الخميس، 20 يونيو 2013

حامل لواء الذات القائم بحق حمد الله المهدي 36


قال الشيخ الجيلي قدس الله سره :

قطب الأعاجبِ أنت في خلواته ... فلكُ الكمالِ عليك ذو دورانِ
نُزّهْتَ بل شُبِّهتَ بل لكَ كلّما ... يدري ويجهلُ باقياً أو فاني
ولك الوجود والإنعدام حقيقة ... ولكَ الحضيضُ مع العُلا ثوبانِ
أنتَ الضياءُ وضدّهُ بل إنّما ... أنتَ الظلامُ لعارفٍ حيرانِ
مشكاتُه والزيتُ معْ مصباحه ... أنت المرادُ به ومن أنشاني
زيتُ لكونك أوّلا ولكونِكِ المـ ... ـخلوق مشكاة منيرٍ ثاني
ولأجل ربّ عين وصفك عينُه ... هاأنتَ مصباح ونورُ بياني
كن هادياً لي في دجى ظلماتكم ... بضيائكم ومكمّلاً نقصاني
يا سيّد الرّسل الكرامِ ومن لهُ ... فوق المكانِ رتبةُ الإمكانِ

قال : قطب الأعاجب أنتَ في خلواته ، فمن هذا المقصود ؟ القطب في خلواته ؟

إنّه هو ، القطب المكتوم المجذوب، المهدي في جذبه، الذي يكونُ في خلواته منعزلاً عن الخلق، مجذوباً في خلقيّته وبشريّته لا يعرفه العارفون، مخفيّ مكتوم عن الخلق، السّاري إلى الله والمهاجر إلى الله دون علم المخلوقات، المتقلّب في الأحوال، الظاهر بالقوالب الخلقية، الغريب، غريب الغرباء، المهموم المحزون المقهور من قهر الواقع والحياة وقهر الخلق تحت قهر القهّار، هو قطبُ الأعاجب الذي عليه فلك الكمال ذو دوران، إنّما جعلهُ الله كذلك لأنّها إرادةُ الله وسنّته في إظهار الحجّة على الخلق جميعاً، أن يُشهدهم عبده الذاتيّ، كيف صحّت له الإمامة عليهم، وفازَ بالرّتبة الشريفة، رتبة الخليفة، فلأنّه الخليفة كانَ حاملاً لهموم الخلق، ومقهوراً بقهرهم، لأنّه الذي ظهرَ بهم، فهو حقيقتُهم، وهو ذاتُ ذواتهم، فتقلّبهُ في الأضداد والذوات والقوالب والحقائق، شهادةً لهُ أنّه الخليفة، حامل سرّ الذات، عين الذات. وشهادةً له أنّه المطهّر عن الأكوان.

لذلك يصفُه بتلك الأضداد والحقائق المتقابلة أنّه حازَ الإمكانين : الوجود والإنعدام، الحيرة والعلم، الضياء والظلام، الحضيض والأوج، العلو والسفل، الجمال والجلال، وهذا ليس تقوّلاً أو زعماً أو سفسطةً كما يتخيّلُ الذين فاتهم علم التحقيق. بل عينُ ما عيّنه لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تعريفاً بالله سبحانه. فخذ :

روى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: (كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء, وخلق عرشه على الماء). فقوله كان في عماء ما تحته هواء وما فوقه هواء أي كان في كنزيّته التي لم يتميّز سفلها عن علوّها، فهي قابلةٌ للأضداد جميعها، فالذات منها ظهر الوجود جميعه باعتباراته وإضافاته التي تشكّلت إمكانيات وأحكاماً، فالوجود والعدم أصله الذات، والكمال والنّقص، والجمال والجلال، والعلم والجهل، بل الكمال في حقيقته هو التحقّق بجميع الاعتبارات المتضادّة، ولذلك نجدُ في أسماء الله الحسنى الأسماء الجمالية والأسماء الجلالية، فهو المعطي وهو المانع، وهو الضار والنافع، وهو الغفور الرحيم وهو القهارالمنتقم.

وعليه فالكمالات الإلهية هي للحقّ سبحانه وحده لا شريك له، لا يُشاركها فيها أحدٌ في التحقيق، إذ لا موجود ثمّة غيره كي يشاركه في شيءٍ، فكلّ شيءٍ وكلّ أحدٍ سواء كان شيئاً من الأشياء أو كان الإنسان الكامل فأحديّته مجازية واعتبارية، قائمةً بأحدية الواحد الأحد سبحانه. تعالى الله عمّا يشركون، قال الله تعالى في سورة التوحيد والإخلاص
{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} الإخلاص. فانظر تجد لفظة أحد وردتْ مرّتين: مرّةً نسبة لله تعالى : قل هو الله أحد. ومرّة أخرى في نهاية السورة نسبةً لغيرِ الله تعالى، في معرِض تنزيه الندّ والشريك والكفؤ لله تعالى. وهذه اللّفتة اشارَ لها جهبذ العارفين الشيخ الأكبر رضي الله عنه، فحتّى لو صحّ لهؤلاء الخلفاء والكمّل أحديّتهم وشهود الأحدية بما أكرمهم الله به بالصورة، فهيهات أن تكون تلك الأحدية المجازية كفؤاً ونظيراً لأحدية الأحد الأصليّ الذي إليه ترجعُ كلّ أحديةٍ وكلّ شيءٍ.

وكم في هذه اللّفتة، من علمٍ وتحقيقٍ، فهي مثبتةٌ لأحدية الكمّل من عباد الله تعالى والخلفاء من الأنبياء والأولياء عليه السلام، وفي ذاتِ الوقتِ هي منزّهةٌ لله تعالى عن الكفؤ والنّظير والشريك،
{وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ}. قال صلّى الله عليه وسلّم : {كَانَ الله ولم يكن شيء قبله} . ورواية: {ولم يكن شيء معه} . ورواية: {ولم يكن شيء غيره}.
فكان الله ولم يكن شيء غيره وهو الآن على ما عليه كان، فتعالى الله عن الحدثان، إنّما هي اعتبارات وإضافات فقط، تجلّى الله بها على عالم الحدثان، فتشكّل اعتبار القديم والمحدث، فما ثمّ إلاّ القديم في التحقيق، كما جاء أنّه قال رجل بين يدي الجنيد: { الحمد لله } ولم يقل: { رب العالمين } ، فقال له الجنيد: كَمِّلْهَا يا أخي، فقال الرجل: وأيّ قَدْر للعالمين حتى تُذكر معه؟! فقال الجنيد: قُلها يا أخي؛ فإن الحادث إذا قُرن بالقديم تلاشى الحادثُ وبقي القديم.
فهذا هو علم المحقّقين الذين علموا ما ثمّ، فأعطوا لكلّ شيءٍ قدره، وما التبسَ عليهم الحادث بالقديم، لذلك قال الله تعالى {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، قل يا محمّد هو الله أحد، هو، كلّ حادثٍ محدَثٍ يا محمّد عائدٌ إلى الله الأحد، فهذه الكثرة دالّةٌ على موجدِها وخالقها الواحد الأحد من العدم :

((قال بعضهم: خلق الله ثمانيةَ عَشرَ ألف عالَم، نصفها في البر ونصفها في البحر. وقال الفخرُ الرازي: رُوِيَ أن بني آدم عُشْرُ الجن، وبنو آدم والجنُ عُشْرُ حيوانات البر، وهؤلاء كلُّهم عشر الطيور، وهؤلاء كلهم عشر حيوانات البحار، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة الأرض الموكلين ببني آدم، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة سماء الدنيا، وهؤلاء كلهم عشر ملائكة السماء الثانية، ثم على هذا الترتيب إلى ملائكة السماء السابعة، ثم الكلُّ في مقابلة الكرسي نَزْرٌ قليل، ثم هؤلاء عشر ملائكة السُّرَادِق الواحد من سُرادقات العرش، التي عددُها: مائةُ ألف، طول كل سرادق وعرضُه - إذا قُوبلتْ به السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما - يكون شيئاً يسيراً ونَزْراً قليلاً. وما من موضع شِبْرٍ، إلا وفيه مَلَكٌ ساجد أو راكع أو قائم، وله زَجَل بالتسبيح والتهليل. ثم هؤلاء كلهم في مقابلة الذين يَجُولُون حول العرش كالقطرة في البحر، ولا يَعلم عددّهم إلا الله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}. [المدَّثِّر: 31]. هـ.

وقال وَهْبُ بن مُنّبِّه: (قائمُ العرش ثلاثُمائةٍ وست وستون قائمة، وبين كل قائمة وقائمة ستون ألف صحراء، وفي كل صحراء ستون ألف عالم، وكل عالم قَدْرُ الثقلين).)) انتهى.

ما يعلمُ جنود ربّك إلاّ هو، قل هو الله أحد، فكان إسم "هو"، مستغرِقاً للإحاطة والعلم، ليعودَ إلى الذات، إلى الله سبحانه والله واسعٌ عليم.

فإسم "هو" له اعتبارين : اعتبارٌ من حيث التجلّي، واعتبارٌ من حيث الهويّة والغيب، وهو دالٌّ على الواحدية، على الكثرة في عين الوحدة، والوحدة في عين الكثرة، لذلك كان إسم "هو" ذكر خواص الخواص كما ورد على لسان المحقّقين، لأنّه إسم استغر
اق وعلم وإحاطة بما هو لله تعالى، فقد كانت الولاية بالأصالة للوليّ الحميد سبحانه، فكانَ سائرُ المتحقّقين متفاوتين في الوسع والقابلية والمزيد، فالولاية لهم بتحقيق شرائطها، ولا يزالُ التفاوتُ قائماً، فكان إسم "هو" لمزيد هذا الوسع والقابلية والعلم. وجميع ما تجلّى به الله تعالى في الوجود كانَ القابلَ الأوّل والمتحقّق الأوّل هو النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فلا أعلم بالله من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، طبعاً بعد الله سبحانه عزّ وجلّ.

لذلك كانت العصمة في كلام الله تعالى وحديث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم "ما ثبتَ عنه ثبوتاً"، عن طريق السّند الصّحيح، أو عن طريق إثبات أهل الكشف الصّحيح، فإنّهم يأخذون الإثبات عن الله تعالى، ويشهدون نور النبوّة في حديثه الشريف صلى الله عليه وسلّم. هنا قامَ الشرعُ، وما عدا المعصوم فكلامهم يؤخذ منه ويردّ، كي تعلمَ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم تحقّق بصلاة الله عليه والسلام، فهو ناطقٌ بالحقّ ولسانِ الحقّ، ونائبٌ عن الله تعالى، فهو رسولُ الله. وما قامتِ الدّنيا إلاّ بشهادة : لا إله إلاّ الله محمّد رسول الله.
فالتوحيد حقيقة الدّنيا، ورسالة النبيّ صلى الله عليه وسلّم وشرعه طريق هذا التوحيد. فاعلم.

فإنّه لا موجود إلاّ الله تحقيقاً، والجميعُ قائمٌ به سبحانه، وسيّدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم هو منصّة شهود هذا التوحيد وهذا العرفان بالله سبحانه.

يتبع ..