بذلك الفناء والبقاء به سبحانه جاء في الحديث القدسيّ الصحيح ((فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعـطينه ، ولئن استعاذني لأعيذنه)).