الأربعاء، 12 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 32




- 32 -


الكلامُ المتعلّقُ بالمهدي كثير، ولكنّ الأنفاس الدافعة لهذا الكلام مشتّتة، وقد وعدنا أن نتكلّمَ عن صفات المهدي المنعوتة في الأحاديث النبويّة الشريفة، وأنّ هذه الصفات هي علامات صارخات في عالم العلم والمعرفة أنّ المهدي هو إمام الأئمّة. لا يعلمُ ذلك سوى أهلِ العلم، وأهل التحقيق والتدقيق الواقفين على عمق الدّلالات، وعلم الكلمات والمصطلحات الرّاجعة بعلمها إلى منبع العلم الأصليّ، من حيث هو علمٌ محضٌ صلته التقديس، أي علم بالله ومن الله سبحانه مؤسّس محكم بين الظاهر والباطن. وهؤلاء هم أهل العلم حقيقةً، وهم الأئمة والمشايخ الذين إليهم المرجعية والهداية والدّلالة على الله سبحانه وعلى طيقه وهديه وعلى شرعه، هؤلاء هم ورثة الأنبياء فبهداهم اقتده.


علومهم يلقونها بقدَرٍ، يعطون المحتاج قدْرَ حاجته من العلم والدلالة وقدْرَ قصدِهِ وطلبه. فأوّل الهداية أن تعرف السّبيل الهادي الصّحيح، والإمام الصّحيح والعلم الصّحيح. طبعاً بعد القصد السلّيم والنيّة النقيّة والإرادة الصحيحة لطلب وجه الله سبحانه.


قلتُ سوفَ أعود إن شاء الله لذكر هذه الأوصاف وشرح حقيقتها ودلالتها على إمامة المهدي عليه السلام، فليست الأوصاف والنّعوت الخلقية والجسمية جزافاً وصدفةً وعبثاً كما يعتقدُ الكثيرون، بل هي مقدّرةٌ بقدرها من لدن حكيم عليم سبحانه، فكلّ وصفٍ جسميّ وخلقيّ له دلالته على الباطن والحقيقة. ولك أن ترجعَ إلى حضرة خير خلق الله سيدنا محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، لتعرفَ أنّ أوصافه الخلْقية وشمائله الجسمية كانت في غاية التناسق والاعتدال والجمال دالّةً على اعتداله وجماله وكماله الإنسانيّ الذي ليس فوقه كمال صلى الله عليه وسلّم. وقد أشارَ إلى بعض أسرار النّعوت والأوصاف الشيخ الأكبر في بعض كتبه.


وإنّ ممّا استوقفني حديث المراحل المتعلّقة بحكم الأمّة المحمدية وخلافتها حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فأحببتُ أن اضعهُ مشيراً للّفتةِ المراد الإشارة إليها، وهي لفتة لفتَ إليها أحد العارفين بالله تعالى، وما أكثر اللّفتات في النّصوص المقدّسة والشريفة ولكن لا يقفُ عليها إلاّ العلماء بالله سبحانه، لترى وتشهدَ أيّها المؤمن بالله حجيّة الكلام المقدّس ودلالاته، سواء كان كلام الله تعالى القرآن فهو كثير الدّلالات غزير المعاني مطلق العلم غير منتهٍ ابداً كما الإطلاق الذي لا ينتهي، كما الذي أنزله سبحانه الذي إليه صفةُ الإطلاق، فالكلامُ دالٌّ على قائله، والقرآنُ كلامُ الله تعالى، فصفةُ الله الإطلاق، فصفة القرآن الإطلاق في مداليله ومعانيه ونفائسه وإشاراته، أو كان حديث النبيّ الشريف وقد آتاهُ الله جوامع الكلم وجعله الرّسول الأمين والشارع المبين صلوات الله وسلامه عليه {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)} سورة النجم. فكلّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم له دلالاته، ترتيب الألفاظ وعين الألفاظ وكلّ شيءٍ في حديثه له دلالته العلمية والشرعية، لذلك نبّه و قال صلّى الله عليه وسلّم "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ". عليه فتأمّل قوله صلّى الله عليه وسلّم "أدّاها كما سمعها" بلفظها لا بمعناها، فإنّ حديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وصلَ إلينا باللّفظ، بلفظه الشريف، فالمعنى وجهٌ من وجوه اللفظ، أمّا اللّفظ فهو حمّالُ أوجهٍ للمعنى، ومتّسعٌ للمعاني يقبلُها بلا انقطاع، ذلك زاد عليه الصلاة والسلام فقال : ربّ حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه، حتى لو كان فقيهاً فقد يكونُ من هو أفقه منه إذ يسمع لفظ القائل فيستوعبُه، وقال ربّ حامل فقه ليس بفقيه، فقد يكونُ الرّاوي راوياً فقط وحاملاً للرواية وليس له فقهها والعلم بها، فتأمّل فهذا كلامُ النبوّة لجلالة معانيه ودقّتها، وإشارته لما نريدُه من كونِ الألفاظ المقدّسة والأقوال المقدّسة، سرّها في ألفاظها وتركيبها وكيف خرجت من عند صاحبها، فلا معنى للرّاوي أن ينقل معنى الرواية، بل الشرف كلّ الشرف والمجد كلّ المجد والأجر كلّ الأجر أن ينقل الرّاوي المقالة كما سمعها، لا ينقصُ منها ولا يزيد، ولا يتصرّف فيها، لتصلَ إلى أهلها أهل الفقه والعلم.

فقلنا استوقفنا حديث مراحل الحكم والخلافة في الأمّة المحمدية المروي من طريق حذيفة بن اليمان رضوان الله عليه. عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ثم تكون ملكا عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون ملكا جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت..) رواه أحمد والطيالسي والبزار، وعزاه البوصيري لابن أبي شيبة وللطبراني في الأوسط مختصراً، وقال الحافظ الهيثمي: رجاله ثقات.

هذا الحديث النبويّ الشريف الصحيح العجيب، الذي وقع كما جاء، يخبرنا بمراحل الأمّة المحمدية من عهد النبوّّة على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام، إلى آخر الزمان حيث تقومُ الخلافة الإلهية على منهاج النبوّة، ما أردنا اللّفتَ إليه كما لفتَ عليه أحد العارفين بالله إشارةً، فأحببنا أن نثبتَ هذه الإشارة في تعيين حقيقة هذا الخليفة المهدي القائم في آخر الزمان بالخلافة الإلهية، فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ذكرَ في كلّ مرحلة من مراحل الحكم والغيب القادم عبارة "تكون فيكم ما شاء الله لها أن تكون" وعبارة "يرفعها إذا شاء أن يرفعها". فتأمّل النصّ النبويّ الشريف، وذلك يدلُّ على غاية أدب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مع ربّه وعلى غاية علمه به سبحانه أنّ الغيب بيده وهو المتصرّفُ فيه وحده، فردّ المشيئة لله وحده، حتّى إذا جاءت مرحلة الخلافة على منهاج النبوّة في آخر الزمان الآتية بعد الحكم الجبري للحكّام العرب، ما ذكر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تلك العبارة بشقّيها، عبارة المشيئة، فانظر رحمك الله لتعرفَ بعين التوسّم والعلم من هذا الخليفة المهدي القادم القائم بخلافة آخر الزمان، فهو الخليفة الأوّل عن الله تعالى، فما كانت مشيئته إلاّ عن مشيئة المستخلف بذاته، فما وقع التعدّد، وإلى هذه اللّفتة نقول قد أشارَ الله تعالى بقوله : {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الزخرف:84]، وقال سبحانه وتعالى {أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [النمل: 62]. فما كانت مشيئة الخليفة وعلمه إلاّ مشيئة وعلم المستخلف بذاته، فهو حامل سرّ الذات وهو القائم بأمر الله، فافهم إن كنتَ ممن يفهم، وهذه من أعظم اللّفتات المشيرة إلى حقيقة المهدي عليه السلام، وحقيقة الخلافة الإلهية. فهي خلافة الله في الأرض. لذلك توحدّتِ المشيئة فكانت مشئية واحدةً هي ذاتُ المشيئة الواقعة فيما سبق في المراحل السّابقة للخلافة الإلهية. فافهم.


يتبع ...