الأحد، 30 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 39


- 39 -

واعلم كما أنّ الإسلام لا يُقاسُ بحال المسلمين اليوم، فالإسلام دين الله الخاتم المهيمن محكمٌ من لدن حكيم خبير، أمّا المسلمون اليوم حالهم أبعدُ عن حقيقة الإسلام وتعاليمه وهديه، فالفارق كبير، وكذلك التصوّف والمدارس الصوفية اليوم، فاعلم أنّ الكثير منها حادَ عن جوهر التصوّف، وداخلَ الكثير من المنتسبين لهذا التصوّف الدّعاوى والخرافات والزندقات والبعد عن حقيقة التصوّف، وحقيقة التسليك والسلوك، فإذا علمتَ أنّ الشيخ هو ركنُ التصوّف، وركن الطريقة والمدرسة، فانظر كم في اللاّبسين لبوس المشيخات من أدعياء ومزيّفين ودخلاء، فهذا واقع والكثير الكثير من المنتسبين للتصوّف ليس لهم من التصوّف إلاّ اسمه ولبسه والتشبّه بما كان ظاهراً عليه من أهله، أمّا حقائقهم فخاوية وبواطنهم فمدخولة، وأخلاقهم مكذوبة مدسوسة، كثيرٌ منهم طلاّب دنيا وجاه يطلبون الدّنيا باسم التصوّف والمشيخات ونسبة التصوّف التي كان يعظّمُها النّاس ويحترمون مشايخها ويعظمّونهم، فاستغلّ الانتهازيون مرضى النّفوس والأدعياء هذا التعظيم والمحبّة الجماهيرية من أجل حظوظهم ونفوسهم وجاههم وطلب المال والمصالح والتعظيم من الناس، يخادعون الناس والله خادعهم. فشوّهوا صورة هذا التصوّف الأصيل الذي ما ظهرَ إلاّ طريقاً لله تعالى، طريقاً خالصاً من الحظوظ والنفوس فجعلوه مرتع الأهواء والحظوظ والنفوس، وانخدع بهم الكثير من القاصدين يحسبونهم شيوخاً وهم ليسوا بشيوخ، فكيف يكون حالُ مريديهم وطلاّبهم يا ترى ؟ ففاقدُ الشيء لا يُعطيه، وهؤلاء طباعهم حبّ الدّنيا والجاه والمكانة والشهوات فلا يكون حال ملازميهم إلاّ من حالهم وشبيها بهم. وهذا كلّه من صورة أواخر الزمان ونصف اليوم الذي فسدت فيه الأمّة، أي الخمسة القرون المتأخّرة الأخيرة فقد توسّعتِ الانحرافات وتغلغلت في كلّ قطاعٍ وكلّ مجالِ فلم يسلم منها مجالٌ مقدّسٌ ولا مجالُ مسيّس، فالصوفية المتحقّقون قليلون بحقّ، ولو كانوا على كثرتهم الظاهرة التي تزخرُ بها الأمّة اليوم لما كان حالُ الأمّة هذا الهوانُ وهذا الذلّ وهذه الفرقة والتخاذل والانهزام والفساد وتمكّن الشياطين في الأرض، فاعلم أنّ حملة الحقّّ و أكثر ورثة المدارس الصوفية وأهل التجديد منهم قد انقرضوا أو كادوا ، انقرض عدد كبيرٌ منهم ولم يبقَ في الغالب إلاّ المحبّون والمتبرّكون والمنتسبون انتساباتٍ إسمية. فضلاً عن أهل الدّعاوى والمزيّفون المدسوسون أهل الشهوات والحظوظ وطلاّب الدنيا والجاه باسم هذا الطريق فهؤلاء لا علاقة لهم بالمحبّة والتبرّك التي ذكرناها، بل عليهم إثمُهم ووزرُهم المضاعف بطلبهم للدّنيا والجاه والمصالح باسم الدين.

والمحبّة والتبرّك شيءٌ عظيم لا نذمّه ولا يُذمّ أبداً، بل هو ممدوحٌ في نفسه، وقد قال أهل الله تعالى "الإيمان بهذا الطريق ولاية". فالإيمانُ ومحبّة هذا الطريق وأهله ولاية عند الله وسببٌ من أسباب الفوز والنجاة. فافهم هذا الشرف العظيم، فمحبّة الصالحين وتعظيمهم دينٌ وولاية وشرف أيّما شرف، ولكنّنا رصدنا لك صورتين ، صورة الزّيف والدّعاوى والزندقات والخرافات التي لا علاقة لها بالتصوّف الصحيح الصادق الذي يصلُ العبد بربّه، صورة التصوّف المدخول الذي أحيانا يتداخلُ في بعض دوائره بالخرافات والدجل وما ليس من التصوّف الصحيح في شيء، ورسمنا لك صورة أخرى عن كونِ المحبّة والتبرّك ليست كافيةً في التسليك والتوصيل والتربية، فالمحبّ والمتبرّك مهما بلغَ من الأقدمية والسنّ والهيبة في شخصه فلن يكونَ له أن يسلّك المريدين أو يكونَ شيخاً من المشايخ الوارثين، فالمشيخة إجازةٌ وتمكينٌ ودخولٌ حضرة الله تعالى بحقّ، ومن لم يكن من أهل حضرة الله ومن أهل القرآن كيف له أن يكون شيخاً ومربيّاً لغيره ؟ أبداً لن يكون ذلك. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم "أهل القرآن أهل الله وخاصّته". وأهلُ القرآن المقصودون هنا هم الذين نزل القرآن على قلوبهم روحاً، فصاروا إلى منزلة الرّحمانية ومقام البقاء بالله تعالى، كما قال سبحانه "الرّحمن علّم القرآن". فهؤلاء هم أهلُ القرآن العالمين به الورثة لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كما بعث بالرحمة فكان خليفة الرحمن ورسول الله إلى العالمين.

فلمّا انقطع جيلُ المجدّدين والورثة القائمين عن الكثير من هذه المدارس الطرقية والصوفية بقيَ أصحاب الإذن العام والورد العام، وظنَّ هؤلاء أنّهم أهل وصول وتسليك وحولهم المريدون والمحبّون يظنّونهم مشايخاً، وأغلبُهم لم يتبرّؤوا من تلك المسؤولية وتلك المكانة العظيمة التي لا تقومُ إلاّ بحقّها وبأمر الله تعالى، فظهر جيلٌ إسميّ ليس له من التصوّف إلاّ الإسم والرّسم، أمّا الحقائق والوصول فمقطوعٌ عنها. وهيهات أن يصلَ السالكون بغير صحبة واصل، ففاقد الشيء لا يعطيه، والذي لا يملك الماء المطهّر كيف يُطهّر غيره ؟ وقال أهل التحقيق من القوم : "والله ما أفلحَ من أفلح إلاّ بصحبة من أفلح".
وقال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِين}[التوبة: 119]، فاعلم ما نقوله، ومهما كان الحبّ والتبرّك بضاعة هؤلاء فلن يجعل ذلك منهم أهل وصول وتربية أبداً. وإنْ كانَ الحبّ سببا للفوز والنجاة لأصحابه، ولكنّ تسليك الفقراء والمريدين يطلبُ شيخاً من أهل حضرة الحقّ سبحانه، أهل القرآن.

لذلك ضعفَ هذا الطريق، واندرس هذا العلم، وتشوّهت صورته وظهر في كثيرٍ من المحافل والمظاهر بصور غير مشرّفة وغير صحيحة وغير مقدّسة كما هو عليه أصلُ هذا الطريق الأقدس الأنفس. أضفْ لما ذكرناهُ من إنكار المنكرين وحملات المسفوعين والمضللّين والمغرضين المتتالية والمقصودة، فصارت صورة التصوّف الصحيح جملةً مشوّهة، وعسُرَ على الباحث أن يجدَ التصوّف الصّحيح وأهله بسهولة ويُسرٍ.

كان لا بدّ من ذكر هذا التوصيف، لأنّه حقيقة وواقع للأسف. وكي لا يُسْقِط البعضُ ما قلناه عن ركن التصوّف وعلم الولاية بما هو موجود على الأرض اليوم ومشاعٌ، بل ما أقلّ أهل التحقيق.


ولكن يبقى في العموم والواقع أنّ المنتسبين لهذا الطريق ولو انتساباً إسمياً أو المحبّين للطّريق وأولياء الله محبّة وتبرّكاً وسواداً أقربُ إلى هذه الطائفة الظاهرة بالحقّ، والنخبة التي انتخبها الله تعالى لحمل أمانة الحقّ والجهاد الحقيقيّ ضدّ إبليس وكيده والدجال وتدجيله، فالحبّ لا تستهِنْ به أبداً، وكما جعل الله القابليات والاستعدادت مختلفة متفاوتة، فقد جعل سبحانه الحبّ هبته للأقلّ استعداداً أن يكونَ في معيّة المحبوب المنتخب المجتبى الذي اجتباه الله إليه، في معيّته كيفما شئتَ هذه المعيّة إلى حدودٍ لا تكادُ تنقطعُ على قدرٍ الحبّ، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما واللفظ للبخاري، "عن أنس رضي الله عنه: ((أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة فقال: متى الساعة؟ قال:" وماذا أعددت لها "؟ قال: لا شيء إلاَّ أني أحب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فقال:"أنت مع من أحببت")). قال أنس: فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت))، قال أنس: فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم.". فانظر إلى قول أنس بن مالك رضي الله عنه : "فما فرحنا بشيء فرَحَنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أنت مع من أحببت))". فهذه هي الهبة العظمى فقد تعجزُ الهمّة والمقاصد أو تأبى أسوار الأقدار أن يبلُغَ القاصدُ والمحبّ والمؤمنُ مَبَالغ أولئك الصدّيقين الصّادقين ومدارج السّابقين المقرّبين فلا يجدُ غير الحبّ والشوق والتولّه لهم حبّاً خالصاً لهم، فيحملُهُ حبّهم إليهم ومعهم في الجنّة، وفي الدّنيا يكونُ موصولاً بهم وبأمدادهم وعنايتهم وفي معيّتهم وحزبهم فإنّ أولئك العباد الأخيار الأطهار قلوبُهم محطّ نظر الله تعالى، ألا ترى قول الله في الحديث القدسيّ صرت بصره الذي يبصر به وسمعه الذي يسمع به، فمن نظروا إليه نظرَ الرّضا والمحبّة فقد أفلحَ وفاز بنظر عناية الله إليه ومحبّته وحفظه وتعهّده. والله ذو الفضل العظيم.

يتبع ..